الشيخ محمد جواد البلاغي
المحقق: السيد محمد علي الحكيم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-94-9
الصفحات: ١٠٦
وإن كان المراد أنّهم يدعون الله عزوجلّ لقضاء الحاجات ، ويدعون أولياءه ليكونوا شفعاء لديه سبحانه ، فاختلفت جهتا الدعوة ، فهذا حقّ وصدق ، ولا مانع منع أصلاً.
بل الوهّابيّة ما قدروا الله حقّ قدره إذ قالوا : لا ضرورة في استنجاح الحاجة عنده إلى شفيع! ولا حسن في ذلك ، ويرون ذلك أمراً مرغوباً مطلوباً بالنسبة إلى غيره سبحانه!
فإذا كان لهم حاجة إلى الناس ، يتوسّلون في نجاحها إلى المقرّبين لديهم ، ولا يرون في ذلك بأساً!
فما بال الله عزّ وجلّ يقصر به عمّا يصنع بعباده؟!
الجهة الثانية : إضافة الدعوة إلى الضرائح :
والحال أنّهم لا يدعون الضريح للشفاعة ، بل يدعون صاحب الضريح؛ لأنّه ذو مكان مكين عندالله وإن كان متوفّىً ( ولا تحسبن الّذين قتلوا في سبيل الله امواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون * فرحين بما آتيهُمُ الله .... ) (٧٢).
وبالجملة :
فالتوسّل وطلب الشفاعة من أولياء الله أمر مرغوب فيه عقلاً وشرعاً ، وقد جرت سيرة المسلمين عليه قديماً وحديثاً.
* فعن أنس بن مالك ، أنّه قال : «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله ، هلكت المواشي وتقطّعت
__________________
(٧٢) سورة آل عمران ٣ : ١٦٩ و ١٧٠.
السبل ، فادع الله.
فدعا الله ، فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة.
فجاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله ، تهدّمت البيوت وتقطّعت السبل وهلكت المواشي.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : اللهم على ظهور الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر.
فانجابت عن المدينة انجياب الثوب».
رواه البخاري في الصحيح ، (٧٣) ، وروى عدّة أحاديث في هذا المعنى يشبه بعضها بعضاً.(٧٤).
* وفيه أيضاً : حدّثنا عبدالله بن أبي الأسود ، [ حدّثنا حرميٌّ ، ] حدّثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : «قالت أميّ : يا رسول الله ، خادمك [ أنس ] ، ادع الله له.
قال : اللهم أكثر ماله وولده ، وبارك له فيما أعطيته»(٧٥).
* وقال البخاري : حدّثنا قتيبة بن سعيد ، حدّثنا حاتم ، عن الجعد بن عبدالرحمن ، قال : سمعت السائب بن يزيد يقول : «ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت : يارسول الله ، إنّ ابن أختي وجعٌ.
فمسح رأسي ، ودعا لي بالبركة ، ثمّ توضأ فشربت من وضوئه ، ثمّ قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه مثل زرّ الحجلة » (٧٦).
__________________
(٧٣) صحيح البخاري ٢ / ٣٧.
(٧٤) صحيح البخاري ٢ / ٣٤ ـ ٣٨.
(٧٥) صحيح البخاري ٨ / ٩٣.
(٧٦) صحيح البخاري ٨ / ٩٤ ، والحجلة : بيت كالقبة يستر بالثياب ويكون له أزرار كبار.
* وروى البيهقي ، أنّه جاء رجل إلى قبر النبّي صلّى الله عليه وسلّم فقال : يا محمد ، استق لأمّتك؛ فسقوا(٧٧).
* وروى الطبراني وابن المقرئ وأبو الشيخ ، أنّهم كانوا جياعاً ، فجاؤاإلى قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالوا : يا رسول الله ، الجوع الجوع؛ فأشبعوا(٧٨).
* ونقل أنّ آدم لمّا اقترف الخطيئة قال : يا ربّي أسألك بحقّ محمد لمّا غفرت لي.
فقال : يا آدم ، كيف عرفته؟
قال : لأنّك لما خلقتني نظرت إلى العرش فوجدت مكتوباً فيه : «لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله» فرأيت اسمه مقروناً مع اسمك ، فعرفته أحبّ الخلق إليك.
صحّحه الحاكم(٧٩).
* وعن عثمان بن حنيف ، أنّ رجلاً ضرير البصر أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال : ادعُ الله أن يعافيني.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : إن شئت صبرت فهو خير لك ، وإن شئت دعوت.
قال : فادعه.
فأمره أن يتوضّأ ويدعو بهذا الدعاء :
__________________
انظر : لسان العرب ١١ / ١٤٤ ـ حجل.
(٧٧) انظر قريباً منه في الوفا ٤ / ١٣٧٤.
(٧٨) انظر : وفاء الوفا ٤ / ١٣٨٠.
(٧٩) المستدرك على الصحيحين ٢ / ٦١٥ باختلاف يسير ، وانظر : دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٥ / ٤٨٩ ، ووفاء الوفا ٤ / ١٣٧١ ـ ١٣٧٢.
« اللّهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد ، نبيّ الرحمة ، يا محمد ، إنّني توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي ليقضيها لي.
اللهمّ شفِّعه ».
رواه الترمذي والنسائي(٨٠) ، وصحّحه البيهقي وزاد : فقام وأبصر(٨١).
* ونقل الطبراني ، عن عثمان بن حنيف ، أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفّان في حاجة ، فكان لا يلتفت إليه ، فشكا ذلك لا بن حنيف ، فقال له : اذهب وتوضّأ وقل : ... وذكر نحو ما ذكر الضرير.
قال : فصنع ذلك ، فجاء البوّاب فأخذه وأدخله إلى عثمان ، فأمسكه على الطنفسة وقضى حاجته (٨٢).
* وفي رواية الحافظ ، عن ابن عبّاس ، أنّ عمر قال : اللّهم إنّا نستسقيك بعمّ نبيّنا ، ونستشفع بشيبته؛ فسقوا (٨٣).
[ الشفاعة : ]
وأخبار الشفاعة متواترة :
* روى البخاري ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه : من سمع الأذان ودعا بكذا حلّت له شفاعتي يوم القيامة (٨٤).
__________________
(٨٠) سنن الترمذي ٥ / ٥٦٩ تح ٣٥٧٨ باختلاف يسير ، ورواه النسائي في كتاب « اليوم والليلة » ، وفي سنن ابن ماجة ١ / ٤٤١ ح ١٣٨٥ باختلاف يسير أيضاً.
(٨١) انظر : وفاء الوفا ٤ / ١٣٧٢.
(٨٢) المعجم الكبير ٩ / ٣٠ ـ ٣١ ح ٨٣١١ باختلاف يسير ، وانظر : وفاء الوفا ٤ / ١٣٧٣.
(٨٣) دلائل النبوّة ـ للأصبهاني ـ ٢ / ٧٢٥ ح ٥١١ باختلاف يسير.
(٨٤) صحيح البخاري ١ / ١٥٩ باختلاف يسير.
* وروى مسلم ، عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه : ما من ميّت يموت يصلي عليه أمّة من الناس يبلغون مائة ، كلّهم يشفعون له ، إلاّ شفّعوا فيه (٨٥).
* وروى الترمذي والدارمي ، عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه : يدخل بشفاعتي رجال من أمّتي أكثر من بني تميم (٨٦).
* وروى الترمذي ، عن أنس ، أنّه قال : سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يشفع لي يوم القيامة.
فقال : أنا فاعل.
قلت : فأين أطلبك؟
قال : أوّلأ على الصراط.
قلت : فإن لم ألقك.
قال : عند الميزان.
قلت : فإن لم ألقك؟
قال : عند الحوض ، فأنّي [ لا ] أُخطئ هذه المواضع(٨٧).
وقد نقل عن الصحابة ، بطرق عديدة ، أنّ الصحابة كانوا يلجأُون إلى قبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويندبونه في الاستسقاء ومواقع الشدائد وسائر الأمراض(٨٨).
ولا يخفى أنّ وفاة المتوسَّل به لا تنافي التوسّل أصلاً ، فإنّ مكانه
__________________
(٨٥) صحيح مسلم ٢ / ٦٥٤ ح ٩٤٧ ، باختلاف يسير.
(٨٦) سنن الترمذي ٤ / ٦٢٦ ح ٢٤٣٨ ، وسنن الدارمي ٢ / ٣٢٨ ، باختلاف يسير فيهما.
(٨٧) سنن الترمذي ٤ / ٦٢١ ـ ٦٢٢ ح ٢٤٣٣ ، الوفا بأحوال المصطفى ٢ / ٨٢٤ باختلاف يسير.
(٨٨) انظر : وفاء الوفا ٤ / ١٣٧٢ ـ ١٣٨٧.
عندالله لا يزول بالموت ، كما هو واضح.
هذا ، مع أنّهم في الحقيقة أحياء كما ذكر الله عزّ وجلّ في حال الشهداء ، فالشهداء إذا كانوا أحياءً فالأنبياء والأولياء أحقّ بذلك.
هذا كلّه مع أنّ الأرواح لا تفنى بالموت ، والعبرة بها لا بالأجساد ، وإنْ كان أجساد الأنبياء لا تبلى كما نصّ عليه في الأخبار (٨٩).
* وفي خبر النسائي وغيره ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قال : إنّ لله ملائكة سيّاحين في الأرض يبلّغونني من أُمّتي السلام (٩٠).
والأخبار في هذا الباب كثيرة (٩١).
* وأخرج أبو نعيم في « دلائل النبوّة » عن سعيد بن المسيّب ، قال : لقد كنت في مسجد رسول الله فيما يأتي وقت صلاة إلاّ سمعت الأذان من القبر (٩٢).
* وأخرج سعد في « الطبقات » عن سعيد بن المسيّب ، أنّه كان يلازم المسجد أيّام الحرّة ، فإذا جاء الصبح سمع أذاناً من القبر الشريف(٩٣).
* وأخرج زبير بن بكّار في « أخبار المدينة » عن سعيد بن المسيّب ، قال : لم أزل أسمع الأذان والإقامة من قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّام الحرّة حتّى عاد الناس (٩٤).
__________________
(٨٩) سنن ابن ماجة ١ / ٥٢٤ ح ١٦٣٧ ، وانظر مؤدّاه في وفاء الوفا ٤ / ١٣٥٠ ـ ١٣٥٦.
(٩٠) سنن النسائي ٣ / ٤٣ ، مسند أحمد ١ / ٤٤١ ، سنن الدارمي ٢ / ٣١٧.
(٩١) انظر : وفا الوفا ٤ / ١٣٤٩ ـ ١٣٥٤.
(٩٢) دلائل النبوّة ـ للأصبهاني ـ ٢ / ٧٢٤ ـ ٧٢٥ ح ٥١٠ باختلاف يسير.
(٩٣) الطبقات الكبير ٥ / ١٣٢.
(٩٤) انظر : وفاء الوفا ٤ / ١٣٥٦.
* ونقل أبو عبدالله البخاري ، أنّ الشهداء وسائر المؤمنين إذا زارهم المسلم وسلّم عليهم عرفوه وردّوا عليهالسلام (٩٥).
* وروى الثعلبي في تفسيره ، وابن المغازلي الشافعي الواسطي في «المناقب» أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لمّا حملهم البساط وصلوا إلى موضع أهل الكهف ، فقال : سلّموا عليهم ، فسلّموا عليهم ، فلم يردّوا ، فسلّم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليهم ، فقالوا : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته (٩٦).
* ونقل أبوبكر محمد بن عبدالله الشافعي ، أنّ عيسى عليهالسلام لمّا دفن مريم عليهاالسلام قال : السلام عليك يا أمّاه ؛ فأجابته من جوف القبر : وعليك السلام حبيبي وقرّة عيني ... إلى آخره (٩٧).
* وروى الحاكم ، عن سالم بن أبي حفصة ، قال : توفّي أخ لي فوضعته في القبر وسوّيت عليه التراب ، ثمّ وضعت أذني على لحده فسمعت قائلاً يقول له : من ربّك؟ فسمعت أخي يقول بصوت ضعيف : ربّي الله ... إلى آخره (٩٨).
والأخبار التي يستدلّ بها على الدعوى أكثر من أن تحصى.
__________________
(٩٥) انظر : وفاء الوفا ٤ / ١٣٥١.
(٩٦) مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام : ٢٣٢ ـ ٢٣٣ ح ٢٨٠ ، وفيه : « عليّ عليهالسلام » بدل « النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ».
(٩٧) لم أعثر على تخريج له في المصادر المتوفّرة لديّ.
(٩٨) المتسدرك على الصحيحين ، وروي قريب منه وبسند آخر وباختلاف يسير في كتاب من عاش بعد الموت : ٨٦ و ٨٧ ح ٤٢ و ٤٣.
الفصل الثالث
في البناء على القبور
إعلم أنّ البناء على قبور الإنبياء والعباد المصطفين تعظيمٌ لشعائرالله ، وهو من تقوى القلوب ، ومن السنن الحسنة.
حيث إنّه احترامٌ لصاحب القبر ، وباعثٌ على زيارته ، وعلى عبادة الله عزّ وجلّ ـ بالصلاة والقراءة والذكر وغيرها ـ عنده ، وملجأٌ للزائرين والغرباء والمساكين والتالين والمصّلين.
بل هو إعلاء لشأن الدين.
* وعن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : « من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها » (٩٩).
وقد بني على مراقد الأنبياء قبل ظهور الإسلام وبعده ، فلم ينكره النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا أحدٌ من الصحابة والخلفاء ، كالقباب المبنيّة على قبر دانيال عليهالسلام في شوشتر(١٠٠) ، وهود وصالح ويونس وذي الكفل عليهمالسلام ، والأنبياء في بيت المقدس وما يليها ، كالجبل الذي دفن فيه موسى عليهالسلام ، وبلد الخليل مدفن سيّدنا إبراهيم عليهالسلام.
__________________
(٩٩) ورد الحديث باختلاف يسير في : مسند أحمد ٤ / ٣٦١ ، سنن ابن ماجة ١ / ٧٤ ـ ٧٥ ح ٢٠٣ ـ ٢٠٨ باب من سنّ سنّة حسنة أو سيّئة ، مشكل الآثار ١ / ٩٤ و ٩٦ و ٤٨١.
(١٠٠) هي إحدى مدن مقاطعة خوزستان في إيران ، ومعرّبها : تستر؛ انظر معجم البلدان ٢ / ٢٩ (تستر).
بل الحجر المبنيّ على قبر إسماعيل عليهالسلام وأُمّه رضي الله عنها.
بل أوّل من بنى حجرة قبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم باللبن ـ بعد أن كانت مقوّمة بجريد النخل ـ عمر بن الخطّاب ، على ما نصّ عليه السمهودي في كتاب «الوفا» (١٠١) ثمّ تناوب الخلفاء على تعميرها (١٠٢).
* وروى البنّائي (١٠٣) واعظ أهل الحجاز ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه الحسين ، عن أبيه عليّ ، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له : «والله لتقتلنّ في أرض العراق وتدفن بها.
فقلت : يا رسول الله ، ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها؟
فقال : يا أباالحسن ، إنّ الله جعل قبرك وقبر ولديك بقاعاً من بقاع الجنّة [ وعرصة من عرصاتها ] ، وإنّ الله جعل قلوب نجباء من خلقه ، وصفوة من عباده ، تحنّ إليكم [ وتحتمل المذلّة والأذى ] ، فيعمرون قبوركم ، ويكثرون زيارتها تقرّباً [ منهم ] إلى الله تعالى ، ومودّة منهم لرسوله [ أولئك يا عليّ المخصوصون بشفاعتي ، الواردون حوضي ، وهم زوّاري غداً في الجنّة].
يا عليّ ، من عمّر قبوركم وتعاهدها فكأنّما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس ... » إلى آخره(١٠٤).
__________________
(١٠١) وفاء الوفا ٢ / ٤٨١.
(١٠٢) وفاء الوفا ٢ / ٤٨١ ـ ٦٤٧.
(١٠٣) في المصدر : التبّاني.
(١٠٤) فرحة الغريّ : ٧٧ ، وعنه في بحار الأنوار ١٠٠ / ١٢٠ ح ٢٢.
ولا يخفى أنّ جعل معمّر قبورهم كالمعين على بناء بيت المقدس ، دالّ على أنّ تعظيم مراقدهم تعظيم لشعائر الله سبحانه.
ونقل نحو ذلك ـ أيضاً ـ في حديثين معتبرين ، نقل أحدهما الوزير السعيد بسندٍ ، وثانيهما بسند آخر (١٠٥).
والسيرة القطعية ـ من قاطبة المسلمين ـ المستمرّة ، والإجماع ، يغنيان عن ذكر الأحاديث الدالّة على الجواز.
وما أعجب قول المفتين : «أمّا البناء على القبور فممنوع إجماعاً»!
فإنّ مذهب الوهّابيّة ـ وهم فئة قليلة بالنسبة إلى سائر المسلمين ـ لم يظهر إلاّ قريباً من قرن واحد ، ولا يتفوّه أحد من المسلمين ـ سوى الوهّابيّة ـ بحرمة البناء ، فأين الإجماع المدّعى؟!
ودعوى ورود الأحاديث الصحيحة على المنع ـ لو ثبت ـ غير مجدٍ لإثبات الحرمة؛ لأنّ أخبار الاحاد لا تنهض لدفع السيرة والإجماع القطعي ، مع أنّ أصل الدعوى ممنوع جدّاً.
فأنّ مثل رواية جابر : «نهى رسول الله أن تجصّص القبور ، وأن يكتب عليها ، وأن يبنى عليها ، وأن توطأ» (١٠٦) لا تدلّ على التحريم؛ لعدم حرمة الكتابة على القبور ووطئها ، فذلك من أقوى القرائن على أنّ النهي في الرواية غير دالٍّ على الحرمة ، ولا نمنع الكراهة في غير قبور مخصوصة.
مع أنّ الظاهر من قوله : « يبنى عليها » إحداث بناء كالجدار على
__________________
(١٠٥) فرحة الغريّ : ٧٨ ، وعنه في بحار الأنوار ١٠٠ / ١٢١ ح ٢٣ و ٢٤.
(١٠٦) سنن الترمذي ٣ / ٣٦٨ ح ١٠٥٢.
نفس القبر ، فأنّ بناء القبّة وجدرانها بعيدة عن القبر ، ليس بناءً على القبر على الحقيقة ، وإنّما هو نوع من المجاز ، وحمل اللفظ على الحقيقة حيث لا صارف عنها معيّن ، مع أنّ النهي عن الوطء يؤكّد هذا المعنى ، لا الذي فهموه من الرواية.
وأمّا الاستدلال على وجوب هدم القباب بحديث أبي الهيّاج ، فغير تامٍّ في نفسه ـ مع قطع النظر عن مخالفته للإجماع والسيرة ـ لوجوه :
* الأَوّل : إنّ الحديث مضطرب المتن والسند.
فتارة يذكرعن أبي الهيّاج أنّه قال : « قال لي عليُّ » كما في رواية أحمد عن عبدالرحمن(١٠٧).
وتارة يذكر عن أبي وائل ، أنّ عليّاً قال لأبي الهيّاج(١٠٨).
ورواه عبدالله بن أحمد في « مسند علي » هكذا : « لأبعثنّك فيما بعثني فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، أنْ أُسوّي كلّ قبر ، وأنْ أطمس كلّ صنم »(١٠٩).
فالاضطراب المزبور يسقطه عن الحجّيّة والاعتبار.
* الثاني : إنّه من الواضح أنّ المأمور به في الرواية لم يكن هدم جميع قبور العالم ، بل الحديث وارد في بعث خاصّ وواقعة مخصوصة ، فلعلّ البعث قد كان إلى قبور المشركين لطمس آثار الجاهلية ـ كما يؤيِّده ذكر الصنم ـ أو إلى غيرها ممّا لا نعرف وجه مصلحتها ، فكيف يتمسّك بمثل هذه الرواية لقبور الأنبياء والأولياء؟!
__________________
(١٠٧) مسند أحمد ١ / ٩٦.
(١٠٨) مسند أحمد ١ / ١٢٩.
(١٠٩) مسند أحمد ١ / ٨٩ و ١١١.
قال بعض علماء الشيعة من المعاصرين :
إنّ المقصود من تلك القبور ، التي أمر عليّ عليهالسلام بتسويتها ، ليست هي إلاّ تلك القبور التي كانت تتّخذ قبلةً عند بعض أهل الملل الباطلة ، وتقام عليها صور الموتى وتماثيلهم ، فيعبدونها من دون الله.
إلى أن قال :
وليت شعري لو كان المقصود من القبور ـ التي أمر عليّ عليهالسلام بتسويتها ـ هي عامّة القبور على الإطلاق ، فأين كان عليهالسلام ـ وهو الحاكم المطلق يؤمئذٍ ـ عن قبور الأنبياء التي كانت مشيّدة على عهده؟! ولا تزال مشيّدة إلى اليوم في فلسطين وسورية والعراق وإيران ، ولو شاء تسويتها لقضى عليها بأقصر وقت.
فهل ترى أنّ عليّاً عليهالسلام يأمر أبا الهيّاج بالحقّ وهو يروغ عنه فلا يفعله؟!
انتهى ما أردنا نقله منه.
* الثالث : قال بعض المعاصرين من أهل العلم :
لا يخفى من اللغة والعرف أنّ تسوية الشيء من دون ذكر القرين المساوي معه ، إنّما هو جعل الشيء متساوياً في نفسه ، فليس لتسوية القبر في الحديث معنى إلاّ جعله متساوياً في نفسه ، وما ذلك إلاّ جعل سطحه متساوياً.
ولو كان المراد تسوية القبر مع الأرض ، لكان الواجب في صحيح الكلام أن يقال : إلاّ سوّيته مع الأرض.
فإنّ التسوية بين الشيئين المتغايرين لا بُدّ فيها من أن يذكر الشيئان اللذان تراد مساواتهما.
وهذا ظاهر لكلّ من يعطي الكلام حقّه من النظر ، فلا دلالة في الحديث إلاّ على أحد أمرين :
أوّلهما : تسطيح القبور وجعلها متساوية برفع سنامها ، ولا نظر في الحديث إلى علوّها ، ولا تشبّث فيه بلفظ (المشرف) فإنّ الشرف إن ذكرَ أنّه بمعنى العلوّ ، فقد ذكر أنّه من البعير سنامه ، كما في القاموس وغيره ، (١١٠) فيكون معنى ( المشرف ) في الحديث هو : القبر ذو السنام ، ومعنى تسويته : هدم سنامه.
وثانيهما : أنّ يكون المراد : القبور التي يجعل لها شرف من جوانب سطحها ، والمراد من تسويته أن تهدم شرفه ويجعل مسطّحاً أجمّ ، كما في حديث ابن عبّاس : أمرنا أن نبنيّ المدائن شرفاً والمساجد جمّاً (١١١).
وعلى كلّ حال ، فلا يمكن في اللغة والاستعمال أن يراد من التسوية في الحديث أن يساوى القبر مع الأرض ، بل لا بدً أن يراد منه أحد المعنيين المذكورين.
وأيضاً : كيف يكون المراد مساواة القبر مع الأرض ، مع أنّ سيرة المسلمين المتسلسلة على رفع القبور عن الأرض؟!
وفي آخر كتاب الجنائز من جامع البخاري ، مسنداً عن سفيان التمًار ، أنًه رأى قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسنّماً(١١٢).
__________________
(١١٠) انظر مادّة (شرف) في : القاموس المحيط ٣ / ١٥٧ ، تهذيب اللغة ١١ / ٣٤١ ، لسان العرب ٩ / ١٧١.
(١١١) غريب الحديث ٤ / ٢٢٥ ، الفائق ١ / ٢٣٤ ، لسان العرب ٩ / ١٧١؛ والجمّ : هي التي لا شرف لها.
(١١٢) صحيح البخاري ٢ / ١٢٨.
وأسند أبو داود في كتاب الجنائز عن القاسم ، قال : دخلت على عائشة فقلت : يا أمه ، اكشفي لي عن قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه؛ فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرّفة ولا لاطئة (١١٣).
وأسند ابن جرير ، عن الشعبي ، أنّ كلّ قبور الشهداء مسنّمة. (١١٤)
انتهى ما أردنا نقله منه.
وأقول بعد ذلك : لو كان قوله : « مشرفاً » بمعنى عالياً ، فليس يعمّ كلّ قبر ارتفع عن الأرض ولو بمقدار قليل ، فأنّه لا يصدق عليه القبر العالي ، فإنّ العلوّ في كلّ قبر إنّما هو بالإضافة إلى سائر القبور ، فلا يبعد أن يكون أمراً بتسوية القبور العالية فوق القدر المتعارف المعهود في ذلك الزمان إلى حدّ المتعارف ، وقد أفتى جمع من العلماء بكراهة رفع القبر أزيد من أربع أصابع (١١٥).
ولتخصيص الكراهة ـ لو ثبت ـ بغير قبور الأنبياء والمصطفين من الأولياء وجهُ.
* الرابع : لو سلم أيّ دلالة في الرواية ، فلا ربط لها ببناء السقوف والقباب ووجوب هدمها ، كما هو واضح.
وأمّا قول السائل : « وإذا كان البناء في مسبلة ـ كالبقيع ـ وهو مانع ... إلى آخره».
فقد أجاب بعض المعاصرين عنه بما حاصله :
__________________
(١١٣) سنن أبي داود ٣ / ٢١٥ ح ٣٢٢٠ ؛ ولاطئة : أي لازقة بالأرض. انظر : لسان العرب ١٥ / ٢٤٧ ـ لطا.
(١١٤) كنز العمّال ١٥ / ٧٣٦ ح ٤٢٩٣٢.
(١١٥) منتهى المطلب ١ / ٤٦٢.
أنّ أرض البقيع ليست وقفاً ، بل هي باقية على إباحتها الأصلية ، ولو شككنا في وقفيّتها يكفينا استصحاب إباحتها.
وأقول : بل وقفيّتها غير مانع عن البناء ؛ لأنّها موقفة مقبرةً على جميع الشؤون المرعيّة في المقابر ، ومنها : البناء على قبور أشخاص مخصوصين كالأصفياء ، فإنّ البناء على القبور ليس أمراً حديثاً ، بل كان أمراً متعارفاً من قديم الأيّام.
الفصل الرابع
في الصلاة عند القبور ،
وإيقاد السرج عليها
[ الصلاة عند القبور : ]
وقد جرت سيرة المسلمين ـ السيرة المستمرّة ـ على جواز ذلك.
وأمّا حديث ابن عباس : « لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زائرات القبور ، والمتّخذين عليها المساجد والسرج » (١١٦) فالظاهر والمتبادر ـ من اتّخاذ المسجد على القبر ـ : السجود على نفس القبر ، وهذا غير الصلاة عند القبر.
هذا لو حملنا المساجد على المعنى اللغوي.
ولو حملناه على المعنى الاصطلاحي ، فالمذموم اتّخاذ المسجد عند القبور ، لا مجرّد إيقاع الصلاة ، كما هو المتعارف بين المسلمين ، فإنّهم لا يتّخذون المساجد على المراقد ، فإنّ اتّخاذ المسجد ينافي الغرض في إعداد ما حول القبر إعانة للزوّار على الجلوس لتلاوة القرآن وذكر الله والدعاء والاستغفار ، بل يصلّون عندها ، كما يأتون بسائَر العبادات هنالك.
هذا ، مع أنّ اللعن غير دالٍّ على الحرمة ، بل يجامع الكراهة أيضاً.
__________________
(١١٦) سنن أبي داود ٣ / ٢١٨ ح ٣٢٣٦ ، سنن النسائي ٤ / ٩٥.
[ إيقاد السرج : ]
وأمّا إيقاد السرج ، فإنّ الرواية لا تدلّ إلاّ على ذمّ الإسراج لمجرّد إضاءة القبر ، وأمّا الإسراج لإعانة الزائرين على التلاوة والصلاة والزيارة وغيرها ، فلا دلالة في الرواية على ذمّه.
وإن شئت توضيح ذلك فارجع إلى هذا المثل :
إنّك لو أًضعت شيئاً عند قبر ، فأسرجت هناك لطلب ضالّتك ، فهل في تلك الرواية دلالة على ذمّ هذا العمل؟!
فكذلك ما ذكرناه.
هذا ، مع ما عرفت أنّ اللعن ـ حقيقة ـ هو البعد من الرحمة ، ولا يستلزم الحرمة ، فإنّ عمل المكروه ـ أيضاً ـ مبعّد من الله ، كما أنّ فعل المستحبّ مقرّب إليه عزّ وجلّ.
هذا ، وذكر بعض العلماء في الجواب : أنّ المقصود من النهي عن اتّخاذ القبور مساجد ، أن لا تتّخذ قبلةً يصلّى إليها باستقبال أيّ جهة منها ، كما كان يفعله بعض أهل الملل الباطلة.
وممّا يدلّ عليه ما رواه مسلم في « الصحيح » : عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال : إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصورّوا فيه تلك الصورة ، أولئك شرار الخلق عندالله عزّ وجلّ يوم القيامة(١١٧).
وقال صلّى الله عليه وسلّم : لعن الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد(١١٨).
__________________
(١١٧) صحيح مسلم ١ / ٣٧٦ ح ٥٢٨.
(١١٨) مسند أحمد ٢ / ٢٨٥.
فإنّه من المعلوم لدى الخبراء بتقاليد أولئك المبطلين ، أنّهم كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد على الوجه المذكور ، وذلك بجعل ما برز من أثر القبر قبلةً : وما دار حوله من الأرض مصلّيً ، ولذلك قالت أمّ المؤمنين عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره ، غير إنّه خشي أن يتّخذ مسجدا(١١٩).
فلو كان اتّخاذه مسجداً على معنى إيقاع الصلاة عنده ـ وإنْ كان التوجه بها إلى الكعبة ـ لما كان الإبراز سبباً لحصول الخشية ، فإنّ الصلاة ـ كذلك ـ غير موقوفة على أن يكون للقبر أثر بارز ، وإنّما الّذي يتوقّف على بروز الأثر هو : الصلاة إليه نفسه.
انتهى.
ثمّ استشهد بكلام النووي في شرح صحيح مسلم ، قال :
« قال العلماء : إنّما نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن اتّخاذ قبره وقبر غيره مسجداّ خوفاً من الافتتان به ، فربما أدّى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية ، ولما احتاجت الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين كثر المسلمون ، وامتدّت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمّهات المؤمنين فيه ، ومنها حجرة عائشة ـ رضي الله عنها ـ بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله ، لئلاّ يظهر في المسجد فيصلّي إليه العوامّ ويؤدّي إلى المحذور.
ثمّ بنوا جدارين من ركني القبر الشماليّين وحرّفوهما حتّى التقيا ، حتّى لا يتمكّن أحد من استقبال القبر ، ولهذا قال في الحديث : ( ولولا
__________________
(١١٩) مسند أحمد ٦ / ٨٠ ، صحيح مسلم ١ / ٣٧٦ ح ٥٢٩.
ذلك لأبرز قبره ، غير إنّه خشي أن يتّخذ مسجداً ) والله العالم بالصواب »(١٢٠).
انتهى.
ثمّ استظهر العالم المومى إليه أن يكون الإسراج المنهيّ عنه :
أمّا الإسراج على قبور أولئك المبطلين الّذين كانوا يتّخذونها قبلة ، كما ربّما يشهد بذلك سياق الحديث المومى إليه.
أو الإسراج الذي يتّخذه بعض جهلة المسلمين على مقابر موتاهم في ليالٍ مخصوصة ، لأجل إقامة المناجاة عليها والنوح على أهلها بالباطل.
__________________
(١٢٠) شرح النووي على صحيح مسلم ٥ / ١٣ ـ ١٤.