سامرّاء دراسة في النشاة والبنية السكانية

د. صالح أحمد العلي

سامرّاء دراسة في النشاة والبنية السكانية

المؤلف:

د. صالح أحمد العلي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٠

الماء في منطقة سامرّاء

إن الرقعة التي استقر المعتصم على تشييد مدينته عليها في الجانب الشرقي من دجلة كانت صحراء من أرض الطيرهان لا عمارة فيها ولا أنيس ، فهي أرض جرداء لم يكن فيها قبل بناء سامرّاء غير دير صغير ؛ ولم تكن فيها أنهار تزودها بالماء فكان شربهم جميعا من دجلة مما يحمل في الرّوايا على البغال والإبل ؛ لأن آبارهم بعيدة الرشاء ، مالحة غير سائغة ، فليس فيها اتساع في الماء ، ولكن دجلة قريبة والروايا كثيرة (١) ، وهي تفضل ماء دجلة العذب وتزوّد البلد بماء الشرب ، وربما للغسيل وسقي البساتين والأغراض الأخرى.

ولابدّ أن المعتصم كان يدرك أهمية توفير الماء لمدينته الجديدة ، ويعرف ملاحظة الوافد الرومي للخليفة المنصور على عيب مدينته المدوّرة بخلوّها من مصادر الماء (٢). وكان هو قد توقف عن تشييد بلدته في المطيرة لعدم توافر الماء اللازم فيها للشرب وإرواء البساتين التي كان يحرص على الإكثار منها.

ومما يظهر اهتمامه بالماء كثرة استخدامه المهندسين ، وهم المعنيون بتدبير الماء ، عند أول تأسيسه سامرّاء ؛ وذكر اليعقوبي أن المعتصم عندما قرر تشييد مدينته «أحضر المهندسين فقال اختاروا أصلح هذه المواضع فاختاروا عدة مواضع للقصور» وأنه «أقدم من كل بلد من يعمل من الأعمال أو يعالج مهنة من مهن العمارة والزرع والنخل والغروس وهندسة الماء ووزنه واستنباطه والعلم بمواضعه من الأرض» (٣). ثم إن المعتصم عنى بالحمّامات في عدد من المواضع التي أوطنها جماعته ، ومع أن المصادر لم تذكر في داخل سامرّاء حمّاما ، أو حفر أنهار مما كشف عن عدد غير قليل منها ، فالراجح أنها أمدت سامرّاء ببعض ، وليس كل ، ماتحتاجه من الماء.

وكان المتوكل أول خليفة أولى اهتماما بتزويد سامرّاء بماء الأنهار ، فيذكر

__________________

(١) البلدان لليعقوبي ٢٦٣ ؛ وانظر : المسالك للإصطخري ٨٥.

(٢) الطبري ٣ / ٣٢٣ ؛ تاريخ بغداد للخطيب ١ / ٨٠ ؛ معجم البلدان ٤ / ١٥٤.

(٣) البلدان لليعقوبي ٢٥٨.

٨١

ياقوت أن المتوكل «اشتق من دجلة قناتين شتوية وصيفية ، تدخلان الجامع وتتخللان شوارع سامرّاء ، واشتق نهرا آخر قدره للدخول إلى الحير ، فمات قبل أن يتم ، وحاول المنتصر تتميمه ، فلقصر أيامه لم يتم ، ثم اختلف الأمر بعد فبطل ، وكان المتوكل أنفق عليه سبعمائة ألف دينار» (١) ومن الواضح أن هذا غير النهر الذي عمل على حفره عند المتوكلية ، وقول ياقوت إن إحدى القناتين صيفية والأخرى شتوية قد يدل على أنهما كانتا تأخذان ماءهما من دجلة بإحدى الوسائل الصناعية كالنواعير والكرود ، إذ بهما وحدهما يمكن التحكم في أجزاء الماء في موسم معيّن. وأن قوله «تدخلان الجامع وتتخللان شوارع سامرّاء» قد يدل على أنهما كانتا تدخلان الجامع قبل السوق ، أما النهر الثاني الذي لم يتم فيقتضي أنه كان قريبا من هاتين القناتين لأن الحير قريب من الجامع.

ذكر ابن الفقيه أن «ما يأخذ منها ويسقي الجانب الشرقي القناتان الشتوية والصيفية ، وهما اللتان عملهما المتوكل بسرّ من رأى ، كانتا تدخلان المسجد الجامع وتتخللان شوارع سامرّاء ... ثم النهر الذي قدره أيضا وعمل على أن يدخل الحير فلم يتم. وقد كان انفق عليه سبعمائة ألف دينار ، وكان السبب في أنه لم يتم أن المتوكل قتل قبل الفراغ منه ، وقد حاول المنتصر أن يتممه ، فلقصر أيامه لم يستمر ذلك» (٢) ولعل هذا مصدر قول القزويني عن المتوكل «اشتق من دجلة قناتين شتوية وصيفية تدخلان الجامع وتتخللان شوارع المدينة» (٣).

ومن مظاهر اهتمام المتوكل بتوفير الماء للأهالي ما قام به عند تشييد المدينة. فذكر اليعقوبي أن المتوكل عزم على أن يبتني مدينة ينتقل إليها وتنسب إليه ويكون له بها الذكر ، فأمر محمد بن موسى المنجم ومن يحضر بابه من المهندسين أن يختاروا موضعا ، فوقع اختيارهم على موضع يقال له الماحوزة ،

__________________

(١) آثار البلاد للقزويني ٣٨٦.

(٢) البلدان لابن الفقيه ١٤٢.

(٣) البلدان لليعقوبي ٢٦٦ ، الروض المعطار ١٧٧.

٨٢

وقيل له إن المعتصم كاد أن يبني ههنا مدينة ويعيد حفر نهر قديم ، فاعتزم على ذلك وابتدأ النظر فيه في سنة ٢٤٥ ووجه من حفر ذلك النهر لسقي المدينة فقدّر النفقة على النهر بألف وخمسمائة ألف دينار ، فطاب نفسا بذلك ، ورضي به وابتدأ الحفر وأنفقت الأموال على ذلك النهر (١) ، ولابدّ أن حفر هذا النهر لم يقتصر على تزويد الجعفرية بالماء فحسب ، بل امتد إلى تزويد جامع سامرّاء وشوارعها بالماء أيضا.

ذكر الطبري أن المتوكل أمر في سنة ٢٤٥ ببناء الماحوزة التي سماها الجعفري وأمر بحفر نهر يأخذ خمسة فراسخ فوق الماحوزة ، من موضع يقال له كرمى يكون ثريا لما حولها من فوهة النهر إليها ، وأمر بأخذ جبلتا والخصاصة العليا والسفلى وكرمى ، وحمل أهلها على بيع منازلهم وأرضهم ، فأجبروا على ذلك حتى تكون الأرض والمنازل في تلك القرى كلها له ويخرجهم عنها.

وقدّر للنهر من النفقة خمسمائة ألف دينار ، وصيّر النفقة عليه إلى دليل بن يعقوب النصراني في ذي الحجة سنة ٢٤٥ ، وألقى في حفر النهر اثني عشر رجلا يعملون فيه ، فلم يزل دليل يعمل فيه ويحمل المال بعد المال ويقسم عامته في الكتاب حتى قتل المتوكل ، فبطل النهر ، وأخربت الجعفرية ونقضت ، ولم يتم أمر النهر (٢).

إن عمل دليل إداري محض هو الإشراف على النفقات ، وإنه «قسم عامته في الكتاب» ولم يشر إلى عمل المهندسين في التخطيط والإشراف على العمل ، ولا إلى فشل الشروع ، وإنما يذكر أنه توقف بعد مقتل المتوكل ، إذ إن الطبري ذكر في نصه تفاصيل عن القسم الأعلى من النهر ، وأحكامه في تملك ما عليه من مزارع ، مما يظهر أنه قصد من المشروع إعمار المنطقة وإنماءها ليفيد منها أصحابه ، ولتزويد مدينته بحاجاتها من المنتوجات الزراعية. ولم يذكر منتهى ذلك النهر أو إرواءه المتوكلية ، ثم قال «إلا أن النهر لم يتم أمره ولم يجر الماء

__________________

(١) البلدان ٢٦٧ ، التنبيه والإشراف ٢٦٧.

(٢) الطبري ٣ / ١٤٣٨.

٨٣

فيه إلا جريا ضعيفا ، لم يكن له اتصال ولا استقامة ، أي إنه قد أنفق عليه بسببها ألف دينار ، ولكن حفره كان صعبا جدا ، إنما كانوا يحفرون حصى ولا يعمل فيها المعاول».

وذكر النويري أن المتوكل تقدم إلى محمد وأحمد ابني موسى بن شاكر «في حفر النهر المعروف بالجعفري ، فأسندوا أمره إلى أحمد بن كثير الفرغاني ، فغلط في فوهة النهر المعروف بالجعفري ، وجعلها أخفض من سائره ، لا يغمر سائر النهر (١)».

فصار ما يغمر فوهة الأعلى الكسروي الذي يذكر سهراب «أوله دور للحارث بشيء يسير مماس لقصر المتوكل المعروف بالجعفري وعليه هناك قنطرة من أحجاره ثم يمر إلى الإيتاخية (٢)».

وهذا النهر غير الثلاثة قواطيل التي «أولها كلها موضع واحد أسفل مدينة سرّ من رأى بفرسخين بين المطيرة وبركوارا ، ويسمى الأعلى منها اليهودي وعليه قنطرة ضيقة ، يمر إلى أن يصبّ في القاطول الكسروي والمأمونية (٣)».

وكان في المنطقة شرقي سامرّاء والمتوكلية نهر يأخذ من الزاب عند السابروج والسودقانية تنزرع منه أنهار منها السيب وتفرعاته ، إلى أن يصبّ في القاطول عند المأمونية (٤)».

__________________

(١) نهاية الأرب ٩ / ١٦٥ ؛ وانظر : عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة ٢٨٦.

(٢) سهراب ١٢٧.

(٣) المصدر نفسه ١٢٨.

(٤) الوزراء لحفيد صاحب النعمان ١٥٩ ـ ١٦٠.

٨٤

الفصل السادس

التخطيط والتشييد

ذكر الأزدي أن المعتصم ابتاع الدير والأرض التي شيدت عليها سامرّاء سنة ٢١٩ (١). ويقول ابن الفقيه إن المعتصم بناها ونزلها سنة ٢٢١ (٢). أما اليعقوبي فذكر أن المعتصم خرج للبحث عن موقع مدينته في ذي القعدة سنة ٢٢٢ (٣).

وهذا الاختلاف بين الروايات في تحديد موعد بنائها واكتماله غير كبير ، وهو يظهر أن «بناءها تم بأسرع مدة (٤) ، وترجع هذه السرعة في الإنجاز إلى أن المعتصم جدّ في البناء».

وذكر الأزدي أن المعتصم عندما خرج إلى سامرّاء وقرر بناءها ضربت له المضارب والقباب ، وضرب الناس الخيام والأخبية وعلّوا في البناء (٥).

ذكر المسعودي «كان المعتصم يحب العمارة ويقول إن فيها أمورا محمودة ، فأولها عمران الأرض التي يجبى بها. وعليها يزكو الخراج وتكثر الأموال وتعيش البهائم وترخص الأسعار ويكثر الكسب ويتسع المعاش» (٦). إن هذا

__________________

(١) تاريخ الموصل ٤٣٦.

(٢) البلدان ١٤٢.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) التنبيه والإشراف ٣٠٩ ، اليعقوبي ٣ / ١٤٨.

(٥) تاريخ الموصل ٤٢٨.

(٦) مروج الذهب ٣ / ٤٦١.

٨٥

الكلام عام عن أعمار البلاد. وهو يعبّر عن مثل عليا تذكر الأخبار أنه طبقها في حفر الأنهار والقيام بأعمال بارزة في ميادين الزراعة والإنتاج. ويظهر اهتمام المعتصم بالعمران في أعماله في بناء سامرّاء. وذكر الطبري «لم يكن للمعتصم لذة في تزيين القصور وكانت غايته فيه الأحكام (١)».

المهندسون :

ذكر اليعقوبي الذي قدّم أوسع المعلومات عن بناء سامرّاء أن المعتصم هو الذي اختار موقع المدينة ، كما ذكر أنه بعد أن استقر على اختيار الموقع واشترى الأرض «أحضر المهندسين فقال اختاروا أصلح هذه المواضع ، فاختاروا عدة مواضع للقصر (٢)».

لم تذكر المصادر عدد وأسماء المهندسين الذين يدل ظاهر النص أنهم كانوا يرافقونه ، ولعلهم أسهموا قبل ذلك في الإشراف على تشييد الأبنية في المراكز التي اختارها قبل استقراره على التشييد في سامرّاء. إنهم كانوا في الأصل من أهل بغداد وراعوا أحوال بغداد العمرانية وتأثروا بها ، وتحاشوا بعض ما كان في تخطيطها من أخطاء.

وفي المشرفين على العمل ذكر اليعقوبي فقال : «صير إلى كل رجل من أصحابه بناء قصر ، فصيّر إلى خاقان عرطوج أبي الفتح ، بناء الجوسق الخاقاني ، وإلى عمر بن فرج بناء القصر المعروف بالعمري ، وإلى أبي الوزير بناء القصر المعروف بالوزيري (٣). وهذا النص يظهر أن عمل المهندسين اقتصر على اختيار مواضع القصور ، أي إنه عمل تخطيطي وليس اختياريّا ، وأن هذه القصور صمّمت على أن تكون متفرقة في عدة مواضع. ولم ترد إشارة إلى القواعد التي راعوها في الاختيار ، ولا نعلم على التقريب مواضع أكثر هذه

__________________

(١) الطبري ٣ / ١٣٢٦.

(٢) البلدان ٢٥٨.

(٣) المصدر نفسه ٢٥٨.

٨٦

القصور ، والراجح أنهم راعوا بالدرجة الأولى مواقعها في التخطيط العام للمدينة.

لم تذكر المصادر أسماء واضعي التخطيط العام للمدينة ، إنما ذكر اليعقوبي أن المعتصم هو الذي وزع القطائع على أصحابها ، وهذا عمل إداري ، ولابدّ أنه تم بعد وضع التخطيط العام الذي من المحتمل أن المهندسين وضعوا أسسه ثم أقرّه المعتصم.

التخطيط :

كان التخطيط العام لسامرّاء يختلف عن بغداد ، ولعل من أبرز العوامل المؤثرة في ذلك أنه لم تكن فيها تضاريس ومعالم تحدد ذلك التخطيط أو تتحكم فيه ما عدا دجلة في غربيها ومجراه العميق وجرفه العالي الذي أعان على عدم تعرّض سامرّاء للغرق الذي كان يهدد بغداد.

وأرض سامرّاء متموجة ، وفيها وديان ذكر اليعقوبي منها وادي إسحاق بن إبراهيم «لأن إسحاق انتقل من قطيعته في أيام المتوكل فبنى على رأس الوادي وكان الشارع الأعظم وهو السريجة ممتدا من المطيرة إلى هذا الوادي ، ووادي إبراهيم بن رباح الذي ينتهي به الشارع الغربي شارع أبي أحمد. كما ذكر واد يتصل بوادي إبراهيم بن رباح فينتهي عنده الشارع الرابع وهو شارع برغامش وأول هذا الشارع من المطيرة إلى هذا الوادي ، وهذه الوديان قرب المطيرة ، أي إن هذه الشوارع المتصلة بالوديان تقع بعيدة عن دجلة وتمتد بينها وبين المطيرة.

كانت الشوارع المحاور الأساسية في تنظيم تخطيط المدينة ولابدّ أنها كانت واسعة لتكفي سير السابلة والخيل. ومن المحتمل أنها كانت متشابهة في العرض والراجح أنها كانت متوازية ، ولا يوجد ما يشير إلى أنها كانت متقاطعة ، وإنما تتعامد عليها دروب لابدّ أن كلا منها أقصر وأضيق من الشارع العام وبعضها

٨٧

ينفذ من شارع إلى آخر ، ومن المحتمل أنها أو بعضها كانت مستقيمة فهي بذلك بها شبه من تنظيم المدن الإغريقية التي تشبه الشطرنج (١).

نص الطبري على أن المعتصم لم يكن يميل إلى الزخرفة ، مما يدل على أن هذه الشوارع كانت بسيطة في مظهرها ليس فيها طاقات أو أقواس تزينها أو أبواب تحصرها ولم تكن مسرحا لحوادث. وكان المحور الأساس في سامرّاء قصور الخليفة وكبار رجال الدولة من العسكريين خاصة وبصرف النظر عمن كان يعيش في داخل القصر ، فإن كل قصر كانت حوله مساكن الجند والمرتبطين بالقائد.

طراز التخطيط :

كانت رقعة أرض سامرّاء محصورة في الغرب بدجلة الذي يجري في واد منخفض يحمي المدينة من أخطار الفيضان التي لم يذكر التاريخ تعرّضها للأخطار ، وكانت مفتوحة في جهاتها الأخرى وليس فيها عوارض مائية أو طبيعية عدا واديين ذكرنا هما وكانت تنتهي إلى أحدهما الشوارع.

لم يبن أي من الخلفاء سورا حول سامرّاء ، ويرجع ذلك إلى أن الخلفاء فيها لم يقدّروا أخطار حصار يهددها ، بل حتى قصور الخلفاء لم تكن محاطة بأسوار حصينة للدفاع بوجه قوات تحاصرها ، ولعلهم كانوا يدركون ولاء القوات العسكرية لهم ، إضافة إلى تنوع أصولهم ، وانعدام رابطة تجمعهم سوى الولاء للإسلام والخليفة ، وفيما عدا ذلك فقد احتفظوا بتكتلاتهم العسكرية القائمة على أصول عرقية وما يرتبط بها. ويذكر اليعقوبي أن المعتصم تعمّد عزل الأتراك ، ولم يذكر هو أو أي مؤرخ آخر قيامه بمثل هذا العمل مع الكتل العسكرية الأخرى.

__________________

(١) انظر في ذلك «المدينة على مر العصور» للويس ممفورد.

٨٨

المشرفون على البناء :

ذكر اليعقوبي المشرفين على بناء قصور المعتصم ، وهم من كبار رجال الإدارة ، وفيهم بعض رجال الجيش ، وسميت أكثر هذه القصور باسم المشرفين على بنائها ، ولابدّ أن هذا الإشراف شمل تنظيم الإنفاق على البناء ومتابعة سيره ، أما التخطيط فقد أعده مهندسون لم يرد ذكر لأسمائهم.

جامع المعتصم :

وضع المعتصم في تخطيطه الأول لسامرّا جامعا واحدا ، قال عنه البلاذري إن المعتصم (خط المسجد الجامع ، واختط الأسواق حول الجامع) (١) أي إن الجامع كان المحور الأساسي الثابت في التخطيط ، ولم يجعله ملاصقا لقصره كما فعل المنصور في تخطيط المدينة المدوّرة والرصافة ، وإنما جعله قرب الأسواق فيكون محور تجمع أصحاب الحرف وأهل السوق.

حدد اليعقوبي موقع الجامع الذي شيده المعتصم ، فذكر أنه في شارع السريجة وهو الشارع الأعظم الذي يمتد إلى وادي إسحاق بن إبراهيم وإلى المطيرة. وذكر أن في هذا الشارع الأعظم قطائع الناس يمنة ويسرة ، وفي دروب من جانبي الشارع الأعظم تنفذ إلى شارع أبي أحمد وتنفذ إلى دجلة. وتمر القطائع إلى ديوان الخراج الأعظم ، وفي هذا الشارع قطائع قواد خراسان ، ثم مواضع الرطابين وسوق الرقيق ، ثم مجلس الشرط والحبس الكبير ومنازل الناس والأسواق في هذا الشارع ، ثم الجامع الكبير الذي لم يزل يجمع فيه إلى أيام المتوكل ، فضاق على الناس فهدمه وبنى مسجدا جامعا واسعا في طرف الحير (٢). ويتضح من هذا إدراك المعتصم أهمية السوق والناس في الحياة العامة. فجعل الجامع ، وهو الوحيد فيها.

__________________

(١) فتوح البلدان ٢٦٨.

(٢) البلدان ٢٦٧ ، معجم البلدان ٣ / ١٧.

٨٩

جامع المتوكل :

ذكر اليعقوبي أن الجامع القديم الذي بناه المعتصم «لم يزل يجمع فيه إلى أيام المتوكل فضاق على الناس ، فهدمه وبنى مسجدا جامعا واسعا في طرف الحير ، المسجد الجامع والأسواق من أحد الجانبين ، ومن الجانب الآخر القطائع والمنازل وأسواق أصحاب البياعات الدنيّة مثل أصحاب الفقاع والهرائس والشراب» (١).

وذكر البلاذري أن المتوكل بنى مسجدا جامعا كبيرا ، وأعظم النفقة عليه ، وأمر برفع منارته لتعلو به أصوات المؤذنين فيها ، وحتى ينظر إليها من فراسخ ، فجمع الناس فيها وتركوا المسجد الأول (٢).

وذكر ابن الجوزي أن في سنة ٢٣٢ ابتدىء ببناء الجامع بسامرّاء ، وأنه في سنة ٢٤٧ ، كمل بناء جامع سامرّاء ، وقد ابتدئ سنة ٣٧ ، وبلغت النفقة عليه ثلاثمائة ألف وثمانية آلاف ومائتين واثني عشر دينارا ، وإنما هذه النفقة على البنّائين والنجارين وما شاكل ذلك. وحملت القصة الحجارة التي في الصوان من باب الحرة في الهاروني على عجل ومرّ بها الفيلة التي كانت للمتوكل ، وأنفق مع ذلك في حمولها إلى أن دخلت المسجد ألف وخمسمائة دينار ، ولولا الفيلة لأنفق ضعف ذلك. واستعمل الطوابيق الزجاج التي في المقصورة وهي ألفان وأربعمائة طابق بألفين وأربعمائة دينار ، وأنفق على الأطواق الستة التي جعلت ربحان لها ألفين وأربعمائة دينار (٣).

وأشار المقدسي إلى جامع سامرّاء وذكر أنه جامع كبير يختار على جامع

__________________

(١) البلدان ٢٦٠.

(٢) فتوح البلدان ٢٩٧ ، معجم البلدان ٣ / ١٧.

(٣) المنتظم لابن الجوزي ، حوادث سنة ٢٣٢.

٩٠

٩١

دمشق قد لبست حيطانه بالمينا ، وجعلت فيه أساطين الرخام وفرش به ، وله منارة طويلة وأمور متقنة (١). وفي سنة ٤٠٧ وقع حريق في بعض الجامع بسامرّاء (٢).

مساجد محلية :

ذكر اليعقوبي مساجد محلية في المواضع التي أسكنها بعض الجند في أطراف سامرّاء. ومن هذه المواضع الكرخ التي أقطعها أشناس وأصحابه وضمّ إليه عدة من قواد الأتراك والرجال ، وأمره أن يبني المساجد والأسواق ، وذكر أنه في الكرخ والدور بنى لهم في خلال الدور والقطائع والمساجد والحمّامات ، وأمر الأفشين أن يبني في المطيرة مساجد وحمّامات (٣). وتدل صيغة الجمع على أنه بنى في كل من هذه المواضع عدة مساجد لم يذكر عددها ، ولم تشر المصادر إلى أسمائها ، ولعل مساجد محلية أخرى أنشئت في مواضع أخرى ، غير أن صغرها وتحديد استعمالها من سكانها المحليين جعلها أقل أهمية ، والراجح أنها لم تصلّ فيها الجمعة.

الحير :

الحير من أبرز المعالم العمرانية في سامرّاء ، وكان يطل عليه الجوسق (٤) ، وقد أنشأه المعتصم وسمّاه ، وذكر الجاحظ «الحيوانات التي تأنس في حير المعتصم بالله والواثق» (٥).

وذكر اليعقوبي أن المتوكل بنى مسجده الجامع في أول الحير في موضع واسع خارج المنازل لا يتصل به شي من القطائع والأسواق (٦). ولابدّ أن شارع

__________________

(١) أحسن التقاسيم ١٢٢.

(٢) المنتظم لابن الجوزي ٧ / ٢٨٣.

(٣) البلدان ٢٥٦.

(٤) الطبري ٣ / ٢٠٤٠.

(٥) الحيوان ٤ / ٤٢٢.

(٦) البلدان ٢٦٥.

٩٢

الحير الجديد الذي ذكره اليعقوبي وقال إن فيه أخلاطا من الناس من قواد الفراغنة والأشروسنية والأشناخنجية وغيرهم من سائر كور خراسان ، وإن هذا الشارع يقع خلف شارع الأسكر (١).

وذكر اليعقوبي أيضا أن المعتصم «أقطع وصيفا مما يلي الحير ، وبنى حائطا سماه حائر الحير ممتدا» (٢). وقال أيضا : «وهذه الشوارع التي من الحير كلما اجتمعت إلى إقطاعات لقوم هدم الحائط وبنى خلفه حائطا غيره ، وخلف الحائط الوحشي من الضباء والحمير الوحشي والإيل والأرانب والنعام وعليها حائط يدور في صحراء حسنة» (٣). وذكر أيضا أن المتوكل «زاد في شوارع الحير شارع الأسكر والشارع الجديد ، وبنى المسجد في أول الحير في موضع واسع خارج المنازل ، لا يتصل به شيء من القطائع والأسواق (٤)».

تظهر هذه النصوص أن الحير كان محاطا بحائط لم يبق محله ثابتا ، وإنما كان بين الفينة والأخرى يهدم ليبنى خلفه حائط غيره ، وأن المنازل والإقطاعات كانت ملاصقة للحائط.

ذكر الطبري أن بابك لما جيء به إلى المطيرة «لم يصبر المعتصم حتى ركب إليه بين الحائطين فدخل إليه متنكرا» (٥). وذكر الطبري أن الأتراك في زمن المهتدي «لزموا الحير حتى خرجوا مما يلي الحائطين ، ثم خرجوا ، فأما مفلح وواجن ومن انضم إليهما فسلكوا شارع بغداد حتى بلغوا سوق الغنم ، ثم عطفوا إلى شارع أبي أحمد ، حتى لحقوا بجيش موسى. وأما موسى وجماعة القواد «فإنهم سلكوا على سمت شارع أبي أحمد ، حتى صاروا إلى الوادي ، وانصرفوا إلى الجوسق» (٦).

__________________

(١) البلدان ٢٦٢.

(٢) المصدر نفسه ٢٥٨ ولعل في هذه المنطقة دار صالح بن وصيف الذي تلقاه ربع القبة (الطبري ٣ / ١٨٠٩ وانظر المصدر نفسه ٣ / ١٨٠٧).

(٣) البلدان ٢٦٢.

(٤) المصدر نفسه ٢٦٥.

(٥) الطبري ٣ / ١٢٢٠.

(٦) المصدر نفسه ٣ / ١٨٠٧.

٩٣

إن «الحائطين» معلم عمراني واضح لعل المقصود بهما الحائط القديم الذي هدم بسبب تزايد المنازل قربه ، والحائط الجديد الذي استقر بعد المتوكل ، وفي أي حال فإن هذين الحائطين كانا من جهة المعمور من سامرّاء ، وجنوبي المسجد وبينه وبين شارع أبي أحمد يقع شارع بغداد وسوق الغنم ، وكل هذه المعالم في جهة الجوسق.

ورد في الأخبار ذكر «باب الحير» مفردا مما يدلّ على أنه لم يكن للحير باب غيره ، وذكر الطبري باب الحير الذي يلي قبلة المسجد الجامع. فلما صار إلى حدّ المنارة (١) أي إن باب الحير في الجنوب الغربي من الجامع. وذكر الطبري أيضا «باب الحير الذي يلي القطائع من الجوسق (٢) ، أي إن باب الحير يواجه القطائع والجوسق. ومما يؤيد الصلة المكانية بين الحير والجوسق قول الطبري إن إسحاق بن كنداج «نزل الجوسق المطل على الحير» (٣).

وفي خارج باب الحير يقع باب ياجور (٤) ، «وكان موسى بن بغا حمل من كان على حرسه وراء المهتدي من الجوسق إلى باب ياجور» (٥).

وفي الطبري نصان يدلان على أن باب الحير بين الجوسق والكرخ فذكر أن المهتدي وجّه موسى في زهاء خمسمائة فارس فوقفوا على باب الحير بين الجوسق والكرخ (٦) ، وذكر أن موسى خرج من باب الحير الذي يلي القطائع بين الجوسق والكرخ فعسكر هناك (٧).

وبالقرب من باب الحير يقع القصر الأحمر ، فيذكر الطبري أن موسى بن بغا «أخذ في الحير عبء أصحابه ميمنة وميسرة وقلب في السلاح حتى صار إلى باب الحير مما يلي الجوسق والقصر الأحمر» (٨). وفي إحدى الروايات أن

__________________

(١) الطبري ٣ / ١٨٠٧.

(٢) ن. م ٣ / ١٨١٠.

(٣) ن. م ٣ / ١٨٠٤.

(٤) ن. م ٣ / ٢٠٤٠.

(٥) ن. م ٣ / ١٧٨٩.

(٦) ن. م ٣ / ١٨٤٨.

(٧) ن. م ٣ / ١٨٠٢.

(٨) ن. م ٣ / ١٨٠٤.

٩٤

الثائرين على المهتدي خرجوا من الدار مما يلي باب القناة ، ودخل الموالي مما يلي باب القصر الأحمر (١).

وذكر الطبري قنطرة الرفيف قد نزل الناس بها وخرج المهتدي في هذا اليوم إلى الحير وعرض الحرس ، وأمر أن تنصب الخيام والمضارب فتضرب في الحير (٢).

الشوارع :

عندما اختط المعتصم سامرّاء وضع لها خمسة شوارع عريضة متوازية ذكر اليعقوبي أنها تمتد من الشمال إلى الجنوب وهي :

١. شارع السريجة : وهو الشارع الأعظم ممتدا من المطيرة إلى وادي إسحاق بن إبراهيم.

٢. شارع أبي أحمد بن الرشيد : وهو يتصل بخشبة بابك وبالجامع الذي شيده ، وينتهي بوادي إبراهيم بن رباح.

٣. شارع الحير الأول : وهو يتصل بوادي إسحاق بن إبراهيم.

٤. شارع برغامش : أوله من المطيرة عند قطائع الأفشين ويمتد إلى الوادي الذي يتصل بوادي إبراهيم بن رباح.

٥. شارع صالح العباسي : وهو شارع الأسكر.

٦. شارع الحير الجديد : وهو خلف شارع الأسكر.

٧. شارع الخليج : وهو على دجلة وعنده الفرض والسفن والتجارات التي تأتي في دجلة من البلاد الشمالية والجنوبية.

__________________

(١) الطبري ٣ / ١٧٨٨.

(٢) المصدر نفسه ٣ / ١٨٢٧.

٩٥

٩٦

وعقد جسرا واحدا يربط بين الجانبين الشرقي الغربي ،

وعلى هذه الشوارع القطائع ، وبينها دروب لم تذكر أسماؤها.

إن اثنين من هذه الشوارع مسمّيين برجلين من الأسرة العباسية هما أبو أحمد بن الرشيد ، وصالح العباسي الذي لم أتحقق من هويته ، وشارعا واحدا باسم برغامش التركي ، وشارعين سميا باسم موضعهما الخليج والحير ، واثنين من هذه الشوارع سمّيا باسم غريب (هما شارع السريجة ، وشارع الأسكر) وذكر الآبي شارع السرى لم يذكره اليعقوبي ، ولم يسمّ المعتصم شارعا باسمه أو باسم أحد أولاده أو البارزين من رجال الإدارة. إن هذين الشارعين ضبطت رسمهما المخطوطات التي اطّلعت عليها ، وليس لهما معنى لغوي ، وفيما عدا ما ذكره الآبي ، فإن المصادر لم تذكر أسماء شوارع قد تصوّب ما جاء في كتاب البلدان لليعقوبي وتبقى هذه التسميات الغريبة لهذين الشارعين مثار شك لأنها لا تنسجم مع أي تفسير منطقي. أما شارع السريجة فقد مرّ ذكره.

تطور العمران والشوارع زمن المتوكل

عني المتوكل منذ توليه الخلافة بالإعمار وبناء القصور ، وأعاد تنظيم إعمار سامرّاء «فاتصل البناء من بلكوارا إلى آخر الموضع المعروف بالدور مقدار أربعة فراسخ ، وزاد في شوارع الحير وشارع الأسكر الشارع الجديد ، وبنى المسجد الجامع من أول الحير في موضع واسع خارج المنازل لا يتصل به شيء من القطائع والأسواق» وجعل الطرق إليه من ثلاثة صفوف واسعة عظيمة من الشارع الذي يأخذ من وادي إبراهيم بن رباح ومن كل صف حوانيت فيها أصناف التجارات والبياعات وعرض كل صف مائة ذراع بالذراع السوداء.

ومد الشارع الأعظم من دار أشناس التي بالكرخ ، وهي التي صارت للفتح ابن خاقان مقدار ثلاثة فراسخ إلى قصوره .. وأقطع الناس يمنة الشارع ويسرته ، وجعل عرض الشارع الأعظم مائتي ذراع ، وقدر أن يحفر من جنبي الشارع نهرين يجري فيهما الماء من النهر الكبير .. واتصل البناء من الجعفرية إلى

٩٧

الموضع المعروف بالدور ثم الكرخ وسرّ من رأى مادّا إلى الموضع الذي كان ينزله ابنه أبو عبد الله المعتز (بلكوارا) ، ليس بين شيء من ذلك فضاء ولا فرج ولا موضع لا عمارة فيه ، فكان مقدار ذلك سبعة فراسخ.

إلا أن هذا الإعمار لم يدم إذ لمّا ولي المنتصر «انتقل إلى سرّ من رأى وأمر الناس جميعا بالانتقال من الماحوزة ، وأن يهدموا المنازل ويحملوا النقض إلى سر من رأى ، فانتقل الناس وحملوا أنقاض المنازل إلى سرّ من رأى وخربت قصور الجعفري ومنازله ومساكنه وأسواقه في أسرع مدة ، وصار الموضع موحشا لا أنيس به ولا ساكن ، والديار بلاقع كأنها لم تعمّر ولم تسكن.

ويتبين من هذا أن التحول الذي أراده المتوكل لم يدم طويلا ، فعاد الناس بعد مقتله إلى سامرّاء ، والراجح أنهم او أكثرهم ، عادوا إلى منازلهم الأولى ، وأعادوا إعمارها ، ولابدّ أن نشير إلى أن في هذا الكلام مبالغة يصعب قبولها بحرفيتها.

مواد البناء والعمال

إن أول مستلزمات بناء المدينة هو توافر المواد الأولية وتوافر الأيدي العاملة للقيام بالبناء. ولا ريب في أن أرض سامرّاء توفّر المادة لصنع اللّبن والجص والطابوق ، وهذه تؤمن البناء البسيط كالذي كانت عليه الكوفة والبصرة في السنوات الأولى من تشييدهما ، وهي تؤمّن بناء البيوت البسيطة لعامة الناس كما أنها أساسية لبناء حتى القصور. غير أن المعتصم استهدف إنشاء مدينة متقدمة في العمران لا تقلّ في مستواها عما كانت عليه بغداد في زمنه ، أي بعد مرور أكثر من سبعين سنة على تأسيسها ، وكان هذا يتطلب استيراد بعض المواد الضرورية لتحقيق هذا المستوى العمراني ، وفي هذا يقول اليعقوبي إن المعتصم «كتب في حمل الساج وسائر الخشب والجذوع من البصرة وما ولاها وسائر السواد ، ومن أنطاكية وسائر سواحل الشام وفي حمل عملية الرخام وفرش

٩٨

الرخام ، فأقيمت باللاذقية وغيرها دور صناعة الرخام (١)» ، ولابدّ أن هذا بعض وليس كل ما يحتاجه تشييد هذه المدينة من مواد وأن كثيرا منها تم استيراده من مناطق وجودها كالأخشاب اللينة في المناطق الجبلية شمال العراق ، ومعادن الحديد والنحاس ومصنوعاتها. ولابدّ أن استمرار نموّ سامرّاء جعل استيراد هذه المواد مستمرا ليتابع نموّها الذي يمكن القول بأنه استمر إلى آخر زمن المتوكل وقد أسهم في نشاط التجارة والعمل وفي ما يطلبانه من عمال وصنّاع.

وامتد الاستيراد إلى الغروس والمزروعات فحمل النخل من بغداد والبصرة وسائر السواد وحملت الغروس من الجزيرة والشام والجبل والري وخراسان وسائر البلدان (٢) ، ولم تذكر المصادر أنواع هذه الغروسات التي لابدّ أن كثيرا منها من نباتات الزينة والنباتات الطبية ، وأنها زوّدت القصور بهذه النباتات.

الصناع :

يذكر اليعقوبي أن المعتصم «كتب في أشخاص الفعلة والبنائين وأهل المهن من الحدادين والنجارين وسائر الصناعات» ، ويذكر أيضا أنه أقدم من كل بلد من يعمل عملا من الأعمال أو يعالج مهنة من مهن العمارة والزرع والنخل وهندسة الماء ووزنه واستنباطه والعلم بمواضعه من الأرض. وحمل من مصر من يعمل القراطيس وغيرها. وحمل من البصرة من يعمل الزجاج والخزف والحصر ، وحمل من الكوفة من يعمل الخزف ومن يعمل الأدهان ومن سائر البلدان من أهل كل مهنة وصناعة فأنزلوها في هذه المواضع ، وأقطعوا فيها ، وجعل لهم هناك أسواقا لأهل المهن بالمدينة (٣).

اشتهرت كلّ من المدن الثلاث التي ذكرها اليعقوبي ، وهي مصر والكوفة والبصرة ، بإنتاج سلع عرفت بها ، فجلب صنّاع الخزف من البصرة والكوفة ، ولعل منتوجات أخرى جلب صنّاعها من أكثر من مدينة ، ولابدّ أنه حرص على

__________________

(١) البلدان ٢٥٨.

(٢) م. ن ٢٦٣.

(٣) م. ن ٢٦٤.

٩٩

إقامة الصناعات المتميزة الراقية ، وقامت بجانبها صناعات تسد الحاجات «الشعبية» للعدد الكبير من السكان ، غير أن إنتاج هذه الصناعات في سامرّاء كان لسدّ حاجاتها ، وليس لتصديرها ، فلم يرد في المصادر ما ينص على أن سامرّاء أصبحت مركزا لإنتاج مصنوعات تصدّر إلى مدن أخرى.

ويذكر أن المعتصم استورد أهل كل مهنة وصناعة ، مع عيالهم إلى هذه المواضع وأقطعوا فيها ، وجعل هناك أسواقا لأهل المهن بالمدينة (١). يتبين من هذا النص أن الذي أورده اليعقوبي وهو معروف بسعة اطلاعه أن المعتصم ألزم الصنّاع الأحرار بالمجيء إلى مدينته الجديدة ، مع عيالاتهم للإقامة الدائمة فيها.

ولابدّ أن المعتصم كان يدرك أن إقامتهم ستكون دائمة لأن الحاجة إلى أعمالهم ستستمر مع دوام نمو المدينة التي جلبهم إليها. وهذا يدل على أن هدفه منها إنشاء مركز حضري متنام وليس مجرّد معسكر ، وهؤلاء الصنّاع مرتبطون بمهنهم وليس بأصولهم العرقية ، وأصول سكناهم منوعة ، عدّد منها مصر والبصرة والكوفة ، وأشار إلى جماعات جيء بهم «من سائر البلدان» أي من مدن متعددة لم يسمّها ، ولكنهم يحتفظون بسماتهم المتميزة بارتباطهم بالمهنة بالدرجة الأولى. ولعلهم كانوا يسيرون وفق تقاليدهم الخاصة القديمة في المهنة ، وأن الدولة لم تتدخل في تغيير هذه التقاليد التي كان يرى بعض الفقهاء «إذا كانت في البلاد سنّة أعجمية فليس للإمام أن يغيّرها» (٢).

تتابعت هجرة العمال والكسبة إلى سامرّاء بعد تأسيسها لأن الإعمار تتابع ، والنمو استمر ، وتدفّق الأموال لم ينقطع ، وكان انتقاء هؤلاء العمال والصناع حرّا غير مقيد وانحصر عملهم بحرفهم فلم يسهموا في الأحداث السياسية ولم يخلقوا مشاكل أمنية ، نظرا لازدهار الحياة الاقتصادية والمعاشية وقوة الخليفة القائمة على مكانة الخلافة المثبتة وعلى الجيش الموالي والذي لم تكن له صلة قوية بالكسبة والصناع من العناصر المدنية التي جاءت من بغداد والمناطق المجاورة لسامرّاء.

__________________

(١) البلدان ٢٦٤.

(٢) البخاري : بيوع ٩٥ ، ابن سعد ٦ / ٩٤ ، أخبار القضاة لكويج ٢ / ٣٥١ ، ٣٧٢.

١٠٠