سامرّاء دراسة في النشاة والبنية السكانية

د. صالح أحمد العلي

سامرّاء دراسة في النشاة والبنية السكانية

المؤلف:

د. صالح أحمد العلي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٠

الفصل الثاني عشر

الخراسانيون

كان الخراسانيون واحدا من الأصناف الخمسة التي ذكر الجاحظ أنّهم يكوّنون الجيش العباسي في زمنه ، بعد تأسيس سامرّاء ، وقد ذكرنا في فصل سابق أصولهم وتكوينهم ودورهم.

قال اليعقوبي : «وجعلت الشوارع لقطائع قواد خراسان وأصحابهم من الجند والشاكرية ومن يمين الشوارع ويسارها يدور فيها منازل الناس كافة» (١). وفي كلامه تعميم غير دقيق ، ولكنه يشير إلى أن أكثر الشوارع الرئيسية تمر بإقطاعات الخراسانيين.

وذكر أيضا عن شارع السريجة وهو الشارع الأعظم الممتد من المطيرة إلى وادي إسحاق بن إبراهيم الذي فيه الدواوين وفي هذا الشارع قطائع قواد خراسان منها قطيعة هاشم بن بانيجور ، وقطيعة عجيف بن عنبسة ، وقطيعة الحسن بن علي المأموني ، وقطيعة هارون بن نعيم ، وقطيعة حزام بن غالب ، وظهر قطيعة حزام الاصطبلات لدواب الخليفة الخاصة والعامة يتولاها حزام ويعقوب أخوه ، ثم موضع الرطابين وسوق الرقيق (٢). وكل هؤلاء شاركوا في قتال بابك ، في هذا الشارع ، كذلك قطائع المغاربة ، والعباسيين ، وعدد من الموظفين.

__________________

(١) البلدان ٢٥٩.

(٢) المصدر نفسه ٢٦٢.

١٦١

وذكر أن الشارع الثاني ، وهو شارع أبي أحمد أوله دار بختيشوع الطبيب التي بناها في أيام المتوكل ، ثم قطائع قواد خراسان وأسبابه من العرب ومن أهل قم وأصبهان وقزوين والجبل وأذربيجان يمنة في الجنوب مما يلي القبلة ، فهو نافذ إلى شارع السريجة الأعظم ، وما كان مما يليه الشمال ظهر القبلة فهو نافذ إلى شارع أبي أحمد (١) ، ويتبين من هذا أن قطائع الخراسانيين كانت تشغل شارعي السريجة وأبي أحمد ، يشاركهم فيها قطائع الكتّاب وعدد من رجال الأسرة العباسية.

إن النصوص التي ذكرها اليعقوبي «قطائع قواد خراسان» لا تذكر قطائع للخراسانيين ، ولعل اليعقوبي كان يقصد أن جند خراسان عند إنشاء سامرّاء كانوا مرتبطين بقوادهم غير أنه لا توجد إشارة إلى تركيب وعدد الجند المرتبط بكل قائد ، ولا مدى امتداد هذا الارتباط واستمراره ، وقد أشار اليعقوبي بصراحة إلى سكن بعض الجند مع قادتهم «قواد خراسان وأصحابهم من الجند والشاكرية».

ذكر اليعقوبي أسماء خمسة من هؤلاء القواد وهم : هاشم بن بانيجور ، وعجيف بن عنبسة ، والحسن بن علي المأموني ، وهارون بن نعيم ، وحزام بن غالب ، لم أجد في الكتب إشارة إلى إبراهيم بن بانيجور ، وحزام بن غالب ، أما الثلاثة الآخرون ، فقد ذكر الطبري معلومات عن بعض أعمالهم ، فهارون بن نعيم بن الوضاح كان قائدا يقاتل الزّنج مع عجيف بن عنبسة زمن المأمون ، وكان يقود خمسة آلاف مقاتل (٢). وهذا العدد يعادل ما كان بإمرة عجيف ، مما يدل على مكانته المتميزة في قيادة جيش العباسيين الذي قضى على تلك الثورة التي عبثت بالأمن وهددت اقتصاد بغداد ، وشارك في الجيش الذي قاده الأفشين وقضى على ثورة بابك (٣).

__________________

(١) البلدان ٢٦١.

(٢) الطبري ٣ / ١١٦٧.

(٣) المصدر نفسه ٣ / ١٠٦٧.

١٦٢

أما الحسن بن علي المأموني فهو منسوب إلى بادغيس ، مما يدل على أن أصله منها ، وكان من رجال المأمون من قبل أن يظهر الخلاف بينه وبين الأمين ، وشارك في الجيش الذي أرسله المأمون بقيادة طاهر بن الحسين لمقاتلة الأمين ، وفي ضم الري إلى المأمون (١) ، وفي السيطرة على سوق الأهواز (٢) ، ثم على المدائن (٣) ، ثم في حصار بغداد (٤) ، وفي إخماد ثورة أبي السرايا (٥) ، وهذه الحوادث جرت قبل بناء سامرّاء بحوالى عشرين سنة ، مما يدل على أنه كان متقدما في السن عندما تأسست سامرّاء.

أما عجيف بن عنبسة فكان من مشيخة الأبناء في خراسان (٦) ، وانضم إلى جيش المأمون عندما كان يخمد ثورة رافع بن الليث ، (٧) وشارك في إخماد ثورة أهل قم (٨) ، وثورة بعض الخوارج ، (٩) وكان من قواد المأمون البارزين عندما غزا الروم (١٠) ، وقاد جيوش الخلافة التي أخمدت ثورة الزّنج في أواخر خلافة المأمون (١١) ، ثم كان من قواد المعتصم عندما توغل في بلاد الروم وفتح عمورية سنة ٢٢٣ (١٢) ، وساند العباس بن المأمون في مؤامرته على المعتصم (١٣) ، فألقي القبض عليه ، ومات بصورة غامضة في باعيناثا (١٤).

__________________

(١) الطبري ٣ / ٧٧٨.

(٢) م. ن ٣ / ٨٥٣.

(٣) م. ن ٣ / ٨٦٠.

(٤) م. ن ٣ / ٩١٧.

(٥) م. ن ٣ / ٨٦.

(٦) م. ن ٣ /

(٧) م. ن ٣ / ٧٣٢.

(٨) م. ن ٣ / ١٠٨٢.

(٩) م. ن ٣ / ١١٠٢.

(١٠) م. ن ٣ / ١١٠٣ ، ١٢٦٤.

(١١) م. ن ٣ / ١١٦٧.

(١٢) م. ن ٣ / ١١٦٧.

(١٣) م. ن ٣ / ١٢٥١ ، ١٢٦٤.

(١٤) م. ن ٣ / ١٢٦٥.

١٦٣

تدل المعلومات عن عجيف أنه كان من الخراسانيين وله دور بارز في الجيش إبّان خلافة المأمون وأوائل خلافة المعتصم ، ولعل بعضها يرجع إلى كثرة عددهم ، ولا بدّ أن مكانتهم تضعضعت باشتراك قوادهم في مؤامرة العباس ابن المأمون لخلع المعتصم.

كانت خطط قواد خراسان في شارع السريجة وشارع أبي أحمد اللذين كانت فيهما دار العامة والقصر الهاروني والدواوين والأسواق ، أي في قلب مدينة سامرّاء ؛ ولم يذكر اليعقوبي أن المعتصم فرض عليهم العزلة في المسكن كالذي فعله مع الأتراك ، ولعل من قطائع الخراسانيين قطيعة الحسن بن سهل وكانت «بين آخر الأسواق ، وكان آخرها الجبل الذي صار فيه خشبة بابك وبين المطيرة موضع قطيعة الأفشين ، وليس في ذلك الموضع يومئذ شيء من العمارات ، ثم أحدقت العمارة به حتى صارت قطيعة الحسن بن سهل وسط سرّ من رأى ، وامتد بناء الناس من كل ناحية ، واتصل البناء بالمطيرة (١)».

ذكر الطبري أسماء رجال من أهل سامرّاء منسوبين إلى بلدان ما وراء النهر ، وممن ذكرهم الحارث السمرقندي قرابة عبد الله بن الوضاح (٢) ، وغطريف الخجندي ، وهرثمة بن النضر الختلي (٣).

وذكر اليعقوبي أن الشارع الرابع فيه قطائع الأتراك «وآخر منازل الأتراك وقطائعهم قطائع الخزر مما يلي المشرق» وهي عند المطيرة (٤).

الفراغنة

ذكر اليعقوبي أن الفراغنة والأشروسنية «من رجال خراسان» (٥) وأن قطائع

__________________

(١) البلدان ٢٥٩.

(٢) الطبري ٣ / ١٢٥٠ ، ١٢٥٦.

(٣) المصدر نفسه ٣ / ١٢٦٧.

(٤) البلدان ٢٦٢.

(٥) المصدر نفسه ٢٦٥.

١٦٤

الأتراك جاورهم الفراغنة والأشروسنية وغيرها من مدن خراسان على قدر قربهم من بلدانهم» (١) وكما ذكر «أن في شارع الحير أخلاطا من الناس من قواد الفراغنة والأشروسنية والأشتاخنجية وغيرهم من سائر كور خراسان» (٢).

وذكر المسعودي «رجال خراسان» من الفراغنة وغيرهم من الأشروسنية (٣).

يتردد في أخبار الحوادث إبّان إقامة الخلفاء العباسيين في سامرّاء ذكر جماعتين متميزتين من أهل بلاد آسيا الوسطى هما الفراغنة ، وكان لكلّ منهما في تلك الحوادث دور ذكره المؤرخون وهو أنهما كانتا جماعات متميزة عن الأتراك علما بأنهما يذكران مع الأتراك والأشروسنية في معظم الحوادث والاضطرابات مما يدل على صلاتهما المشتركة عند إنشاء سامرّاء ثم أصبحتا كتلة متميزة عن الأتراك ، وإن لم تنقض كليا عنها.

كان الفراغنة قد شاركوا في قتال بابك الخرمي ، وعندما حاصره الأفشين ، وجه بشيرا التركي وقوادا من الفراغنة ليبيّتوا بابك في مخبأه (٤). وفي حوادث غزو المعتصم للروم وفتحه عمورية ذكر عمر بن أريحا الفرغاني ، (٥) وكان فيها يقاتل مع عجيف بن عنبسة ، (٦) ومع اأشاس ، (٧) وكان ممن أيد العباس بن المأمون في مؤامرته على المعتصم فقتله المعتصم وفشلت المؤامرة إلا أن أول ذكر للفراغنة كجماعة متميزة ترجع إلى زمن المتوكل ، (٨) الذي جفاهم فعمل المنتصر على اجتلابهم. وفي هذا يقول المسعودي : كان المنتصر لا يبعد المتوكل أحدا إلا اجتذبه ، فاستمال قلوب الأتراك وكثيرا من الفراغنة والأشروسنية (٩) ولا بدّ أن هذا

__________________

(١) البلدان ٢٦٧.

(٢) المصدر نفسه ٢٦٣.

(٣) مروج الذهب ٤ / ٤٦٢.

(٤) الطبري ٣ / ١٢٤٦ ـ ١٢٥٦.

(٥) م. ن ٣ / ١٢٣٢.

(٦) م. ن ٣ / ١٢٦٧.

(٧) م. ن ٣ / ١٢٣٨.

(٨) م. ن ٣ / ١٢٣٤.

(٩) مروج الذهب ٤ / ٥٩.

١٦٥

قوّى عزيمة المنتصر على قتل أبيه المتوكل وأكسبهم في زمنه مكانة لم تذكر المصادر آثارها.

ولما ولي المستعين الخلافة بذّر الأموال هو وأوتامش فاضطرب عطاء الجند. ويبدو أن الأتراك والفراغنة كانوا أكثر تأثّرا بهذا التبذير ، ولعل المستعين لم يقربهم فضعفت مكانتهم التي كانت لهم في زمن المنتصر ، واستغل ذلك وصيف وبغا ، فأغريا الموالي «فتذمرت الأتراك والفراغنة على أوتامش ، وخرج إليه ممّن تبقى من أهل الدور والكرخ فعسكروا وزحفوا إليه وهو في الجوسق» (١). ولا بدّ أن موقف المستعين دفع الفراغنة إلى تأييد المعتز الذي اصطنع المغاربة والفراغنة (٢) ، فلما انتقل المستعين إلى بغداد وتحصّن بها ساندوا المعتز الذي اعتمد عليهم وطلب من كلباتكين التحصن فيها فعسكر بالقاطول في خمسة آلاف من الأتراك والفراغنة وألفين من المغاربة (٣). ثم «وجه المعتز عسكرا من الأتراك والمغاربة والفراغنة ومن هم في عدادهم ، وعلى الأتراك والفراغنة الدرغمان الفرغاني ، وعلى المغاربة ريلة» (٤) ولا بدّ أن وضع القيادة لفرغاني يشير إلى كثرتهم العددية وإلى قوّتهم التي لم تحددها المصادر ، وإلى أن الفراغنة كانوا من أبرز قوات المعتز التي حاصرت بغداد ، (٥) وأنهم احتفظوا بمكانة متميزة في زمن خلافته ، ولما كتب المعتز إلى مزاحم يطلب الإسناد «أجابه الأتراك والفراغنة والمغاربة والشاكرية» (٦).

ولم يؤيد الفراغنة المهتدي وكان الذين ثاروا عليه معتمدين على رجال «ما بين تركي وخزري وفرغاني وغيرهم من علوج الأعاجم» (٧).

__________________

(١) الطبري ٣ / ١٥١٣ ، مروج الذهب ٤ / ٩١.

(٢) مروج الذهب ٤ / ٩١.

(٣) الطبري ٣ / ١٩٥٦.

(٤) م. ن ٣ / ١٥٦٢.

(٥) م. ن ٣ / ١٥٤١ ، ١٥٣.

(٦) م. ن ٣ / ١٦٦٩.

(٧) مروج الذهب ٣٤ / ٩٩.

١٦٦

وآخر ذكر للفراغنة هو عندما شغبوا مع الأتراك والأشروسنة «وطلبوا أرزاقهم لأربعة أشهر» (١).

حدّد اليعقوبي منازل الفراغنة في سامرّاء حيث قال عن شوارعها الخمسة : «والشارع الرابع يعرف بشارع برغامش التركي» ، فيه قطائع الأتراك والفراغنة ودروب الأتراك منفردة ، والفراغنة في الدروب التي في القبلة ، والفراغنة بإزائهم في الدروب التي في ظهر القبلة ، كل درب إزاء درب لا يخالطهم أحد من الناس ، وآخر منازل الأتراك وقطائعهم منازل الحرز مما يلي المشرق ، أوّل هذا الشارع من المطيرة عند قطائع الأشروسنية.

والشارع الخامس يعرف بصالح العباس ، وهو شارع الأسكر فيه قطائع الأتراك والفراغنة ، والأتراك أيضا في دروب منفردة ، ويمتد من المطيرة إلى دار صالح العباسي التي تقع على رأس الوادي ويتصل هذا بقطائع القوّاد والكتّاب والوجوه والناس كافة (٢).

ويقول أيضا شارع الحير في أخلاط من الناس من قواد الفراغنة والأشروسنية وغيرهم من سائر كور خراسان (٣).

تظهر هذه النصوص مدى انتشار خطط الفراغنة ، وأنه يعتبرهم من «كور خراسان» وهم متميزون عن الأتراك غير أنهم يجاورونهم في السكن.

وذكر أن المعتصم «أفرد قطائع الأتراك عن قطائع الناس جميعا ، لا يجاورهم إلا الفراغنة (٤) وصيرت قطائع الأتراك جميعا والفراغنة العجم بعيدة عن الأسواق والزحام في شوارع واسعة ودروب طوال لا يختلط بهم من تاجر ولا غيره» (٥).

__________________

(١) الطبري ٣ / ١٦٨٧.

(٢) البلدان ٢٦٢.

(٣) م. ن ٢٦٣.

(٤) م. ن ٢٥٨.

(٥) م. ن ٢٥٨ ـ ٩.

١٦٧

الأشروسنية :

بدأ في زمن المأمون استخدام الأشروسنية في جيوش الخلافة في بغداد ، فيروي البلاذري أنه لمّا استخلف المأمون أغزى السغد والأشروسنية ومن انتفض من أهل فرغانة. وكان من تسريحه الخيول إليهم يكتابهم بالدعاء إلى الإسلام والطاعة والترغيب فيهما (١). ويذكر أيضا أن كاوس ملك أشروسنة انضم إلى الإسلام وورد مدينة السلام ، وملّكه المأمون على بلاده ، ثم ملّك خيدر ابنه ، وهو الأفشين. وكان المأمون رحمه‌الله يكتب إلى عماله على خراسان في غزو من لم يكن على الطاعة والإسلام من أهل ما وراء النهر من أهل تلك النواحي وأبناء ملوكهم ، ويستميلهم بالرغبة ، فإذا وردوا بابه شرّفهم وأغنى صلاتهم وأرزاقهم. ثم استخلف المعتصم بالله فكان على مثل ذلك حتى صار جلّ عسكره من جند أهل ما وراء النهر من السغد والفراغنة والأشروسنية وأهل الشاش وغيرهم ، وحضر ملوكهم بابه ، وغلب الإسلام على من هناك وصار أهل تلك البلاد يغزون من ورائهم (٢). يتبين من هذا أن الأشروسنية والفراغنة والسغد كانوا أحرارا ولبعضهم مكانة متميزة في بلادهم ، وأنهم جاؤوا طوعا إلى بغداد منذ زمن المأمون بعد أن أسلموا (فشرفهم وأغنى صلاتهم وأرزاقهم) وكانوا مسجلين في الديوان ومرتبطين بالدولة.

ويقول المسعودي إن المعتصم جعل للأتراك مكانة متميزة وجاورهم الفراغنة والأشروسنية وغيرهم من مدن خراسان على قدر قربهم منهم في بلادهم (٣).

والمسعودي في هذا النص يعتبر الفراغنة والأشروسنية من أهل خراسان ، ويشير إلى أقوام أخرى من أهل خراسان نظمت خططهم تبعا لمواقع مدنهم الأصلية على قدر قربهم منهم في بلادهم.

ذكر الأشروسنية كجماعة متميزة في حوادث الشغب على المستعين عند

__________________

(١) فتوح البلدان ٣ / ٤٦٢.

(٢) المصدر نفسه ٤٣٠.

(٣) مروج الذهب ٣ / ٤٦٧.

١٦٨

بيعته ، فلما هاجم المشاغبون دار العامة ، وفيها المستعين شدّ عليهم المغاربة والأشروسنية ، ووافى واجن الأشروسني (١) ، وكان الموالي قد اجتمعوا إلى الهاروني «وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير أوتامش ، فاستحلفوا قواد الأتراك والمغاربة والأشروسنية (٢)».

أيد الأشروسنية المستعين ، فلما قدم الحسن بن الأفشين بغداد ، خلع عليه المستعين وضم إليه من الأشروسنية وغيرهم جماعة كثيرة وزاد في أرزاقهم ستة عشر ألف درهم في كل سنة (٣). ويظهر هذا أن موقفهم يخالف الفراغنة والأتراك الذين أيدوا المعتز ، ولم تشر المصادر إلى مقدار أرزاقهم قبل ذلك ، أو مقدار ما يصيب الفرد من هذه الزيادة غير أنهم شاركوا فيما بعد الأتراك والفراغنة في الشغب وطلبوا أرزاقهم لأربعة أشهر (٤).

إن أبرز رجال الأشروسنية هم : الأفشين وواجن ، وتلقي سيرة الأفشين ضوءا على الأشروسنية ، وقد أجملت المقالة التي كتبها عنه بارتولد وجب في دائرة المعارف الإسلامية أصله ونشأته. فقد جاء في المقالة أن الأفشين لقب للأمراء من أهل أشروسنة التي تقع بين سمرقند وخجندة في المجرى الأدنى لنهر زرفشان ، وهي من بلاد الصغد ، وقد تمّ ضمها إلى بلاد الإسلام على يد الفضل بن يحيى البرمكي سنة ١٧٨ ، ثم في الحملة التي قادها أحمد بن أبي خالد سنة ٢٠٧ ، وانضم على أثرها الأمير خيدر الذي غلب عليه في الكتب العربية اسم الأفشين ، وولاه المعتصم ، إبّان إمارته على مصر في زمن المأمون على برقة ثم على مصر ، وقاد الجيوش الإسلامية التي قضت على تمرد بابك الخرّمي في أذربيجان سنة ٢٢٢ ، ثم شارك في حملة المعتصم على عمورية ثم اتهم باتصال مريب مع المازيار وأعدم في سنة ٢٢٦. لا بدّ أن موت الأفشين أثّر في مكانة الأشروسنيين ، ولكنهم ظلوا عنصرا من عناصر عسكر سامرّاء.

وكانت للحسن بن الأفشين مكانة في سامرّاء فتزوج ابنة أشناس في حفلة فخمة

__________________

(١) الطبري ٣ / ١٥٠٣.

(٢) م. ن ٣ / ١٥٠١.

(٣) م. ن ٣ / ١٥٥٥.

(٤) م. ن ٣ / ١٦٧٨.

١٦٩

ودخل بها في العمري قصر المعتصم (١) ، واحتفظ بمكانته في زمن المتوكل وحبس مدة قصيرة ثم خرج من السجن وساند المستعين في حصار بغداد ، وأوكل إليه الدفاع عن باب الشماسية (٢). أما واجن فقد نسبه الطبري لأشروسنيي الصغد مما يؤيد أن الأشروسنية كانوا متميزين عن الأتراك (٣). وكان من قواد الأفشين ينوب في دار أمير المؤمنين كما ينوب القواد ، وقد أرسل مددا لبغا الذي كان يحارب بني نمير «في سبعمائة رجل من الأشروسنية (٤) ، ولم يشارك في مقتل المتوكل (٥) ، ولكنه علم به ، وحضر بيعة المستعين (٦) ، وشارك في بيعة المهتدي (٧) ، وكان في الجيش الذي أرسله المعتز لحصار المستعين في بغداد.

ذكر اليعقوبي موقع قطائع الأشروسنية فقال : أقطع الأفشين خيدر بن كاوس الأشروسني في آخر البناء مشرقا على قدر فرسخين وسمّى الموضع المطيرة ، فأقطع أصحابه الأشروسنية وغيرهم المضمومين إليه حول داره ، وأمره أن يبني هناك سويقة فيها حوانيت للتجار فيما لا بدّ منه ومساجد وحمّامات (٨). وبناء السويقة لحوانيت التجار في هذه القطائع يجعلها مختلفة عن قطائع الأتراك الذين عزلهم ومنعهم من الاختلاط بالناس ، كما أن قوله إن المطيرة سكنها أيضا من (المضمومين إليه) من غير الأشروسنية يظهر أن الأشروسنية كانوا مختلطين مع غيرهم من البداية ، ولا بدّ أن هذا الاختلاط زاد بعد مقتل الأفشين حيث إن المعتصم أقطع وصيفا دار الأفشين بالمطيرة ، وانتقل وصيف من داره القديمة إلى دار الأفشين ، ولم يزل يسكنها وأصحابه (٩).

__________________

(١) الطبري ٣ / ١٣٠٣.

(٢) م. ن ٣ / ١٥٥٦.

(٣) م. ن ٣ / ١٣٦٢.

(٤) م. ن ٣ / ١٣٠٧.

(٥) م. ن ٣ / ١٤٧٢.

(٦) م. ن ٣ / ١٥٧٢.

(٧) م. ن ٣ / ١٥٧٢.

(٨) البلدان ٢٥٩.

(٩) المصدر نفسه ٢٦٤.

١٧٠

الفصل الثالث عشر

الأتراك ومنازلهم

القطائع

ذكر اليعقوبي ثلاثة تعابير لمنازل الأتراك وقطائعهم في سامرّاء ، هي قطائع مسماة بأسماء أفراد ، وقطائع مسماة بأسماء أفراد وجماعاتهم ، وقطائع مسماة بأسماء جماعات.

فأما القطائع المسماة بأسماء أفراد فقد ذكر منها في شارع أبي أحمد قطيعة لكلّ من بغا الصغير وبغا الكبير ، وسيما الدمشقي ، وبرغامش ، وقطيعة وصيف القديمة ، وإيتاخ ويتصل ذلك بباب البستان (١) ، وهؤلاء من الأتراك ومنهم ثلاثة ممن كان قد اشتراهم في بغداد ، أي لم يجلبهم من أواسط آسيا ، وهم إيتاخ وسيما ووصيف ، إضافة إلى أشناس ؛ ولم يذكر لأيّ منهم جماعة يرأسها.

وذكر في شارع الحير الأول قواد الفراغنة والأشروسنية والأشتاخنجية وغيرهم من سائر كور خراسان (٢) ؛ ولم يذكر من كان معهم من الجماعات التي لعلها لم تكن كبيرة.

أما القطائع التي أقطعت للقواد وأصحابهم فإنه لم يحدد هؤلاء الأصحاب أو عددهم. والراجح أن أكثرها إن لم يكن كلها للأتراك ، فذكر اليعقوبي أنه «أقطع خاقان عرطوج وأصحابه مما يلي الجوسق الخاقاني وأمر بضم أصحابه

__________________

(١) البلدان ٢٥٨.

(٢) المصدر نفسه ٢٦٢.

١٧١

ومنعهم من الاختلاط بالناس (١)». وأقطع وصيفا وأصحابه مما يلي الحير وبنى حائطا وسماه حايط الحير (٢) ؛ وكلا الموقعين قريب من مكائن إقامة الخليفة المعتصم.

وأقطع الأفشين بن خيدر بن كاوس الأشروسني في آخر البناء مشرقا قدر فرسخين وسمّى الموضع المطيرة ، فأقطع أصحابه الأشروسنية وغيرهم من المضمومين اليه حول داره (٣).

ثم أقطع وصيفا دار الأفشين التي بالمطيرة وكان أصحابه ورجاله حوله (٤) ولا يوضح اليعقوبي فيما إذا كانت الأشروسنية بقيت في مكانها بعد انتقال وصيف ، ولابدّ أن انتقال وصيف وجماعته رافقه إعادة تنظيم المطيرة ، حتى لو بقي فيها الأشروسنية.

وبالقرب من المتوكلية وجنوبها كانت الإيتاخية على القاطول عند المحمدية ، وسمّيت بإيتاخ لأنها أقطعت له فيما يظهر (٥) ، وهو من قواد المعتصم البارزين ولم تذكر المصادر ما يرجح بأنه سكنها الأتراك معه. وفي الإيتاخية بنى المتوكل قصرا أنفق عليه عشرة آلاف درهم (٦) ، وأقطع أشناس التركي في آخر البناء مغربا ، وأقطع أصحابه معه وسمّي الموضع الكرخ (٧). وضم إليه عدة من قواد الأتراك والرجال (٨) ، وذكر البلاذري أن المعتصم أنزل أشناس مولاه فيمن ضم إليه من القواد كرخ فيروز. (٩) وأقطع قوما آخرين فوق الكرخ وسماه الدور (١٠) ، ولعلهم كانوا من الأتراك أيضا ، وإن لم ينص على ذلك.

__________________

(١) البلدان ٢٥٨.

(٢) م. ن ٢٥٨.

(٣) م. ن ٢٥٩ ، ٢٦٠.

(٤) م. ن ٢٦٠.

(٥) معجم البلدان ٤ / ٤٣٠.

(٦) المصدر نفسه ٤ / ٧.

(٧) البلدان لليعقوبي ٢٥٩.

(٨) المصدر نفسه ٢٥٨.

(٩) الطبري ٣ / ١٣٢٨ ، فتوح البلدان ٢٩٩.

(١٠) البلدان لليعقوبي ٢٥٦.

١٧٢

وذكر قطائع الأتراك والفراغنة ، ومنها في شارع برغامش التركي وهو الشارع الرابع آخر منازل الأتراك وقطائعهم قطائع الخزر مما يلي المشرق ، وأول هذا الشارع من المطيرة عند قطائع الأفشين (١).

وجعل في شارع صالح العباسي ، وهو شارع الأسكر قطائع الأتراك والفراغنة ؛ الأتراك في دروب منفردة ، والفراغنة في دروب منفردة ممتدة من المطيرة إلى دار صالح العباسي. (٢)

وكلا الشارعين في الأطراف الجنوبية من الإعمار وبالقرب من المطيرة ، ويتبين من هذا السرد أن الغالبية العظمى للأتراك أنزلوا من الأطراف الجنوبية من الإعمار كالمطيرة ؛ وبعضها نائية عنه كالكرخ والدور. ولعل الإيتاخية التي بين الكرخ والمطيرة كان ينزلها الترك.

تنظيم إقامة الأتراك :

أشار اليعقوبي إلى التنظيمات الخاصة التي وضعها المعتصم للأتراك في سامرّاء فقال إن المعتصم (٣) أفرد قطائع الأتراك عن الناس جميعا ، وجعلهم معتزلين عنهم لا يختلطون بقوم من المولدين ولا يجاورهم إلا الفراغنة. (٤) قال : «وصيرت قطائع الأتراك جميعا والفراغنة العجم بعيدة عن الأسواق والزحام ، في شوارع واسعة ودروب طوال ، ليس معهم في قطائعهم ودروبهم أحد من الناس ، لا يختلط بهم من تاجر ولا غيرهم ثم اشترى لهم الجوارة» (٥).

وقال إن المعتصم أقطع أشناس وأصحابه في الكرخ وأمره أن لا يطلق لغريب من تاجر ولا غيره مجاورتهم ، ولا يطلق معاشرة المولّدين. وجعل في

__________________

(١) البلدان لليعقوبي ٢٥٦.

(٢) م. ن ٢٦٢.

(٣) م. ن ٢٦٠.

(٤) م. ن ٢٥٨.

(٥) م. ن ٢٥٩.

١٧٣

موضع سويقة للفاميين والقتّابين ومن اشتبههم ممن لا بدّ لهم منه. وبنى لهم في خلال الدور والقطائع المساجد والحمّامات ، وأمر أشناس أن يبني في المطيرة سويقة فيها حوانيت للتجار ، فيما لا بدّ منه ، ومساجد وحمّامات وليس في ذلك الموضع يومئذ شيء من العمار. (١)

وفي كلام اليعقوبي عن شارع برغامش ، وهو الشارع الرابع من شوارع سامرّاء الستة ذكر أن هذا الشارع فيه قطائع الأتراك والفراغنة ، فدروب الأتراك منفردة ودروب الفراغنة منفردة والأتراك في الدروب التي في القبلة ، والفراغنة بإزائهم بالدروب التي في ظهر القبلة ، كل درب بإزاء درب ، لا يخالطهم أحد من الناس (٢). وعند قطائعهم الخزر مما يلي المشرق ؛ وأول هذا الشارع من المطيرة عند إقطاع الأفشين.

وذكر أن الشارع الخامس يعرف بصالح العباسي ، وهو شارع الأسكر فيه قطائع الأتراك والفراغنة والأتراك أيضا في دروب منفردة ، والفراغنة في دروب منفردة ممتدة من المطيرة ، إلى دار صالح بن العباس التي على رأس الوادي. (٣) إن إفراد قطائع الأتراك عن قطائع الناس وعزلهم عن غيرهم يبرره تحاشي المعتصم تكرار ما حدث في بغداد من احتكاك يثير الناس. ومما ييسر ذلك أن الأتراك لهم لغة خاصة ، مما يبرر عزلهم عن غيرهم من الجند والعامة.

تظهر هذه النصوص أن المعتصم حرص على عدم اختلاط الأتراك بالمولدين ، وألا يتزاوجوا معهم ، وأفرد دروبهم حتى عن الفراغنة. وامتد عزلهم ، فيما ذكر اليعقوبي إلى التزاوج ، فقد «اشترى لهم الجواري فأزوجهم منهن ومنعهم أن يتزوجوا ويتصاهروا إلى أحد من المولدين إلى أن ينشأ لهم الولد ، ويتزوج بعضهن إلى بعض. وأجرى لجواري الأتراك أرزاقا قائمة وأثبت أسماءهن في الدواوين ، فلم يقدر أحد منهم أن يطلّق امرأته ولا يفارقها». (٤)

__________________

(١) البلدان ٢٥٥.

(٢) م. ن ٢٦٢.

(٣) م. ن ٢٥٩.

(٤) م. ن ٢٥٩.

١٧٤

وبهذا القرار عمل على إبقاء تميّزهم العرقي وما يتبعه من مظاهر الحضارة واللغة. ولا بدّ أنه فضل في الجواري اللاتي اشتراهن لهم أن يكنّ من الأتراك أيضا. وهذا عمل متصل بالأحوال الحضارية بالدرجة الأولى. ولم يرد ذكر لعمل للمعتصم يهدف إلى الحفاظ على كفاءتهم القتالية وتدريبهم العسكري.

وهذه التنظيمات لم يرد ذكر لمثلها أو لما يشبهها في أي مكان آخر في تاريخ الإسلام ونظمه ، وهي لا تنسجم مع أحكام التشريع الإسلامي إلا على الرقيق ، فكأنه ينفّذ ذلك عليهم باعتبارهم ونسلهم رقيقا ، ولا نعلم مدى تطبيقها على رقيق وغلمان الآخرين ، علما بأنها تتطلّب تنظيمات خاصة في سجلات الدواوين ، وأنها كانت مكلفة ماديا ؛ ولم تذكر المصادر تطبيقها على غير الأتراك ، ولعل بعض المبرر لذلك أن أصلهم رقيق ، وأن عددهم غير كبير.

وأمر أشناس التركي الذي أقطع الكرخ «أن لا يطلق لغريب من تاجر وغيره مجاورتهم ويطلق معاشرة المولدين» وأمره أن يبني المساجد والأسواق.

وجعل في شارع الأسكر ، وهو شارع صالح العباسي «قطائع الأتراك في دروب منفردة ، والفراغنة في دروب منفردة ، ممتدة من المطيرة إلى شارع صالح العباسي».

تنظيم الأتراك وعطاؤهم :

ورد أول ذكر لتنظيم الأتراك وعطائهم في زمن المتوكل الذي لما بويع «أمر للأتراك برزق أربعة أشهر ، وللجند والشاكرية ومن يجري مجراهم من الهاشميين برزق ثمانية أشهر ، وأمر للمغاربة برزق ثلاثة أشهر» (١). ولا ريب في أنه أعطاهم في هذا الحد الأعلى المرضي لهم في هذه المناسبة التي تستحق التكريم لإرضائهم. إلا أن المصادر لم تذكر ما كان يعطى لهم قبل ذلك.

وذكر الطبري أن المستعين قال للأتراك الذين زحفوا إليه وهو في الجوسق : «ألم ترفعوا إليّ في أولادكم ، فألحقتهم بكم ، وهم نحو من ألفي غلام ، وفي

__________________

(١) الطبري ٣ / ١٣٧٠.

١٧٥

بناتكم فأمرت بتصييرهن في عداد المتزوجات ، وهن نحو من أربعة آلاف امراة في المدركين والمولودين ، وكل هذا قد أجبتكم إليه ، وأدررت لكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضة ، ومنعت نفسي لذّتها وشهوتها ، كل ذلك إرادة لصلاحكم ورضاكم ، وانتم تزدادون بغيا وفسادا وتهددا وإبعادا». (١)

إن هذا النص يذكر «الأتراك» إطلاقا ، فكأنه يشير إلى كافتهم ، وليس إلى جماعة محدودة منهم ، علما بأنهم كانوا جماعات منازلهم متفرقة ، ولهم قواد متعددون. وهو يذكر أن أولأدهم «نحو من ألف غلام وبناتهم نحو من أربعة آلاف ومن هذا لن يكون عدد رجالهم أكثر من ستة آلاف ، وهي النسبة التي تقرب مما كان عليه العيالات في البصرة والكوفة في أوائل زمن الأمويين.

ويذكر النص أنه أدرّ لهم «الأرزاق» ولم يذكر مقدارها ولكنه يشير إلى أن بيت المال لم يتوافر فيه ما يسدّ رزقهم.

ويتصل بهذا ما رواه الطبري في حوادث سنة ٢٥٦ ، وهي غير بعيدة عن زمن خلافة المستعين ، فيقول : «تحرك الموالي بالكرخ والدور ، ووجّهوا إلى المهتدي رجلا وشكوا سوء حالهم وتأخّر أرزاقهم ، وما صار من الإقطاعات إلى قوادهم التي قد أجحفت بالضياع والخراج ، وما صار لكبرائهم من المعاون والزيادات من الرسوم القديمة ، مع أرزاق النساء والدّخلاء الذين قد استغرقوا أكثر أموال الخراج» (٢) ، ويقول : «ولما تجمّعوا في دار أشناس قال لهم المهتدي : اكتبوا عن القواد وخلفائهم بالكرخ والدور وسامرّاء». ووعد أن «تعاد رسومهم إلى ما كانت عليه أيام المستعين بالله ، وهو أن يكون على كل تسعة منهم عريف ، وعلى كل خمسين خليفة ، وعلى كل مائة قائد ؛ وأن تسقط النساء والزيادات والمعاون ، ولا يدخل مولى في قبالة ولا غيرها ؛ وأن يوضع لهم العطاء في كل شهرين على ما لم يزل ، وأن تبطل الإقطاعات ، وأن يكون أمير المؤمنين يزيد من شاء ويرفع من شاء». (٣)

__________________

(١) الطبري ٣ / ١٥٤٤.

(٢) م. ن ٣ / ١٧٩٦.

(٣) م. ن ٣ / ١٧٩٩.

١٧٦

يظهر أول هذا النص أنه ينحصر بالموالي ، غير أن المحتجين من «الكرخ والدور» قد يدل على أنه يشمل الأتراك الذين لم يكونوا راضين عن المهتدي : وتظهر شكواهم سوء حالهم وتأخر أرزاقهم والمغانم الكثيرة التي صارت إلى قوادهم وأجحفت بالضياع والخراج والزيادات التي صارت لكبرائهم وأرزاق النساء والدخلاء مما استنفد أكثر أموال الخراج ، وأن المهتدي وعدهم بأن يعاد تطبيق النظام الذي كان معمولا به في زمن المستعين ، وهو أن يوضع لهم العطاء في كل شهرين ، وأن تسقط النساء والزيادات والمعاون ، وتبطل الإقطاعات ، ولا يدخل مولى في قبالة ، ووعد أن يثبت التنظيم الذي كان في زمن المستعين ، وهو أن يكون على كل تسعة عريف وعلى كل خمسين خليفة وعلى كل مائة قائد ، وأن هذا النظام مقبول عندهم. وأن يكون اختيار من يقوم بهذا التنظيم بيد الخليفة ؛ وهذا ما كان يرضيهم.

غير أنهم «وصفوا أن لا يقنعهم إلا أن ينفذ إليهم خمس توقيعات : توقيعا بخط الزيادات وتوقيعا بردّ الإقطاعات ، وتوقيعا بإخراج الموالي البوابين من الخاصة إلى الأعداد البرانيين ، وتوقيعا بردّ الرسوم إلى ما كانت عليه أيام المستعين ، وتوقيعا بردّ التلاجىء حتى يدفعوها إلى رجل يضمّون إليه خمسين رجلا من أهل الدور ، وخمسين رجلا من أهل سامرّاء ينتجزون من الدواوين .. وطالبوا تعجيل العطاء وإدرار أرزاقهم عليهم في كل شهرين». (١)

وقالوا عن المهتدي : «إن وعدكم أن يعطيكم أرزاق ستة أشهر فنحن عبيده». (٢) ثم تحرك ساكنو الكرخ بسامرّاء والدور يطلبون أرزاقهم ، وكان موسى ابن بغا وضع العطاء في عسكره لشهر. ثم «وجه المهتدي إلى الفراغنة والمغاربة والأوكشية والأتراك الذين بايعوه على الدرهمين والسويق». (٣)

يظهر هذا النص أنهم طالبوا بخمس توقيعات مستقلة تتضمن حذف الزيادة

__________________

(١) الطبري ٣ / ١٨٠١.

(٢) م. ن ٣ / ١٨٠٣.

(٣) م. ن ٣ / ١٨١٤.

١٧٧

وردّ الإقطاعات والتلاجىء وردّ الرسوم إلى ما كانت عليه أيام المستعين التي كانت معيار رضاهم ، وإن لم تذكر المصادر ما كان قبلها ، مما لابدّ أنه غير مرض. وفصلوا بين العطاء والرزق ، وطالبوا بإدرار الرزق كل شهرين ، وأن المهتدي وعدهم أن يكون العطاء لشهرين.

١٧٨

الفصل الرابع عشر

سامرّاء بعد انتقال الخلافة منها

ظلت لسامرّاء مكانة بعد أن انتقل منها الخلفاء. ففي سنة ٢٩٠ خرج المكتفي «عامدا سامرّاء مريدا البناء بها للانتقال إليها ، فدخلها .. ثم انصرف إلى مضارب ضربت له بالجوسق ، فدعا القاسم بن عبيد الله والقوّام بالبناء ، وما يحتاج إليه من المال للنفقة عليه ، فكثروا عليه في ذلك ، وطوّلوا مدة الفراغ مما أراد بناءه ، وظل القاسم يصرفه عن رأيه في ذلك ويعظّم أمر النفقة في ذلك وقدر مبلغ المال ، فثناه عن عزمه .. ورجع أكثر الناس من الطريق قبل أن يصلوا إلى سامرّاء حيث تلقّاهم الناس راجعين» (١).

ولما فشل ابن المعتز في ثورته على المقتدر أراد أن يذهب إلى سامرّاء فلم ينجده أحد (٢) ، وسافر إليها الراضي خوفا من الديري الذي تقدم إلى بغداد (٣) وكان الراضي قد نظم شعرا رواه الصولي يمدح فيه سامرّاء (٤).

وذكر ممن ولي القضاء بها أحمد بن محمد الهاشمي (٣١٥ ـ ٣٩٠) (٥) ونفي إليها القاضي ابن أبي الشوارب (٦)

__________________

(١) الطبري ٣ / ٢٢٢٣ ؛ تحفة الوزراء للصابي ١٤٤ ، ١٦٢ ، ٢١٧ ، ١٥٠. المنتظم ٦ / ٣٨.

(٢) الطبري ٣ / ٢١٢٣ ـ ٤ ، المنتظم ٦ / ٨١.

(٣) أخبار الراضي والمتقي للصولي ٧٦.

(٤) المصدر نفسه ١٨٠ / ١٨١.

(٥) المنتظم ٧ / ٢١٠.

(٦) تكملة الطبري للهمذاني ٣٥٢.

١٧٩

وكانت في سامرّاء نقابة ، ذكر من النقباء أبو البركات سعد الله (١) ، وذكر ابن الجوزي حريقا وقع سنة ٤٠٧ في بعض الجامع بسامرّاء (٢).

والواقع أن سامرّاء بعد أن ترك الخلفاء إقامتهم فيها تدهورت أحوالها العمرانية وقلّ سكانها كما يتضح ذلك من وصف بلدانيي القرن الرابع الهجري لها.

ومن مظاهر تدهور أحوالها أنها كانت من المراكز التي تسك فيها النقود منذ تأسيسها إلى سنة ٣٢٣ ؛ ثم توقف السك منذ تلك السنة ، وفي السنوات ٢٥٥ ، ٢٥٩ ، ٢٦٥ ، ٢٦٦ ، ٢٦٩ ، ٢٧٣ ، ٢٧٥ ـ ٢٧٨ ، ٣١٥ ، ٣١٦ ، ٣٢٠ ، ولعل بعض هذا النقص راجع إلى عدم اكتشاف مسكوكات ضربت فيها ؛ ثم توقف سك النقود فيها ، مما يدل على تناقص مواردها المالية.

ومن دلائل تدهور أحوالها في العهود العباسية أن المنذري في كتابه «التكملة في وفيات النقلة» لم يذكر ممن توفى في العهود العباسية المتأخرة ، رجلا منسوبا إلى سامرّاء وإنما ذكر اثنين منسوبين إلى قادسية سامرّاء ، هما أبو عبيدة الله (٣) (٣ / ٢٢٥٩) ، واحمد بن محمد بن علي (٤) (٣ / ١٩٩٩) ، وذكر أن أحمد بن الحسين العتابي توفي في القادسية سامرّاء (٢ / ١٤٦١).

أشار البلدانيون إلى تدهور أحوالها ، فالإصطخري لم يخصها إلا بسطر ذكر أنها محدثة (٥) بها ويقول اليعقوبي في «التاريخ» وخرج المعتصم إلى القاطول في النصف من ذي القعدة سنة ٢٢٠ فاختط المدينة التي بدأها وأقطع الناس القطائع وجدّ في البناء حتى بنى الناس القصور والدور والأسواق ثم ارتحل من القاطول إلى سرّ من رأى (٦).

__________________

(١) تكملة الطبري للهمذاني ٢١١.

(٢) المنتظم ٧ / ٢٨٣.

(٣) التكملة في وفيات النقلة ٣ / ٢٢٥٩.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المسالك.

(٦) تاريخ اليعقوبي ٣ / ١٩٨ ـ ٩.

١٨٠