سامرّاء دراسة في النشاة والبنية السكانية

د. صالح أحمد العلي

سامرّاء دراسة في النشاة والبنية السكانية

المؤلف:

د. صالح أحمد العلي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٠

وتكون موالية له ؛ وكان الأفضل أن تكون هذه القوة من عناصر مترابطة في أصولها وسماتها. وقد أشارت المصادر إلى الكتل التي كان يمكن أن يجعلها المأمون قوام جيشه وهي : العرب والخراسانية والترك. وروى طيفور أن المأمون اجتمع مع المعتصم وأحد القواد ، وتداولها الشجعان من القواد والجند والموالي ، فأطرى المأمون شجاعة عجم أهل خراسان وقوّتهم في دحر أعداء الدولة ، وأطرى القائد شجاعة أبناء خراسان ، وأطرى المعتصم شجاعة الترك وإقدامهم ؛ ثم حكّموا نصر بن شبث فأبدى رأيه في خصائص هذه المجموعات الثلاث وقال : فأما التركي ، فبسهامه ، فإذا أنفذها أخذ باليد ؛ وأما العجمي ، فبسيفه ، فإذا كلّ استؤصل ، وأما الأبناء فلم أر مثلهم : لا يكلّون ولا يملّون ولا ينهزمون ، يقاتلون في شدة البرد في الإزر الخلق بلا دروع ولا جوشن ولا مجنّ ، مرة بالسيف ومرة بالرماح ومرة بالسهام ، ويخوضون الثلج في الأنهار ، ويخوضون في الهجير النار ، لا يكلّون ولا يملّون (١) ، ولابدّ أنه قصد بالعجم أهل خراسان منهم.

وذكر الجاحظ في رسالته «مناقب الأتراك» عمّن زعم أن جند الخلافة اليوم خراساني وتركي ومولى وعرب (٢) ، وأن الخراساني والتركي أخوان والحيز واحد (٣) ، وأن البنوي خراساني ، وأنّ نسب الأبناء نسب آبائهم ، ثم ذكر ما يفخر به الخراسانيون بأنهم النقباء وأبناء الدعوة ، ومنهم النجباء والدعاة ، فيهم أصل الدولة وأصحاب الدعوة ، وهم الذين قاموا بفتح البلاد (٤) ، وذكر أن البنويين خراسانيون (٥) ، وهم مهيمنون على بغداد ، فهم يشاركون العربي في فخره ، والخراساني في مجده ، ولكنهم متميزون عنهما بأساليبهم الخاصة التي يسّرت لهم هيمنة الخلافة على بغداد (٦).

__________________

(١) تاريخ بغداد لطيفور ٢٨.

(٢) مناقب الأتراك للجاحظ ١٦٧.

(٣) م. ن ١٦٨.

(٤) م. ن ١٧١.

(٥) م. ن.

(٦) م. ن ١٨٨.

٤١

ثم ذكر خصائص الترك في القتال (١) ، وتميّزهم على الخوارج وعلى بقية أصناف الجيش ، واهتمامهم بالتدريب على القتال وعدم الانغماس في التيارات الفكرية والسياسية (٢).

وخصّص في رسالته خمس عشرة صفحة لكلّ من الخراسانيين والترك ، وخمس صفحات للأبناء وصفحتين للعرب ، وصفحة واحدة للموالي ، ولعل هذه الأرقام تعبّر عن أهمية كلّ منهم.

وذكر الأفشين في كتابه إلى المازيار أربعة أصناف لجيش الخلافة ، ووصف مدى قوة كل صنف في القتال ، وقال إن معه الفرسان وأهل النجدة والبأس ، ولا بدّ أنه كان يقصد بهم الفراغنة والأشروسنية وربما عموم جند خراسان. ثم قال إنه فيما عداهم «لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة : العرب والمغاربة والأتراك» ، ثم وصف كلا منهم فوصف المغاربة والعرب بأوصاف شديدة من التهجم والاستخفاف ، ثم ذكر أولاد الشياطين يعني الأتراك ، فإنما هي ساعة حتى تنفذ سهامهم ثم تجول الخيالة عليهم جولة فتأتي على آخرهم (٣). وقد ميّز الأفشين في هذا النص بين العرب والمغاربة ، ولكنه لم يبين عدد كلّ من الأقسام الأربعة التي ذكرها ، ويدل كلامه على أنه كان يدرك أن العرب كانوا أميل إلى الغنائم منهم إلى الحماس في دعم الخلافة.

يتبين من كلام طيفور والجاحظ أن الأبناء لهم تدريب خاص امتازوا به على الأصناف الأخرى وأن لهم الهيمنة على بغداد ، وقد يعني هذا أنهم كانوا" قوات خاصة" مسؤولة عن ضبط الأمن فيها فحسب ، والواقع أنه لا يتردد وذكر في أخبار الحركات العسكرية خارجها. وأشار الجاحظ إلى أن البنويين خراسانيون ينتسبون إلى آبائهم ، وهي عبارة عامة لا تتوافر في المصادر عنهم معلومات إضافية توضح أصولهم وتنظيماتهم.

__________________

(١) مناقب الأتراك ٢٠٦.

(٢) المصدر نفسه ٢١٧.

(٣) تاريخ الطبري ٣ / ١٣١٢.

٤٢

أما العرب فهم من الذين كانت مواطنهم شبه جزيرة العرب أو خرجوا منها ، وتميّزهم اللغة العربية وعدد من النظم الاجتماعية التي تنظّم حياتهم ؛ وكانوا قوام جيش الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجيوش التي قضت على حركات الردة والانشقاق في الجزيرة العربية ، ثم وسعت رقعة الدولة بعد قضائها على جيوش الساسانيين ودحرها جيوش الروم ومدّها حدود الدولة إلى الأطلسي والبيرانيس غربا ، وأواسط آسيا شرقا. واستنفد هذا التوسع طاقات شبه الجزيرة من المقاتلة فلم تستطع متابعة إمداد الدولة بالمقاتلة وتغذية الأمصار والجبهات الواسعة بعد أن توزعوا في عدد كبير من المراكز لحماية حدود الدولة وتوسيع رقعتها.

وكانوا في أوقاتهم الطويلة في هذه المراكز قد تأقلموا وقويت ارتباطاتهم بها وتطورت أحوالهم الحضرية والفكرية. وتأثر كثير بالتيارات السياسية الداخلية التي تمركز كثير منها حول الخلافة مما أضعف فيهم الروح العسكرية وشغلهم بمتطلبات الحياة المعاشية والفكرية ، وظلت الروابط القبلية تؤثر في توجهاتهم السياسية ؛ وقد عبّر المأمون عن هذه الأجواء عندما تعرّض له رجل من أهل الشام وقال له انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم أهل خراسان فأجاب المأمون أكثرت علي يا أخا أهل الشام : والله ما أنزلت قيسا عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد ، وأما اليمن فو الله ما أحببتها ولا أحبتني قط ، وأما قضاعة فسادتها تنتظر السفياني وخروجه فتكون من أشياعه ؛ وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيّه من مضر ، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاريا. اعزب فعل الله بك (١).

وتشير الدلائل إلى أن أهل البصرة والكوفة لم يعودوا «مقاتلة» منذ أوائل الخلافة العباسية ، إذ لا توجد إشارة إلى توزيع العطاء والرزق على المقاتلة في أي منهما ؛ ولم يرد في أخبار بغداد عندما أسّسها المنصور أنه أعطى من استوطنها من المقاتلة من قطائع الأرباض حول المدينة المدوّرة غير قطيعة

__________________

(١) الطبري ٣ / ١١٤١ ؛ ورواه الآبي مع بعض الاختلاف في النص ، نثر الدر ٣ / ١٦ ـ ٧ ؛ طيفور ١٤٦.

٤٣

واحدة فحسب لأهل الكوفة ، في حين أنه وزّع قطائع كثيرة سمّيت بأهلها من مدن خراسان وما وراء النهر ؛ ولا توجد إشارة الى أن أيّا من الخلفاء العباسيين الأوائل ضرب عليهم البعث ، استخدم مقاتلة منهم لإخماد الثوارت أو القتال في الجبهات.

وفي سنة ٢١٦ قطع المعتصم إبّان ولايته على مصر عن أهلها العطاء والرزق (١) ؛ ولا بدّ أن دافعه راجع إلى إداركه أن أهل الفسطاط لم يعودوا يقومون بواجب القتال. ونقل المعتصم من مصر «المغاربة» ، وهم مقاتلة يمانيون ، إلى العراق ، فكوّنوا مجموعة متميزة من المقاتلة فيها ، ثم نقلهم إلى سامرّاء عندما شيدها وأوطنهم قرب قصره ، وسنذكر في مكان تال مكانتهم في سامرّاء.

مكوّنات الجيش

الخراسانيون

أدركت الدولة من وقت مبكّر حاجتها إلى مقاتلين من غير العرب ينضمّون إلى جيوشها ، فمنذ زمن الخليفة عمر ضمّت الجيوش الإسلامية إليها الأساورة والسيابجة والزطّ في البصرة ، وحمراء الدليم في الكوفة والفرس ، ثم الروم في الفسطاط ، ثم قوات غير عربية في بلاد الشام. وكوّن كلّ من هؤلاء وحدات متميزة في الجيش ، واستقرت في الأمصار بخطط خاصة بها. ولا شك في أن رابطة الدين والمصلحة وحبّ القتال كانت كلها عوامل أدت إلى قيامهم بخدمات مخلصة في الجيش لم تذكر الأخبار ظهور شكوك حولها ، ومما عزّز ذلك أن أكثر الأعاجم كانوا من الأقاليم الشرقية التي فقدت ملوكها السابقين ومن يؤيدهم ، وبقي فيها من الرؤساء من قبل حكم العرب ورضي به. ولهذا كان الروم الذين انضموا إلى المسلمين قلة لأن دولة الروم ظلت قائمة وكان بإمكان محبّيها من المقاتلة اللجوء إليها.

__________________

(١) «الولاة» للكندي ١٩٣.

٤٤

وكانت جبهتا التوسع الرئيسيتان في كلّ من الغرب وأقصى الشرق ، وأفسح العرب في كلتا الجبهتين المجال لاستخدام غيرهم في جيوشهم ، فكان من البربر عدد كبير في الجيوش الإسلامية التي قاتلت في المغرب وشاركت في فتح الأندلس. أما في المشرق فقد ذكر البلاذري أن الأحنف بن قيس عندما تقدم لفتح الجوزجان والطالقان والفارياب ، وهي المناطق الواقعة جنوبي خراسان ، «قاتلهم وهو في خمسة آلاف من المسلمين ، أربعة آلاف من العرب وألف من العجم» (١). والراجح أن هؤلاء العجم الذين كوّنوا خمس الجيش الإسلامي هم أساورة البصرة ، وأن مشاركتهم العرب في القتال والفتوح لم تقتصر على هذه المنطقة فحسب ، بل امتدّت أيضا إلى فتح مناطق أخرى لم تذكرها المصادر.

وكانت خراسان من الأقاليم التي فرض فيها العرب على البلاد المفتوحة تقديم رقيق للدولة ، فيروي أبو عبيدة أن عبد الله بن عامر صالح مرو «على وصائف ووصفاء ودواب ومتاع ، ولم يكن عند القوم يومئذ عين ، وكان الخراج كلّه على ذلك حتى ولي يزيد بن معاوية فجعله مالا (٢)». كما أن قتيبة بن مسلم الباهلي لمّا ولي خراسان فرض على عدد من المدن ، التي فتحها فيما وراء النهر ، أن تقدم مقاتلة يشاركونه في الفتوح.

لا نعلم تفاصيل أوضاع وتنظيمات القوات الأعجمية التي استخدمها العرب في جيوشهم منذ زمن قتيبة ، ومن المحتمل أنهم ظلوا مرتبطين بمواطنهم الأصلية ، وكانوا يقاتلون مع العرب في مواعيد القتال أي في الصيف ، ثم يعودون في الشتاء ، كلّ إلى مدينته ، وبذلك صار المكان أساس تنظيمهم في الأوقات التي لا يجري فيها قتال. وهذه هي الصورة الظاهرية لجيش الخراسانية الذين استوطنوا بغداد عند تأسيسها ، فقد أعطى لأهل كل بلد قطيعة وجعل عليهم رؤساء منهم. وسمّيت القطائع بأسمائهم أو بأسماء رؤسائهم.

__________________

(١) فتوح البلدان ٤٠٦.

(٢) المصدر نفسه ٤٠٥.

٤٥

الخراسانيون في جيش العباسيين :

كان الخراسانيون عماد الجيش الذي استند إليه العباسيون في ثورتهم وانتزاعهم الخلافة من الأمويين ، وقد استقر كثير منهم في بغداد بعد تأسيسها (١) ، ونقلت أعداد كبيرة منهم في زمن أبي جعفر المنصور ومحمد المهدي وهارون الرشيد إلى الثغور الشمالية في أطراف بلاد الشام والجزيرة لتعزيز القوات الإسلامية التي تحمي حدودها وتصد غارات الروم وتقوم بغزوهم ، كما نقلت أعداد منهم إلى بلاد المغرب لتثبيت سلطان الخلافة العباسية في تلك البلاد.

وأساس الجيش الخراساني هو القوات العربية التي نقلت من البصرة والكوفة وأوطنت مع عيالاتها لتقوم بحماية الحدود وتوسيع الدولة في أواسط آسيا ، وكان قوامها في أوائل زمن الخلافة الأموية خمسين ألف مقاتل مع عيالاتهم وكانوا مقسّمين إلى أخماس ، على غرار تقسيم أهل البصرة ، وهذه الأخماس هي تميم ، وبكر ، والأزد ، وعبد قيس ، وأهل الحجاز ، وكانت تضاف إليهم في بعض الأحوال قوات جديدة تعوّض عن خسائرهم من القتلى ، ثم أضيفت إليهم في زمن خلافة هشام بن عبد الملك قوات من مقاتلة أهل الشام.

وكانت مرو مركز الإدارة والديوان ، وفيها مقام الوالي ومعظم المقاتلة العرب ، غير أن متطلبات الإدارة قضت بأن تتوزع إقامة العرب في أماكن متعددة أبرزها نيسابور ، وطوس ، وهراة ، ومرو الروذ ، وبلخ ، إضافة إلى عدد من القرى في أطراف هذه المدن. ومع أن العرب احتفظوا في تسمياتهم بالعشائر التي ينتسبون إليها ، إلا أنهم على مر الأيام صاروا ينتسبون أيضا إلى المدن التي كانوا يقيمون فيها (٢).

أضيفت إلى المقاتلة العرب أعداد غير قليلة من المقاتلة من أبناء خراسان وبلاد ما وراء النهر ، وكانوا ينسبون إلى أقوامهم الأصلية أو مدنهم ، وحدث بينهم وبين العرب اختلاط واسع ، فلبس كثير من العرب أزياء أهل البلاد وتعلّم

__________________

(١) انظر تفاصيل أوفى من كتبنا «بغداد مدينة السلام».

(٢) المصدر نفسه.

٤٦

هؤلاء الأعاجم العربية بعد اعتناقهم الإسلام وخدمتهم له ، وبذلك أصبحت النسبة إلى المدن والأقاليم في خراسان وما وراء النهر تشمل العرب والأعاجم ولا يميّز بينهما إلا التأكيد على ذكر العشيرة التي ينتمي إليها الفرد ، علما بأن كثيرا من الأعاجم نسبوا إلى العشائر العربية بالولاء.

ولما أسّس أبو جعفر المنصور بغداد أوطنها كثيرا من أهل خراسان ، وكانت قطائعهم بأسماء المدن التي جاءوا منها وبأسماء رؤسائهم. ويتبين من دراسة خطط بغداد أن أصحاب القطائع الخراسانيين كانوا من مرو ، ومرو الروذ ، وبلخ ، وخوارزم ، وفارياب ، وبغشور ، وأهل ما وراء النهر من البخارية ، والصغد ، والصامغان ، والفارياب ، والفراغنة (١).

وتطلبت تطورات الأحوال أن يستخدم العباسيون في جيشهم رجالا من غير الخراسانيين ، وتكشف دراسة خطط بغداد أن المنصور وضع أكثر من قطائع لقادة عرب من غير أهل خراسان ، كما كان في الجيش حتى زمن الأمين مجموعات من الأبناء ، والأفارقة ، والأعراب ، والأتراك.

أصيب الجيش العباسي في بغداد بضربة قاصمة عندما اندحر قائدة علي بن عيسى بن ماهان وتشتت جيشه ، واعتمد الأمين في دفاعه عن بغداد على قوات «الميليشيا» من الأهالي الذين استطاعوا الدفاع عن مدينتهم بوجه قوات المأمون ، ولم يفلح طاهر بن الحسين بالقضاء على الأمين إلا بعد لجوئه إلى الحصار الاقتصادي.

ولا بدّ أن عددا من هؤلاء الترك قد شغلوا مناصب في إدارة الدولة ، وذكرت المصادر منهم حماد التركي ، الذي كان من المقربين في بلاط المنصور (٢) وولاه المدائن (٣) ، ثم تعديل السواد (٤) ، وهو عمل يتطلب اطّلاعا على أحوال الإدارة المالية ودواوينها.

__________________

(١) انظر تفاصيل أوفى في كتابنا «بغداد مدينة السلام».

(٢) الطبري ٣ / ٢٧٦ ، ٢٤٩ ، ٤٤٣.

(٣) أنساب الأشراف ٣ / ٢٦٤.

(٤) الوزراء للجهشياري ١٣٤.

٤٧

أهل ما وراء النهر في جيش بغداد

ولما ولي المأمون خراسان بعد وفاة أبيه الرشيد اهتم بتوسيع الدولة ومدّها شرقا في أواسط آسيا ، وفي هذا يقول البلاذري «لما استخلف المأمون أمير المؤمنين أغزا السغد وأشروسنة ومن انتفض عليه من أهل فرغانة ، الجند ، وألحّ عليهم بالحروب بالغارات أيام مقامه بخراسان وبعد ذلك ، وكان مع تسريبه الخيول إليهم يكاتبهم بالدعاء إلى الإسلام والطاعة والترغيب فيه (١). ومن أبرز المنضمين إليه كاوس ملك أشروسنة وابنه الأفشين (٢). وتابع المأمون بعد توليه الخلافة سياسته في الاهتمام بتوسيع الدولة في أواسط آسيا وضم الترك إلى حضرتها ، فكتب إلى عماله على خراسان في غزو من لم يكن في الطاعة والإسلام من أهل ما وراء النهر ، ووجّه رسله فيفرضون لمن رغب في الديوان وأداء الفريضة من أهل تلك النواحي وأبناء ملوكهم ، ويستميلهم بالرغبة ، فإذا وردوا بابه شرّفهم وأسنى صلاتهم وأرزاقهم.

ثم استخلف المعتصم بالله فكان مثل ذلك ، حتى صار جلّ شهود عسكره من أهل ما وراء النهر من السغد والفراغنة والأشروسنية وأهل الشاش وغيرهم.

وحضر ملوكهم ، وغلب الإسلام على من هناك ، وصار أهل تلك البلاد يغزون من وراءهم. وأغزى عبد الله بن طاهر ابنه طاهر بن عبد الله بلاد السغد ، ففتح مواضع لم يصل إليها أحد من قبل.

إن اهتمام المأمون بتوسيع الدولة في بلاد أواسط آسيا يرجع كثير منه إلى انتقال أغلب مقاتلة خراسان إلى العراق والثغور في أطراف بلاد الروم وإلى نقل بعضهم إلى المغرب ليسهموا في إخماد الثورات على الخلافة ، فكانت سيطرته على الترك تيسّر له جمع رجال متميزين بالكفاءة القتالية ، لم تدخلهم الأهواء ولم يتعرضوا للانقسامات السياسية والعقائدية التي انتشرت في أقاليم الدولة.

__________________

(١) فتوح البلدان ٤٣٠.

(٢) المصدر نفسه ٤٢٩.

٤٨

ومما يسّر تحقيق سياسته أن الترك لم تكن لهم ثقافة عميقة حريّة بالتمسك ، فلم يصعب على الإسلام بخصائصه المميزة أن ينتشر في الترك ، ولا سيما أن الإسلام تسنده دولة قوية تتميز بتيسير الحرية للناس ، فضلا عن أن الازدهار الاقتصادي فيها يوفر للتجار مجالا للربح.

اهتم المأمون بالتوسع في المشرق منذ أوائل سني ولايته على خراسان ، ولم تذكر المصادر صعوبات واجهها في هذا التوسع الذي لم تصلنا تفاصيله ، ومن المحتمل أن جيش طاهر بن الحسين الذي وجّهه المأمون للسيطرة على بغداد كان فيه من الترك عدد يصعب تقديره.

السغد

كانت خراسان في زمن الخلفاء الراشدين آخر إقليم للدولة الساسانية في المشرق ، وحدّها في الشرق نهر جيحون. أما البلاد التي ما وراءه فكان أهلها من السغد ، ووراءهم بلاد الترك ثم بلاد المغول.

والسغد قوم تميّزوا بسمات حضارية متقدمة ، وقد وصلهم الإسكندر المكدوني في فتوحه في المشرق وضمّهم إلى دولته ، وأقام فيهم جالية إغريقية كونت بعده دولة باكتريا ، وعاصمتها بلخ (١) ؛ وكانت بلادهم عند تقدّم العرب متقدمة في الحضارة وفيها عدد من المدن المزدهرة فلجأت إليها أعداد من مختلف هذه التيارات ، بمن فيهم معتنقو البوذية من الصين ، حيث كان لهم في بلخ معبد النوبهار ومن سدنته برمك جد أسرة البرامكة ، كما لجأت إلى بلادهم أعداد من معتنقي المانوية التي اضطهدها الساسانيون ، وأعداد من النصارى واليهود ، وربما أصحاب عقائد أخرى ، مستفيدين من الحرية الواسعة المتوافرة لهم في هذه البلاد. غير أنهم لم تكن لهم عند تقدّم المسلمين إلى بلادهم دولة يهيمن عليها حاكم يوحّدهم سياسيا ، فكانت غالبية مدنهم تتمتع باستقلال

__________________

(١) انظر كتاب «الإغريق في باكتريا» لتارن بالإنكليزية.

٤٩

سياسي ، ولا بدّ أنه كانت بين حكام هذه المدن مناقشات ومشاحنات أضعفتهم سياسيا (١).

تعرضت بلاد السغد لعدد قليل من غزوات الساسانين الذين استقرت حدودهم عند نهر جيحون ، وقلما تجاوزوه (٢). ولما قامت الدولة الإسلامية اتّبعت منذ بدء تكوّنها سياسة التوسع التي مكّنتها من القضاء على الدولة الساسانية ، ومدت توسعها إلى الهضبة الإيرانية حتى وصلت جيوشها في زمن الخلفاء الراشدين إلى خراسان فضمت إلى دولتها البلاد كافة ، الواقعة غربي نهر جيحون.

وتابع الأمويون سياسة التوسع ، وكان عماد قوّتهم العسكرية العرب ؛ ونظرا لبعد هذه البلاد عن قلب الدولة الإسلامية ، فقد نقلوا منذ أوائل خلافة معاوية مقاتلة من العرب يقيمون دائما في خراسان ، ويقومون بمهمة حماية حدود الدولة وتوسيعها ، غير أن الحروب الكثيرة التي خاضها هؤلاء المقاتلة تطلّبت إمدادهم بمقاتلة جدد للتعويض عمّا تفقده من القتلى والجرحى ، (٣) إضافة إلى أن كثيرا من الجيل الجديد من المقاتلة العرب لم يحتفظوا بنفس الروح العسكرية والتدريب الذي كان لآبائهم ، وضعف شعورهم بأهمية التوسع ، وسرت فيهم بعض الخلافات القبلية التي زادت من إضعافهم.

وقد استنفدت الجزيرة العربية طاقتها في تزويد الجيوش الإسلامية بالمقاتلة.

وكان لا بدّ من البحث عن مصادر أخرى غير جزيرة العرب ، لمدّ الجيوش الإسلامية بالمقاتلة ؛ وعالجت الدولة هذا الوضع ففرضوا على ما يفتحونه من

__________________

(١) بارتولد ، انظر كتاب «تركستان حتى الفتح المغولي» لبارتولد. ترجمة صلاح الدين عثمان.

(٢) كرستنسن انظر تفاصيل في كتاب «إيران في عهد الساسانيين» لكرستنسن. ترجمة يحيى الخشاب.

(٣) انظر كتابنا «امتداد العرب في صدر الإسلام».

٥٠

الأقاليم تقديم الرقيق المقاتلة كجزء مما يفرض عليهم وقد طبّق هذا ، من زمن مبكر ، فيروي أبو عبيدة أن عبد الله بن عامر عندما فتح مرو صالح أهلها على وصائف ووصفاء ودواب ومتاع ، ولم يكن عند القوم يومئذ عين ، وكان الخراج على ذلك حتى ولي يزيد بن معاوية فصيّره مالا (١). ويروي البلاذري أن سعيد ابن عثمان أخذ رهنا خمسة عشر من أبناء ملوكها (سمرقند) ويقال أربعين ، ويقال ثمانين ، وأخذهم معه ليعملوا في مزارعه ، وشدّد عليهم في العمل ، فاعتدوا عليه وقتلوه (٢). ولعل أمثال هؤلاء كوّنوا «رقيق الخمس» الذي يتردد ذكره في كتب التاريخ والفقه (٣).

ويبدو أن العرب تابعوا أخذ الرقيق من هذه البلاد كضريبة مفروضة عليهم ، فيذكر أبو الوزير عمر بن المطرف في قائمة الجبايات التي أعدها للرشيد عند توليه الخلافة أن مما فرض على خراسان ألفي راس (٤) ، ويذكر ابن خرداذبة أن ما ضمّ إلى عبد الله بن طاهر من السبي الغزية قيمته ستمائة ألف درهم (٥) ، ويذكر قدامة بن جعفر أن هذه الوظيفة قررت سنة ٢٢١ (٦) ، ولكنه يدمج مقدارها مع ضرائب أخرى. إن هذين النصّين اللذين وصلانا يظهران أن جباية الوصائف كانت وضيعة ثابتة مقررة ، ولا نعلم متى أعيدت بعد زمن يزيد بن معاوية ، كما لا نعلم استمرارها. ويبين هذان النصان أحد مصادر الرقيق في بغداد وإن كان الأرجح أن معظمهم كانوا يستخدمون في الأغراض المدنية ، وقليل منهم كان يستخدم في الجيش.

وكان للحرب بين الأمين والمأمون أثر كبير على الدولة ، إذ أدت إلى تشتت الجيش العباسي الذي كان يقيم في بغداد ويعتمد عليه الخلفاء العباسيون في

__________________

(١) فتوح البلدان ٤٠٥.

(٢) المصدر نفسه ٤١٢.

(٣) انظر «التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة».

(٤) الوزراء والكتاب ٢٨٣.

(٥) المسالك والممالك ٣٧ ، ٣٩ ؛ وانظر «الوزراء» لابن شاذان ١٧١.

(٦) كتاب الخراج ٢٤٣.

٥١

تثبيت سلطانهم والاستقرار في بغداد والعراق ، بالإضافة إلى المهمات التي كانت تستند إليه في تقوية الثغور والمشاركة في الحملات التي ترسل للتوغل في أطراف بلاد الروم ، وفي إخماد بعض الثورات في بلاد المشرق ، وكذلك في تدعيم سلطان العباسيين في شمالي أفريقيا وأقاليم المغرب.

ولما استتبت الخلافة للمأمون ظلت الحاجة ملحّة لجيش قوي تستند إليه الخلافة في قمع الثورات ، وفي حماية الحدود وصدّ أخطار الروم ، وفي تثبيت الأمن في البلاد. وكان الخراسانيون عماد الجيش الذي ارتكز عليه المأمون ، غير أن الحروب الكثيرة التي شاركوا فيها أرهقتهم واستنزفت طاقة خراسان بإمداد الخلافة بالرجال ، كما أن المقاتلة العرب كانت تهزهم التيارات السياسية التي تعرّضوا لها ودفعت كثيرا منهم إلى اتخاذ مواقف ليست من مصلحة الخلافة ، ولم يكن من السهل الاعتماد على جزيرة العرب بمدّ جيوش العباسيين بالرجال ، فكان لا بدّ من البحث عن مصادر أخرى لإدامة قوة الجيش ، ورأى المعتصم أن الترك في أواسط آسيا يكوّنون مصدرا معتمدا في إمداد الجيش الإسلامي بالرجال.

الترك

الترك شعب قديم الأصول تميّزهم لغة عامة يستعملونها وإن اختلفت لهجاتها ، وديانتهم الشنتوية ضحلة في عقائدها وضعيفة في قدرتها على التأثير في حياتهم وأفكارهم وعقائدهم (١). وفيهم خصائص تميّزهم وتغري باستخدامهم في الجيش ، وقد أفاض الجاحظ في التعبير عنها في رسالته «مناقب الأتراك».

وكان مما قاله : التركي في بلاده ليس بقاتل على دين ولا على تأويل ولا على ملك ولا على خراج ولا على عصبية ، ولا على غيرة دون الحرمة والمحرم ولا على حمية ولا على عداوة ، ولا على وطن ومنع دار ولا مال (٢). وذكر أن

__________________

(١) انظر تفاصيل أوفى في كتاب بارتولد «تاريخ الترك في أواسط آسيا».

(٢) مناقب الأتراك ٥٢.

٥٢

الأتراك قوم لا يعرفون الملق ولا الخلافة ولا النفاق ولا السعاية ولا التصنع ولا النميمة ولا الرياء ولا البذخ على الأولياء ، ولا البغض على الخلفاء ، ولا يعرفون البذخ ، ولم تفسدهم الأهواء ، ولا يستحلون الأموال على التأويل (١) ، وذكر كذلك ميزاتهم التي اختصوا بها في القتال مما ذكرناه أعلاه.

كانت ديار الترك الأولى في أواسط آسيا ، بين بلاد المغول المحاذية للصين وبلاد الصغد المحاذية لخراسان (٢) ، وانتشر بعض أفرادهم في بلاد الصغد واستوطنوا مدنها واختلطوا بأهلها وتأثروا بحضارتها ؛ وكانت لهم عند ظهور الإسلام دولتان سيطرت إحداهما على البلاد المحاذية للصغد. وبسبب بعد بلادهم عن دولة الإسلام فإن المعلومات المتوافرة عنهم في الكتب العربية عامة ومقتضبة وغير مفصّلة ، وكان احتكاكهم بالعرب في المراحل الأولى ضعيفا ، إذ إن العرب بعد قضائهم على الحكم الساساني وضمّهم خراسان ركزوا جهودهم على مدّ دولتهم إلى أقاليم الصغد المتاخمة لخراسان ، والغنية بمواردها الاقتصادية وتقدّم أهلها في الحضارة وكان قد اعتنق كثير منهم المانوية كما انتشرت فيهم البوذية والمسيحية وبعض اليهود. وخلال فتوح بلاد الصغد حدث أول احتكاك بين العرب والترك الذين أعان بعضهم الصغد في قتالهم مع العرب ، ومن ذلك أنهم استمدوا الخاتون حاكمة بخارى عندما هاجمها العرب في زمن ولاية عبيد الله بن زياد وسعيد بن عثمان ، وأعانهم دهقان الترمذ في مقاومتهم تقدّم العرب. وازداد احتكاك العرب بالترك لما توغل كلّ من قتيبة بن مسلم ثم الجراح الحكمي وسعيد خدينة إلى أشروسنة والشاش واشتيخن ، وكذلك عندما توغل أسد بن عبد الله واشتبك مع خاقان الترك ، وعندما غزا نصر بن سيار أشروسنة (٣).

كانت هذه الحركات في أقاصي حدود الدولة الإسلامية وهي غزوات متفرقة

__________________

(١) مناقب الأتراك ٦٢.

(٢) مروج الذهب ١ / ١٤١ ـ ٥ ؛ التنبيه والإشراف ٥٧ ، ٧٧ ؛ لطائف المعارف للثعالبي ٢٤ ، ١٥٣.

(٣) انظر تاريخ تركستان لبارتولد «تاريخ الترك في أواسط آسيا» ، وانظر فتوح البلدان ، «للبلاذري» ٤٠٩ ، ٤١٧ ، ٤١٨ ، ٤٢٠ ، ٤٢٥ ، ٤٢٦ ـ ٤٢٨.

٥٣

أكثر منها حملات قوية منظمة لضمّ بلاد الترك ، ولا بدّ أن مرجع ذلك بعد هذه البلاد ، وقوة شكيمة الترك. غير أن الترك ، رغم قوّتهم العسكرية ، لم يقوموا بحركات جدية لانتزاع البلاد التي فتحها المسلمون ، ولعل من أهم أسباب موقفهم هذا هو أنهم كانوا متفرقين لا تنظمهم دولة قوية توحدهم أو حكام طموحون في التوسع.

ولما ولي العباسيون الخلافة لم يحاولوا التوسع تجاه الترك ، وفي هذا يقول البلاذري : «فلما استخلف أمير المؤمنين أبو العباس ومن بعده من الخلفاء كانوا يولون عمّالهم فينقصون حدود أرض العدو وأطرافها ، ويحاربون من نكث البيعة ونقض العهد من أهل القبلة ، ويعيدون مصالحة من امتنع من الوفاء بصلحه بنصب الحرب له» (١) ولا ريب في أن بعض أسباب قلة اهتمام العباسيين الأوائل في مدّ سلطان الدولة في أواسط آسيا أنهم نقلوا عماد جيش خراسان إلى بغداد واستخدموه في قمع الثورات وتأمين سيطرتهم على الغرب ، والوقوف بوجه الروم.

إن الحروب في أواسط آسيا بين العرب والترك في هذا الزمن المبكر لم توقف نمو علاقات سلمية بينهما. ولا يبعد أن سياسة عمر بن عبد العزيز في نشر الإسلام جعلته يمتد إلى الترك (٢) ، كما أن الحرية التي وفّرها العرب في التنقل والتجارة يسّرت قدوم أتراك إلى البلاد الإسلامية للتجارة أو لأغراض أخرى. فعندما أسّس المنصور بغداد أقطع بعض من كان في مناطق الترك قطائع فيها ، فكان في ربض حرب في الأطراف الشمالية الغربية من بغداد قطائع لأهل الختل ، وأهل بخارى ، وأهل أشتاخنج ، وبالقرب من هذا الربض كانت قطيعة لأسد بن المرزبان وهو من أهل أشتاخنج (٣). ومن المحتمل أن الخطط الكثيرة لعدد ممن نسبوا إلى مدن في إقليم خراسان والصغد كان فيها عدد من الترك.

__________________

(١) فتوح البلدان ٤٢٨.

(٢) انظر : فان فلوتن ، السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ، وانظر : توماس ارنولد ، انتشار الإسلام ، وانظر كتابنا عمر بن عبد العزيز.

(٣) البلدان لابن الفقيه ٢٤٨ ، وانظر دراستنا «بغداد مدينة السلام» ٢ / ١٧٢.

٥٤

يدّعي أبو عبيدة أن هذه الوضيعة وضعت منذ بداية فتوح خراسان بسبب قلة النقود ، وأنها استمرت إلى زمن يزيد بن معاوية فصيّره مالا. غير أن قوائم جباية خراسان التي وصلتنا تظهر أن هذه الوضيعة كانت قائمة في زمن العباسيين الأوائل ، ففي قائمة موارد الدولة التي أعدها أبو الوزير عمر بن المطرف لهارون الرشيد كان مما ترسله خراسان إلى مركز الخلافة ببغداد وصائف.

وذكر الجاحظ أن المأمون عرض جنده وكان للأتراك تميّز في ثباتهم على ظهور خيلهم فأعجب بهم وقال «أشهد أن المعتصم كان أعرف بهم حين جمعهم واصطفاهم» (١).

وذكر المسعودي فقال : «وكان المعتصم يحب جمع الأتراك وشراءهم من أيدي مواليهم ، فاجتمع له منهم أربعة آلاف ، فألبسهم أنواع الديباج والمناطق المذهبة والحلية المذهبة ، وأبانهم عن سائر جنوده».

وذكر اليعقوبي أن المعتصم لما قدم بغداد منصرفه من طرس سنة ٢١٨ ، كان معه خلق من الأتراك ، وهم يومئذ عجم : «أعلمني جعفر الحشكي كان المعتصم يوجّه بي في أيام المأمون إلى سمرقند إلى نوح بن أسد في شراء الأتراك ، فكنت أقدم عليه في كل سنة منهم بجماعة ، فاجتمع له في أيام المأمون منهم زهاء ثلاثة آلاف غلام. فلما أفضت إليه الخلافة ألحّ في طلبهم واشترى من كان ببغداد من رقيق الناس ، كان ممن اشترى ببغداد جماعة جملة منهم أشناس وكان مملوكا لنعيم بن خازم أبي هارون بن نعيم ، وإيتاخ وكان مملوكا لسلام بن الأبرش ، ووصيف كان زرّادا مملوكا لآل النعمان ، وسيما الدمشقي وكان مملوكا لذي الرئاستين الفضل بن سهل (٢)».

يتبين من كلام الجاحظ واليعقوبي أن المعتصم أخذ يجمع الأتراك منذ زمن خلافة المأمون ، وأنهم كانوا له رقيقا اشترى بعضهم من بغداد ، وكان نوح بن

__________________

(١) مناقب الأتراك ٦٢.

(٢) البلدان لليعقوبي ٢٥٥.

٥٥

أسد يشتري بعضهم من بلاد ما وراء النهر ، وكان عددهم قبل أن تقضي عليه الخلافة ثلاثة آلاف ، ولعل عددهم بلغ أربعة آلاف عندما ولي الخلافة ، وأنه كانت كل مجموعة من مجموعاتهم الأربع في سامرّاء تبلغ ألفا عليهم قائد.

عدد الأتراك :

يروي علي بن يحيى المنجم ، لما استتم المعتصم عدة علمائه الأتراك بضعة عشر ألفا ، وعلق له خمسون ألف مخلاة على فرس وبرذون وسرج (١) ، أن هذا العدد أكبر بكثير من العدد الذي ذكرته المصادر التي ذكرناها أعلاه والتي قدرت بين ثلاثة وأربعة آلاف ، ولا يمكن أن يرجع إلى تزايدهم بهذا المقدار الكبير إنشاء سامرّاء.

يروي الطبري أن المستعين عاتب الأتراك عندما نقموا عليه وقال لهم : «ألم ترفعوا إليّ في أولادكم ، فألحقتهم بكم ، وهم نحو من ألفي غلام ، وفي بناتكم فأمرت بتصييرهن في عداد المتزوجات وهن نحو أربعة آلاف امرأة في المدّركين والمولودين. وكل هذا قد أجبتكم إليه ، وأدررت لكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضة ومنعت نفسي لذتها وشهوتها (٢). إن هذه الأرقام المعتمدة على السجل في الديوان لا تجعل تقدير الرجال أكثر بكثير من أربعة آلاف.

ويلاحظ أن المعتصم وزّع الأتراك في أربع مجموعات خططية ، مما قد يشير إلى أن كل مجموعة كانت تتكون من قرابة ألف مقاتل.

__________________

(١) تاريخ بغداد للخطيب ٣ / ١٤٦.

(٢) الطبري ٣ / ١٥٤٤.

٥٦

الفصل الرابع

البحث عن المكان واختيار الرقعة

تميّزت سامرّاء بكونها مدينة واسعة امتد العمران فيها ثمانية فراسخ (حوالى ثلاثين كيلومترا) وتخلل ذلك فراغات واسعة وميادين متعددة ، وقام ازدهارها على إقامة ثمانية خلفاء فيها ثماني وخمسين سنة (٢٢١ ـ ٢٧٩). فلما انتقلوا منها تدهورت أحوالها بسرعة ولكن لم يقض عليها فظلت مركزا لسكّ النقود منذ تأسيسها سنة ٢٢٣ إلى سنة ٣٣٣ ؛ ما عدا سنوات قليلة متفرقة لم يعثر خلالها على نقود مسكوكة فيها وترجع بعض أسباب المكانة المتواضعة التي احتفظت بها إلى أنه كان فيها مدفنا علي الهادي والحسن العسكري اللذين لهما مكانة عند الشيعة.

غرض الخلفاء من تأسيس المدن :

شيد العرب منذ أوائل تكوين دولتهم مدنا كان لأغراض إنشائها أثر في تنظيمها ، فقد شيّدوا ، منذ زمن الخليفة عمر بن الخطاب ، أمصارا ليسكنها المقاتلة العرب ولتكون مراكز قواتهم العسكرية العاملة في حفظ الأمن والإدارة ، وتوسيع الدولة. واتخذ بعض الخلفاء الأمويين مراكز متفرقة في البادية وأطراف العمران للإقامة فيها ترويحا للنفس ، ويمكن أن نضع في هذا الصنف مدينة الزهراء التي شيدها الخليفة الناصر في الأندلس في القرن الرابع الهجري.

إن المراكز التي شيدها العرب كانت لإقامة المقاتلة من أجل أداء عملهم في صد غزوات أعداء الدولة من خارجها أو القيام بحملات منها على أولئك الأعداء. ومن أمثلة هذه المراكز مدن الثغور في الأطراف المحاذية لبلاد الروم في بلاد الشام والجزيرة وكذلك عدد من المدن في خراسان (١).

__________________

(١) انظر كتابنا «امتداد العرب في المشرق» ؛ وانظر دراستنا عن أهل القيروان المنشورة في مجلة «المنارة» التي تصدرها جامعة آل البيت.

٥٧

وشيد العرب مدنا ليقيم فيها الحاكم وحاشيته وهي في الغالب قرب مراكز قديمة كالعباسية التي أنشأها أمراء شمال أفريقيا قرب القيروان.

أما بغداد فإن تخطيطها يظهر أن المنصور أراد منها إقامة مدينة تحميه من الأخطار الداخلية والخارجية كالتي هددته عندما حاصر الراوندية مدينة الهاشمية التي كان يقيم فيها بالكوفة ، ولذلك أحاط قصره والجامع وبيوت أولاده الصغار بسور وزع خارجه الحرس والشرطة وأحاطهم بسورين وخندق لصدّ أي خطر يداهمه (١).

ولا ريب في أن أكثر هذه المدن سرعان ما تطورت فيها حياة حضرية واقتصادية وفكرية غيرت سماتها الأولى ، ودام بعضها سنين أو قرونا يحمل السمات التالية التي تخالف ما كانت فيها نشأتها الأولى.

أما سامرّاء فإن المعتصم أسسها واتخذها مقرا لتجنّب الأخطار الناجمة عن أن الاحتكاك بأهل بغداد قد يؤدي إلى تهديد خلافته ، فغرضه دفاعي بالدرجة الأولى. وذكرت بعض المصادر أنه قام بنقل مقر إقامته من بغداد بسبب حوادث اصطدامات متفرقة حدثت بين جنده الأتراك وأهل بغداد الذين تأذّوا منها. وفي هذا يروي الطبري أن سبب خروج المعتصم إلى القاطول كان أن غلمانه الأتراك كانوا لا يزالون يجدون الواحد بعد الواحد منهم قتيلا في أرباضها ، وذلك أنهم كانوا عجما جفاة يركبون الدواب ، فيتراكضون في طرق بغداد وشوارعها ، فيصدمون الرجل والمرأة ويطأون الصبي ، فيأخذهم الأبناء ، فشكت الأتراك ذلك إلى المعتصم ، وتأذت بهم العامة (٢). وينقل عن أحمد بن خالد أن المعتصم بعثه في سنة ٢١٩ وقال اشتري بناحية سامرّاء موضعا أبني فيه مدينة فإني أتخوف أن يصيح هؤلاء الخرّمية صيحة ، فيقتلوا غلماني ، حتى أكون فوقهم فإن رابني منهم ريب أتيتهم في البر والبحر ، حتى آتي عليهم (٣).

__________________

(١) انظر كتابنا «بغداد مدينة السلام» من منشورات المجمع العلمي العراقي.

(٢) الطبري ٣ / ١٠ / ١١ ـ ١.

(٣) المصدر نفسه ٣ / ١١٧٩.

٥٨

إن عزم المعتصم الانتقال من بغداد بعد إقامة أقل من سنة لا يبرره احتكاكات محدودة بين جنده وبعض أهل بغداد في الخرّمية كما تدّعي رواية الطبري ، إذ إن مثل هذه الحوادث يمكن معالجتها لأنها كانت محدودة ، فلا بدّ أن الانتقال جرى لأسباب أبعد وهي إدارك المعتصم ضعف وشائج صلته بأهل بغداد الذين لم تكن لهم به صلات وثيقة مما يجعل وضعه في بغداد غير راسخ ويعرّضه لأخطار مهددة ، لذلك عجل في الانتقال عنها وارتاد موضعا جديدا.

كان الغرض من إنشاء سامرّاء غرضا دفاعيا وكانت مصادر الأخطار المهددة من الجيش والعامة ، وقد اتخذ ف معالجتها أسلوبا يختلف عما اتخذه المنصور عند تأسيسه بغداد ، إذ إنه لم يحرص على تحصين مدينته أو قصره بالأسوار والخنادق ، وإنما عمد إلى توزيع منازل من معه من الجند في أماكن متباعدة فتفرقهم وتعرقل تجمعهم وتهديدهم ، كما أن العامة لم يكونوا خطرا عليه لأنهم عند تأسيسها كانوا قليلين نسبيا وهم من الكسبة ومتفرقون في أرجائها الواسعة ولم تستقر فيهم توجيهات سياسية وأحزاب كالتي كانت في بغداد.

البحث عن المكان :

ذكر الطبري : «فلما كانت سنة ٢١٩ ، وقيل سنة ٢٢٠ ، وذلك عندي خطأ ، خرج المعتصم يريد القاطول ، ويريد البناء بسامرّاء ، فصرفه كثرة زيادة دجلة ، فلم يقدر على الحركة ، فانصرف إلى بغداد إلى الشماسية ، ثم خرج بعد ذلك» (١).

وذكر المسعودي أن المعتصم عزم على النقلة من بغداد وأن ينزل في فضاء من الأرض فنزل البردان على أربعة فراسخ من بغداد فلم يستطب هواءها ، فلم يزل يتنقل ويتقرى المواضع والأماكن في دجلة وغيرها حتى انتهى إلى الموضع المعروف بالقاطول فاستطاب الموقع وكان هناك قرية يسكنها خلق من الجرامقة وناس من النبط على النهر المعروف بالقاطول آخذا من دجلة. فبنى هناك قصرا

__________________

(١) الطبري ٣ / ١١٨٤.

٥٩

وبنى الناس وانتقلوا من مدينة السلام ونالت من مع المعتصم شدة عظيمة لبرد الموضع وسلامة أرضه وتأذوا بالذباب (١). وقد تفرّد المسعودي بذكر الجرامقة في هذه المنطقة ، لأن المعروف أن الجرامقة يقيمون في بلاد الشام ، ولعل بعضهم نقل إلى هذه المنطقة في زمن ، ولم تجد له المصادر.

لفتت منطقة سامرّاء نظر عدد من الخلفاء العباسيين. فيروي ابن الفقيه أن السفاح أراد أن يبني فيها ثم بنى مدينة الأنبار ، وأن المنصور عندما أراد اختيار موضع لبناء مدينة يتخذها مقاما له أرسل من يفتش عن موضع مناسب ، وابتدأ بالبناء في البردان ثم بدأ له وبنى بغداد (٢).

وذكر أن الرشيد كان إذا ضجر من المقام ببغداد يتنزه بالقاطول وقد كان بنى هناك مدينة آثارها وسورها قائم ولكنه لم يتمها (٣). وأراد الرشيد أيضا بناءها ، فبنى بحذائها فابتدأ في البناء ، فبنى عندها قصرا سمّاه المبارك ، وهو بحذاء بناء قديم كان الأكاسرة قد بنوه. ولعلها هي التي ذكرها الجاحظ بقوله ، المباركة في القاطول (٤).

وقد وجدت دراهم فضية ذكر عليها أنها ضربت في المبارك زمن الخلافة الأموية في السنوات ١٠٧ ـ ١١٠ / ١١٧ ـ ١٢٠ ولابدّ أنها غير المباركة التي بناها الرشيد.

يذكر البلاذري أن الرشيد كان قد ابتنى قصرا حين بنى قاطوله الذي دعاه أبا الجند.

إن هذه المواضع كافة تقع شرقي دجلة على الطريق إلى الموصل ولم تقم فيها مقاتلة من العرب ، وكانت في العصر الأموي معرضة إلى اضطرابات سببها حركات الخوارج ، وقد اهتم بها هارون الرشيد عندما عمّر القاطول وسمّاه أبا الجند.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٤٦٦.

(٢) البلدان ١٤٣ (مخطوطة مشهد).

(٣) معجم البلدان ٣ / ١٥.

(٤) مناقب الأتراك ٦٢.

٦٠