زبدة الحلب من تاريخ حلب - ج ٢

كمال الدّين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي [ ابن العديم ]

زبدة الحلب من تاريخ حلب - ج ٢

المؤلف:

كمال الدّين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي [ ابن العديم ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١
الجزء ١ الجزء ٢

بدمشق من الانتقال إلى حلب خوفا أن يغلبهم عليه شمس الدّين عليّ.

وكان شمس الدّين محمّد بن عبد الملك بن المقدّم قد صار متوّلي تدبيره بدمشق ، وكمال الدين بن الشهرزوري وجماعة من الأمراء معه ، وكان قد أشار كمال الدين على الامراء بمشاورة الملك النّاصر فيما يفعلونه ، لئلا يجعل ذلك حجّة عليهم ؛ فخافوا منه ولم يفعلوا.

وخرج الفرنج ، وحصروا قلعة بانياس فراسلهم ابن المقدم ، وبذل لهم مالا ، وخوّفهم بالإستنجاد بصلاح الدّين وسيف الدّين ، فعادوا. وبلغ ذلك كلّه الملك النّاصر صلاح الدّين ؛ فأرسل صلاح الدّين إلى الملك الصّالح ، وعتب عليه حيث لم يعلمه بما تجدّد من سيف الدّين في أخذ الجزيرة ليحضر ويكفّه ، وأنكر صلح الفرنج ، وبذل المال لهم ، وبذل من نفسه قصد الفرنج ، وكفّهم عن التّطاول إلى شيء من بلاد الملك الصالح.

وكتب إلى كمال الدّين وابن المقدّم ، والأمراء ، وقال : «لو أنّ نور الدّين يعلم أنّ فيكم من يقوم مقامي ، أو يثق به مثلي لسلّم إليه مصر ، ولو لم يعجّل عليه الموت لعهد اليّ بتربية ولده ، وأراكم قد تفردّتم بمولاي وابن مولاي دوني ، وسوف أصل إلى خدمته ، وأكافي إنعام أبيه ، وأجازي كلا منكم على فعله».

وكثر خوف شمس الدّين عليّ بن الدّاية من سيف الدّين غازي ، وأن يعبر الفرات إلى حلب فيملكها ، فأرسل سعد الدّين كمشتكين إلى دمشق ، ليحضر الملك الصّالح ، فلما قارب دمشق سيّر إليه شمس الدين بن المقدّم

٨١

عسكرا ، فنهبوه ؛ وعاد منهزما إلى حلب ، فأخلف عليه شمس الدين عليّ بن الدّاية ، عوضا عما أخذ منه.

ثم إنّ الأمراء بدمشق ، اتفقوا على إرسال الملك الصّالح إلى ابن الدّاية بحلب ، لأنّها أمّ البلاد ، فأنفذوا إليه يطلبون إرسال سعد الدّين ليأخذ الملك الصالح ، فوصل إليهم سعد الدّين كمشتكين ، واتفقوا على أن يكون شمس الدّين عليّ أتابكا للملك الصالح ، وحلف شمس الدين وجمال الدّين شاذبخت للأمراء على أقطاعهم ، ونفذت النسخة مع سابق الدّين عثمان إلى دمشق.

وسار الملك الصّالح وأمّه مع سعد الدّين كمشتكين والأمراء الّذين أقطاعهم بحلب ، ولما وصلوا ما بين حماة وحلب وصل من جمال الدين شاذبخت من خوّف الأمراء من بني الدّاية ، فقبضوا «سابق الدين عثمان» ، بقنّسرين ؛ وكتموا الحال ؛ ووصلوا إلى باب حلب ، فخرج بدر الدّين حسن ، فقبضوه ، ودخلوا من «باب الميدان» وقد عمل به الخوان ، فلم يلتفتوا اليه ، وبادروا بالملك الصّالح ، وصعدوا به إلى القلعة.

وكان «بشمس الدّين عليّ» نقرس ، فحمل في محفّة ، وحضر بين يدي الملك الصّالح ، فزندوا يديه ، وقيّدوا أخويه ، وجعلوا الجميع في المطمورة (١) ، بالمركز.

__________________

(١) كشف حديثا عن سجن كان تحت الأرض في قلعة حلب وعثر به على ما يزيد عن عشرين من الهياكل العظيمة.

٨٢

وكان شاذبخت قد احتاط ، واستخدم جماعة من الأجناد ، فصار في مقدار خمسمائة راجل ، و «شمس الدّين» في مقدار مائة ، وأمر اسباسلار (١) باب القلعة أبا بكر بن مقبل : أن يمنع من يصعد إلى القلعة من أصحابه وأصحاب إخوته ، ما خلا سابق الدّين وبدر الدّين ، فكانا يصعدان ، ومع كلّ واحد منهما غلام واحد ؛ ووكّل بباب شمس الدّين ثلاثين رجلا كلّ ليلة ، فعتب على شاذبخت فقال له : «أنا أبعث الرجال إليك ، ليقوموا في الخدمة» ، وكان يوكّل بالأجناد الّذين خالفوه حفظة يمنعون من يدخل منهم أو يخرج ، وكان هذا حال القلعة ، في غيبة الملك الصّالح.

وأما حال المدينة فانّ السّنّة من أهل البلد مالوا إلى «المجدية» ، لتعصبّهم للسّنّة على الشّيعة ، وجمعهم بدر الدّين حسن شحنة حلب ، واستحلفهم في اللّيل ، وكان فيهم بنو العجمي ، والشيخ أبو يعلى بن أمين الدّولة ، وبنو قاضي بالس ـ على ما ذكر ـ وطلب القاضي أبا الفضل بن الخشّاب وبني الطّرسوسي ، فأبوا أن يحضروا.

وكان أهل حلب من الشّيعة ، يتوالون أبا الفضل بن الخشّاب ، ويقدّمونه عليهم ، فوافقوه على حفظ البلد للملك الصّالح ، وعلى مخالفة بني الدّاية ، فسيّر بدر الدين حسن إلى ابن الخشّاب ، وقال له : «إنّ جماعة عندي قذفوك ، وتحدّثوا بأنك تطعن في الدّولة ، وأنك تريد أن تملك حلب».

__________________

(١) الضابط المسؤول عن حراسة باب القلعة.

٨٣

وكان بدر الدّين وأخواه أرادوا أن تقع الفتنة بحلب بين السّنة والشّيعة ، ليستقيم أمرهم ، فثار الغوغاء من الشّيعة ونهبوا دار قطب الدين بن العجمي بالقرب من الزّجاجين ، ودار أبي يعلى بن أمين الدّولة ، بالجرن الأصفر (١). وكان فيها أموال الأيتام ، وانتقل ابن العجمي بعد ذلك إلى البلاط ، وابن أمين الدولة إلى تحت القلعة بالقرب من «مسجد السّيدة» (٢).

وقتل في ذلك اليوم في «مدرسة الزجّاجين» الشيخ أبو العباس المغربيّ ، وكان مقرئا محدّثا.

وثارت الفتنة بين الطائفتين ؛ وطلب الفقراء دور الأغنياء فنهبت دار أبي جعفر بن المنذر بالعقبة (٣) ، فجمع بدر الدين حسن جماعة من الأجناد ومن أهل البلد والسنّة ومن العسكر ، وألبسهم السلاح ، وصعد إلى شاذبخت ، وقال له : «إنّ أبا الفضل بن الخشّاب يريد أن يملك البلد وقد مال إليه الشيعة وبعض السّنّة ، فتعينني بنقّابين وزرّاقين حتى أقبض عليه ، وأعتقله ، إلى أن يحضر الملك الصالح».

__________________

(١) انظر الأعلاق الخطيرة ـ قسم حلب ـ ج ١ ص ١٨٨ حيث يستخلص أن الجرن الأصفر كان من أحياء حلب.

(٢) مسجد السيدة علوية بنت وثاب زوجة ثمال بن صالح وأم محمود بن نصر مدفونه فيه. الأعلاق الخطيرة ـ قسم حلب ـ ج ١ ص ١٨١.

(٣) انظر الآثار الإسلامية ص ٥٤ ـ ٥٥.

٨٤

فأمر الأجناد بلبس السّلاح والخروج معه ، وصار بهم إلى «تلّ فيروز» (١) وهو موضع سوق الصّاغة الآن ـ وكان إذ ذاك تلا.

وأخذوا الفلايج والأبواب ، وسدّوا بها الدّروب ، وزحفوا من الطّرق والأسطحة ، إلى دار ابن الخشّاب ، ووقع قتال شديد ، وقتل بين الفريقين جماعة كثيرة ، وانتهى إلى الدّار ، فأحرقها ونهبها ، ونهب أدر جماعة من المجاروين له.

وانهزم القاضي أبا الفضل ، واختفى في دار فخرا وابن كياعميد بالقرب من حمّام شراحيل (٢) ، فأقام بها إلى أن وصل الملك الصّالح في المحرّم ، من سنة سبعين وخمسمائة ، وصعد إلى القلعة ، وقبض على بني الدّاية ـ كما ذكرنا ـ وصار الأمر والتّدبير إلى سعد الدّين كمشتكين الخادم ، وهو الّذي بني الخانكاه (٣) المنسوبة إليه بحلب ، في جوارنا ، وهي كانت دار «أبي الطّيّب المتنبي» ، بحلب.

وكان شمس الدّين عليّ قد عزم على أنّ الملك الصّالح إذا قدم أخذ بمفرده ، وصعد به إلى القلعة ، ولا يمكّن أحدا من الأمراء من الصّعود ، ويطردهم ، ويستقلّ بالأمور.

فسيّر «شاذبخت» من أسرّ ذلك إلى الأمراء الذين كانوا في صحبة

__________________

(١) انظر الأعلاق الخطيرة ـ قسم حلب ـ ج ١ ص ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

(٢) لم يرد اسم هذه الدار أو الحمام في الأعلاق الخطيرة.

(٣) انظرها في الأعلاق الخطيرة ـ قسم حلب ـ ج ١ ص ٢٣٤.

٨٥

«الملك الصّالح» ، فاتّفق رأيهم في قنّسرين على قبض أولاد الدّاية ، وتحالفوا على أن قدّموا كمشتكين ، فلمّا رحلوا من قنّسرين ، بدأوا بسابق الدّين ، وكان قد وجّهه إلى دمشق في تقرير الأمور ، فقبضوه ، وحفظوا الطّرق لئّلا يصل إلى حلب من يخبر أخويه ، إلى أن صعدوا إلى القلعة ـ كما ذكرنا ـ

وأما أبو الفضل بن الخشّاب ، فإنّ «الملك الصالح» أمنّه ، وسيّر له خاتما ، وركب إلى القلعة ، ومعه خلق كثير من أهل حلب ، وعوامّها ، يمشون في خدمته ، وأكّد أمره ، وقرّر على أن يقتل ، فلما دخل إلى القلعة ، ووصل قدّام الفرن بالقلعة ، ضربه عليّ أخو عز الدين جورديك فرماه.

وجاء بعض أجناد القلعة فاحتزّ رأسه ، وجعلوه على باب القلعة. ثم رفع على رمح إلى برج بالقلعة ، يقال له «برج الزيت» ؛ وتفرّق أصحابه من تحت القلعة ، عند ذلك.

واستولى على دولة «الملك الصالح» أمير لالا المجاهد ياقوت ، وهو الحاكم عليه ، وهو الّذي ربّاه ، وجمال الدين شاذبخت الهندي وهو والي القلعة والحاكم بها ، وسعد الدين كمشتكين مقدّم العساكر ومتوّلي إقطاعهم ، وشهاب الدين أبو صالح بن العجمي ، وزير الملك الصالح ؛ فخاف ، وولّوا رئاسة حلب الرئيس صفيّ الدين طارق بن الطريرة ، وعزلوا أبا محمد الحكم ، وكان يتولّى الرئاسة في أيام نور الدّين.

فخاف ابن المقدّم والأمراء ، الذين بدمشق ، أن يستقرّ أمر كمشتكين بحلب ، فيأخذ الملك الصالح ، ويسير إلى دمشق ، ويفعل كما فعل بأولاد

٨٦

الدّاية ، فكاتبوا سيف الدّين غازي صاحب الموصل ، ليصل إليهم ، ويسلّموا إليه دمشق ، فخاف أن تكون مكيدة منهم ، فامتنع من ذلك ، وراسل سعد الدّين كمشتكين والملك الصالح ، وصالحهما على الجزيرة ، وابقائها في يده.

فخاف الأمراء ، بدمشق من اتفاق «سيف الدين» و «الملك الصّالح» عليهم ، فكاتبوا «الملك الناصر صلاح الدّين يوسف بن أيوب» ، واستدعوه من مصر ليملكوه عليهم ؛ فسار من مصر في سبعمائة فارس ، والفرنج في طريقه ، فلم يبال بهم ، فخرج إليه صاحب بصرى ـ وكان ممّن كاتبه ـ.

ولما وصل إلى دمشق خرج كلّ من كان بها من العسكر ، والتقوه ، ودخل البلد ، ونزل في دار أبيه المعروفة بدار «العقيقي» (١) ، وعصى عليه في القلعة خادم اسمه «ريحان» فأعلمه أنه إنما جاء في خدمة «الملك الصالح» فسلّم إليه القلعة ، وصعد «الملك الناصر» إليها ، وأخذ ما فيها من الأموال ، فاستعان به ، وتزوّج «خاتون بنت معين الدّين» ، وكانت زوجة «نور الدّين» ، واستخلف أخاه طغتكين سيف الإسلام.

وسار إلى حمص وحماة ، وهما في اقطاع «فخر الدّين مسعود بن الزعفراني». وكان ظالما ، فسار منها بعد موت «نور الدّين» ، فملك «الملك الناصر» في حادي عشر جمادى الأولى ، من سنة سبعين ، مدينة حمص.

__________________

(١) المكان الذي يقوم فيه الآن بناء المكتبة الظاهرية بدمشق.

٨٧

وبقيت القلعة ، وكان الولاة في القلاع من جهة نور الدّين ، فترك في البلد من يحفظه ، ويمنع من في القلعة من النّزول.

وسار إلى حماة ، فملك مدينتها مستهلّ جمادى الآخرة ، وكان بالقلعة عزّ الدّين جورديك ، فأرسل إليه ، وقال له : «إنّي في طاعة الملك الصّالح ، والخطبة له في البلاد التي في يدي على حالها ، والمقصود اتّفاق الكلمة على طاعة الملك الصّالح ، وأن نستعيد البلاد الجزرية ونحفظ بلاده». فاستحلفه جورديك على ذلك ، وسيّره إلى حلب في اجتماع الكلمة ، وفي اطلاق شمس الدّين عليّ وأخويه من السّجن ، وكان إقطاعهم قد قبض من نوّابهم ، ولم يبق في أيديهم غير شيزر ، «وقلعة جعبر».

واستخلف جورديك بقعلة «حماة» أخاه ليحفظها ، فلمّا وصل جورديك قبض عليه كمشتكين ، وسجنه ، فعلم أخوه بذلك ، فسلّم قلعة حماة إلى الملك النّاصر.

وسار الملك النّاصر إلى حلب ، فوصلها في ثالث جمادى الآخرة من سنة سبعين ، وحصرها. فركب الملك الصّالح ، وهو صبيّ عمره اثنتا عشرة سنة ، وجمع أهل حلب ، وقال لهم : «أنا يتيمكم ، وقد عرفتم إحسان أبي إليكم ، وقد جاء هذا الظّالم ينتزع ملكي» ، وقال أقوالا كثيرة ، وبكى فأبكى الناس ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم له ، واتّفقوا على القتال دونه ، والذبّ عنه.

فجعل الحلبيّون يخرجون ، ويقاتلون الملك النّاصر عند «جبل

٨٨

جوشن» ، فلا يقدر أن يتقرّب إلى البلد ؛ وأرسل سعد الدّين كمشتكين إلى «سنان» مقدّم الاسماعيليّة ، وبذل له أموالا كثيرة ليقتل الملك الناصر ، فقفزوا عليه ، فحماه الله منهم ، وقتلوا (١).

وبقي محاصرا حلب إلى سلخ جمادى الآخرة ، وكان كمشتكين قد أرسل إلى سيف الدّين غازي يستنجده ، وكان «ريمند» ـ صاحب طرابلس الّذي أسره نور الدّين ـ قد أطلقه كمشتكين بمائة ألف وخمسين ألفا صوريّة ، في هذه السّنة ، وصار موضع «مري» ملك الفرنج (٢) ، فأرسل من بحلب إليه يطلبون منه أن يقصد بعض البلاد الّتي بيد الملك النّاصر ، ليرحل عنهم ، فسار إلى حمص ونازلها ، فرحل الملك النّاصر عن حلب ، مستهلّ شهر رجب. فلما نزل «الرّستن». رحل الفرنج عن حمص ، ووصل الملك النّاصر إليها ، وحصر قلعتها إلى أن تسلّمها.

وسار إلى بعلبك ، فتسلّمها وقلعتها ، في رابع شهر رمضان ، من سنة سبعين وخمسمائة.

وأما سيف الدّين غازي فإنّه جمع عساكره ، وكاتب أخاه عماد الدّين زنكي صاحب سنجار ، لينزل إليه بعساكره ليجتمعا على نصرة الملك الصّالح ، فامتنع ، وكان الملك النّاصر قد كاتبه ، وأطمعه في ملك الموصل ، لأنّه الكبير من أولاد أبيه ، فمضى سيف الدّين إلى «سنجار»

__________________

(١) منذ ذلك الحين أقيم لصلاح برج خشبي كان لا يفارقه خوفا من الاغتيال.

(٢) وصل إلى مرتبة الوصاية على بلدوين بن عموري. وليم الصوري ص ٩٧٦ ـ ٩٧٧.

٨٩

محاصرا لها ، وسيّر عسكرا كثيرا إلى حلب مع أخيه عزّ الدّين مسعود ، مع أكبر أمرائه «زلفندار» ، فوصل عزّ الدّين إلى حلب ، واجتمعت عساكر حلب معه ، وساروا إلى حماة ، فقاتلوها.

فأرسل الملك النّاصر ، وبذل لهم تسليم حمص وحماة ، وأن يقرّ بيده دمشق ، وأن يكون فيها نائبا عن الملك الصّالح ، فلم يجيبوه إلى ذلك ، وقالوا : «لا بدّ من تسليم جميع ما أخذه من الشّام ، وعوده إلى مصر».

فسار الملك النّاصر إلى عزّ الدّين وزلفندار ، فالتقوا تاسع عشر شهر رمضان ، على قرون (١) حماة. فانهزم عسكر الموصل ، وثبت عزّ الدّين بعد الهزيمة ، فقال الملك الناصر : «إما أن يكون هذا أشجع النّاس ، أو أنه لا يعرف الحرب». وأمر أصحابه فحملوا عليه حتى أزالوه عن موقفه ، وتمّت الهزيمة ، وتبعهم الملك النّاصر ، وغنموا غنائم كثيرة ، وأسر جماعة كثيرة ، فأطلقهم.

ونزل الملك النّاصر على حلب ، محاصرا لها ، وقطع حينئذ خطبة الملك الصّالح ، وأزال اسمه عن السّكّة في بلاده ، فلما طال الأمر عليهم راسلوه في الصّلح ، على أن يكون له ما بيده من بلاد الشّام ، ولهم ما بأيديهم ، وأخذ المعرّة ، وكفرطاب ، وانتظم الحال بينهم على ذلك.

ورحل عن حلب ، في العشر الأول من شوّال ، إلى حماة ، فوصلته

__________________

(١) جبلا زين العابدين وكفراع شمالي حماة.

٩٠

خلع الخليفة بها مع رسوله ، ووصل خبر الكسرة إلى سيف الدّين ، وهو محاصر سنجار ، فصالح «عماد الدّين» على ما بيده ، ورحل إلى الموصل ، وشرع في جمع العساكر.

وسار الملك النّاصر من حماة إلى «بارين» ، وفيها نائب عزّ الدّين بن الزّعفراني ، ولم يبق بيده غيرها ، فحصرها إلى أن سلّمها واليها إليه بالأمان ، فعاد إلى حماة ، وأقطعها خاله شهاب الدّين محمود بن تكش الحارميّ ، وأقطع حمص ناصر الدّين محمد ابن عمه أسد الدّين ، وعاد إلى دمشق.

وخرج سيف الدّين غازي صاحب الموصل ، في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وسار إلى «نصيبين» ، واستنجد صاحب «حصن كيفا» وصاحب «ماردين» ، فاجتمع معه عسكر كثير بلغت عدّتهم ستة آلاف فارس ، وأقام بنصيبين حتى خرج الشّتاء ، فضجرت العساكر وفنيت نفقاتهم (١).

ثم سار إلى حلب ، فعبر ب «البيرة» وخيّم على جانب الفرات الشامي ، وراسل كمشتكين والملك الصالح ، لتستقرّ قاعدة يصل عليها إليهم ، ووصل كمشتكين إليه ، وجرت مراجعات كثيرة ، عزم فيها على العود مرارا ، حتى استقرّ اجتماعه بالملك الصالح ، وسمحوا به ، فسار ووصل إلى حلب.

__________________

(١) انظر ما كتبه ابن الأزرق الفارقي. ٥٣٣٥ ـ ٥٣٣٧ من الموسوعة الشامية.

٩١

وخرج الملك الصّالح للقائه بنفسه ، فالتقاه قريب «القلعة» ، واعتنقه ، وضمّه إليه ، وبكى ، ثم أمره بالعود إلى القلعة فعاد ، وسار هو ، فنزل «بعين المباركة» (١) ، وأقام بها مدّة وعسكر حلب تخرج إلى خدمته في كلّ يوم ، وصعد إلى قلعة حلب جريدة ، وأكل فيها شيئا ، ونزل ، وسار منها إلى «تلّ السّلطان» (٢) ، ومعه عسكر حلب ، مضافا إلى العساكر الواصلة معه.

وخرج رجل ادّعى أنّه المنتظر ، وادّعى النبوّة «بجبل ليلون» (٣) ، واستغوى أهل تلك النّاحية ، وأظهر لهم زخارف ، ومحالا ، وقال لهم : «إذا جاء العسكر إليكم ، فسوف أرميهم بكفّ من تراب فأهلكهم». وأغاروا على «تركمان» «بجبل سمعان» وكان مقيما بأتباعه «بكفرند» ، فخرج «طمان» من العسكر ، وسعد الدّين كمشتكين بجماعة من العسكر ، ووصلوا إليهم ، فجعل أتباعه يصيحون ؛ «وعدك يا مولانا»! والسّيف يعمل فيهم ، فألقى التراب ، فزحف إليه العسكر ، وقتل الرجال وسبى النساء ، والتجأ جماعة إلى المغاير ، فاستخرجوهم ولم يبقوا إلّا على من أسلم منهم ، ودخّنوا على جماعة في المغاير ، فماتوا ، ثم عاد العسكر إلى «تلّ السّلطان» ، بعد أن قتل وصلب (٤).

__________________

(١) من منتزهات حلب المشهورة. انظر تاريخ حلب لابن الشحنة ـ ط. طوكيو ١٩٩٠ ص ١٣٢ ، ٢٤٥ ، ٢٤٧.

(٢) انظر تاريخ ابن الشحنة ص ١٣٢.

(٣) جبل ليلون جبل مطل على حلب بينها وبين أنطاكية. معجم البلدان.

(٤) ذكر أبو شامة في الروضتين ج ١ ص ٢٥١ ـ ٢٥٢ نقلا عن ابن أبي طيء أن هذا الرجل

٩٢

وكان الملك النّاصر بدمشق في قلّ من العسكر ، لأنّه كان قد سيّرها إلى مصر ، وأنفذ إليها يستدعيها ، فلو عاجله سيف الدّين لبلغ منه غرضا ؛ لكنّه تأخّر ، فوصل عسكر مصر إلى الملك النّاصر.

فسار من دمشق إلى ناحية حلب ، ليلقى سيف الدّين ، فالتقاه «بتلّ السّلطان» ، وكان «سيف الدّين» قد سبقه إلى تلّ السلطان ، فوصل الملك النّاصر العصر ، وقد تعب هو وأصحابه وعطشوا ، فألقوا نفوسهم إلى الأرض ليس فيهم حركة.

فأشير على سيف الدّين بلقائهم في تلك الحالة ، فقال زلفندار : «ما بنا حاجة إلى القتال في هذه السّاعة ، وغدا بكرة نأخذهم كلّهم» ، فترك القتال إلى الغدّ ، فلما أصبحوا اصطفّوا للقتال ، فجعل «زلفندار» الأعلام في وهدة من الأرض ، لا يراها إلّا من هو قريب منها فلمّا التقى الفريقان ، ظنّ أكثر النّاس أنّ سيف الدّين قد انهزم ، لأنّهم لم يروا الأعلام ، فانهزموا بعد أن كان مظفّر الدّين بن زين الدّين ـ وهو في الميمنة ـ قد كسر ميسرة الملك النّاصر ، وولّوا الأدبار ، وأسر منهم جماعة فأطلقهم الملك النّاصر ، منهم : فخر الدّين عبد المسيح ، وأمسك عن تتبّع العسكر ، فلم يقتل غير رجل

__________________

أصله من المغرب ظهر أولا في قرية مشغرة في غوطة دمشق ثم هرب إلى بلد حلب ، وكان ذلك سنة ٥٧٠ ه‍ ، وأعتقد أن كفرند تصحيف لكفر نجد ، وكانت ـ كما قال ياقوت ـ قرية كبيرة من أعمال حلب في جبل السماق ، وكما ذكرها ابن العديم في بغية الطلب ص ٤٧٧ ، وكفر نجد الآن من قرى منطقة أريحا في محافظة ادلب وتبعد عن ادلب مسافة ١٧ كم.

٩٣

واحد ، وذلك في يوم الخميس العاشر من شوّال ، سنة إحدى وسبعين وخمسمائة.

ونزل الملك النّاصر وعسكره ، في بقيّة ذلك اليوم في خيم القوم ، واستولوا على جميع ما فيها ، وفرّق الاصطبلات والخزائن ، ووهب خيمة سيف الدّين عزّ الدّين فرّوخشاه ، ووصل سيف الدّين إلى حلب ، وترك أخاه عزّ الدّين في جماعة من العسكر ، وعبر الفرات ، وسار إلى الموصل.

ووصل الملك النّاصر إلى حلب ، يوم الأحد ثالث عشر شوّال ، فأقام عليها أربعة أيام ، ورحل عنها ، يوم الجمعة ثامن عشر شوّال ، فنزل بزاعا (١) فحصرها ، وتسلّمها يوم الاثنين العشرين من شوّال ورحل فنزل منبج ، فحصرها ، في التّاسع والعشرين من شوّال ، وبها قطب الدّين ينال بن حسّان ، وكان شديد العداوة للملك النّاصر ، وكان قد حنق عليه لذلك ، فملك المدينة ، ونقبت القلعة ، فحصروه بها ، ونقبها النقّابون ، وملكها عنوة ، وأخذ كلّ ما كان فيها ، وأخذ صاحبها أسيرا ، ثم أطلقه ، فسار إلى الموصل ، فأقطعه سيف الدّين «الرّقّة».

ورحل الملك النّاصر إلى «عزار» فنازلها ثالث ذي القعدة ، وحصرها ونصب عليها المنجنيقات.

وجلس يوما في خيمة بعض أمرائه ، ويقال له «جاولي» مقدّم الأسديّة ، فوثب عليه باطنيّ ، فجرحه بسكّين في رأسه ، فردّ المغفر عنه ،

__________________

(١) بزاعا بلدة من أعمال حلب في وادي بطنان بين منبج وحلب.

٩٤

وأمسك الملك النّاصر يدي الباطني بيديه ، إلّا أنه لا يقدر على منعه من الضّرب بالكليّة ، بل يضرب ضربا ضعيفا ، فبقي الباطنيّ يضربه بالسكّين في رقبته ، وكان عليه كزاغند (١) ، فكانت الضّربات تقع في زيقه ، والزّرد يمنعها من الوصول. وجاء «سيف الدّين يازكج» فأمسك السكّين ، فجرحه الباطني ، ولم يطلقها من يده إلى أن قتل ، وجان باطنيّان آخران فقتلا.

وركب الملك الناصر إلى خيمته ، ولازم حصار عزاز ، حتى تسلّمها بعد قتال شديد ، في بكرة الأربعاء ، ثاني عشر ذي الحجّة. ورحل عنها إلى «مرج دابق».

ثم سار فنزل حلب ، يوم الجمعة ، منتصف ذي الحجّة ، وحصرها ، وبها جماعة من العسكر ، ومنع أهل البلد الملك النّاصر من التقرّب إلى البلد ، وكانوا يخرجون إلى خيم المعسكر فيقاتلوه ، وإذا مسك واحد منهم شرحت قدماه ، فيمتنع من المشي ، ولا يكفّون عن القتال ، وقام في نصرته السّنة والشّيعة من الحلبيّين ، وأعطي الشيعة «الشرقيّة» في المسجد الجامع ، فكانوا يجتمعون بها للصّلاة.

واتّفق أن الحلبيّين اجتمعوا تحت القلعة ، شاكّين في السّلاح ، يستأذنون الملك الصالح في الخروج إلى قتال العسكر ، فدخل رسول من الملك النّاصر ، يقال له «سعد الدّين أبو حامد العجمي الكاتب» ، فصاح عوامّ الحلبيين : «ما نصالح يا رسول ، رح ، ودع عنك الفضول». ورجموه

__________________

(١) من أنواع الدروع السابغة.

٩٥

بالحجارة ، فخرج ، واتبعوه إلى قريب من الخيام.

ثم تردّدت الرسل بينهم في الصّلح بين الملك الصّالح ، وسيف الدّين صاحب الموصل ، وصاحب الحصن ، وصاحب ماردين ، وبين الملك النّاصر ، وتحالفوا ، واستقرّت على أن يكونوا كلّهم عونا على النّاكث الغادر ، واستقرّ الصلح ، ورحل الملك النّاصر ، في السّادس عشر من محرّم ، سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.

ولما تقرّر الصلح ، أخرج الملك الصّالح إلى الملك الناصر أخته بنت نور الدّين ، وكانت طفلة صغيرة ، فأكرمها ، وحمل لها شيئا كثيرا ، وقال لها : «ما تريدين؟» قالت : «أريد قلعة عزاز» ـ وكانوا قد علّموها ذلك ـ فسلّمها إليهم.

ورحل إلى بلد «الإسماعيليّة» (١) ، وحصرهم ، ثم صالحهم بوساطة خاله محمود بن تكش ، وسار بعساكره إلى مصر ، وكان في شروط الصّلح أن يطلق عزّ الدّين جورديك ، وشمس الدّين عليّ بن الدّاية ، وأخواه سابق الدّين ، وبدر الدّين ، فسار أولاد الدّاية إلى الملك النّاصر ، فأكرمهم ، وأنعم عليهم ، وأما جورديك ، فأقام في خدمة الملك الصّالح ، وعلم الجماعة براءته مما ظنّوا به.

وعصى غرس الدّين قلج في «تلّ خالد» (٢) لأنه نسب إليه أمر أوجب

__________________

(١) مصياف غربي مدينة حماه.

(٢) تل خالد من الحصون التي كان نور الدين قد انتزعها من جوسلين. انظر تاريخ ابن الشحنة ص ١٧٧ ، ٢١٤.

٩٦

وحشته ، فحصل فيها بماله ، وحصّنها ، فخرج إليه سعد الدّين كمشتكين بالعسكر ، ومعه «طمان» ، فحصره مدّة ، فسيّر ، واستشفع بالملك النّاصر ، فقبل الشفاعة وأمنّه ، فخرج بماله وأهله ، وحاشيته ، ومضى إلى منبج ، فنزل بها عند «الدويل» ، وكان الملك النّاصر قد أقطعه إيّاها ، وكان ذلك في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.

وفي هذه السّنة ، أظهر أهل «جبل السمّاق» الفسق والفجور ، وتسمّوا بالصفاة ؛ واختلط النّساء والرّجال في مجالس الشّرب ، ولا يمتنع أحدهم من أخته ولا بنته ، ولبس النساء ثياب الرّجال ، وأعلن بعضهم بأن «سنانا» ربّه. فسيّر الملك الصالح اليهم عسكر حلب ، فهربوا من «الجبل» وتحصّنوا في رؤوس الجبال ، فأرسل «سنان» ، وسأل فيهم ، وأنكر حالتهم ، وكانوا قد نسبوا ذلك إليه ، وأنّهم فعلوا ذلك بأمره ، فأشار سعد الدّين بقبول شفاعته فيهم ، وعاد العسكر عنهم (١).

وشرع «سنان» في تتبّع المقدّمين منهم ، فأهلكهم ، وكان في «الباب» منهم جماعة فثار بهم «النبوية» (٢) من أهل ذلك البلد ، وقاتلوهم من التّركمان ، فانهزموا واختبئوا في المغاير ، فنهبوا دورهم ، وعرّوا نساءهم ، ودخّنوا عليهم في المغاير ، وقتلوا من أمكنهم قتله.

ثم إنّ الاسماعيليّة قفزوا على الوزير شهاب الدّين أبي صالح بن

__________________

(١) لعل لهذا علاقة بالقيامة التي أعلنت من قبل في قهستان بوساطة امام ألموت. انظر كتاب الدعوة الاسماعيلية الجديدة ـ ط. بيروت ١٩٧٠ ص ٨٧ ـ ٩٠.

(٢) أفضل المعلومات حول هذا الحدث لدى ابن الأزرق ص ٥٣٣٤ ـ ٥٣٣٥ من الموسوعة الشامية.

٩٧

العجمي ، يوم الجمعة رابع شهر ربيع الأول ، من سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة ، وكان السّبب في ذلك أنّ أبا صالح كان يواطىء المجاهد «الّلالا» وجمال الدّين شاذبخت ، على سعد الدّين كمشتكين ، ويحاولون حطّه عن مرتبته. فعلم كمشتكين ذلك ، فكتب كتابا إلى «سنان» مقدّم الاسماعيلية «بالحصون» ، على لسان الملك الصالح ، يلتمس منه قتل أبي صالح ، والّلالا ، وشاذبخت ، وكان قد أحضر الكتاب إلى الملك الصّالح. وهو خارج إلى الصيّد ، وطلب خطّه ، وهو أبيض ، لم يكتب فيه شيء أصلا ، وقال له : «المولى خارج ، ويحتاج أن يكتب كتابا في أمر كذا وكذا ، فيكتب المولى علامته». فكتب ثقة بأنّ الأمر كما ذكر.

فكتب كمشتكين إلى «سنان» بالأمر الذي أراده ، وسيّره إليه ، فلم يشكّ «سنان» في أنّ الأمر وقع من الملك الصّالح ، ليستقلّ بأموره وملكه ، فندب جماعة لقتل المذكورين ، فوثبوا على شهاب الدّين أبي صالح ، عندما خرج من باب الجامع الشّرقي (١) ، بالقرب من داره ، وقتل الاسماعيليّان الّلذان وثبا عليه.

ثمّ وثب بعد ذلك بمدّة ثلاث منهم على «الّلالا» ، بالقرب من «خانكاه القصر» (٢) ، وتعلّق بذيل «بغلتاقه» (٣) ليضربه بالسكّين ، فرفس الّلالا

__________________

(١) أي الجامع الأموي بحلب.

(٢) على مقربة من باب القلعة الصغير من جانب خندقها. الأعلاق ـ قسم حلب ـ ج ١ ص ٧١.

(٣) البغلطاق رداء بلا أكمام يلبس فوق الثياب. انظر معجم مفصل في أسماء الألبسه عند العرب لرينهارت دوزي ط. أمستردام ١٨٤٥ ص ٨١ ـ ٨٤.

٩٨

الفرس ، وخرج من البغلتاق» ، فنجا ، وأحاط النّاس بالجماعة الّذين قفزوا عليه ، وفيهم اثنان كانا يتردّدان إلى «ركابدار» (١) الّلالّا ، فقتل ، أحدهما وصلب ، وصلب الركابدار أيضا ، وكتب على صدره : «هذا جزاء من يؤوي الملحدة».

وأما الآخر ، فصعدوا به إلى القلعة ، فضرب ضربا عنيفا ، وثقب كعبه ، ليقرّر على السّبب الّذي أوجب وثوبهم ، فقال للملك الصّالح : «أنت تبعث كتبك إلى مولانا سنان بقتل من أمرنا بقتله ، ثم تنكر فعل ذلك؟» فقال : «ما أمرت بشيء». وكتب إلى «سنان» يعتب عليه فيما فعل بأبي صالح والّلالا ، فقال : «أنا ما فعلت شيئا إلّا بأمرك وخطّك». وسيّر إليه كتابا فيه علامته بقتل الثّلاثة المذكورين ، فعلم أن ذلك كان مكيدة من كمشتكين.

وكان الاسماعيليّة قد اجتهدوا في قتل شاذبخت ، فلم يقدروا على الوثوب عليه ، لشدّة احترازه في القلعة ، فعند ذلك وجد أعداء كمشتكين طريقا للطّعن عليه ، وقالوا : «إنّما أراد قتل هؤلاء ليستقلّ بملكك ، ويفعل فيه ما لا يقدر أن يفعله معهم ، وأنّه قد استصغرك ، واحتقر أمرك».

وكانت حارم لسعد الدّين كمشتكين ، أقطعه إياها الملك الصّالح ، حين أخذها من بدر الدّين حسن ، فأنهي إلى الملك الصّالح أنّ سعد الدّين يريد أن يسلّمها إلى الفرنج ، لأنّ أصله فرنجي ، وأنّه قد قرّر معهم أن

__________________

(١) المسؤول عن حفظ مراكب اللالا.

٩٩

يبيعها عليهم بمال وافر ، والدّليل على صدق ذلك أنّه أطلق من كان بالقلعة ، من أسرى الفرنج ، من أيّام نور الدّين ، وأطلق البرنس «أرناط» ، فقطع الطّريق بالكرك ، وسيّر أمواله من حلب وغيّبها ، وكتب إليه رجل من الفرنج يقال له ؛ الفارس «بدران» بشيء من ذلك ، وبعث بعدّة كتب من سعد الدّين إلى الفرنج ، تشهد بما أنهاه ، ولعلّه وضع ذلك كله عليه ، حتى نالوا غرضهم منه.

فقبض الملك الصّالح على سعد الدّين ، في التاسع من شهر ربيع الأول ، من سنة ثلاث وسبعين ، وكان قد جاء يطلب دستورا إلى حارم ، وطلب تسليمها منه ، فامتنع. فحمل إليها تحت «الحوطة» وجيء به إلى تحت قلعتها ، وعذّب ، فاستدعى بعض من يثق إليه من المستحفظين بالقلعة ، وأسرّ إليهما (١) أنّهم لا يسلّمونها ، ولو قطع ، ثم قال لهما جهرا : «بعلامة كذا وكذا ، سلّموا» ، فصعدا إلى القلعة ، وأظهر من فيها العصيان والمقاتلة ، فعذّب عذابا شديدا ، وعلّق برجليه ، وسقط بالخلّ ، والكلس. والدّخان ، وعصر ، وأصحابه يشاهدونه ، ولا يجيبون إلى التسليم.

وخرج الفرنج من «أنطاكية» ؛ يطلبون «حاوم» ، فتقدّم الملك الصّالح بخنق كمشتكين ، فخنق بوتر ، وأصحابه يشاهدونه ولا يسلمون ، وكسروا يديه وعنقه ، ورموه إلى خندق «حارم» ، فحين علم الفرنج ذلك ساروا إلى شيزر.

__________________

(١) لعل عدد من استدعاه ممن كان يثق به كان اثنين.

١٠٠