فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-04-4
الصفحات: ٤٣٩

الظنّ بالبقاء ، فإذا ثبت ظنّ البقاء في شيء لزمه عقلا ظنّ ارتفاع كلّ أمر فرض كون بقاء المستصحب رافعا له أو جزءا أخيرا له ، فلا يعقل الظنّ ببقائه ؛ فإنّ ظنّ بقاء طهارة ماء غسل به ثوب نجس أو توضّأ به محدث ، مستلزم عقلا للظنّ بطهارة (١) ثوبه وبدنه وبراءة ذمّته بالصلاة بعد تلك الطهارة. وكذا الظنّ بوجوب المضيّ في الصلاة يستلزم الظنّ بارتفاع اشتغال الذمّة بمجرّد إتمام تلك الصلاة.

وتوهّم إمكان العكس ، مدفوع بما سيجيء توضيحه من عدم إمكانه (٢).

وكذا إذا قلنا باعتباره من باب التعبّد بالنسبة إلى الآثار الشرعيّة المترتّبة على وجود المستصحب أو عدمه ؛ لما ستعرف : من عدم إمكان شمول الروايات إلاّ للشكّ السببي (٣) ، ومنه يظهر حال معارضة استصحاب وجوب المضيّ باستصحاب انتقاض التيمّم بوجدان الماء.

٤ ـ استلزام القول بالحجّية ترجيح بيّنة النافي

ومنها : أنّه لو كان الاستصحاب حجّة لكان بيّنة النفي أولى وأرجح من بيّنة الإثبات ؛ لاعتضادها باستصحاب النفي.

والجواب عنه :

المناقشة في ذلك

أوّلا : باشتراك هذا الإيراد ؛ بناء على ما صرّح به جماعة (٤) : من كون استصحاب النفي المسمّى ب : «البراءة الأصليّة» معتبرا إجماعا ،

__________________

(١) كذا في (ص) ، وفي غيرها بدل «للظنّ بطهارة» : «لطهارة».

(٢) انظر الصفحة ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

(٣) انظر الصفحة ٣٩٥ و ٣٩٩.

(٤) تقدّم ذكرهم في الصفحة ٢١ ، فراجع.

١٠١

اللهم إلاّ أن يقال : إنّ اعتبارها ليس (١) لأجل الظنّ ، أو يقال : إنّ الإجماع إنّما هو على البراءة الأصليّة في الأحكام الكلّية ـ فلو كان أحد الدليلين معتضدا بالاستصحاب اخذ به ـ لا في باب الشكّ في اشتغال ذمّة الناس ؛ فإنّه من محلّ الخلاف في باب الاستصحاب.

وثانيا : بما ذكره جماعة (٢) ، من أنّ تقديم بيّنة الإثبات لقوّتها على بيّنة النفي وإن اعتضد (٣) بالاستصحاب ؛ إذ ربّ دليل أقوى من دليلين. نعم ، لو تكافأ دليلان رجّح موافق الأصل به ، لكن بيّنة النفي لا تكافئ بيّنة الإثبات ، إلاّ أن يرجع أيضا إلى نوع من الإثبات ، فيتكافئان. وحينئذ فالوجه تقديم بيّنة النفي لو كان الترجيح في البيّنات ـ كالترجيح في الأدلّة ـ منوطا بقوّة الظنّ مطلقا ، أو في غير الموارد المنصوصة على الخلاف ، كتقديم بيّنة الخارج.

وربما تمسّكوا بوجوه أخر (٤) ، يظهر حالها بملاحظة ما ذكرنا في ما ذكرنا من أدلّتهم.

هذا ملخّص الكلام في أدلّة المثبتين والنافين مطلقا.

__________________

(١) لم ترد «ليس» في (ظ).

(٢) انظر نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٠٧ ، والإحكام للآمدي ٤ : ١٤١ ، وشرح مختصر الاصول ٢ : ٤٥٤.

(٣) كذا في النسخ ، والمناسب : «اعتضدت» ؛ لرجوع الضمير إلى «بيّنة».

(٤) مثل : ما في الفوائد المدنيّة : ١٤١ ـ ١٤٣ ، وما حكاه في القوانين ٢ : ٦٦ ، وما نقله الحاجبي والعضدي في شرح مختصر الاصول ٢ : ٤٥٣ ـ ٤٥٤ ، وما ذكره المحدّث البحراني في الدرر النجفيّة : ٣٦ و ٣٧.

١٠٢

[حجّة القول الثالث](١)

القول بالتفصيل بين العدمي والوجودي

بقي الكلام في حجج المفصّلين.

فنقول : أمّا التفصيل بين العدميّ والوجوديّ بالاعتبار في الأوّل وعدمه في الثاني ، فهو الذي ربما يستظهر من كلام التفتازاني ، حيث استظهر من عبارة العضدي (٢) في نقل الخلاف : أنّ خلاف منكري الاستصحاب إنّما هو في الإثبات دون النفي (٣).

وما استظهره التفتازاني لا يخلو ظهوره عن تأمّل.

مع أنّ هنا إشكالا آخر ـ قد أشرنا إليه في تقسيم الاستصحاب في (٤) تحرير محلّ الخلاف (٥) ـ وهو : أنّ القول باعتبار الاستصحاب في العدميّات يغني عن التكلّم في اعتباره في الوجوديّات ؛ إذ ما من مستصحب وجوديّ إلاّ وفي مورده استصحاب عدميّ يلزم من الظنّ ببقائه الظنّ ببقاء المستصحب الوجودي ، وأقلّ ما يكون عدم ضدّه ؛ فإنّ الطهارة لا تنفكّ عن عدم النجاسة ، والحياة لا تنفكّ عن عدم الموت ، والوجوب أو غيره من الأحكام لا ينفكّ عن عدم ما عداه

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) في شرح مختصر الاصول ٢ : ٤٥٣.

(٣) تقدّم كلام التفتازاني في الصفحة ٢٨.

(٤) في (ر) و (ه) بدل «في» : «و».

(٥) راجع الصفحة ٣١.

١٠٣

من أضداده ، والظنّ ببقاء هذه الأعدام لا ينفكّ عن الظنّ ببقاء تلك الوجودات ، فلا بدّ من القول باعتباره ، خصوصا بناء على ما هو الظاهر المصرّح به في كلام العضدي وغيره (١) ، من : «أنّ إنكار الاستصحاب لعدم إفادته الظنّ بالبقاء» ، وإن كان ظاهر بعض النافين ـ كالسيّد قدس‌سره (٢) وغيره (٣) ـ استنادهم إلى عدم إفادته للعلم ؛ بناء على أنّ عدم اعتبار الظنّ عندهم مفروغ عنه في أخبار الآحاد ، فضلا عن الظنّ الاستصحابي.

عدم استقامة هذا القول بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ

وبالجملة : فإنكار الاستصحاب في الوجوديّات والاعتراف به في العدميّات لا يستقيم بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ.

نعم ، لو قلنا باعتباره من باب التعبّد ـ من جهة الأخبار ـ صحّ أن يقال : إنّ ثبوت العدم بالاستصحاب لا يوجب ثبوت ما قارنه من الوجودات ، فاستصحاب عدم أضداد الوجوب لا يثبت الوجوب في الزمان اللاحق ، كما أنّ عدم ما عدا زيد من أفراد الإنسان في الدار لا يثبت باستصحابه (٤) ثبوت زيد فيها ، كما سيجيء تفصيله إن شاء الله تعالى (٥).

لكنّ المتكلّم في الاستصحاب من باب التعبّد والأخبار ـ بين

__________________

(١) انظر شرح مختصر الاصول ٢ : ٤٥٣ ، ونهاية الوصول (مخطوط) : ٤٠٧.

(٢) الذريعة ٢ : ٨٣٢.

(٣) انظر الدرر النجفيّة للمحدّث البحراني : ٣٦.

(٤) في (ت): «باستصحاب».

(٥) في مبحث الأصل المثبت ، الصفحة ٢٣٣.

١٠٤

العلماء ـ في غاية القلّة إلى زمان متأخّري المتأخّرين (١) ، مع أنّ بعض هؤلاء (٢) وجدناهم لا يفرّقون في مقارنات المستصحب بين أفرادها ، ويثبتون بالاستصحاب جميع ما لا ينفكّ عن المستصحب ، على خلاف التحقيق الآتي في التنبيهات الآتية إن شاء الله تعالى (٣).

ودعوى : أنّ اعتبار الاستصحابات العدميّة لعلّه ليس لأجل الظنّ حتّى يسري إلى الوجوديّات المقارنة معها ، بل لبناء العقلاء عليها في امورهم بمقتضى جبلّتهم.

مدفوعة : بأنّ عمل العقلاء في معاشهم على ما لا يفيد الظنّ بمقاصدهم والمضيّ في امورهم ـ بمحض الشكّ والتردّد ـ في غاية البعد ، بل خلاف ما نجده من أنفسنا معاشر العقلاء.

وأضعف من ذلك أن يدّعى : أنّ المعتبر عند العقلاء من الظنّ الاستصحابي هو الحاصل بالشيء من تحقّقه السابق ، لا الظنّ الساري من هذا الظنّ إلى شيء آخر ، وحينئذ فنقول : العدم المحقّق سابقا يظنّ بتحقّقه لاحقا ـ ما لم يعلم أو يظنّ تبدّله بالوجود ـ بخلاف الوجود المحقّق سابقا فإنّه لا يحصل الظنّ ببقائه لمجرّد تحقّقه السابق ، والظنّ الحاصل ببقائه من الظنّ الاستصحابي المتعلّق بالعدميّ المقارن له غير

__________________

(١) مثل : الفاضل التوني والوحيد البهبهاني وشريف العلماء والمحقّق القمّي وصاحب الفصول وغيرهم.

(٢) مثل : الوحيد البهبهاني وشريف العلماء ، انظر الفوائد الحائرية : ٢٧٥ ، والرسائل الاصوليّة : ٤٢٣ ، وضوابط الاصول : ٣٧٤.

(٣) في مبحث الأصل المثبت ، الصفحة ٢٣٣.

١٠٥

معتبر ، إمّا مطلقا ، أو إذا لم يكن ذلك الوجوديّ من آثار العدميّ المترتّبة عليه (١) من جهة الاستصحاب (٢).

ولعلّه المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة ، من : «أنّ حياة الغائب بالاستصحاب إنّما يصلح عندهم ـ من جهة الاستصحاب ـ لعدم انتقال إرثه إلى وارثه ، لا انتقال إرث (٣) مورّثه إليه» (٤) فإنّ معنى ذلك أنّهم يعتبرون ظنّ عدم انتقال مال الغائب إلى وارثه ، لا انتقال مال مورّثه إليه وإن كان أحد الظنّين لا ينفكّ عن الآخر (٥).

معنى عدم اعتبار الاستصحاب في الوجودي

ثمّ إنّ معنى عدم اعتبار الاستصحاب في الوجوديّ :

إمّا عدم الحكم ببقاء المستصحب الوجوديّ وإن كان لترتّب أمر عدميّ عليه ، كترتّب عدم جواز (٦) تزويج المرأة المفقود زوجها المترتّب على حياته.

وإمّا عدم ثبوت الأمر الوجوديّ لأجل الاستصحاب وإن كان المستصحب عدميّا ، فلا يترتّب انتقال مال قريب الغائب إليه وإن كان

__________________

(١) لم ترد «عليه» في (ر) ، وكتب في (ص) تحت عبارة «إمّا مطلقا ... عليه» : «زيادة في بعض النسخ».

(٢) لم ترد «من جهة الاستصحاب» في (ظ) ، وفي (ص) كتب عليها : «زائد».

(٣) في (ظ) بدل «إرث» : «مال».

(٤) حاشية شرح مختصر الاصول ٢ : ٢٨٥.

(٥) لم ترد «ولعلّه المراد ـ إلى ـ عن الآخر» في (ه) ، وشطب عليها في (ت) ، وكتب عليها في (ص): «نسخة».

(٦) لم ترد «جواز» في (ظ) ، وشطب عليها في (ص).

١٠٦

مترتّبا على استصحاب عدم موته. ولعلّ هذا هو المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة : من أنّ الاستصحاب حجّة في النفي دون الإثبات (١).

وبالجملة : فلم يظهر لي ما يدفع هذا الإشكال عن القول بعدم اعتبار الاستصحاب في الإثبات واعتباره في النفي من باب الظنّ.

نعم ، قد أشرنا فيما مضى (٢) إلى أنّه (٣) لو قيل باعتباره في النفي من باب التعبّد ، لم يغن ذلك عن التكلّم في الاستصحاب الوجوديّ ؛ بناء على ما سنحقّقه (٤) : من أنّه لا يثبت بالاستصحاب إلاّ آثار المستصحب المترتّبة عليه شرعا.

لكن يرد (٥) على هذا : أنّ هذا التفصيل مساو للتفصيل المختار المتقدّم (٦) ، ولا يفترقان فيغني أحدهما عن الآخر (٧) ؛ إذ الشكّ في بقاء الأعدام السابقة من جهة الشكّ في تحقّق الرافع لها ـ وهي علّة الوجود ـ والشكّ في بقاء الأمر الوجودي من جهة الشك في الرافع ، لا ينفكّ عن

__________________

(١) تقدّم كلام التفتازاني في الصفحة ٢٨.

(٢) راجع الصفحة ١٠٤.

(٣) لم ترد «قد أشرنا فيما مضى إلى أنّه» في (ظ).

(٤) في مبحث الأصل المثبت ، الصفحة ٢٣٣.

(٥) في (ظ) ونسخة بدل (ت) بدل «يرد» : «يبقى».

(٦) راجع الصفحة ٥١.

(٧) في (ص) بدل «ولا يفترقان فيغني أحدهما عن الآخر» : «ولا يفترق أحدهما عن الآخر» ، وفي نسخة بدله ما أثبتناه.

١٠٧

الشكّ في تحقّق الرافع ، فيستصحب عدمه ، ويترتّب عليه بقاء ذلك الأمر الوجوديّ.

وتخيّل : أنّ الأمر الوجوديّ قد لا يكون من الآثار الشرعيّة لعدم الرافع ، فلا يغني العدميّ عن الوجوديّ.

مدفوع : بأنّ الشكّ إذا فرض من جهة الرافع فيكون الأحكام الشرعيّة المترتّبة على ذلك الأمر الوجوديّ مستمرّة إلى تحقّق ذلك الرافع ، فإذا حكم بعدمه عند الشكّ ، يترتّب (١) عليه شرعا جميع تلك الأحكام ، فيغني ذلك عن الاستصحاب الوجوديّ.

ما يمكن أن يحتجّ به لهذا القول

وحينئذ ، فيمكن أن يحتجّ لهذا القول :

أمّا على عدم الحجّية في الوجوديّات ، فيما تقدّم في أدلّة النافين (٢).

وأمّا على الحجّية في العدميّات ، فيما تقدّم في أدلّة المختار (٣) : من الإجماع ، والاستقراء ، والأخبار ؛ بناء على أنّ (٤) الشيء المشكوك في بقائه من جهة الرافع إنّما يحكم ببقائه لترتّبه على استصحاب عدم وجود الرافع ، لا لاستصحابه في نفسه ؛ فإنّ الشاكّ في بقاء الطهارة من جهة الشكّ في وجود الرافع يحكم بعدم الرافع ، فيحكم من أجله ببقاء الطهارة.

وحينئذ ، فقوله عليه‌السلام : «وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض

__________________

(١) في (ر): «ترتّب».

(٢) راجع الصفحة ٩٧ ـ ١٠٢.

(٣) راجع الصفحة ٥٣ ـ ٥٥.

(٤) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «بقاء» ، وفي (ظ) زيادة : «إبقاء».

١٠٨

اليقين بالشكّ» (١) ، وقوله : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين» (٢) ، وغيرهما ممّا دلّ على أنّ اليقين لا ينقض أو لا يدفع بالشكّ ، يراد منه أنّ احتمال طروّ الرافع لا يعتنى به ، ولا يترتّب عليه أثر النقض ، فيكون وجوده كالعدم ، فالحكم ببقاء الطهارة السابقة من جهة استصحاب العدم ، لا من جهة استصحابها (٣).

والأصل في ذلك : أنّ الشكّ في بقاء الشيء إذا كان مسبّبا عن الشكّ في شيء آخر ، فلا يجتمع معه في الدخول تحت عموم «لا تنقض» ـ سواء تعارض مقتضى اليقين السابق فيهما أم تعاضدا ـ بل الداخل هو الشكّ السببيّ ، ومعنى عدم الاعتناء به زوال الشكّ المسبّب به ، وسيجيء توضيح ذلك (٤).

المناقشة في الاحتجاج المذكور

هذا ، ولكن يرد عليه : أنّه (٥) قد يكون الأمر الوجوديّ أمرا خارجيّا كالرطوبة (٦) يترتّب عليها آثار شرعيّة ، فإذا شكّ في وجود الرافع لها لم يجز أن يثبت به الرطوبة حتّى يترتّب عليها أحكامها ؛ لما سيجيء (٧) : من أنّ المستصحب لا يترتّب عليه إلاّ آثاره الشرعيّة

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٥٦ ، ضمن صحيحة زرارة الاولى.

(٢) تقدّم في الصفحة ٥٨ ، ضمن صحيحة زرارة الثانية.

(٣) في (ر) بدل «من جهة استصحابها» : «لاستصحابها».

(٤) انظر الصفحة ٣٩٤ وما بعدها.

(٥) لم ترد «يرد عليه أنّه» في (ظ).

(٦) في (ظ) زيادة : «و».

(٧) في مباحث الأصل المثبت ، الصفحة ٢٣٣.

١٠٩

المترتّبة عليه بلا واسطة أمر عقليّ أو عاديّ ، فيتعيّن حينئذ استصحاب نفس الرطوبة.

وأصالة عدم الرافع : إن اريد بها أصالة عدم ذات الرافع ـ كالريح المجفّف للرطوبة مثلا ـ لم ينفع في الأحكام المترتّبة شرعا على نفس الرطوبة ؛ بناء على عدم اعتبار الأصل المثبت ، كما سيجيء (١).

وإن اريد بها أصالة عدمه من حيث وصف الرافعيّة ـ ومرجعها إلى أصالة عدم ارتفاع الرطوبة ـ فهي وإن لم يكن يترتّب عليها إلاّ الأحكام الشرعيّة للرطوبة ، لكنّها عبارة اخرى عن استصحاب نفس الرطوبة.

فالإنصاف : افتراق القولين في هذا القسم (٢)

__________________

(١) في مباحث الأصل المثبت ، الصفحة ٢٣٣.

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «فافهم وانتظر لبقيّة الكلام».

١١٠

[حجّة القول الرابع](١)

حجة القول بالتفصيل بين الأمور الخارجية والحكم الشرعي مطلقا

حجّة من أنكر الاستصحاب في الامور الخارجيّة ما ذكره (٢) المحقّق الخوانساري في شرح الدروس ، وحكاه (٣) في حاشية له عند كلام الشهيد : «ويحرم استعمال الماء النجس والمشتبه» ـ على ما حكاه شارح الوافية (٤) ـ واستظهره المحقّق القمّي قدس‌سره من السبزواري ، من :

أنّ الأخبار لا يظهر شمولها للامور الخارجيّة ـ مثل رطوبة الثوب ونحوها ـ إذ يبعد أن يكون مرادهم بيان الحكم في مثل هذه الامور الذي ليس حكما شرعيّا وإن كان يمكن أن يصير منشأ لحكم شرعيّ ، وهذا ما يقال : إنّ الاستصحاب في الامور الخارجيّة لا عبرة به (٥) ، انتهى.

المناقشة في الحجُة المذكورة

وفيه :

أمّا أوّلا : فبالنقض بالأحكام الجزئيّة ، مثل طهارة الثوب من حيث عدم ملاقاته للنجاسة ، ونجاسته من حيث ملاقاته لها ؛ فإنّ بيانها

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) في (ر) و (ه) ونسخة بدل (ص) بدل «ذكره» : «حكاه».

(٣) كذا في النسخ ، والظاهر زيادة «وحكاه».

(٤) شرح الوافية (مخطوط) : ٣٣٩ ، ولكن لم نعثر على تلك الحاشية فيما بأيدينا من شرح الدروس.

(٥) القوانين ٢ : ٦٣ ، وراجع ذخيرة المعاد : ١١٥ ـ ١١٦.

١١١

أيضا ليس من وظيفة الإمام عليه‌السلام ، كما أنّه ليس وظيفة المجتهد ، ولا يجوز التقليد فيها ، وإنّما وظيفته ـ من حيث كونه مبيّنا للشرع ـ بيان الأحكام الكلّية المشتبهة على الرعيّة (١).

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، توضيحه : أنّ بيان الحكم الجزئيّ في المشتبهات (٢) الخارجيّة ليس وظيفة للشارع ولا لأحد من قبله. نعم ، حكم المشتبه حكمه الجزئيّ ـ كمشكوك النجاسة أو الحرمة ـ حكم شرعيّ كليّ ليس بيانه وظيفة إلاّ للشارع. وكذلك الموضوع الخارجيّ كرطوبة الثوب ، فإنّ بيان ثبوتها وانتفائها في الواقع ليس وظيفة للشارع. نعم ، حكم الموضوع المشتبه في الخارج ـ كالمائع المردّد بين الخلّ والخمر ـ حكم كليّ ليس بيانه وظيفة إلاّ للشارع ، وقد قال الصادق عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام ، وذلك مثل الثوب يكون عليك ... إلى آخره» (٣) ، وقوله في خبر آخر : «ساخبرك عن الجبن وغيره» (٤).

ولعلّ التوهّم نشأ من تخيّل : أنّ ظاهر «لا تنقض» إبقاء نفس المتيقّن السابق ، وليس إبقاء الرطوبة ممّا يقبل حكم الشارع بوجوبه.

ويدفعه ـ بعد النقض بالطهارة المتيقّنة سابقا ؛ فإنّ إبقاءها ليس من الأفعال الاختياريّة القابلة للإيجاب ـ : أنّ المراد من الإبقاء وعدم النقض ، هو ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على المتيقّن ، فمعنى

__________________

(١) لم ترد «المشتبهة على الرعيّة» في (ظ).

(٢) في (ظ): «الشبهات».

(٣) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٤) الوسائل ١٧ : ٩٠ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ١.

١١٢

استصحاب الرطوبة ترتيب آثارها الشرعيّة في زمان الشكّ ، نظير استصحاب الطهارة ، فطهارة الثوب ورطوبته سيّان في عدم قابليّة الحكم بإبقائهما عند الشكّ ، وفي قابليّة الحكم بترتيب آثارهما الشرعيّة في زمان الشكّ ، فالتفصيل بين كون المستصحب من قبيل رطوبة الثوب وكونه من قبيل طهارته ـ لعدم شمول أدلّة «لا تنقض» للأوّل ـ في غاية الضعف.

نعم ، يبقى في المقام : أنّ استصحاب الامور الخارجيّة ـ إذا كان معناه ترتيب آثارها الشرعيّة ـ لا يظهر له فائدة ؛ لأنّ تلك الآثار المترتّبة عليه (١) كانت مشاركة معه في اليقين السابق ، فاستصحابها يغني عن استصحاب نفس الموضوع ، فإنّ استصحاب حرمة مال زيد الغائب وزوجته يغني عن استصحاب حياته إذا فرض أنّ معنى إبقاء الحياة ترتيب آثارها الشرعيّة. نعم ، قد يحتاج إجراء الاستصحاب في آثاره إلى أدنى تدبّر ، كما في الآثار الغير المشاركة معه في اليقين السابق ، مثل : توريث الغائب من قريبه المتوفّى في زمان الشكّ في حياة الغائب ، فإنّ التوريث غير متحقّق حال اليقين بحياة الغائب ؛ لعدم موت قريبه بعد. لكن مقتضى التدبّر إجراء الاستصحاب على وجه التعليق ، بأن يقال : لو مات قريبه قبل الشكّ في حياته لورث منه ، وبعبارة اخرى : موت قريبه قبل ذلك كان ملازما لإرثه منه ولم يعلم انتفاء الملازمة فيستصحب.

وبالجملة : الآثار المترتّبة على الموضوع الخارجيّ ، منها ما يجتمع

__________________

(١) لم ترد «عليه» في (ه).

١١٣

معه في زمان اليقين به ، ومنها ما لا يجتمع معه في ذلك الزمان ، لكن عدم الترتّب فعلا في ذلك الزمان ـ مع فرض كونه من آثاره شرعا ـ ليس إلاّ لمانع في ذلك الزمان أو لعدم شرط ، فيصدق في ذلك الزمان أنّه لو لا ذلك المانع أو عدم الشرط لترتّب الآثار ، فإذا فقد المانع الموجود أو وجد الشرط المفقود ، وشكّ في الترتّب من جهة الشكّ في بقاء ذلك الأمر الخارجيّ ، حكم باستصحاب ذلك الترتّب الشأنيّ. وسيأتي لذلك مزيد توضيح في بعض التنبيهات الآتية (١).

هذا ، ولكنّ التحقيق : أنّ في موضع (٢) جريان الاستصحاب في الأمر الخارجيّ لا يجري استصحاب الأثر المترتّب عليه ، فإذا شكّ في بقاء حياة زيد فلا سبيل إلى إثبات آثار حياته إلاّ بحكم الشارع بعدم جواز نقض حياته ، بمعنى وجوب ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على الشخص الحيّ ، ولا يغني عن ذلك إجراء الاستصحاب في نفس الآثار ، بأن يقال : إنّ حرمة ماله وزوجته كانت متيقّنة ، فيحرم نقض اليقين بالشكّ ؛ لأنّ حرمة المال والزوجة إنّما تترتّبان في السابق على الشخص الحيّ بوصف أنّه حيّ ، فالحياة داخل في موضوع المستصحب ـ ولا أقلّ من الشكّ في ذلك (٣) ـ فالموضوع مشكوك (٤) في الزمن اللاحق ، وسيجيء اشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب (٥). واستصحاب الحياة

__________________

(١) في مبحث الاستصحاب التعليقي ، الصفحة ٢٢١.

(٢) في (ر) ، (ه) ونسخة بدل (ص) بدل «موضع» : «مورد».

(٣) لم ترد «ولا أقل ... ذلك» في (ر) ، وكتب عليها في (ص): «نسخة».

(٤) في (ر) ونسخة بدل (ص) بدل «فالموضوع مشكوك» : «وهي مشكوكة».

(٥) انظر الصفحة ٢٩١.

١١٤

لإحراز الموضوع في استصحاب الآثار غلط ؛ لأنّ معنى استصحاب الموضوع ترتيب آثاره الشرعيّة.

فتحقّق : أنّ استصحاب الآثار نفسها غير صحيح ؛ لعدم إحراز الموضوع ، واستصحاب الموضوع كاف في إثبات الآثار. وقد مرّ في مستند التفصيل السابق (١) ، وسيجيء في اشتراط بقاء الموضوع (٢) ، وفي تعارض الاستصحابين (٣)(٤) : أنّ الشكّ المسبّب عن شكّ آخر لا يجامع معه في الدخول تحت عموم «لا تنقض» ، بل الداخل هو الشكّ السببيّ ، ومعنى عدم الاعتناء به وعدم جعله ناقضا لليقين ، زوال الشكّ المسبّب به ، فافهم.

__________________

(١) راجع الصفحة ١٠٩.

(٢) في الصفحة ٢٨٩.

(٣) في الصفحة ٣٩٥.

(٤) في (ت) ، (ظ) و (ه) بدل «وقد مرّ ـ إلى ـ الاستصحابين» : «وقد أشرنا في ما مرّ ونزيد توضيحه فيما سيجيء».

١١٥

[حجّة القول الخامس](١)

القول بالتفصيل بين الحكم الشرعي الكلي وغيره

وأمّا القول الخامس ـ وهو التفصيل بين الحكم الشرعيّ الكلّي وبين غيره ، فلا يعتبر في الأوّل ـ فهو المصرّح به في كلام المحدّث الأسترابادي ، لكنّه صرّح باستثناء استصحاب عدم النسخ (٢) مدّعيا الإجماع بل الضرورة على اعتباره. قال في محكيّ فوائده المكّية (٣) ـ بعد ذكر أخبار الاستصحاب ـ ما لفظه :

كلام المحدّث الأسترابادي في الاستدلال على هذا القول

لا يقال : هذه القاعدة تقتضي جواز العمل بالاستصحاب في أحكام الله تعالى ـ كما ذهب إليه المفيد والعلاّمة من أصحابنا ، والشافعيّة قاطبة ـ وتقتضي بطلان قول أكثر علمائنا والحنفيّة بعدم جواز العمل به.

لأنّا نقول : هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الاصوليّين والفقهاء ، وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنيّة (٤) :

تارة ، بما ملخّصه : أنّ صور الاستصحاب المختلف فيها ـ عند النظر الدقيق والتحقيق ـ راجعة إلى أنّه إذا ثبت حكم بخطاب شرعيّ في موضوع في حال من حالاته ، نجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه. ومن المعلوم أنّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) تقدم تصريحه بذلك في الصفحة ٣١.

(٣) حكاه الفاضل التوني في الوافية : ٢١٢.

(٤) الفوائد المدنيّة : ١٤٣.

١١٦

بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين ، فالذي سمّوه استصحابا راجع في الحقيقة إلى إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر متّحد معه في الذات مختلف معه في الصفات ، ومن المعلوم عند الحكيم أنّ هذا المعنى غير معتبر شرعا وأنّ القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة له.

وتارة : بأنّ استصحاب الحكم الشرعيّ ، وكذا الأصل ـ أي الحالة التي إذا خلّي الشيء ونفسه كان عليها ـ إنّما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما ، وقد ظهر في محلّ النزاع ؛ لتواتر الأخبار : بأنّ كلّ ما يحتاج إليه الأمّة ورد فيه خطاب وحكم حتّى أرش الخدش (١) ، وكثير ممّا ورد مخزون عند أهل الذكر : ، فعلم أنّه ورد في محلّ النزاع أحكام لا نعلمها بعينها ، وتواتر الأخبار بحصر المسائل في ثلاث : بيّن رشده ، وبيّن غيّه ـ أي مقطوع فيه ذلك ، لا ريب فيه ـ ، وما ليس هذا ولا ذاك ، وبوجوب التوقّف في الثالث (٢) ، انتهى.

المناقشة فيما أفاده المحدّث الأسترابادي

أقول : لا يخفى أنّ ما ذكره أوّلا قد استدلّ به كلّ من نفى الاستصحاب من أصحابنا ، وأوضحوا ذلك غاية الإيضاح ، كما يظهر لمن راجع الذريعة (٣) والعدّة (٤) والغنية (٥) وغيرها (٦) ، إلاّ أنّهم منعوا من إثبات

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ٢٧٢ ، الباب ٤٨ من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث الأوّل ، وراجع لتفصيل الروايات ، البحار ٢٦ : ١٨ ـ ٦٦ ، باب جهات علومهم ....

(٢) الفوائد المكّية (مخطوط) : الورقة ١٠٣.

(٣) الذريعة ٢ : ٨٣٠.

(٤) العدة ٢ : ٧٥٧.

(٥) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٨٦.

(٦) انظر المعتبر ١ : ٣٢.

١١٧

الحكم الثابت لموضوع في زمان ، له بعينه في زمان آخر ، من دون تغيّر واختلاف في صفة الموضوع سابقا ولاحقا ـ كما يشهد له تمثيلهم بعدم الاعتماد على حياة زيد أو بقاء البلد على ساحل البحر بعد الغيبة عنهما ـ وأهملوا (١) قاعدة «البناء على اليقين السابق» ؛ لعدم دلالة العقل عليه ولا النقل ، بناء على عدم التفاتهم إلى الأخبار المذكورة ؛ لقصور دلالتها عندهم ببعض ما أشرنا إليه سابقا (٢) ، أو لغفلتهم عنها ، على أبعد الاحتمالات (٣) عن ساحة من هو دونهم في الفضل.

وهذا المحدّث قد سلّم دلالة الأخبار على وجوب البناء على اليقين السابق وحرمة نقضه مع اتّحاد الموضوع (٤) ، إلاّ أنّه ادّعى تغاير موضوع المسألة المتيقّنة والمسألة المشكوكة ، فالحكم فيها بالحكم السابق ليس بناء على اليقين السابق ، وعدم الحكم به ليس نقضا له.

فيرد عليه :

أوّلا : النقض بالموارد التي ادّعى الإجماع والضرورة على اعتبار الاستصحاب فيها ـ كما حكيناها عنه سابقا (٥) ـ فإنّ منها : استصحاب الليل والنهار ؛ فإنّ كون الزمان المشكوك ليلا أو نهارا أشدّ تغايرا واختلافا مع كون الزمان السابق كذلك ، من ثبوت خيار الغبن أو

__________________

(١) في (ت) و (ه) بدل «أهملوا» : «منعوا».

(٢) راجع الصفحة ٧١.

(٣) في (ص): «الاحتمالين».

(٤) كتب في (ت) فوق «مع اتّحاد الموضوع» : «زائد».

(٥) راجع الصفحة ٤٤.

١١٨

الشفعة في الزمان المشكوك وثبوتهما في الزمان السابق.

ولو اريد من الليل والنهار طلوع الفجر وغروب الشمس لا نفس الزمان ، كان الأمر كذلك ـ وإن كان دون الأوّل في الظهور ـ لأنّ مرجع الطلوع والغروب إلى الحركة الحادثة شيئا فشيئا.

ولو اريد استصحاب أحكامهما ، مثل : جواز الأكل والشرب وحرمتهما ، ففيه : أنّ ثبوتهما (١) في السابق كان منوطا ومتعلّقا في الأدلّة الشرعيّة بزماني الليل والنهار ، فإجراؤهما مع الشكّ في تحقّق الموضوع بمنزلة ما أنكره على القائلين بالاستصحاب ، من إسراء (٢) الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

وبما ذكرنا يظهر : ورود النقض المذكور عليه في سائر الأمثلة ، فأيّ فرق بين الشكّ في تحقّق الحدث أو الخبث بعد الطهارة ـ الذي جعل الاستصحاب فيه من ضروريّات الدين ـ ، وبين الشكّ في كون المذي محكوما شرعا برافعيّة الطهارة؟! فإنّ الطهارة السابقة في كلّ منهما كان منوطا بعدم تحقّق الرافع ، وهذا المناط في زمان الشكّ غير متحقّق ، فكيف يسري حكم حالة وجود المناط إليه؟!

وثانيا : بالحلّ ، بأنّ اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ـ الذي يتوقّف صدق البناء على اليقين و (٣) نقضه بالشكّ عليه ـ أمر راجع إلى العرف ؛ لأنّه المحكّم في باب الألفاظ ، ومن المعلوم أنّ الخيار أو الشفعة إذا ثبت

__________________

(١) في (ظ): «ثبوتها».

(٢) كذا في نسخة بدل (ص) ، وفي النسخ بدل «إسراء» : «إجراء».

(٣) في (ت) و (ه) زيادة : «عدم».

١١٩

في الزمان الأوّل وشكّ في ثبوتهما في الزمان الثاني ، يصدق عرفا أنّ القضيّة المتيقّنة في الزمان الأوّل بعينها مشكوكة في الزمان الثاني.

نعم ، قد يتحقّق في بعض الموارد الشكّ في إحراز الموضوع للشكّ في مدخليّة الحالة المتبدّلة فيه. فلا بدّ من التأمّل التامّ ، فإنّه من أعظم المزال في هذا المقام.

وأمّا ما ذكره ثانيا : من معارضة قاعدة اليقين والأصل بما دلّ على التوقّف.

ففيه ـ مضافا إلى ما حقّقناه في أصل البراءة ، من ضعف دلالة الأخبار على وجوب الاحتياط (١) ، وإنّما تدلّ على وجوب التحرّز عن موارد الهلكة الدنيويّة أو الاخرويّة ، والأخيرة مختصّة بموارد حكم العقل بوجوب الاحتياط من جهة القطع بثبوت العقاب إجمالا وتردّده بين المحتملات ـ : أنّ أخبار الاستصحاب حاكمة على أدلّة الاحتياط ـ على تقدير دلالة الأخبار عليه أيضا ـ كما سيجيء (٢) في مسألة تعارض الاستصحاب مع سائر الاصول إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ ما ذكره : من أنّه شبهة عجز عن جوابها الفحول ، ممّا لا يخفى ما فيه ؛ إذ أيّ اصوليّ أو فقيه تعرّض لهذه الأخبار وورود هذه الشبهة فعجز عن جوابها؟! مع أنّه لم يذكر في الجواب الأوّل عنها إلاّ ما اشتهر بين النافين للاستصحاب ، ولا في الجواب الثاني إلاّ ما اشتهر بين الأخباريّين : من وجوب التوقّف والاحتياط في الشبهة الحكميّة.

__________________

(١) راجع مبحث البراءة ٢ : ٦٣ ـ ٨٦.

(٢) انظر الصفحة ٣٩١.

١٢٠