زبدة الحلب من تاريخ حلب - ج ٢

كمال الدّين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي [ ابن العديم ]

زبدة الحلب من تاريخ حلب - ج ٢

المؤلف:

كمال الدّين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي [ ابن العديم ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

[عصر الدولة الأتابكية](١)

وقيل : إنّ ختلغ أبه لم يزل بالقلعة حتى وصل أتابك فنزل إليه. وصعد أتابك إلى القلعة ، يوم الاثنين سابع عشر جمادى الآخرة ، من سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة ، وارتاد موضعا ينقل أباه قسيم الدّولة إليه ويدفنه به ، وكان مدفونا بالقبّة التي على جبل قرنبيا ، فعرض عليه بدر الدّولة نقل أبيه إلى المدرسة التي أنشأها بالزّجّاجين.

وقيل : إنّ أبا طالب بن العجمي طلب منه ذلك ، فنقله ورفعه في اللّيل من سور حلب ، ودفنه في البيت الشّمالي من المدرسة (٢) ، واتّخذه تربة لمن يموت من أولاده ووقف على المقرئين على تربة والده القرية المعروفة بشامر (٣).

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح.

(٢) انظر الآثار الاسلامية ص ٩٠ ـ ٩١.

(٣) تبعد شامر عن مدينة حلب مسافة ١٢ كم وهي من قرى منطقة جبل سمعان.

٥

وأما الملك ابراهيم بن رضوان فإنّه هرب منه إلى نصيبين ، وكانت في أقطاعه إلى أن مات.

وأما ختلغ أبه فانه سلّمه إلى فضائل بن بديع فكحله (١) بداره ، ثم قتله أتابك بعد ذلك.

وقيل : إنّ بدر الدّولة هرب منه عند ذلك ؛ وهرب فضائل بن بديع إلى قلعة ابن مالك خوفا من أتابك.

وولّى أتابك رئاسة حلب الرئيس صفيّ الدّين أبا الحسن علي بن عبد الرّزّاق العجلاني البالسيّ ، فسلك أجمل طريقة مع النّاس.

وخرج أتابك من حلب ، وسار حتّى نزل أرض حماة ، فوصله صمصمام الدّين خير خان بن قراجا ، وتأكّدت بينهما مودّة لم تحمد عاقبتها ـ فيما نذكره بعد ـ وكذلك وصله سونج ابن تاج الملوك.

ثم سار أتابك (٢) بعد ذلك ، فوطىء بساط السّلطان ، في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة ؛ وعاد بالتّواقيع السلطانيّة بملك الغرب كله ، ودخل الموصل ، ثم فتح قلعة السّنّ (٣) ، وتوّجه إلى حلب ، ورعى عسكره زرع الرّها.

وعبر أتابك الفرات إلى حلب بتوقيع السّلطان محمود ، وقد كان السلطان آثر أن تكون البلاد لدبيس ، فقبّح المسترشد ذلك ، وكاتب

__________________

(١) التكحيل هنا : امرار ميل محمى على الجفنين حتى يلتصقا.

(٢) لزنكي ترجمة جيدة في بغية الطلب ص ٣٨٤٥ ـ ٣٨٥٧.

(٣) السن مدينة على دجلة فوق تكريت عند مصب الزاب الأسفل. معجم البلدان.

٦

السّلطان وقال له فيما قال : إنّ هذا أعان الفرنج على المسلمين وكثر سواد الكفار ؛ فبطل هذا التدبير.

واستقرّ ملك أتابك بالموصل ، والجزيرة ، والرّحبة ، وحلب ، والتوقيع له بجميع البلاد الشّاميّة وغيرها.

وتزوّج أتابك خاتون بنت الملك رضوان ، وبنى بها في دير الزّبيب (١) ؛ وكانت معه إلى أن فتح الخزانة بحلب ، واعتبر ما فيها ، فرأى الكبر (٢) الّذي كان على أبيه أقسنقر ، حين قتله تتش جدّها ، وهو ملوّث بالدّم ، فهجرها من ذلك اليوم.

وقيل : إنّه هدم المشهد الّذي على قبر رضوان ، عند ذلك.

ودام أتابك مهاجرا لها إلى أن دخلت على القاضي أبي غانم قاضي حلب ؛ وشكت حالها ، فصعد إليه ، وكان جبارا إلّا أنه ينقاد إلى الحقّ ، وإذا خوّف بالله خاف ، فخرج ليركب ، فلما ركب ذكر له القاضي ما ذكرته خاتون ، فساق دابّته أتابك ، ولم يردّ عليه جوابا ، فجذب القاضي أبو غانم بلجام دابته ، فوقفت ، وقال له : «يا مولانا ، هذا الشّرع لا ينبغي العدول عنه» ، فقال له أتابك : «اشهد عليّ أنّها طالق» ، فأرسل اللجام وقال : «أمّا السّاعة فنعم!».

__________________

(١) خارج مدينة حلب. بغية الطلب ص ٣٨٥٢.

(٢) الكبر : قباء محشو يتخذ للحرب. المعرب للجواليقي ص ٢٥٢. الحاشية ٢.

٧

واستوحش الأمير سوار بن أيتكين من تاج الملوك بوري صاحب دمشق ، وكان في خدمته ، فورد إلى حلب إلى خدمة أتابك ، في سنة أربع وعشرين ، فأكرمه وشرّفه ، وخلع عليه ، وأجرى له الإقطاعات الكثيرة ، وأعطاه ولاية حلب وأعمالها ، واعتمد عليه في قتال الفرنج ، وكان له بصيرة بالحرب وتدبير الأمور ؛ وله وقعات كثيرة مع الفرنج ومواقف مشهورة أبان فيها عن شجاعة وإقدام ، وصار له بسببها الهيبة في قلوب الكفّار الأغتام.

وعزم أتابك في السّنة على الجهاد ، وكتب إلى تاج الملوك بوري بن طغتكين صاحب دمشق ، يلتمس منه المساعدة ، فأجابه إلى ذلك وتحالفا على الصّفاء.

وكتب تاج الملوك إلى ولده بهاء الدين سونج بحماة ، يأمره بالخروج بعسكره ، وجهّز إليه من دمشق خمسمائة فارس ، وجماعة من الأمراء مقدّمهم شمس الخواص ؛ فخرجوا حتّى وصلوا إلى مخيّم أتابك على حلب ، فأكرمهم وتلقّاهم ، وأقاموا عنده ثلاثا ، ثم أظهروا الغارة على عزاز ، وركبوا وعطفوا على سونج ، وغدر به وبأصحابه ، ونهب خيامهم وأثقالهم وكراعهم ، وهرب بعضهم ، وقبض على سونج والباقين ، وحملهم إلى حلب ، واعتقلهم فيها.

وسار من يومه إلى حماة فأخذها يوم السّبت ثامن شوال ، وأقام بها أياما ، وطلبها خير خان بن قراجا صاحب حمص ، وبذل عليها مالا ، فسلّمها إليه بكرة الجمعة رابع عشر شوال ، وضربت بوقاته عليها ، وخطب

٨

له الخطيب على المنبر ، فلمّا كان وقت العصر من ذلك اليوم قبض عليه ونهب خيامه وجميع ما فيها.

وسار فنزل حمص ، فقاتلها أربعين يوما لم يظفر فيها بطائل غير الربض ، وكان يربط خير خان على غراير التّبن ، ويعاقبه ويعذّبه أنواع العذاب ، وانتقم الله منه ببعض ظلمه في الدّنيا ، وهو كان يحرّض أتابك على الغدر بسونج ، فكأفأه الله (١).

وهجم الشّتاء فعاد أتابك إلى حلب في ذي الحجّة.

وملكت أنطاكية زوجة البيمند بنت بغدوين ، وحالفت جماعة من الفرنج على قتال أبيها ، ووقع بين الفرنج شرّ (٢).

وهجم المسلمون ربض الأثارب ، وربض معرّة مصرين ؛ فوصل بغدوين من البيت المقدّس ، وأغار على أنطاكية وأخذ قوما من أصحاب ابنته ، فقطع أيديهم وأرجلهم.

وفتح قوم من السر جندية (٣) باب أنطاكية ، فدخلها في سنة خمس وعشرين ، فطرحت ابنته نفسها عليه ، فصفح عن ذنبها ، وأخذ أنطاكية ، ووهبها جبلة واللّاذقية ، وعاد إلى القدس.

__________________

(١) انظر تاريخ ابن القلانسي ص ٣٦١ ـ ٣٦٢ (حوادث سنة ٥٢٤ ه‍).

(٢) انظر وليم الصوري ص ٦٥٨ ـ ٦٦٠.

(٣) غالبا ما كان السرجندية من المشاة ذوي التسليح الثقيل وممن كانت الكنيسة تتولى الإنفاق عليهم.

٩

وتوجّه أتابك إلى الموصل في سنة خمس وعشرين وخمسمائة ، واستصحب معه سونج بن تاج الملوك ، وبعض المقدّمين ، من عسكر دمشق ؛ وترك الباقين بحلب ؛ وتردّدت المراسلات في إطلاقهم ، فلم يفعل ؛ والتمس عنهم خمسين ألف دينار أجاب تاج الملوك إلى تحصيلها وحملها.

ووقع في هذه السّنة وقعة بين جوسلين وسوار ، بناحية حلب الشماليّة ، فكانت الغلبة لجوسلين ؛ وقتل من المسلمين جماعة ، وخرج سوار بعد ذلك فهجم ربض الأثارب ونهبه.

ووصل دبيس في هذه السنة منهزما من المسترشد ، وكان قد كسره عسكر المسترشد في هذه السّنة ، فانهزم وخفي خبره عن كلّ أحد ، فظهر بعد مدّة أنّه وصل إلى قلعة جعبر ، وأودع ابن السلطان عند مالك صاحبها ، وسار إلى جوسلين ، واستند إلى الفرنج فلم ير ما يعجبه.

وكاتب تمرتاش ثم خاف من غدره ، وأن يفادي به خير خان ، فسار إلى بلد دمشق ، فنزل ضالا على مكتوم بن حسّان.

وقيل : كان سائرا إلى صاحبة صرخد ليتزوّجها ، فضلّ في الطريق ، ولم يكن معه دليل عارف بالمناهل.

وقيل : كان قاصدا حلّة مرى ، فهلك أكثر أصحابه.

وحصل في حلّة حسان كالمنقطع الوحيد في نفر يسير من أصحابه ،

١٠

فأنهض تاج الدّولة بوري العسكر إليه حينما سمع به ، فأسره ، ووصلوا به إلى دمشق ، لستّ خلون من شعبان سنة خمس وعشرين (١) ؛ وأنزله في دار بقلعة دمشق ، وأكرمه وأضافه ، وحمل إليه من الملبوس والمفروش ما يليق به ، واعتقله اعتقال كرامة. وكاتب المسترشد في أمره ، فردّ عليه الجواب بالاحتياط عليه إلى أن يصل من يحمله إلى بغداد.

فلمّا عرف أتابك زنكي ذلك ، أنفذ رسوله إلى تاج الملوك يطلب تسليم دبيس إليه ، وأن يطلق له الخمسين ألف دينار المقرّرة عن ولده سونج وبقيّة العسكر ، فأجاب إلى ذلك ، وتقرّر الشّرط عليه.

ووصل أتابك زنكي إلى قريب قارا بسونج والمعتقلين ؛ وتوجّه أصحاب تاج الملوك بدبيس فتسلّمه زنكي ، وحمله في محفّة مقيّدا ؛ وسلّم سونج بن تاج الملوك وجماعته إلى أصحابه.

وكان يظنّ دبيس أنّ أتابك زنكي يهلكه ، فلمّا وصل إلى حلب أطلقه وأكرمه ، وأنزله بحلب في دار لاجين ، وأعطاه مائة ألف دينار ، وخلع عليه خلعا فاخرة (٢).

وكان عرض لدبيس في طريقه وهو مكبّل بالحديد شاعر امتدحه بأبيات ، ولم يكن معه ما يجيزه ، فكتب له في رقعة هذين البيتين ، ودفعهما

__________________

(١) مرى بن ربيعة ، وحسان بن مكتوم. انظر بغية الطلب ص ٣٤٨١ ـ ٣٤٨٢. تاريخ ابن القلانسي ص ٣٦٦.

(٢) انظر بغية الطلب ص ٣٤٨٢.

١١

إليه :

الجود فعلي ولكن ليس لي مال

وكيف يصنع من بالفرض يحتال

فهاك خطّي إلى أيّام ميسرتي

دينا عليّ فلي في الغيب آمال

فجاءه الشّاعر بحلب ، وقد خرج مسيّرا في ميدان الحصا ، فقال له : «يا أمير لي عليك دين!» فقال : «والله ما أعرف لأحد عليّ دينا» فقال : «بلى ، وشاهده منك» ، وأخرج له خطّه ؛ فلمّا وقف عليه قال : «إي والله دين وأيّ دين!» وأمره أن يأتي إليه إذا نزل ، فأتاه فأعطاه ألف دينار والخلعة التي خلعها أتابك زنكي عليه ، وكانت جبّة أطلس وعمامة شرب.

وحصل دبيس بعد ذلك عند السّلطان مسعود ، في سنة تسع وعشرين ، حتى كسر مسعود المسترشد وأسره على باب مراغة (١).

وسيّر السّلطان إلى أتابك زنكي يستدعيه ، فكتب إلى أتابك يعلمه ويحذّره من المجيء فامتنع ، وكان السلطان قد سيّر دبيسا إلى الحلّة ، واطّلع بعد ذلك على فعل دبيس ، فردّه ، وحذّره النّاس فلم يفعل فوصل ، فلما وصل إلى الخيمة قام السّلطان عن السّرير ، وقال : «هذا جزاء من يخون مولاه». وضرب رأسه فأطاره ، فبلغ ذلك زنكي فقال : «فديناه بالمال وفدانا بالرّوح».

__________________

(١) مراغة بلدة مشهورة عظيمة وهي أعظم بلاد أذربيجان وأشهرها. معجم البلدان.

١٢

ووصل سديد الدّولة بن الأنباريّ كاتب الإنشاء للمسترشد إلى تاج الملوك ، في أواخر ذي القعدة لتسليم دبيس إلى من يحمله إلى بغداد ، فوجد الأمر قد فات ، فعاد فصادفته خيل أتابك زنكي بناحية الرّحبة فأوقعوا به ، وقبضوه ، ونهبوا ما كان معه حتّى نهبوا القافلة الّتي كانت معه ، وقتل بعض غلمانه ، ولقي شدّة عظيمة من الاعتقال إلى أن أطلق ، وعاد إلى بغداد.

وفي سنة ست وعشرين وخمسمائة ، فتح الملك كليام رام حمدان (١) ، وسار أتابك ودبيس إلى بغداد ، مباينين للمسترشد ، وعزما على أن يهجما بغداد ، فبذل لهما الحلّة ، وأن يدخل نائبهما بغداد ، فأبيا فخرج إليهما المسترشد بنفسه ، والتقوا في شعبان على عقرقوف (٢) فكسرهما ، وعاد أتابك زنكي إلى الموصل ، وسار دبيس إلى السّلطان سنجر.

ووقع بين الفرنج ، في هذه السنة ، فتن ، وقتل بعضهم بعضا ، وقتل صاحب زردنا ، ونزل التركمان على بلد المعرّة وكفرطاب ، وقسموا المغلّات ، فاجتمع الفرنج وهزموهم عن البلد ، وفتحوا حصن قبّة ابن ملاعب ، وأسروا منه بنت سالم بن مالك وحريم ابن ملاعب ، وخرّبوا الموضع.

وأوقع الأمير سيف الدّين سوار بفرنج تلّ باشر ، وقتل منهم خلقا كثيرا ، ووثب قوم من أهل الجبل على حصن القدموس ، فأخذوه وسلّموه

__________________

(١) رام حمدان من قرى ناحية معرتمصرين ، محافظة ادلب ، وتبعد عن ادلب مسافة ١٥ كم.

(٢) عقرقوف قرية من نواحي دجيل ، بينها وبين بغداد أربعة فراسخ.

١٣

إلى سيف الملك بن عمرون ، فاشتراه أبو الفتح الدّاعي الباطنيّ منه.

ووصل صاحب القدس إلى أنطاكية ، وجمع وخرج إلى نواز ، وسار إلى قنّسرين في جموع الفرنج ، والتقوا بعسكر حلب وسوار ، وفي سنة ثمان وعشرين في ربيع الأوّل ، فكسروا المسلمين ، وقتلوا أبا القاسم التركماني ، وكان شجاعا ، وقتلوا القاضي أبا يعلى بن الخشّاب ، وغيرهما.

وتحوّل الفرنج إلى النّقرة ، فصالحهم سوار والعسكر ، فأوقعوا بسريّة منهم ، فقتلوهم ، وعادوا برؤوسهم وأسرى منهم ، فسرّ النّاس بذلك بعد مساءتهم بالأمس.

وأغارت خيل الرّها من الفرنج ببلد الشّمال ، وهي عابرة إلى عساكر الفرنج ، فأوقع بهم سوار وحسّان صاحب منبج وقتلوهم بأسرهم وحملوا الرؤوس والأسرى إلى حلب (١).

وفتح شمس الملوك اسماعيل بن تاج الملوك حماة من يد نائب صلاح الدّين (٢) ، وكان قد عزم على ذلك ، فتحصّن واليها ، فانتهى ذلك إلى شمس الملوك ، فخرج في العشر الأواخر من شهر رمضان ، وعزم على قصدها والنّاس بها غافلون.

وهجم يوم العيد على من فيها وزحف في الحال فتحصّنوا منه ، فعاد في

__________________

(١) انظر ابن القلانسي ص ٣٧٤ (حوادث سنة ٥٢٧ ه‍) مع الحواشي.

(٢) صلاح الدين اليغيسياني ، من أكبر شخصيات دولة زنكي.

١٤

ذلك اليوم ، وقد نكا أصحابه في أهلها ، ثمّ زحف عليها زحفا قويا ، فانهزموا بين يديه ، وهجم البلد فطلبوا الأمان فأمّنهم ، وحلّفه والي القلعة على أشياء اقترحها ، وأجابه إليها وسلمها إليه ، فسلّمها إلى شمس الخواصّ.

وحصر المسترشد الموصل ، وثارت الحروب بين السّلاطين ، فبلغ المسترشد ما أزعجه ، فعاد عنها ، فوصل حسام الدّين تمرتاش إلى خدمة أتابك زنكي ، فسار معه إلى لقاء داود بن سكمان بن أرتق ، فكسره أتابك بباب آمد ، وانهزم داود وأسر ولده ، وقتل جماعة من أصحابه ، وذلك في يوم الجمعة سلخ جمادى الآخرة.

ونزل على آمد وحصرها ، وقطع شجرها ، فصانعه صاحبها بمال ، فرحل عنها إلى قلعة الصّور ففتحها ، وفتح البارعيّة ، وجبل جور ، وذا القرنين ، ووهب ذلك كلّه لحسام الدّين تمرتاش ، وفتح طنزة فاستبقاها لنفسه (١).

وتزوّج أتابك صاحبة خلاط ابنة سقمان القطبي.

واستولى أتابك على العقر (٢) وشوش (٣) وغير ذلك من قلاع الأكراد ؛

__________________

(١) أتى ابن الأزرق الفارقي على ذكر تفاصيل هذه الحوادث ، انظر ص ٥٢٥٠ مع التعريف بالأماكن الجغرافية.

(٢) عقر الحميدية قلعة حصينة كانت للأكراد ببلاد الموصل ـ الأعلاق الخطيرة ـ قسم الجزيرة ـ ص ٨١١.

(٣) عند ابن الأزرق «تل شيح» ووافقت رواية ابن العديم هنا رواية ابن الأثير ج ٨ ص ٣٤٣.

١٥

وأغار في هذه السّنة سوار على الجزر وحصن زردنا ، وأوقع بالفرنج على حارم ، وشحن على بلد المعرّتين ، وعاد بالغنائم إلى حلب.

واستوزر زنكي في هذه السّنة ضياء الدين أبا سعد الكفرتوثي ، وكان مشهورا بحسن الطّريقة والكفاية وحبّ الخير والمذهب الحميد ، وقدم معه إلى حلب ، وعزم على قصد دمشق ومضايقتها.

وذكر العظيميّ في تاريخه : «أنّه حصرها في هذه السّنة مدّة (١) ، ثمّ رحل إلى حلب ، ثمّ شرّق إلى الموصل».

والصحيح : أنّه حصرها في سنة تسع وعشرين وخمسمائة.

وذلك أنّ صاحبها شمس الملوك أبا الفتح اسماعيل بن بوري ، انهمك في المعاصي والقبائح ، وبالغ في الظّلم ، وأعرض عن مصالح الدّين والنظر في أمور المسلمين ، بعد اهتمامه أوّلا بذلك.

واستخدم بين يديه رجلا كرديا ـ يعرف ببدران الكافر ـ جاءه من بلد حمص ، وكان قليل الدّين متنوّعا في أبواب الظلم ، ليس في قلبه لأحد رحمة ، فسلّطه على ظلم المسلمين ومصادرة المتصرّفين بأنواع قبيحة من الظّلم ، وظهر منه بخل عظيم وسفّت نفسه إلى تناول الدنايا وغير ذلك من الأفعال الذّميمة.

__________________

(١) أي سنة ٥٢٨ ه‍ ، انظر تاريخ حلب للعظيمي ـ ط. دمشق ١٩٨٥ ص ٣٨٦ ، وعند ابن القلانسي ص ٣٩٠ ـ ٣٩٢ بين حوادث السنة التالية ٥٢٩ ه‍.

١٦

وعزم على مصادرة كتّابه وحجّابه وأمرائه ، فخاف منه أصحابه ، واستشعروا منه ، ووقعت الوحشة بينهم.

وعرف عزم أتابك زنكي على قصد دمشق ، وأنه متى وصلها سلّمت إليه ، فكاتب أتابك زنكي وحثّه على سرعة الوصول إليها ليسلّمها إليه طوعا ، وشرط عليه أن يمكّنه من الانتقام من كلّ من يكرهه من المقدّمين والأمراء والأعيان ، وكرّر المكاتبة إليه في ذلك ، وقال : «إن أهملت هذا الأمرر استدعيت الفرنج وسلّمت دمشق إليهم ، وكان إثم المسلمين في عنقك».

وشرع في نقل أمواله وأحواله إلى صرخد : فظهر هذا الأمر لأصحابه ، فأشفقوا من الهلاك وأعلموا والدته زمرّد خاتون بذلك ، فقلقت له ، وحسّنوا لها قتله ، وتمليك أخيه شهاب الدّين محمود ؛ فرجح ذلك في نظرها ، وعزمت عليه ، فانتظرت وقت خلوته من غلمانه وسلاحيّته ، وأدخلت عليه من أصحابها من قتله.

وأخرجته فألقي في ناحية من الدّار ليشاهده غلمانه وأصحابه فسرّوا بذلك ، وذلك في يوم الأربعاء الرّابع عشر من شهر ربيع الآخرة ، سنة تسع وعشرين وخمسمائة.

وقيل : إنّه اتّهم يوسف بن فيروز حاجب أبيه بوالدته ، فهرب منه إلى تدمر ، فأراد قتل أمّه ، فبلغها الخبر فقتلته خوفا منه ، وأجلست والدته

١٧

مكانه أخاه شهاب الدّين محمود بن بوري (١) ، وحلف النّاس له. وتوجّه أتابك زنكي من الموصل مجدّا ليتسلّم دمشق من شمس الملوك ، فوصل إلى الرّقة وقال : «أشتهي أن أدخل الحمام». فأحضر صلاح الدّين مسيّب بن مالك صاحب الرّقة ، وقال له : «أتابك يشتهي دخول الحمّام ، وهذه خمسمائة دينار تسلّمها واعمل له بها دعوة» فلم يشكّ في ذلك ، ودخلوها ، فلما حصلوا بها أخذوها منه ، وذلك في العشرين من شهر ربيع الآخر.

وبلغه ما جرى بدمشق ، فلم يقطع طمعه فيها ، وسار فنزل العبيدية (٢) ، وراسل أهل دمشق ، فلم يجيبوه إلى مطلوبه ، وردّوا عليه جوابا خشنا ، يتضمّن أنّ الكلمة قد اتّفقت على حفظ الدّولة والذبّ عنها ، فلم يحفل بذلك.

وسار إلى حماة فخرج إليه شمس الخواص بعد أن توثّق منه بالأيمان ، ورحل إلى دمشق ، وسار إليها ، فنزل على دمشق في عسكر عظيم ، وزحف عليها مرارا متعدّدة ، فلم يظفر فيها بطائل ، واشتدّ الغلاء في العسكر ، وعدموا القوت ، وقفز جماعة من العسكر إلى دمشق ، ووقعت المراسلة في حديث الصلح ، وكان قد وصل مع أتابك بعض أولاد السّلطان فطلب أن يخرج شهاب الدّين محمود لوطء بساط ولد السّلطان ، فلم يفعل.

واتّفق الأمر على خروج أخيه تاج الملوك بهرام شاه ، واتّفق عند ذلك

__________________

(١) لمزيد من التفاصيل انظر القلانسي ص ٣٨٧ ـ ٣٩٠.

(٢) في ابن القلانسي ص ٣٩١ : «وخيم بأرض عذراء إلى أرض القصير».

١٨

وصول بشر بن كريم بن بشر رسولا من المسترشد إلى زنكي بخلع هيّئت له ؛ وتقدّم إليه بالرّحيل عن دمشق والوصول إلى العراق ، ليولّيه أمره وتدبيره ، وأن يخطب للسّلطان ألب أرسلان داود بن محمود المقيم بالموصل ـ وكان قد وصل هاربا من بين يدي عمّه السّلطان مسعود ـ فأكرمه أتابك.

فدخل الرّسول وبهاء الدّين بن الشهرزوريّ إلى دمشق ، وقرّرا هذه القاعدة وأخمدا الفتنة ، وأكّدا الأيمان ؛ وخطب يوم الجمعة الثّامن والعشرين من جمادى الأولى بجامع دمشق بحضورهما ، على القاعدة الّتي وصل فيها الرّسول (١).

وعاد أتابك من دمشق ، فلمّا وصل حماة قبض على شمس الخواص صاحبها ، وأنكر عليه أمرا ظهر منه ، وشكا أهلها من نوّابه فتسلّمها منه ، وأطلقه فهرب ، وردّ حماة إلى صلاح الدّين ورحل من حماة.

وسار إلى بلد حلب ، فنزل على الأثارب ، ففتحها أوّل رجب ، ثمّ فتح زردنا ، ثم تلّ أعذى ، ثمّ فتح معرّة النّعمان ، ومنّ على أهلها بأملاكهم ، ثمّ فتح كفر طاب ونزل على شيزر فخرج إليه أبو المغيث بن منقذ نائبا عن أبيه ، ثمّ نزل بارين (٢) وأظهر أنّه يحاصرها ، ثمّ سار ، وأهل حمص غارون ، فشنّ عليهم الغارة ، واستاق كلّ ما كان في بلدها ونهبهم.

__________________

(١) لمزيد من التفاصيل انظر ابن القلانسي ص ٣٩٢.

(٢) تعرف الآن باسم بعرين وهي من قرى منطقة مصياف في محافظة حماة وتبعد عن حماة مسافة ٤٢ كم.

١٩

ووصل ابن الفنش الفرنجي من بيت المقدس وخرج في جموع الفرنج ، فنزل قنّسرين ، فسار إليهم أتابك فأحسن التّدبير ، وما زال بالمسلمين حولهم حتى عادوا إلى بلادهم.

وسار زنكي إلى حمص فأحرق زرعها ، وقاتلها في العشر الأواخر من شوّال ، ثمّ سار إلى الموصل في ذي القعدة من هذه السّنة.

وسار منها في المحرّم من سنة ثلاثين وخمسمائة إلى بغداد ، ومعه داود بن محمود بن ملكشاه الواصل إليه إلى الموصل ، فأنزله في دار السّلطنة ببغداد ، وأتابك في الجانب الغربيّ ، والخليفة إذ ذاك الرّاشد بعد قتل المسترشد.

فوصل السّلطان مسعود إلى بغداد فحصرهم بها فوقع الوباء في عسكره ، فسار إلى أرض واسط ليعبر إلى الجانب الغربيّ ، فاغتنم أتابك غيبته ، وسار إلى الموصل ، وسار داود إلى مراغة.

وبلغ الخبر السّلطان مسعود فعاد ، فهرب الرّاشد ، ولحق أتابك بالموصل. ودخل مسعود بغداد ، فبايع محمد المقتفي ، وخطب له ببغداد وأعمال السّلطان ، وبقيت الخطبة بالشّام والموصل على حالها إلى أن اتّفق أتابك زنكي والسّلطان مسعود واصطلحا ، وخطب بالشام والموصل للمقتفي ولمسعود. وفارق الرّاشد إذ ذاك زنكي ، وسار عن الموصل إلى خراسان في سنة إحدى وثلاثين (١).

__________________

(١) عاصر ابن الأزرق الفارقي هذه الأحداث ومواده على درجة عالية من الأهمية ، انظر الموسوعة الشامية ص ٥٢٢٦ ـ ٥٢٤٩.

٢٠