سامرّاء دراسة في النشاة والبنية السكانية

د. صالح أحمد العلي

سامرّاء دراسة في النشاة والبنية السكانية

المؤلف:

د. صالح أحمد العلي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٠

١
٢

٣
٤

تقديم

أنشئت سامرّاء (١) في أواخر الربع الأول من القرن الثالث الهجري ، وظلت مركزا لإقامة الخلفاء العباسيين قرابة خمسين سنة عاد بعدها الخلفاء إلى بغداد.

وكان الدافع الرئيسي لإنشائها الابتعاد عن الأجواء التي سادت بغداد وباعدت أهلها عن تأييد الخلافة العباسية. واستهدف المعتصم من إنشائها تأسيس مدينة متكاملة في تكوينها لإقامة الخليفة وجنده وحاشيته ومؤسساته الإدارية ، ولتكون مركزا حضريا تنشط فيه الحياة الاقتصادية والحضارية والفكرية التي تقدمت إبّان هذه الحقبة وأثرت في تكوين بغداد السكاني دون أن يقضي عليها أو يخمدها.

ولم يكن المعتصم أول خليفة ينقل مقامه من بغداد ، فقد فعل ذلك من قبله الرشيد والمأمون ، فأما الرشيد فإنه خلال أيامه التي دامت عشرين سنة لم يمض منها ببغداد سوى ثماني سنوات ، وقضى أربع سنوات في التنقل ، واستقر خلال السنوات الثماني الأخيرة من خلافته في الرقة. وأما المأمون فأنه بعد أن صفت له الخلافة قضى السنوات الأربع الأولى في خراسان ، ثم قضى السنوات الأربع الأخيرة من خلافته متنقلا بين دمشق ومصر والثغور.

اختار الخليفة العباسي المعتصم موقع سامرّاء في رقعة غير مأهولة بالسكان وأشرف على تخطيطها وبناء قصورها ؛ وجلب إليها من المتصلين به ومن يقوم بالخدمات لهم ، وكان الجند منذ تأسيسها العنصر المتميز في عددهم ومكانتهم وتأثيرهم في توجيه تخطيطها ؛ إلا أنها كانت أيضا مركزا للإدارة والحياة المدنية ، فهي شأن الأمصار العربية الأولى ، البصرة والكوفة وحتى بغداد ، لم

__________________

(*) بالعودة إلى «معجم البلدان» لياقوت الحموي ، يتبيّن أن لاسم هذه المدينة وجهين هما : «سامرّاء» ، بمدّ الألف ، و «سامرّا» ، بقصر الألف. ولأن الوجه الأوّل هو الأكثر شيوعا ، فقد اخترناه واعتمدناه في الكتاب كله (المراجع).

٥

تكن مجرد «ثكنة عسكرية» ، وإنما سرعان ما تنامت فيها الحياة الحضرية وما تحويه من نشاطات اقتصادية وفكرية.

تظهر حصيلة المعلومات المستمدة من المصادر المعتمدة صورة عامة تختلف في كثير من مظاهرها عما ساد أفكار الناس. فالمعتصم لم يكن أول خليفة عزف عن جعل بغداد مقر إقامته الدائم ؛ وانحراف أهل بغداد لم يبدأ به وإنما كان قائما قبله ؛ لم تكن له صلة دم بالأتراك ، ولا كان أول من جلبهم ، ولم يكونوا عماد جيشه ، فقد كان بجانبهم أعداد أكبر من الخراسانية والمغاربة العرب وغيرهم ؛ وأسكن أكثر الأتراك في أطراف سامرّاء وليس في قلبها ، وفرّقهم في السكن ، ولم يكن لهم أو لرؤسائهم دور بارز في الحياة السياسية والإدارية إلا بعد مقتل المتوكل وما أعقبه من بروز القادة وما حدث بينهم من مشاحنات ختمت بعودة الخلفاء في مقامهم إلى بغداد ، وكان لهذا الانتقال الأثر الأكبر في تدهور أحوالها.

ذكرت المصادر عن سامرّاء وأهلها معلومات غير قليلة متفرقة ومشتتة ، ولم يفرد لها بحثا غير اليعقوبي في كتابه البلدان الذي صار المعتمد الأول للباحثين المحدثين ، غير أن كتاباته عنها غير مستوعبة وقائمة على ما جاء في نسخة فريدة قد يكون فيها نقص وبعض التشويش.

أوليت سامرّاء في الأزمنة الحديثة اهتماما ملحوظا ، فجرت في آثارها تنقيبات وصفت في عدد غير قليل من الكتب والمقالات ، ونشرت عنها أبحاث كثيرة تصف بعض مخلفاتها الأثرية وبعض جوانب الحياة السياسية والأدبية والفكرية والحضارية ؛ ولكن لم يفرد بحث للتركيب السكاني لأهلها وتنظيماتهم ؛ وهذا الكتاب يعالج هذا الجانب ، ويهدف إلى سدّ هذا الفراغ ، وإذا كانت كثير من الحقائق التي وردت فيه معروفة من قبل ، فإن الصورة العامة التي يقدمها لم تحظ بالعناية الجديرة بها ، وهي إسهام في توضيح أحوال سامرّاء وفي تطور الحياة الحضرية في الإسلام نرجو أن يكون في نشرها توضيح لجوانب كانت مغفلة.

ومن الله التوفيق

٦

الفصل الأول

المصادر

لم يرد ذكر كتاب مفرد لتاريخ سامرّاء (١) غير كتاب بهذا العنوان ذكر من السخاوي أنه ألّفه أبو البركات ونقل عنه الصفدي في كتابه الوافي في الوفيات في ترجمة يونس بن أيوب (٢) ، ولم يصلنا هذا الكتاب ، لذلك فإن اعتمادنا في دراسة تاريخ سامرّاء ، على ما كتب المؤلفون عنها ضمن النطاق العام لدراساتهم ، وتيسيرا للبحث نصنفها إلى كتب البلدانيين ، ومؤلفات التاريخ العام ، وكتب الآداب العامة ، ثم الدراسات الأدبية والتاريخية والأثرية الحديثة.

كتب البلدانيين

ذكر عدد من البلدانيين الذين وصلتنا كتبهم أحوال سامرّاء عندما كانت مركز الخلافة العباسية وبعد انتقالهم منها ، وفي كتاباتهم المقتضبة إشارة إلى بعض خصائصها.

وأقدم من وصلتنا كتاباته عن سامرّاء البلاذري الذي خصّها في كتابه «فتوح البلدان» بصفحة ذكر فيها إنشاءها وبعض معالمها ، ومحاولات بعض الخلفاء العباسيين الأولين نزولها ، ثم محاولات المعتصم بناء مدينة عند القاطول ، ثم اختياره موقع سامرّاء ، وبعض ما بناه ، وتشييد الواثق للهاروني ، وبعض تفاصيل

__________________

(*) بالعودة إلى «معجم البلدان» لياقوت الحموي ، يتبيّن أن لاسم هذه المدينة وجهين هما : «سامرّاء» ، بمدّ الألف ، و «سامرّا» ، بقصر الألف. ولأن الوجه الأوّل هو الأكثر شيوعا ، فقد اخترناه واعتمدناه في الكتاب كله (المراجع).

(١) انظر : علم التاريخ عند المسلمين ٦٣٣.

٧

أبنية المتوكل. وتاريخ الابتداء منها ، والانتقال عنها (١). ويبدو أن النسخة التي طبعها دي غويه من كتاب فتوح البلدان ، وأعاد طبعها رضوان محمد رضوان وصلاح الدين المنجد غير كاملة إذ نقل ياقوت عن البلاذري معلومات عن بعض المعالم العمرانية في سامرّاء ومنطقتها غير موجودة في النسخة المطبوعة ؛ فمن ذلك نقله عن البلاذري «بيعة المطيرة محدثة بنيت في خلافة المأمون ونسبت إلى مطر بن فزارة الشيباني وكان يرى الخوارج» (٢) وقوله «الإيتاخية تعرف بإيتاخ التركي سماها المتوكل المحمدية باسم ابنه محمد المنتصر ، وكانت تعرف أولا بدير أبي صفرة ، وهم قوم من الخوارج ، وهي بقرب سامرّاء» (٣) وقوله «دير الطواويس وهو بسامرّاء بكرخ جدان يشرف عند حده آخر الكرخ على بطن يعرف بالبس فيه زروع ، يتصل بالدور وهو الدور المعروف بدور عربايا ، وهو قديم كان منظرة لذي القرنين ، ويقال لبعض الأكاسرة ، فاتخذه النساطرة ديرا في أيام الفرس» (٤).

تفرد اليعقوبي في كتابه البلدان بذكر تفاصيل عن سامرّاء ، فخصّها باثنتي عشرة صفحة وهي أكثر ما خصص لأي بلد بعد بغداد ، وتميزت معلوماته عنها بالشمول وكانت معتمد الباحثين المحدثين ، ولم تصلنا منه إلا نسخة واحدة طبعها دي غويه مكملة مع كتاب «الأعلاق النفيسة» لابن رسته. ولا نعلم فيما إذا كانت المعلومات الواسعة التي ذكرها كاملة ، إذ لم ينقل من المتأخرين ما كتبه عن سامرّاء غير عبد المنعم الحميري في كتابه «الروض المعطار» حيث نقل صفحات متطابقة مع المطبوع من كتاب «البلدان» وأغفل نقل معلومات أخرى وردت في المطبوع ، وقد نقل الحميري عنه ما كتبه عن القاطول (١٥٠) والجعفري (١٧٧) والجوسق (٨٢) وسامرّاء (٣٠٠).

رتب اليعقوبي معلوماته تبعا لتعاقبها الزمني ، فبدأ بالكلام عن أحوال موقعها ، واهتمام بعض الخلفاء العباسيين بها ، ثم تحدث عن الاهتمام بجلب

__________________

(١) فتوح البلدان ٩٦.

(٢) معجم البلدان ٤ / ٥٦٨.

(٣) م. ن ٤ / ٤٣٠.

(٤) م. ن ٢ / ٣٥.

٨

الأتراك ، واستقرار المعتصم على اختيار موقع سامرّاء ، وإعمار الجانب الشرقي. ثم تحدث عن توسعها في زمن الواثق ، ثم في زمن المتوكل ، وبناء الجعفرية وخططها ، والتوسع الذي حدث فيها زمن المعتمد. وشمل بحثه القصور ، والشوارع ، والإقطاعات والأسواق. وكان بحثه المعتمد الأول للباحثين المحدثين ، وبخاصة الآثاريين الذين عنوا بآثار القصور. ولم تكتشف حتى اليوم من كتاب اليعقوبي مخطوطة أو مقتبس عن سامرّاء يضيف أو يعدل ما جاء في المطبوعة علما بأن ما جاء فيها لا يحجب حقيقة أنها غير مستوعبة. أشار المقدسي إلى أحوالها في أيام عز إعمارها ، ثم أفاض في وصف جامعها ومنارتها وأساطين المجامع ، وإلى تدهور أحوالها ؛ وتفرّد بالكلام عن الكعبة التي ادّعى أن المتوكل بناها ليحج إليها الناس.

وخصّ الاصطخري في كتابه «المسالك» سامرّاء بثلاثة أسطر ذكر فيها ما بناه كل من المعتصم والمتوكل وقال «إن العمران في غربي دجلة قليل وإن العمارة منه ما يحاذي سامرّاء أميالا يسيرة ، والباقي بادية» (١). وكلامه أكثر انطباقا على المنطقة ، وليس على المدينة. وأفرد ابن الفقيه تسع صفحات لسامرّاء (١٤٣ ـ ١٥١) ذكر فيها أقوالا للشعبي ولإبراهيم بن الجنيد ، ومحاولة الخلفاء العباسيين الأوائل اختيار منطقتها لتشييد عاصمة لهم. ثم ذكر ما شيده كل من المعتصم ، والمتوكل من قصور فيها ، وذكر أشعارا في مدحها ، وذكر معلومات عن النهر الذي عمله المتوكل لإدخال الماء إلى المسجد الجامع وشوارع سامرّاء ، والجسر (٢) وتفرّد بذكر هذا النهر وبالقصور التي شيدها المعتصم بقربها. وذكر الشابشتي وصفا لبعض قصور سامرّاء وما شيده المتوكل ، وبعض الأديرة التي بقربها. وأعمالها وضياعها مضمحلة ، قد تجمع أهل كل ناحية منها إلى مكان لهم به مسجد جامع وحاكم وناظر في أمورهم وصاحب معونة يصرفهم في مصالحهم. وكانت مدينة استحدثها أبو إسحاق المعتصم بن الرشيد ، طولها سبعة فراسخ على شرقي دجلة ، وكان شرب أهلها منها ، وليس

__________________

(١) المسالك ٨٥.

(٢) البلدان ٤٢ ـ ٥١ (مخطوطة شهد).

٩

بنواحيها ماء يجري إلا أنهار القاطول التي تصبّ بالبعد منها إلى سواد بغداد. وعمارتها ومياهها وأشجارها في الجانب الغربي بحذائها ممتدة ، والمواضع التي ذكرتها مدادا هي مدن قائمة بينها كدور العرباي والكرخ ودور الخرب وصينية سر من رأى نفسها في وسطها ، ومن أول ذلك الى آخره عند دور الخرب نحو مرحلة لا ينقطع بناؤها ولا تخفى آثارها ، وهي إسلامية ، ولما ابتدأ بناءها المعتصم استتمه المتوكل ، وهواؤها وثمارها أصح من ثمار بغداد وهوائها ولها نخيل وكروم وغلات يحمل إلى مدينة السلام. وهي الآن خراب أكثرها (١) ، وكلامه عن تجمع النواحي ومساجدهم الجامعة وإدارتهم قد ينطبق على بعض المستوطنات حولها كالقادسية والمطيرة والماحوزة والدور. ونقل أبو الفدا عن العزيز المهلبي أن سامرّاء على شاطىء دجلة الشرقي ، وهو بلد صحيح الهواء والتربة ، قال وليس فيها عامر اليوم سوى مقدار يسير كالقرية ، «ونقل عن ابن سعيد بناها المعتصم وأضاف إليها الواثق المدينة الهارونية ، والمتوكل المدينة الجعفرية فعظم قدرها» (٢). وفي هذا النص إبراز لأهمية الهارونية ، غير أن كلامه من حيث العموم مقتضب ، ولا يشير إلى من سكنها من الناس. خصّ ياقوت سامرّاء بفصل طويل ذكر فيه اشتقاق اسمها وتحديد موقعها وقدمها ، ومحاولات السفاح والمنصور اتخاذها عاصمة لهما ، ووضع الأتراك في بغداد ، ثم نقل ما ذكره المقدسي ، وقصورها وكلفتها ، وقصائد في أحوالها وذكر أنها خربت فلم يبق منها إلا موضع المشهد الذي ترى الشيعة أن به سرداب القائم المهدي ومحلة أخرى بعيدة منها يقال لها كرخ سامرّاء ، وسائر ذلك خراب يباب يستوحش الناظر إليها.

ونقل عن العزيزي للمهلبي قوله «وأنا اجتزت بسر من رأى منذ صلاة الصبح في شارع واحد ماد عليه من جانبيه دور كأن اليد رفعت عنها للوقت لم تعدم إلا الأبواب والسقوف ، فأما حيطانها فكالجديد ، فما زلنا نسير إلى بعد الظهر حتى انتهينا إلى العمارة منها ، وهي مقدار قرية يسيرة من وسطها ثم سرنا

__________________

(١) صورة الأرض ٢١٨.

(٢) تقويم البلدان ٣٠١.

١٠

من الغد على مثل تلك الحال فما خرجنا من آثار البناء إلى نحو الظهر». ثم ذكر في مدحها أبياتا وأقوالا لابن المعتز يذكر مزاياها على بغداد (١).

كتب التاريخ العام

في كتب التاريخ العام التي تبحث الأحوال السياسية مرتبة تبعا لتعاقبها الزمني معلومات عن سامرّاء وأهلها ، وإشارات إلى بعض المعالم العمرانية فيها ، وبخاصة في زمن المعتصم الذي شيدها ، وإلى الأحداث التي تلت مقتل المتوكل إلى انتقال المعتمد منها إلى بغداد ، حيث تعرضت الأحوال السياسية إلى اضطرابات ذكر خلالها عددا من معالمها العمرانية وتركيب سكانها وبعض أحوالها ، ومن هذه الكتب عدد ألّف بعيد هذه الأحداث ، وأبرزها كتابا تاريخ اليعقوبي ومروج الذهب للمسعودي اللذين أورد كل منهما معلومات مقتضبة قيّمة تكمل ما ورد في الكتب المفصلة.

ولابدّ من أن يكون في الجزء الأول من كتاب «الأوراق» للصولي معلومات مغنية إذا حكمنا عليها بما أورده في الجزءين التاليين المتوافرين لدينا. غير أن المخطوطة الفريدة التي في لينينغراد لم تنشر ولم يتيسر الاطلاع عليها.

ولتاريخ الطبري مكانة في دراسة معالم سامرّاء وأهلها ولابد من أن الطبري قد شهد بعض أحداثها المتأخرة ، كما تابع أحوالها منذ بنائها ، وقدّم تفاصيل واسعة عن كثير من الأحداث التي مرت بها ذكر خلالها تفاصيل متفرقة عن كثير من معالمها العمرانية وتركيب سكانها وأحوالهم ومواقفهم. فكتابه يوازي ، إن لم يفق ، في أهميته كتاب : البلدان لليعقوبي في هذا المضمار.

وكتب الجاحظ رسالة طويلة عنوانها : «مناقب الأتراك» وصف فيها تركيب الجيش العباسي في زمنه ، وعرض لخصائص مجموعاتها ، وخصّ الترك فيها بأربع صفحات ذكر فيها ما تميزوا به ، ومعلوماتها قيّمة ، علما بأنها لا تزيد على ثمن الرسالة.

__________________

(١) معجم البلدان ٣ / ١٤ ـ ٢٤.

١١

كتب الآداب العامة

شهدت سامرّاء إبّان مقام الخلفاء العباسيين فيها الكثير من الشعراء والأدباء وأهل الفكر والعلم ومن أبرزهم الجاحظ والبحتري وأبو تمام والكندي وبنو موسى بن شاكر وعدد من الأطباء ، واطلع كثير منهم على الأحداث ، وشارك بعضهم فيها ، وفي كتاباتهم وتراجمهم معلومات متفرقة غنية عن سامرّاء وأهلها وصلنا كثير منها في المؤلفات التي عنيت بالتراجم وأبرزها «معجم الأدباء» لياقوت الحموي ، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان : و «نثر الدر» للآبي ، و «الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني.

الدراسات الحديثة

نشرت في الأزمنة الحديثة دراسات كثيرة تاريخية وآثارية عن سامرّاء وأهلها ، فأما الدراسات التاريخية فقد عني أكثرها بدراسة الترك وشمل بعضها ما يتصل بأهل سامرّاء ؛ وفي طليعة هذه الدراسات كتابا بارثولد «تركستان حتى العهد المغولي» و «الترك في أواسط آسيا» وكلا الكتابين منقول إلى العربية.

ونشر ريتشارد فراي مقالا عن الترك في الشرق الأوسط قبل «السلاجقة» طبع سنة ١٩٤٣ في مجلة مدرسة اللغات الشرقية في لندن وعن «الترك في خراسان» نشر في مجلة «العالم الإسلامي» سنة ١٩٤٥.

ونشرت كرونا «عبيد على الخيل» وبابيس عن «الجند الرقيق من الإسلام» وتطرقت هذه المؤلفات إلى الأتراك في سامرّاء.

ونشر الدكتور فاروق عمر فوزي سنة ١٩٧٤ كتابا عن «الخلافة العباسية في عصر الفوضى العسكرية» وصف فيه الأحداث التي أسهم فيها العسكر في سامرّاء وبغداد بعد مقتل المتوكل وامتدت خمسا وعشرين سنة انتهت بانتقال مقام الخلافة إلى بغداد.

١٢

ونشر الدكتور يونس السامرّائي كتابا في ثلاثة مجلدات عن الحياة الأدبية في سامرّاء. كما وضعت دراسات لم تنشر تتصل بالحياة في سامرّاء ؛ أبرزها رسالة بهجت كامل عن المتوكل وعصره ولبيد إبراهيم عن الترك.

وأبرز الكتب في هذا الميدان ما ألّفه هرز فيلد وأحمد سوسة وأحمد عبد الباقي. فأما هرز فيلد فقد عرض في كتابه «تاريخ سامرّاء» معالم المنطقة ، وخطط سامرّاء وبعض أعمال الخلفاء فيها ؛ ويضم بحثه معلومات غنية واسعة مستمدة من مصادر التاريخ والآداب العربية ، ومن بعض الآثار.

وبحث أحمد سوسة في الجزء الأول من كتابه «سامرّاء في عهد الخلافة العباسية» ١٩٤٨ ؛ موقع سامرّاء ، ومعالمها الأثرية والقاطول الكسروي ، ومنشآت المتوكل ، واستوعب المادة في كتب التاريخ مع تحقيقات ميدانية معززة بخرائط مفصلة.

ونشر أحمد عبد الباقي سنة ١٩٨٩ كتاب تاريخ سامرّاء في مجلدين بحث فيه تاريخ الخلفاء فيها ، ومعالمها العمرانية ، والحياة الإدارية والفكرية فيها ، وأفاد في نشره عن آثارها مع إضافة ملاحظات قيّمة عن عدد من الآثاريين بمعالم سامرّاء الآثارية التي لاقت اهتماما منهم يفوق ما لاقته أيّ مدينة عراقية أخرى ، ومن أوائلهم فيوليه الذي زار المنطقة ودرس بعض أطلالها ، ووضع سنة ١٩١١ دراسة عن قصر المعتصم نشرها في «مذكرات علماء والرسائل الجميلة» ؛ وكتب فازلييف سنة ١٩٠٩ بحثا وصف فيه قصر المعتصم. وقامت البعثة الألمانية بدراسات ميدانية واسعة عن أطلال سامرّاء وآثار معالمها العمرانية ، ونشرت ثمار دراستها في عدة مجلدات ضخمة ، ونشر هرز فيلد دراسة عن سامرّاء ، وتلاها فصول كتبها في مؤلّف «رحلة آثارية في منطقة الفرات ودجلة» صدر سنة ١٩١١ ، ثم أعقبه بدراسة أولية عن قصر بلكوارا ، وقصر العاشق سنة ١٩١٢ ، ثم بمقال مختصر عن سامرّاء نشره في الجزء الخامس من مجلة «الإسلام» سنة ١٩١٤ ثم دراسات عن زخارف سامرّاء وبعض معالمها الأثرية (برلين ١٩٢٣) وتحدثنا أعلاه عن كتابه تاريخ سامرّاء ، ونقلت مخلفاته العلمية إلى متحف بيبودي في أمريكا ومنها خارطة لم تنشر عن معالم سامرّاء العمرانية.

١٣

ونشر الأستاذ كوهنل كتابا عن سامرّاء والفنون الإسلامية (برلين ١٩٣٩) وكتب روجرز فصلا عن سامرّاء نشره ضمن كتاب «المدينة الإسلامية» سنة ١٩٧٠ عرض فيه ملاحظات قيّمة عن سامرّاء.

ومن أحدث المعنيين بدراسة سامرّاء الآثاري البريطاني السر نورثج الذي درس عددا من معالم سامرّاء العمرانية مستعينا بتصاوير جوية حديثة ، ونشر ثمار بعض أبحاثه في مقالات ، منها تقرير عام عن سامرّاء ومعالم منطقتها (١٩٨٣). ودراسة عن جامع أبي دلف نشرها في مجلةIrag سنة ١٩٨٥ ، ١٩٨٦ ؛ وأخرى عن حلبة الخيل نشرها في مجلة مدرسة اللغات الشرقية والأفريقية في لندن سنة ١٩٩٥ ؛ كما نشر سنة ١٩٩٠ بحثا عن القادسية وأنهارها ، ثم بحثا عن الاصطبلات نشره سنة ١٩٩٢ في مجلة الأركيولوجيا الإسلامية ، وبحثا عن قصر الخاقاني نشره في مجلة الفنون الشرقية سنة ١٩٩٣ ، وبحثا عن سامرّاء نشره في الحلقة الدراسية الشرقية في جامعة برنارد كارل من توبنجن سنة ١٩٩٠ ، وأكثر أبحاثه معززة بخرائط معتمدة على المسح الجوي ، كانت معتمدنا في الخرائط المنشورة في هذا الكتاب.

وقامت مديرية الآثار العامة بدراسات ميدانية لبعض معالمها ، ونشرت تقريرا عن حفريات سامرّاء سنة ١٩٤٠ ؛ وكتابا عن سامرّاء أصدرته في السنة نفسها ، وكتب ناجي الأصيل بحثا عن سامرّاء نشره في مجلة الأندلس ١٩٤٧ وآخر نشره في سومر ١٩٤٧ ؛ كما نشر حافظ الجنابي دراسة نشرها في سومر ١٩٨٠ ونشرت مجلة سومر في أعداد متفرقة من ثمار الدراسات الميدانية لآثار سامرّاء.

لقد راعت الدراسة التي نقدمها في هذا الكتاب المعلومات التي أوردتها المصادر الأدبية والدراسات الآثارية الحديثة إلا أنها ركزت على الأحوال السكانية وأسس الحياة الحضرية ومظاهرها ؛ وهي تبدأ بمقدمة عن سمات المعتصم وتوجهاته ، ثم وصف عام للمكان الذي اختاره لتشييد عاصمته ثم عن قصور الخلفاء وأصحاب المكانة والجاه ، يتلو ذلك أبحاث عن التركيب العرقي

١٤

لأهل سامرّاء ، ومناطق سكن كل مجموعة ، وأحوالها الاجتماعية والمعاشية وهي محاولة لتوضيح مظاهر وتطور الحياة الحضرية وأسس الأحوال العمرانية والاقتصادية مما لم يلق من الباحثين ما يستحقه من اهتمام على الرغم من سعة أثره باعتباره أساس هذه الأحوال.

١٥
١٦

الفصل الثاني

المأمون وأهل بغداد

بغداد قبل خلافة المأمون :

حرص الخلفاء العباسيون الأوائل على تثبيت السلم والأمن في بغداد بعد تأسيسها فازدهرت فيها الحياة الاقتصادية والفكرية. وتزايد سكانها بمن أمّها وأقبل على الإقامة فيها ، وكوّن قرب السكن والمصالح المادية والفكرية تعاونا في الحياة والتعايش وتوثيق الروابط بينهم دون أن يضعضعها تعدّد التيارات الاجتماعية والفكرية التي ظهرت فيها وزادت في حيويتها وتقدير الناس لأهميتها في ازدهارهم وتقدّمهم (١).

وكان النزاع بين الأمين والمأمون الذي امتد سنوات وأدّى إلى حرب طاحنة وحصار شديد قد أحدث رجة واسعة وعميقة في حياة أهل بغداد. وقد اعتمد المأمون في محاولته الانتصار على قوات من خراسان الذين كانوا عماد ثورة العباسيين ونجاحهم في القضاء على الدولة الأموية وإقامة خلافتهم وتأمين السلم في بغداد وإعادة التماسك في وحدة الدولة. ولكن القوات التي أرسلها المأمون كانت تتحدى مكانة بغداد المتميزة. وقد أفلح المأمون في تحطيم الجيش الذي كان يدافع عن الأمين وخلافته ، ولكن أهل بغداد عوضوا عن هذا الفراغ عسكريا بقيام القادرين على القتال من أبناء الشعب ومن غير الجند بالدفاع عن مدينتهم ، فلم يفلح طاهر بن الحسين بجيشه المدرب المنتصر في أن يخترق حصار بغداد التي صمدت أكثر من سنة ، ولم ينهر دفاع أهلها إلا بعد

__________________

(١) انظر كتابنا «بغداد مدينة السلام» وبخاصة الجزء الثاني.

١٧

التخلخل الذي أصابهم جراء الحصار الاقتصادي وتخاذل عدد من ذوي المصالح المادية في بغداد.

موقف أهل بغداد من انتصار المأمون :

أظهر مقتل الأمين وانتصار جيوش المأمون قضايا متعددة يتجلى منها نفور أهل بغداد من انتصار المأمون الذي أدى إلى تفكك الجيش الذي كان يحفظ الأمن والنظام في بغداد. وقويت بتفككه «المليشيات» الشعبية في بغداد ، فتحدّت السلطة ، وعبثت بهيمنتها ، وتولت تأمين إدامة الحياة لأهل بغداد ، وانقسمت الأسرة العباسية فأيد فريق منها إبراهيم بن المهدي الذي نادى بنفسه خليفة فيها ، واضطرب الأمن خارج بغداد ، فثار عدد من الطامحين ومن أبرزهم أبو السرايا العلوي ، واعتمد في ثورته على أهل الكوفة الذين كانت لهم منذ القدم ميول علوية ، ولابدّ أن استياءهم زاد بنمو بغداد التي أصبحت مركز الخلافة والمكان الذي يهيمن رجاله على شؤون الدولة وتنصب فيه الجبايات.

ولابدّ أن هذه الأحوال أضعفت سيطرة الدولة على الريف وقادت إلى تفكك النظام فيه وتدهور الزراعة ، مما أدى إلى تناقص الجبايات التي تعتمد عليها الدولة في إعاشة رجالها وجندها.

أدرك المأمون أهمية بغداد ومكانتها المثبتة في الدولة ، وأدرك أن لباس الخضرة وتعيين عليّ الرضا وليا للعهد زاد من استياء بغداد التي فهم أهلها منهما أن المأمون معتزم السير على سياسة تخالف ما ألفه أهل بغداد واعتبروه جزءا من سماتهم المميزة ، فترك لباس الخضرة وعاد إلى لبس السواد ، وبذلك أضعف الأسس التي استند إليها المعارضون في تمردهم على المأمون ، ولم يتماد في اتّباع هذه السياسة المتحدية لمشاعر أهل بغداد ، وإنما عمل على تبديلها ، فقتل الفضل بن سهل الذي كان ذا ميول فارسية ويدفع المأمون إلى الأخذ بها. وتوفي علي الرضا. وانتقل المأمون إلى بغداد فدخلها سنة ٢٠٤ وأعاد لبس السواد ، وتغاضى عمن وقف ضده من أهل بغداد ، وعمل على لمّ شمل العباسيين ورجالهم ، وقرب العلماء وأهل الفكر ، وخفف الخراج عن الريف ، فجعله خمس المحصول بعد أن كان نصفه ، وأعاد نظام الجباية

١٨

والدواوين بعد احتراق السجلات ، وأرسل حملات لقمع حركات الخوارج في الجزيرة ، وحركات التمرد في بلاد الشام ومصر ، وبذلك عاد الاستقرار نسبيا إلى بغداد ، واطمأن أهلها ؛ ولكن هذا الاطمئنان لم يكن تاما ، فقد ظل فريق كبير لا يؤيده بمن في ذلك بعض كبار رجال الأسرة العباسية ممن كانوا يدعون إلى خلافة إبراهيم المهدي الذي كان ممن أيده ابن عائشة ، وهو من أحفاد إبراهيم الإمام ، كما أيده محمد بن إبراهيم الأفريقي ومالك بن شاهين ومؤيدوهم. وقد حاولوا إثارة الاضطراب وقاموا بإحراق بعض الأسواق ، فعلم المأمون بحركتهم وأعدم البغواري وسجن رؤساءهم ، ولكنه لم يعرض المؤيدين من القواد وغيرهم.

وكان كثير من أهل الحديث لا يؤيدون المأمون ، مما حمله في أواخر حكمه إلى مناصرة المعتزلة ، وعبّر عن ذلك بكتب أرسلها من دمشق إلى واليه على بغداد بإلزام الناس ، وفيهم كثير من المحدثين ، على القول بخلق القرآن (١).

ثم سار المأمون إلى بلاد الشام ومصر ، فدخل دمشق ثم الفسطاط ليؤصل أهلها ويمكّن الثقة في نفوسهم.

غير أن الاستقرار لم يكن استقرارا تاما ، فكانت الروم تهدد أطراف الدولة الشمالية ، وبابك يهيمن على المناطق الجبلية في أذربيجان ويتعاون مع الروم ، وكان الزط يعيثون بالأمن في جنوب العراق. فاهتم المأمون بأمر الروم وقاد بنفسه جيشا لقتالهم فأرهبهم تقدّمه ، ولكن المنية عاجلته قبل أن يحرز انتصارا حاسما عليهم.

وكان المأمون بعد وفاة علي الرضا قد أغفل معالجة مشكلة ولاية العهد التي كانت مصدر قلق يهدد تماسك الأسرة العباسية ، فلما شعر بدنو أجله عمل على معالجة هذه القضية ، وأعلن تعيينه لولاية العهد أخاه المعتصم ، على أن يتلوه ابنه العباس.

__________________

(١) أوسع وأقدم الكتب عن أعمال المأمون وأحواله ببغداد هو كتاب «بغداد» لطيفور الذي طبع منه الجزء المتعلق بسنوات مجيء المأمون بغداد إلى وفاته ويتلوه في الأهمية ما كتبه الطبري في تاريخه.

١٩

المأمون نشأته وتوجهاته :

المأمون أكبر أولاد هارون الرشيد ولد في قصر الخلد في بغداد سنة ١٧٠ (١) من أم اسمها مراجل وهي بادغيسية ، وبعد ستة أشهر من السنة نفسها ولد أخوه محمد الأمين من زبيدة. وفي سنة ١٧٥ جعل الرشيد ابنه محمدا وليّ عهده (٢) ، وكان عمره آنذاك خمس سنوات ، وفي سنة ١٨٣ جعل ابنه المأمون وليّ عهد ثانيا يتلو الأمين ، وكتب بذلك كتابا علق نسخة منه على الكعبة توكيدا لوجوب احترامه ، وجعل في هذا الكتاب للمأمون السلطة على خراسان ثغورها وكورها وأجنادها وطرازها وبيوت أموالها وصدقاتها وعشورها ، من حدّ همدان إلى آخر المشرق (٣).

وقد اتخذ المأمون مقر إقامته في مرو ، وهي قاعدة إقليم خراسان الذي استوطنته منذ زمن معاوية جالية من العرب قوامها خمسون ألف مقاتل بعيالاتهم ، فتابعوا الفتوح في أواسط آسيا وضمّوا إليهم أعدادا كبيرة من مقاتلة أهل البلاد ، وتوزعوا على عدد من مدنها ، وحرص العباسيون على نشر دعوتهم بينها. وأفادوا من الانقسامات بين العرب ، فامتدت دعوتهم وأفلحوا في السيطرة عليها والتقدم إلى العراق بعد أن دحروا جيوشا أرسلتها الخلافة الأموية للقضاء على حركتهم.

ولما تطوّر الخلاف بين المأمون وأخيه الخليفة الأمين وحدثت الحرب بينهما اعتمد الأمين على الجيش المقيم في بغداد ، فلما اندحر هذا الجيش وتفكك ، اعتمد على أهل الجانب الغربي الذين أظهروا تماسكا وحمية في الدفاع عن مدينتهم وإفشال المحاولات التي قام بها جيش طاهر بن الحسين للتغلب على مقاومتهم ، وقد شاركت مختلف الفئات بمن فيها «الخراسانيون» المقيمون في بغداد ، في الصمود والإسهام في الدفاع عن مدينتهم ، ولم يرد في

__________________

(١) الطبري ٣ /. ١١٤٠

(٢) م. ن ٣ / ٦١٠ ـ. ٦١١

(٣) م. ن ٣ / ٦٥٤ فما بعد.

٢٠