سامرّاء دراسة في النشاة والبنية السكانية

د. صالح أحمد العلي

سامرّاء دراسة في النشاة والبنية السكانية

المؤلف:

د. صالح أحمد العلي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٠

الأخبار حدوث تخلخل في القوات المنوّعة الشعبية التي كانت تدافع عن بغداد ، ودام الحصار أكثر من سنة لم يستطع جيش طاهر بن الحسين التغلب على مقاومة أهل بغداد واختراق دفاعاتهم ، وظلّت المعارك الرئيسية في الأطراف الشمالية والغربية من المدينة المدوّرة ، ولم يفلح طاهر بن الحسين في ضعضعتهم إلّا بعد أن عمد إلى الحصار الاقتصادي فمنع المسير عنها ، مما أضرّ مصالح تجار الكرخ الذين لم يؤيدوه قبل ذلك.

ولما قتل الأمين وانهارت مقاومة أهل بغداد وصفت الخلافة للمأمون ، ولي إدارة العراق الحسن بن سهل أخو الفضل. ولم يرفض أهل بغداد خلافة المأمون ، إلا أنهم لم يؤيدوها بمن فيهم بقايا «الخراسانية» في بغداد ، وكان سلطان المأمون على بغداد ضعيفا وظهرت حركات شعبية معارضة فيها ، وتمردت في أطرافها ، أبرزها حركة الرويبضة وعلى رأسهم خالد بن درويش ، وسهل بن سلامة (١).

ثم استدعى المأمون علي الرضا من المدينة إلى مرو وجعله وليّ عهد المسلمين والخليفة من بعده (٢) ، فكان في هذا إخراج سلمي مصمّم للخلافة من البيت العباسي ، وهو قد يشير إلى نقل دائم لها إلى العلويين ، كما أنه تم في مرو ، وليس في بغداد. ولم يؤيد علي الرضا المأمون في اندفاعه بمتابعة التقاليد الساسانية المتجلية بجعله لباس الخضرة مكان السواد ، ودفعه إلى التخلص من نفوذ الفضل بن سهل وتوجهاته الفارسية ، ونصحه بالعودة إلى بغداد دار خلافة آبائه وملكهم ليتوسط سلطانه ويشرف على أطرافه (٣).

إلا أن آثار هذا التوجيه جاء متأخرا ، وقد ظهر الاستياء من المأمون في بغداد واضحا بعد بيعة علي الرضا بالعهد ، وكان الاستياء أوضح عند

__________________

(١) الطبري ٣ / ٩٩٨ ، وانظر تفاصيل أوفى عن أحوال بغداد إبّان الحصار وبعده ، من كتاب محمد رجب النجار «الشطار والصيارون».

(٢) الطبري ٣ / ٢٠١٢.

(٣) المصدر نفسه ٣ / ٩٩٧.

٢١

العباسيين ، فبايعوا إبراهيم بن المهدي بالخلافة بعد أربعة أشهر من بيعة المأمون علي الرضا بولاية العهد ، وبايعه أيضا كثير من القواد والموالي ، ورضي به أكثر الناس ، وفقد الحسن بن سهل الذي ولاه المأمون على بغداد سيطرته عليها فلجأ إلى المدائن واتخذ مقامه فيها (١).

غير أن تولي إبراهيم بن المهدي الخلافة لم يلق تأييدا فلم تبايعه الأقاليم ، ولم يحاول الاتصال بها ولم يفلح في الهيمنة على العراق فقامت بوجهه ثورات متعددة في المدائن وفي الكوفة وعارضه عدد من القواد البارزين ببغداد فتزعزعت مكانته ، ثم اضطر إلى التنازل عن الخلافة التي أشغلها أقل من سنة.

اعتمد المأمون منذ عودته إلى بغداد على أحمد بن أبي خالد في إدارة الدواوين ، ولم تسمّه المصادر وزيرا مع أن عمله هو عمل الوزراء ، وأحمد اصله من بلاد الشام ، وكانت لأسرته صلة بالدولة العباسية في أول عهدها ، فكان أبوه ، كاتبا لعبيد الله الأشعري وزير المهدي ، وكان هو مع المأمون في خراسان ، فقدم معه إلى بغداد (٢) وولاه الإدارة بعد عزله الفضل بن سهل. وظل في عمله إلى أن توفي سنة ٢١٥ ، فتولى أمور الإدارة بعده أحمد بن يوسف ، وكان قبل ذلك يتقلد المأمون بعد عودته إلى بغداد ديوان السر وبريد خراسان وصدقات البصرة. (٣) وفي الكتب أخبار متفرقة عن الرجلين تظهر مرونتهما في الإدارة واهتمامهما بشؤون الناس ، دون الاهتمام بالأمور الفكرية والإدارية أو أيّ توجهات سياسية خاصة.

أولى المأمون لدى عودته تقديرا كبيرا وثقة بطاهر بن الحسين ، فأسند إليه حمل الحربة أمامه ، ثم ولاه بعد سنة على الجزيرة الفراتية والشرطة والجانبين من بغداد (٤) ثم عقد له في السنة نفسها على خراسان والجبال من حلوان إلى

__________________

(١) الطبري ٣ / ١٠١٦.

(٢) طيفور ١١٩.

(٣) م. ن ٣.

(٤) م. ن ١٠٩.

٢٢

خراسان (١) وبعد ستة أشهر ولي ابنه عبد الله بن طاهر مصر ومحاربة نصر بن شبث الخارجي (٢). ولم يقض طاهر في ولاية المشرق طويلا إذ توفي سنة ٢٠٧ (٣). فولى المأمون مكانه ابنه عبد الله بن طاهر (٤) ، غير أن عبد الله بن طاهر بقي في الشام يحارب نصر بن شبث خمس سنوات (٥) ، واستخلف أخاه طلحة على خراسان وابن عمه إسحاق بن إبراهيم على مدينة السلام (٦).

أما القضاء في بغداد فقد تتابع عليه عدد لم يبق أكثرهم في عمله أكثر من سنة ، فولى قضاء مدينة المنصور محمد بن سماعة ثم إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة ثم بشر بن الوليد الكندي ، وجعل على قضاء الشرقية ، ويمتد سلطانها على جنوب المدينة المدوّرة ، محمد بن أبي رجاء الخراساني ، ثم محمد بن سماعة ، ثم عكرمة السرخسي ، فحفص بن غياث ، فالحسين الصوفي. وجعل على قضاء الجانب الشرقي فتيبة بن زياد الخراساني. ثم محمد بن عمر الواقدي ، فمحمد بن عبد الرحمن المخزومي فبشير بن الوليد الكندي ، فجعفر ابن عيسى الحسني ، فهارون الزهري.

في كتب التاريخ والآداب معلومات كثيرة متفرقة عن اهتمامات المأمون في السنوات العشر التي أقام خلالها في بغداد ، يتبين منها حرصه على الاجتماع بالفقهاء والمتكلمين وأهل الأدب والشعر ؛ فيروي طيفور قائلا : «لما دخل المأمون بغداد وقرّ بها قراره ، أمر أن يدخل عليه من الفقهاء والمتكلمين وأهل العلم جماعة يختارهم لمجالسته ومحادثته ، واختير له من الفقهاء مائة رجل ، فما زال يختارهم طبقة بعد طبقة حتى حصل على عشرة منهم أصحاب أحمد ابن أبي دواد وبشر المريسي ، كما كان يسمي له قوم من أهل الأدب

__________________

(١) طيفور ١٤٩.

(٢) م. ن ١٣.

(٣) م. ن ١٧ ، ٢٩.

(٤) م. ن ١٥ ، ٢٠.

(٥) م. ن ١٨.

(٦) م. ن ٧٢.

٢٣

يجالسونه (١) ، وممن كان يحدثه في الفقه والمسائل اللؤلؤي» (٢). ورويت أخبار عن سماعه المناقشات ومشاركته في إبداء الرأي ببعضها ، ورحابة صدره ويقول : «أبحنا الكلام ، وأظهرنا المقالات ، فمن قال بالحق حمدناه ، ومن جهل الأمرين حكمنا فيه (٣)» ، وتروي الأخبار عن مجادلته بعض من ادّعى النبوة وأراد الارتداد عن الإسلام.

وقد تميز بحلمه واهتمامه بالطبخ ، وبالغناء والفنون ، ولم يعرف عنه اندفاع في رعاية الثقافات الإغريقية أو نقل كتبها ، ولم يذكر حنين بن إسحاق في قائمة الكتب التي نقلها إلى العربية أي كتاب منها نقل إلى المأمون.

وروي عنه أنه كان يرى الأرجاء ، ويرى أنه عقيدة الملوك (٤) ، وله رأي سيئ بأهل السوق فهو يرى أن أهل السوق سفلة ، وأن الصناع أنذال ، والتجار بخلاء (٥).

المحنة : نشأتها ودلالتها

اهتم المأمون في السنوات الأخيرة من خلافته بقضية «خلق القرآن» ووجّه من دمشق إلى واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم كتبا بإلزام الناس وبخاصة الفقهاء ورجال الحديث بإلزامهم على الإقرار بها. وتابع المعتصم والواثق من بعده توجّهاته إلى أن جاء المتوكل فأبطلها بعد خمس وعشرين سنة من بدايتها.

وبالنظر لما لها من دلالات على التيارات الفكرية والسياسية في بغداد ، وموقف أهلها غير المؤيد لتوجيهات الخلافة ، فإننا نورد بعض تفاصيلها لإظهار موقف أهل بغداد قبل أن يتولى المعتصم الخلافة ويجلب جنده الأتراك للإقامة فيها.

__________________

(١) طيفور ٣٠ ؛ وانظر عن القضاة ما كتبناه عن «قضاة بغداد في العصر العباسي» ضمن كتابنا «معالم بغداد العمرانية».

(٢) طيفور ٣٤.

(٣) المصدر نفسه ٤٦.

(٤) انظر «العقد الفريد» لابن عبد ربه ٦ / ٦٠ ؛ «الملل والنحل» للشهرستاني ١ / ٦٧ «مقالات الإسلاميين» للأشعري ٢ / ٥٤ ؛ «نثر الدر» للآبي ١ / ١٦٧.

(٥) نثر الدر ٣ / ١٠٨.

٢٤

يذكر الطبري أنه في السنة ٢١٢ «أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل علي بن أبي طالب» (١) ولم يذكر حوادث تبرئ إظهار هذا القول ، كما أنه لم يذكر عملا قام به المأمون في بغداد يتصل بهذا القول. وأول ما يكشف التدابير التي اتخذها لتنفيذ ما يتطلبه هذا القول هو كتاب وجّهه المأمون من بلاد الشام إلى إسحاق بن إبراهيم في ربيع الأول سنة ٢١٨ وأمره بامتحان الفقهاء في خلق القرآن وتغليبها على عقيدة كانت سائدة عند عامة بغداد في بعض قضايا الكلام ، إذ ذكر فيها : «وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال بدلالة الله وهدايته ، والاستضاء بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق ، أهل جهالة بالله وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده ، ... ثم هم أولئك الذين جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم ، ونسبوا أنفسهم إلى السنّة ، ... ثم أظهروا مع ذلك أنهم هم أهل الحق والدين والجماعة ، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة ، فاستطالوا بذلك على الناس ، وغرّوا به الجهال ، حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب التخشع لغير الله والتقشف لغير الدين إلى موافقتهم عليه ، ومواطئتهم على سيّىء آرائهم تزينا بذلك عندهم ، وتصنعا للرئاسة والعدالة فيهم ، فتركوا الحق إلى باطلهم (٢)».

يتبين من هذا الكتاب

١ : أن «الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة نسبوا أنفسهم إلى السنّة ، ثم أظهروا مع ذلك أنهم هم أهل الحق والدين والجماعة». إن قوله «حشو الرعية وسفلة العامة» يشير إلى أن فيهم الطبقة الدنيا وإلى كثرة عددهم ، وأن توجيه الكتاب إلى والي بغداد يدل على أنه يصف مكانهم فيها. ويلاحظ أن المأمون كتب هذا الكتاب في سنة ٢١٨ ه‍ ، أي بعد

__________________

(١) الطبري ٣ / ١١٠٢.

(٢) طيفور ١٨٤ ـ ٥.

٢٥

أربع سنوات من مغادرته بغداد. ويدل عدم إصداره عندما كان ببغداد على أنه يعالج حالة استحدثت أو اتسعت بغيابه ، ولا يوجد ما يدل على أن هذا الموقف أملته الأحوال التي شهدها في بلاد الشام ومصر ، كما أنه لا يظهر أنه يعالج حالة مستجدة ، وإنما توجهات قديمة لا يشير إلى تاريخ ظهورها.

٢ : أنهم استطالوا بذلك على الناس ، وغرّروا به الجهال ، أي إن نفوذهم امتد إلى غيرهم ، وجلبوا إليهم جماعات من غير الخاصة.

٣ : لم تقتصر هذه الأفكار على حشو الرعية وسفلة العامة ، وإنما مال إليهم قوم «من أهل السمت الكاذب والتخشع لغير الله ، والتقشف لغير دين الله إلى موافقتهم ومواطئتهم على سيئ آرائهم ، تزيّنا بذلك عندهم ، وتصنّعا للرئاسة والعدالة فيهم». أي إنهم كانوا في الأساس كثرة ، ثم ازداد عددهم بسبب استطالتهم على الناس وسطوتهم ، فانضمّ إليهم عدد من الانتهازيين متطلعين إلى رئاستهم والسيطرة على أدلاتهم.

٤ : أنهم نسبوا أنفسهم إلى «السنّة» فأراؤهم لا تتصل بنظام الحكم والخلافة أو الإدارة ، أي إنهم ليسوا حزبا سياسيا وإنما كانت لهم عقائد في الإسلام تستند إلى واحد من أبرز أسس العقيدة والنظام ، فهم ليسوا من الفرق الزائغة والخارجة على الإسلام ، أو من المجموعات المعنية بالتيارات الفكرية المتصلة بالعلوم.

والسنّة تعبير أساسه ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أقره الناس (الإجماع) من الممارسات المتعلقة بسلوك الناس وتصرفاتهم في العبادات والمعاملات والعلاقات بين الناس ، وسنادها الأخذ بالموروث وليس التفكير فيه ، فهو قائم على دراسة أسس الإسلام وممارساته في الماضي وتناقل أخباره وإحلال المعنيين به مكانة متميزة باعتبارهم المراجع في ذلك.

٥ : أنهم ممن لا نظر لهم ، ولا روية ولا استدلال بدلالة الله وهدايته ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق ، لضعف آرائهم ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكّر والتذكر ، أي إنهم لا يقيمون أراءهم على العقل والتفكير وإنما على التلقين.

٢٦

٦ : أنهم أهل جهالة بالله ، وعمّى عنه ، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به ، ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله ، وقصور أن يقدروا الله حق قدره ، ويعرفوه كنه معرفته ، ويفرقوا بينه وبين خلقه.

٧ : أنهم شر الأمة ورؤوس الضلالة ، والمنقوصون من التوحيد حظا ، والمخسوسون من الإيمان نصيبا وأوعية الجهالة وأعلام الكذب ، ولسان إبليس الناطق في أوليائه ، والهائل على أعدائه من أهل دين الله ، أي إنهم لهم مكانات متميزة في جماعتهم «رؤوس الضلالة وأعلام الكذب ولسان إبليس».

وأشار المأمون في كتاب أرسله إلى إسحاق بن إبراهيم إلى أنهم متصنعة أهل القبلة وملتمسو الرئاسة فيما ليسوا له بأهل من أهل الملة.

٨ : أنهم أحقّ من اتّهم في صدقه ، واطّرحت شهادته ، ولم يوثق بقوله ولا عمله ، أي إن أسسهم الفكرية تجعلهم غير جديرين بشهادته وعمله.

٩ : طلب إليه «اجمع من بحضرتك من القضاة ، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك ، وابدأ بامتحانهم فيما يقولون ، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق القرآن وإحداثه». إنه حدد أمر تطبيقه على القضاة ، ولم يشمل من يعمل في الدواوين أو في الجيش ، فهو محدود في تصفية مؤسسة محدودة هي القضاء وهم المجموعة الوحيدة المرتبطة في عملها بالدولة ، ولم يشمل غيرهم ممن يعنى بالعلوم الدينية بما فيها دراسة القرآن والحديث والعقائد فضلا عن العلوم الأخرى.

١٠ : «اكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك من قضاة أهل عملك في مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك. ثم اشرف عليهم وتفقد أحوالهم». إنه يقصر توجيهاته على القضاة في عملهم ، وهو العراق ولا يتجاوزه إلى الأقاليم الأخرى. وكرر المأمون في كتاب لا حق حصر المتابعة في القضاة فذكر ، «وبثّ الكتب إلى القضاة في النواحي من عملك بالقدوم عليك لتحملهم وتمتحنهم على ما حدّه أمير المؤمنين» (١).

__________________

(١) الطبري ٣ / ١١٣٥.

٢٧

١١ : أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ، مؤتمن فيما قلده الله في أمور رعيته ، من لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه ، أي إن قراره يمتد إلى الاستغناء عمن يتابعهم في أعمال الدولة كافة ، وهذا يقتضي إجراء تبديلات واسعة.

إن كتاب المأمون واضح : هو تفكيك السيطرة السياسية على أفكار الجمهور الأكبر والسواد الأعظم ، وهي سيطرة لا تتسق مع دعم الخليفة ، وإنما قد تهدد هيمنته بما تحدثه من اضطرابات قد تصل إلى حد الثورة عليه وخلعه ، غير أن كتاب المأمون لم يحدد المطامح السياسية التي يعتنقها المسيطرون ، وهل هي مجرّد الحد من سلطانه أو حمله على إجراء تبديلات جذرية في الإدارة وأفكارها ، أم الإعداد لبديل عنه شخصيا أو عائليا ، وهل أن سيطرتهم تعبّر عن أهداف محددة واضحة ووحدة فكر ، أم أنها مجرد مواقف عامة غامضة المعالم والحدود ، علما بأن التجارب السابقة التي مرت بالدولة العباسية أظهرت أن الشعارات لا تكفي لإزاحة الحكومات ، وأن الحركات الثورية المتناثرة مهما كان عنفها فإنها لا تصمد أمام القوة التابعة للسلطة الحاكمة ، بما في ذلك الموارد المالية والمقاتلة والإيمان اللاشعوري بأهمية السلطان مهما كان ضعيفا.

فلا بدّ أن الذي أثاره إصدار هذا الكتاب هو أمر يتعلق بالأمن السياسي وسلطان الدولة ، علما بأن المأمون قصر حملته على باقي المسلمين ، ولم يشر إلى اضطهاد التيارات الزائغة من غير المسلمين أو من الزائغة في الإسلام.

أورد الطبري نصوص كتابين لاحقين أرسلهما المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم سمّى في أولهما ثمانية (١) ، وفي الثاني تسعة عشر طلب امتحانهم (٢) ، وكان ممن ذكرهم فقهاء ومحدثون لم يكن لهم عمل في الدولة. غير أنه في كتاب لاحق علّق فيه على أحوالهم ، فذكر أن بعضهم كان قد ولّي ولايات وأختاما ، وبعضهم كانت مودعة إليه أموالا وأختامها (٣) ، وليس فيهم ممن شارك

__________________

(١) الطبري ٣ / ١١١٦.

(٢) م. ن ٣ / ١١٢١.

(٣) م. ن ٣ / ١١٢٦.

٢٨

في السياسة غير إبراهيم بن المهدي الذي طلب المأمون امتحانه وقد بلغت أمير المؤمنين عنه بوالغ (١) ، وهذا يشير إلى أن إبراهيم بن المهدي ساهم في نشاط سياسي ، ولعله ممن ذكر المأمون أنهم أيدوا العامة لأطماع سياسية من شأنها أن تضعضع سيطرة الخليفة على العامة.

نقل طيفور كتابا لاحقا أرسله إلى إسحاق بن إبراهيم أوضح فيه القضية التي يهتم بمعالجتها وهي خلق القرآن. وذكر عمن لا يراهم جهلة عظمهم قولهم في القرآن في دينهم ، والحرج في أمانتهم وسهلوا السبيل لعدو الإسلام ، واعترفوا بالتبديل والإلحاد على قلوبهم حتى عرّفوا ووصفوا خلق الله وفعله بالصفة التي هي لله وحده ، وشبّهوه به ، والاشتباه أولى بخلقه ، وليس يرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة حظا في الدين ، ولا نصيبا من الأيمان واليقين ، ولا يرى أن يحل أحدا منهم محل الثقة في أمانة ، ولا عدالة ولا شهادة ولا صدق في قول ولا حكاية ، ولا تولية لشيء من أمر الرعية. ومن كان جاهلا بأمر دينه الذي أمره الله به من وحدانيته فهو بما سواه أعظم جهلا ، وعن الرشد في غيره أعمى وأضلّ سبيلا (٢).

إن المأمون يعيد وصف من يهاجمهم بأنهم «جهلة» لأنهم يرون في القرآن آراء خاصة ، فهو يذكر أن خطرهم متأت من نشر هذه الأفكار ، وليس من دور سياسي تقوم عليه أفكارهم لا يعارضون مكانة الخلافة ودورها في الإدارة ، وإنما يعنون بالعقائد فحسب. وهو يبين خطر أفكارهم في الانتقاص من مكانته تعالى لأن أفكارهم تقود إلى التجسيم ، مما يسهل السبيل لعدو الإسلام. ويرى أن تنزع الثقة ممن يحمل هذه الآراء ، ولا يولّى شيئا من أمر الرعية.

طبيعة المحنة :

استوعب فهمي جدعان في كتابه القيّم «المحنة» تاريخ فكرة خلق القرآن

__________________

(١) الطبري ٣ / ١١٢٧.

(٢) طيفور ١٨٩ ـ ١٩٠.

٢٩

وموقف المعتزلة منها ، وخلاصة بحثه أن فكرة خلق القرآن ليست من مبتدعات المعتزلة ، فأول من قال بها هو جهم بن صفوان الذي عاش في أواخر العصر الأموي في خراسان ولم تكن له علاقة بالمعتزلة الذين ، مع أنهم تبنّوها بعد ذلك ، إلا أنهم لم ينفردوا بالقول فيها ، ولم تكن تشغل حيّزا كبيرا من أفكارهم التي أقدم وأبرز ما فيها فكرة «المنزلة بين المنزلتين» و «العدل والتوحيد».

ويقول في توضيح العلاقة بين المعتزلة والمحنة ليس بين أيدينا على الإطلاق ما يثبت دعوى القول أن المعتزلة سواء أكانوا تقويين أم عمليين كانوا وراء هذه المحنة أو أنهم قادوا حملات التفتيش المتعلقة بها. والحقيقة أن المحنة كانت قرارا شخصيا من جانب المأمون ، والتزاما سياسيا وأخلاقيا من جانب خلفته المعتصم والواثق.

إن موضوع خلق القرآن موضوع كلامي صرف ، في حين أن كتاب المأمون يظهر أن المشكلة التي كان يواجهها هي مشكلة سياسية تمتدّ إلى الجمهور الأكبر والسواد الأعظم ، فالمحنة لم يكن غرضها الإقرار بعقيدة كلامية بدل أخرى ، بقدر ما هي وسيلة لضعضعة مكانة الممتحنين وانتزاع سيطرتهم السياسية على الجماهير عن طريق إلزامهم بقبول ما تفرضه الدولة عليهم ، والانضواء في طاعتها.

يروي الخطيب أن المأمون قال : لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت القرآن مخلوقا ، فقال بعض حاشيته ومن يكون يزيد بن هارون حتى تتّقيه ، فقال لا أتّقيه لأن له سلطانا أو سلطة وإني أخاف أن تكون فتنة (١) ، علما بأن يزيد بن هارون توفي سنة ٢٠٦.

يروي الطبري أنه في السنة ٢١٢ أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل علي بن أبي طالب (٢). غير أنه لم يذكر أيّ مصدر أنه حاول في هذا الوقت المبكر فرضها على الناس ، ولم تذكر الكتب حادثة تبرّر فرضها. وقد أصدر المأمون قراره بفرض الفكرة والمحنة بكتاب أصدره في شهر ربيع الأول من سنة

__________________

(١) تاريخ بغداد للخطيب ١٤ / ٢٣٩ ـ ٤.

(٢) الطبري ٣ / ١٠٩٩ ، مروج الذهب ٣ / ٤٥٤.

٣٠

٢١٨ وهو في دمشق ، أي بعد حوالى عشرين سنة من تولّيه الخلافة ، وأربع عشرة سنة من دخوله بغداد ، وثلاث سنوات من مغادرته لها إلى بلاد الشام ومصر والثغور ، ولا بدّ أن هذا التأخر في إصدار القرار يرجع إلى حوادث استجدّت لا في الأقاليم التي جاءها ، وإنما في بغداد ، فعلم بها وأدرك خطرها فأصدر هذه الكتب الشديدة ، وتجدر الإشارة إلى أنه لم تسجل فرحة بها ، وإنما يدل سياق الأحداث على وجوم الناس منها ، وهو موقف سلبي لم يصل حدّ عمل إيجابي في ثورة أو مقاومة. ويلاحظ أن المحنة بتباين أحوالها لم تدم أكثر من ثلاثين سنة ثم ألغيت عند ما ولي المتوكل الخلافة.

المشكلة فكرية وسياسية :

كان الهدف من المحنة هدفا فكريا محدّدا بخلق القرآن ولم يمتد إلى أبعد من ذلك ، فلم يذكر عنه أنه حارب علوم الحديث أو الفقه وهما عماد علم «أهل السنة» ولم تذكر عنه محاولة نشر أفكار سياسة خارجة عن اهتمامات الناس في حينها ، كنشر أفكار ساسانية أو إغريقية ، ومع أن المصادر تذكر اهتمامه بجمع الكتب الإغريقية ، إلا أنه لم يكن مبتدعا في ذلك ، فقد سبقه إليها المنصور والرشيد ، ولم يرد خبر عن حرصه على نقل هذه الكتب إلى العربية ، ولم يكن ممن أغدق على حنين بن إسحاق وطلب منه نقل أي كتاب.

كانت الحركة الفكرية في زمن المأمون قد وصلت في تطورها الفكري حدّ التمايز بين العلوم ، بما في ذلك علم الحديث وروايته والفقه والكلام بل حتى في الأخبار والتاريخ والآداب ، وما يتصل باللغة من مفردات ونحو وصرف ، ولكن هذا التمايز لم يكن جامدا محدّد المعالم ، وإنما كان فيه كثير من التداخل ، والتمايز الواضح هو بين علوم الأوائل ، بما فيها العلوم الصرفة والتطبيقية والمنطق والفلسفة والسياسة ، وعلوم العرب ، علما بأن نقل كثير من هذه الكتب وثّق صلة العربية بعلوم الأوائل ، وأطلع العرب على الكثير من الأفكار الجديدة ، غير أنه من حيث العموم كانت علوم الأوائل أروج عند غير المسلمين ولا سيما النصارى واليهود.

٣١

لم تحدد المصادر المناطق الجغرافية التي كان يسيطر عليها المهددون ، ومن المعلوم أن بغداد كانت فيها مناطق عرف أهلها بميول سياسية متميزة ، ففي الكرخ وباب الطاق عرفوا بميولهم العلوية ، وفي المدينة المدوّرة والرصافة عرفوا بميولهم السنية ، والواقع أن معظم المدن الإسلامية حدثت فيها انقسامات بين أهلها ، أو عرفت بميول سياسية معيّنة ولكنها لم تصل حدّ القدرة على الانشقاق عن الدولة.

حصر المأمون المحنة بفكرة «خلق القرآن» وأشار إلى أن أقوى المدافعين عنها هم من نسبوا أنفسهم إلى السّنة ، وأنه كانت لهم هيمنة فكرية على الجمهور الأعظم والسواد الأكبر ، وأنه استغلها انتهازيون لأغراض سياسية ، إلا أنه لم يوضح العلاقة بين فكرة خلق القرآن والمنتسبين إلى السنّة ، أو علاقتها بالتيارات السياسية. ومن الواضح أنه قصد بالمنتسبين المعنيين بالحديث والفقه ، غير أن المعلومات المتوافرة لا تظهر أن هؤلاء المعنيين قد أعاروا ، قبل المحنة ، فكرة خلق القرآن اهتماما كبيرا.

ولم تخصص كتب الفقه والحديث مكانا واسعا لمعالجة القضايا المتعلقة بأحوال الخلافة وقضايا السياسة والإدارة ، وأشارت الكتب إلى أن الممتحنين كافة ، أقرّوا بفكرة خلق القرآن ، فيما عدا أربعة ، وبذلك تركت لهم الحرية في متابعة أبحاثهم دون مضايقة ، فالمحنة لم يقصد بها إيقاف دراسة الفقه والحديث وإعادة توجيهه ، ولا كانت محاولة لغرض الاعتزال واتخاذه عقيدة رسمية ، وإنما هي عمل سلبي محدود بفكرة خلق القرآن ، ولم يمتد إلى الأفكار الأخرى الأساسية عند المعتزلة ، ولا توجد إشارة إلى تحمس أقطاب الاعتزال للمحنة.

إن المصادر تذكر انفتاح المأمون على مختلف التيارات التي لم يصل تباينها حدّ التصادم ولا يحلّها مجرّد الإقرار ، بخلق القرآن. فقد ذكر في كتبه التي أرسلها إلى إسحاق بن إبراهيم ، واليه على بغداد ، أن يحضر جماعة من الفقهاء والحكام والمحدثين ، فحضر ستة وعشرون : فقرأ إسحاق عليهم كتاب المأمون مرتين فأجابوا إجابات مبهمة ، فكتب المأمون الى إسحاق كتابا ثانيا أن يجمع واحدا وعشرين لم يذكروا في الكتاب الأول ، فأجابوا عدا أربعة هم أحمد بن

٣٢

حنبل ، وسجادة ، والقواريري ، ومحمد بن نوح. ثم طلب المأمون أن يشخص إلى الرقة (!) سبعة لم يذكروا في كتابيه ، وممن ذكر امتحانه عفان بن مسلم والفضل بن غانم ؛ إلا أن أبرز الممتحنين أحمد بن حنبل من العراق ، وأبو مسهر من الشام ، ونعيم بن حماد من مصر.

إن هؤلاء الممتحنين منوّعون في أصولهم وانتساباتهم ، فبعضهم عرب وبعضهم موال ، ولدوا في مناطق متعددة ، ومنهم عدد من أهل خراسان في الأصل ، ولكن أكثرهم نشأ في مدن العراق العربية الرئيسية وهي الكوفة والبصرة وواسط وبغداد التي كانت آنذاك أكبر مراكز علماء الحديث.

وكانت الأحوال المالية لبعضهم تيسّر لهم معيشة بمستوى مناسب ، ولم يعرف عن أي منهم شكوى من الفاقة ، وبعضهم أولاد كتّاب يعملون في الدواوين ، ومنهم أربعة قضاة وهم بشر بن الوليد ، وعبد الرحمن بن إسحاق ، وقتيبة بن زياد والخراساني ، وقد شغل كل منهم منصب القضاء في بغداد زمن المأمون ، وكان الفضل بن غانم الخزاعي قاضيا في الفسطاط. واتهم المأمون في كتابه الثاني إلى إسحاق بن إبراهيم عددا منهم بخيانة الأمانات وابتزاز الأموال.

من الممتحنين عدد ممّن وثقهم علماء الرجال في الحديث ، وآخرون عرفوا بسعة اطلاعهم وأمانتهم في العلم ، وفيهم عدد من كتّاب ومستملي علماء ، وفيهم أيضا عدد لم تكن لهم مكانة متميزة عند علماء الحديث ، وفيهم أيضا من لم يعرف اهتمامه بالحديث أو الفقه مثل إبراهيم بن المهدي. ولم تذكر المصادر سبب اختيار هؤلاء أو آخرين ليعرضوا للمحنة التي لا ريب في أنها زادت من شهرتهم وقوّت مكانتهم عند العامة ممن استاء من المحنة وكان يقدّر آراء أهل السنة والحديث.

نفّذ المحنة وتابعها رجال في الإدارة ولم يعرف لهم إيمان عميق بها أو حماس لنشرها بمن في ذلك الخليفتان المعتصم والواثق ، والبارزون في الإدارة ولا سيما يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي دؤاد وإسحاق بن إبراهيم.

٣٣

أساليب التنفيذ :

لم يقم المأمون بنفسه بتطبيق المحنة ، ولم يعد إلى بغداد لمتابعتها ، ولعله كان يدرك ضعف خطرها في تهديد خلافته ، وأوكل مهمة متابعتها إلى إسحاق ابن إبراهيم المسؤول عن إدارة بغداد والذي لم يعرف عنه اهتمام خاص بالكلام وعلوم الحديث والسنّة ، أو أي موقف من أهلها.

لم ينشأ ديوان خاص لمتابعة تنفيذ الفكرة كالذي فعله المهدي مع الزنادقة ، وإنما أوكلت محاسبتهم إلى القضاة الذين غالب اختصاص عملهم ما نسميه اليوم المعاملات والأحوال الشخصية ، وليس أمور العقائد الكلامية ، علما بأن رئيسهم يحيى بن أكثم كان يرافق المأمون في رحلاته ، ولم تكن إقامته الدائمة في بغداد ، وأن عدد قضاة بغداد الرسميين ثلاثة : قاض لكل من مدينة المنصور ، والشرقية والكرخ ، والرصافة والجانب الشرقي. ولم تذكر المصادر تدابير أمنية أو أي عمل اتخذ لملاحقة معارضي فكرة خلق القرآن ، أو للقضاء على سيطرتهم على الرأي العام وإضعافها ، وهو الهدف الأكبر الذي كان يرمي إليه المأمون كما يتجلى من كتابه ، ولم تذكر الأساليب التي تتبّعها المسيطرون على توجيه الرأي العام وتحويل القضايا الكلامية إلى توجهات سياسية ولا مدى سيطرتهم على هذه التوجهات وعمق آثارها في عموم الناس.

إن كتاب المأمون واضح. هو تفكيك السيطرة السياسية على أفكار الجمهور الأكبر والسواد الأعظم ، وهي سيطرة لا تتسق مع دعم الخليفة ، وإنما قد تهدد هيمنته بما تحدثه من اضطرابات قد تصل حدّ الثورة عليه وخلعه ، غير أن كتاب المأمون لم يحدد المطامع السياسية التي يعتنقها المسيطرون ، وهل هي مجرّد الحد من سلطانه أو حمله على إجراء تبديلات جذرية في الإدارة وأفكارها ، أم الإعداد لبديل عنه شخصيا أو عائليا ، وهل تعبّر سيطرتهم عن أهداف محددة واضحة ، ووحدة فكر ، أم أنها مجرّد مواقف عامة غامضة المعالم والحدود.

علما بأن التجارب السابقة التي مرت بالدولة العباسية أظهرت أن الشعارات لا تكفي لإزاحة الحكومات ، وأن الحركات الثورية المتناثرة مهما كان عنفها فإنها

٣٤

لا تصمد أمام القوة التابعة للسلطة الحاكمة ، بما في ذلك الموارد المالية والمقاتلة والإيمان اللاشعوري بأهمية السلطان مهما كان ضعيفا.

كانت بغداد المركز الرئيسي للعلماء الذين امتحنوا ، ولم تدم المحنة أكثر من خمس وعشرين سنة ، ولا نعلم مدى امتداد وعمق الاستياء الذي ولّدته ، إذ إن الفرحة بانتهائها قد تكون بالغت في أثرها في موقف أهل بغداد الذين لم يذكر قيامهم إبّانها بأي عمل إيجابي يعبّر عن استيائهم سواء في العبث بالأمن أو تهديده ، كما لم تذكر جماعة تحمسوا في الدفاع عنها. فآثارها الأمنية والسياسية محدودة.

لم تذكر الأخبار انتفاضة أو ثورة ، سوى محاولة لم تنفّذ في زمن الواثق ببغداد قام بها أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم ، وهو حفيد أحد نقباء بني العباس عندما أعدّوا ثورتهم وقاموا بها ، وكانت له مكانة في الدولة. وكان أحمد من أهل الفضل والعلم مشهورا بالخير والأمر بالمعروف. ولما اختلّ الأمن في بغداد بعد مقتل الأمين وكثر الدعّار والصعاليك مهددين الناس ، استطاع أحمد بن نصر أن يسهم في الحد من نشاطهم ، ويعيد الثقة بها.

ويروي الطبري أنه سنة ٢٣١ أعد لثورة في بغداد ، ولكن المحاولة كشفت قبل تنفيذها ، وألقي القبض على رأسها المدبّر أحمد بن نصر ، مع عشرين من أتباعه ، فأمر الواثق بإعدامه ، وظلت جثته منصوبة في سامرّاء إلى سنة ٢٣٧ حيث أمر المتوكل بإنزالها ورفعها إلى أوليائه ، ومع أن فشل الثورة لم ترافقه احتجاجات إلا أن العقاب الذي أنزل به أثار عطف الناس عليه وتقديرهم له وظلت ذكراه الطيبة تتردد في الكتب.

٣٥
٣٦

الفصل الثالث

المعتصم والجيش

المعتصم نشأته وحياته الأولى

ولد المعتصم ، واسمه محمد وكنيته أبو إسحاق ، في قصر الخلد ببغداد سنة ١٧٨. أو في بداية سنة ١٨٠ ، وأمه صفدية مولّدة من أهل الكوفة اسمها ماردة (١) ولم يذكر أحد أنها تركية أو أنها ربّيت في ما وراء النهر ، ولا علاقة لها بالترك الذين قدم بعضهم إلى بغداد.

لم يكن المعتصم أكبر أولاد أبيه هارون الرشيد ، ولا أقربهم لأبيه ، فلم يسمّه الرشيد لولاية العهد التي سمّى لها ثلاثة من أولاده هم : الأمين والمأمون والقاسم. ويبدو أن الرشيد لم يظهر عناية خاصة بتربيته فلم يذكر له مؤدب ولم تعرف له صلة وثيقة بأهل الأدب والفكر ، ولم ترو عنه أقوال مأثورة. والراجح أنه كان في حياته ميالا إلى الرياضة والفروسية وما يتصل بالحياة العسكرية (٢).

لم يرد للمعتصم ذكر في حوادث النزاع بين الأمين والمأمون ، مما يدل على أنه اعتزلها شأن معظم رجال الأسرة العباسية المقيمين في بغداد. ولما بايع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي بالخلافة كان المعتصم مقيما في بغداد ، ويبدو أنه أيد إبراهيم الذي أرسله للقضاء على تمرد في أطراف بغداد (٣).

__________________

(١) الطبري ٣ / ١٣٢٩ ، وانظر بعض أوجه حكم المعتصم العثمان سيد أحمد إسماعيل.

(٢) انظر البداية والنهاية لابن كثير ١ / ٢٩٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٣ / ١٩١.

٣٧

احتفظ المعتصم بعلاقة طيبة مع المأمون لدى عودته إلى بغداد ، ولم يذكر له إسهام في النشاطات السياسية والفكرية ببغداد ، مما يدل على أنه قصر اهتمامه على الحياة العسكرية ، ولعل هذا ما دفع المأمون إلى تقريبه والإفادة منه في إعادة بناء الجيش في بغداد الذي كان قد تصدع إثر الحرب بين الأمين والمأمون ، وبذلك تعززت مكانته ، وكان هو والعباس بن المأمون أبرز المقرّبين للمأمون من رجال الأسرة العباسية.

وفي سنة ٢١٣ ولّاه المأمون بلاد الشام ومصر ، كما ولّى ابنه العباس الجزيرة الفراتية ، وكانت مصر تواجه اضطرابات استطاع أن يقضي عليها ، ووجّهه في حملات على بلاد الروم ، وكانت تربطه بالعباس بن المأمون علاقة طيبة ، فلم يذكر خبر تنافس بينهما ، وظلت ولاية المعتصم على مصر سنتين ولكنه لم يقم خلالهما في مصر أكثر من ستة أشهر وخلّف في المدة الباقية إدارتها إلى أشخاص آخرين اختارهم (١). غير أن المعتصم كان يتميز بكبر سنه وكانت تتبعه قوة عسكرية تركية قوامها ثلاثة آلاف رجل.

احتفظ المعتصم بالسمة العسكرية التي ميّزته ، وكان أنموذج الفارس الباسل ، فهو من رجال السيف بعيدا عن رجال القلم من الأدباء والكتّاب ورجال الإدارة المدنية ، وكان معروفا بالقوة البدنية.

رافق المعتصم المأمون في رحلته إلى بلاد الشام وشارك في الحملة التي قادها المأمون سنة ٢١٨ على الروم وأحرز انتصارات ، غير أن المأمون مرض وأدرك أن منيته عاجلة فعيّن المعتصم وليّا للعهد ولم يعيّن ابنه العباس الذي كان يرافقه ويشارك في قيادة الجيش ، ولا بدّ أن المأمون عندما اتخذ هذا القرآن كان واقعا تحت تأثير أحوال الحملة ومتطلباتها العسكرية ، فاختار أخاه المعتصم الذي يتميز بالشجاعة وأشهد على ذلك من معه من القضاة والفقهاء والقوّاد وبحضور ابنه العباس ، وكان تعيينه لولاية العهد مفاجأة دون تمهيد مسبق كما كان الأمر معمولا به في زمن الأمويين والعباسيين. وقد تولّى المعتصم الخلافة

__________________

(١) الطبري ٣ / ٩٩٣ ، ١١٠٥.

٣٨

بعد أيام من قرار المأمون وتمّت بيعة المعتصم بإرادة حرة من المأمون وبحضور ابنه العباس الذي شارك في البيعة ممتعضا ، غير أن عددا من قادة الجيش لم يرضهم تولّي المعتصم المرتبط بمجموعة من الجند ذوي سمات خاصة ، فأظهروا عدم رضاهم ودسوا مؤامرة قضى عليها المعتصم وقتل العباس وعددا من القادة الذين لم يساندوا اختياره خليفة ، وبذلك كان تولّيه الخلافة قائما على موقف الجند ، واستعملت فيه القوة لتثبيته.

وحالما ولي الخلافة هدم بعض حصون الروم ، وأمر بإعادة الجيش إلى بغداد لمنع تجديد الفتنة ولإرضاء الجند بإعادتهم إلى أهليهم في بغداد.

تمّت بيعة المعتصم في معسكر على حدود دولة الروم بعيدا عن بغداد ومن فيها من العلماء والفقهاء ورجال الإدارة وأهل الحل والعقد من المدنيين. ولي الخلافة دون أن تتاح الفرصة للحصول على تأييد الأمة لهذه البيعة ، فكان ذلك بداية انعزال الخلافة عن الأمة التي أصبحت «رعية» تتلقى القرارات وتنفذها دون أن يؤخذ رأيها فيها ولو شكليا ؛ ولا بدّ أن وقع ذلك كان أقوى على بغداد التي كانت المكان الذي يبدأ منه إعلان البيعة لولي العهد وللخليفة مما كان يعزز مكانتها في عموم الدولة وعند الخليفة الجديد. وقد قبل أهل بغداد الأمر الواقع ولم يعترضوا على تولّيه الخلافة أو على الأسلوب الذي لم يسبق الأخذ به. فأبعدت بغداد من مركزها المتميز عن المراكز المتعددة للدولة ، وأصبحت كبقية مدن الدولة الأخرى تبلّغ باختيار الخليفة ولا تشارك فيه. علما بأن تحطّم الجيش الذي كان مقيما في بغداد ، خلال النزاع بين الأمين والمأمون ، جعل العناصر الحضرية من العلماء والمفكرين والمثقفين والتجار تطغى فتعزّز في بغداد مكانتها وتسود فيها سماتها التي تختلف عما تميّز به الخليفة الجديد من الروح العسكرية والبعد عن الحياة الفكرية.

قبل أهل بغداد تولّي المعتصم الخلافة ، ولم يظهروا اعتراضا عليها على الرغم من أن الطريقة التي اتّبعت فيها تكوّن ثلما في العلاقة بينهم وبين الخليفة الجديد الذي أسرع بالعودة مع جيشه إلى بغداد ولم يحدث تبديلات أساسية في الإدارة والأحوال. وعند ما وصل بغداد كان أول عمل قام به معالجة خطر الزّطّ الذين كانوا يعيثون منذ زمن المأمون في بطائح جنوب العراق ويعرقلون اتصال

٣٩

بغداد بالبصرة وتجارتها. فأرسل حملة بقيادة عجيف بن عنبسة الذي قضى خمس سنوات أفلح بعدها في القضاء على ثورتهم وعيشتهم. ثم نفّذ حملة أخرى بقيادة الأفشين للقضاء على بابك الخرمي الذي أعلن العصيان في أذربيجان ؛ وبذل المعتصم لهذا الجيش الأموال ، واستطاع الأفشين القضاء عليه بعد جهود مضنية دامت ثلاث سنوات (١).

الجيش في بغداد

كان الخلفاء العباسيون الأوائل يعتمدون على قوة عسكرية عظيمة في بغداد تدين بالولاء للخليفة فتثبت سلطانه وتدعم هيبته عند أهلها ؛ ولكن هذه القوة تفكّكت في القتال بين الأمين والمأمون ، وصار اعتماد الأمين في الدفاع عن بغداد على أهلها الذين دافعوا ببسالة عن مدينتهم ولم يتضعضعوا إلا بعد أن فرض طاهر بن الحسين حصارا اقتصاديا قويّا ؛ فلما استسلمت بغداد للمأمون لم تعد فيها قوة عسكرية يعتمد عليها ، ولم يكن بالإمكان سحب مقاتلة الثغور من حدود دولة الروم لأن ذلك يعرّض حدود الدولة إلى أخطار تجاوزات الروم عليها ؛ وكانت هذه القوات قد توجهت لقتال أعداء الدولة وليس للمشاركة في النزاعات الداخلية.

لم يؤمّن طاهر بن الحسين ، بعد سيطرته على بغداد ، ولاء أهلها للمأمون ؛ وكانت لبعضهم مكانة يحاولون السيادة على بغداد وأطرافها مستغلين ضعف القوة التي يستند إليها الولاة ، وتدنّي هيبتهم. فلما عاد المأمون إلى بغداد ، بعد أربع سنوات من القضاء على الأمين ، تابع سياسة «لمّ الشمل» ، وجلب رضى الناس ، فأعاد لباس السواد ، وهو شعار العباسيين ، ولم يضطهد من عمل في مناوأته ، وإنما تسامح معهم ، وحاول تقريبهم إليه وكسب رضاهم.

ولكن المأمون كان يدرك أن السياسة السلمية لا تكفي وحدها لتثبيت هيبة الخليفة وسلطانه ، وأنه كان لا بدّ له من قوة عسكرية بتصرّفه تقيم في بغداد

__________________

(١) انظر عن هذه الحركة كتاب البابكية لحسين قاسم العزيز الذي رغم غزارة مادته ، فإنه يبالغ في السمة القومية المحلية لحركة بابك ؛ وانظر عن جهودها العسكرية ما كتبه الطبري في تاريخه.

٤٠