زبدة الحلب من تاريخ حلب - ج ٢

كمال الدّين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي [ ابن العديم ]

زبدة الحلب من تاريخ حلب - ج ٢

المؤلف:

كمال الدّين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي [ ابن العديم ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١
الجزء ١ الجزء ٢

«البغلة» من الحجارة الهرقليّة ، وعمق الخندق ، إلى أن نبع الماء في سنة ثمان وستمائة.

وخرجت من مصر ، في هذه السنة ، الملكة الخاتون ، «ضيفة خاتون» بنت الملك العادل إلى حلب ، مع «شمس الدّين بن التنبي». والتقاها الملك الظاهر بالقاضي بهاء الدين من دمشق ، ثم بالعساكر الحلبية بعد ذلك «بتلّ السّلطان» ، واحتفل في اللقاء ، وبالغ في العطاء ، ووصلت إلى حلب في النصف من المحرّم ، من سنة تسع وستمائة.

وملّك ابن التنبي قرية من قرى حلب ، من ضياع «الأرتيق» (١) يقال لها تلع ، وأعطاه عطاء وافرا ، وحظيت عنده حظوة ، لم يسمع بمثلها.

ووقعت النّار في مقام إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وهو الذي فيه المنبر ، ليلة الميلاد ، وكان فيه من الخيم والآلات والسلاح ما لا يوصف ، فاحترق الجميع ، ولم يسلم غير الجرن الذي فيه رأس يحيى بن زكريا ـ عليه‌السلام ـ واحترقت السقوف والأبواب ، فجدّده السلطان الملك الظّاهر ، في أقرب مدة أحسن مما كان.

وتوفي شرف الدين عبد الله بن الحصين كاتب السلطان ، واستقلّ شمس الدين عبد الباقي بن أبي يعلى بالوزارة ، في سنة تسع وستمائة.

وشرع الملك الظاهر في هدم «باب اليهود» وحفر خندقه وتوسعته ،

__________________

(١) الأرتيق : من كور حلب قرب عزاز. بغية الطلب لابن العديم ـ ص ٤٣٧.

٢٠١

وبناه بناء حسنا ، وغيّره عن صورته التي كان عليها ، وبنى عليه برجين عظيمين ، وسمّاه «باب النصر». وأتم بناءه ، في سنة عشر وستمائة.

وولد للسّلطان الملك الظّاهر ولده الملك العزيز ، من ابنة عمه الخاتون «ضيفة خاتون» ، في يوم الخميس خامس ذي الحجة من سنة عشر وستمائة ، فضربت البشائر ، وزيّنت مدينة حلب وعقدت القباب ، وفي اليوم السابع عشر ، من ميلاده ، ختن السّلطان أخاه الملك الصالح ، واحتفل بختانه ، ونصب الزّورق ، من قلعة حلب إلى المدينة ، ونزل فيه الرجال ، وعملوا من الآلات والتماثيل التي ركبوها ، حالة النزول أنواعا ، وطهّر أولاد الأكابر من أهل المدينة ، وشرّفهم ، وخلع عليهم.

٢٠٢

ودخلت سنة إحدى عشرة وستمائة

فجدّد السلطان الملك الظّاهر «باشورة» حلب ، من «باب الجنان» إلى «برج الثعابين» ، وبنى لها سورا قويا ظاهرا عن السّور العتيق ، وجدّد فيه أبرجة كالقلاع ، وعزم على أن يفتتح بالقرب من «برج الثعابين» بابا للمدينة ، ويسميه «باب الفراديس» ، وكان يباشر الإشراف على العمارة بنفسه.

وأمر في هذه السنة بتجديد ربض الظاهرية ، خارج «باب قنّسرين» ، فيما بينه وبين النهر ، فنسب إليه ، لذلك ، وخربت «الياروقية» ، وانتقل معظم أهلها إليه.

ووثب الإسماعيلية على ابن الابرنس ، «بكنيسة انطرسوس» ، فقتلوه ، فجمع البرنس جموع الفرنج ، ونزل على حصونهم ، وقتل وسبى ، وحصر «حصن الخوابي» فكتبوا إلى السّلطان ، يستغيثون به ، ويستنجدونه ، فاستخدم السلطان مائتي راجل ، وسيّر جماعة من عسكر حلب ، يحفظونه ، ليدخلوا إلى «حصن الخوابي» ، ويمنعوا الفرنج من الإستيلاء عليه.

٢٠٣

وجرّد عسكرا من حلب ، مع سيف الدّين بن علم الدّين ، ليشتغل الفرنج من جهة «الّلاذقية» ليتمكن الرجالة من الدخول إلى الحصن ، فلما سمع الفرنج بذلك ، كمنوا كمينا للرجالة والخيالة ، الذين يحفظونهم ، فأسروا الرجالة ، وقتلوهم ، وقبضوا ثلاثين من الخيالة ، وذلك في حادي عشر شهر رجب.

فعند ذلك خرج الملك المعظّم بن العادل ، من دمشق ، بعسكره ، ودخل غائرا في بلد «طرابلس» ، فلم يترك في بلدها قرية إلّا نهبها ، وخربها ، واستاق الغنائم والأسرى ، فرحلوا عن «الخوابي» ؛ وأطلقوا الأسرى الذين أسروهم من أصحاب السلطان الملك الظاهر ، وراسلوه ، معتذرين ، متلطّفين ، وافترقوا عن غير زبدة حصلت لهم.

وتمت الباشورة ، والباب ، والأبرجة ، في سنة اثنتي عشر وستمائة. ولم يتم فتح الباب ، وسدّه طغرل الأتابك ، لما مات الملك الظّاهر ، إلى أن فتحه السلطان الملك النّاصر ـ أعزّ الله نصره ـ على ما نذكره ، في سنة اثنتين وأربعين وستمائة.

٢٠٤

ودخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة

ووقعت المراسلة بين السلطان الملك الظاهر ، وبين السلطان «كيكاوس بن كيخسرو» ؛ واتفقا على أن يمضي السّلطان إلى خدمته ، ويتفق معه خوفا من عمّه ، فأجابه «كيكاوس» إلى ذلك ، وخرج بنفسه إلى أطراف البلاد.

وندم السلطان على ما كان منه ، ورأى أنّ حفظ بيته أولى ، وأنّ اتفاقه مع عمّه أجمل ، فسيّر القاضي بهاء الدّين ـ قاضي حلب ـ إلى عمّه إلى مصر برسالة ، تتضمن الموافقة : أنّه قد جعل ابنه الملك العزيز محمدا ، ابن ابنة الملك العادل ، وليّ عهده ، وطلب من الملك العادل أن يحلف له على ذلك ، فسار إلى مصر ، فرتّب السّلطان خيل البريد ، تطالع بما يتجدّد من أخبار عمّه ، لينظر في أمره ، فإن وقع منه ما يستشعر منه ، خرج بنفسه إلى «كيكاوس» ، وهو مع هذا كلّه في همّه تجهيز الجيوش ، والإستعداد للخروج إلى «كيكاوس» ، والإجتماع معه على قصد بلد ابن «لاون» أولا ، وكان «ابن لاون» قد ملك أنطاكية ، وضاق ذرع السّلطان بمجاورته ، لعلمه بانتمائه إلى عمّه.

٢٠٥

فوصلت الأخبار من «القاضي» من مصر ، أنّ الملك العادل أجاب الملك الظاهر إلى كل ما اقترحه ، وسارع إلى تحصيل أغراضه ، ولم يتوقّف في أمر من الأمور.

وجعل كيكاوس يحث السّلطان على الخروج ، ويذكر أنه ينتظره ، ونشب السلطان به ، وضاق صدره ، وبقي مفكرا في أنّ عمه قد وافقه ، ولا يرى الرّجوع عنه إلى ملك الروم ، فيفسد ما بينه وبين عمّه ، ويغضّ من قدره بالخروج إليه والإجتماع به إذا خرج ، وأنه إن رجع عن ذلك فسد ما بينه وبين ملك الروم ، والعسكر قد برز ، وهو مهتمّ في ذلك الأمر.

وطلب الإعتذار إلى ملك الروم بوجه يجمل ، فلشدّة فكره ، وضيق صدره ، هجم عليه مرض حادّ في جمادى الآخرة في سنة ثلاث عشرة وستمائة.

واعترته أمراض شتّى وماشيرا (١). واشتدّ به الحال ، وجمع مقدّمي البلد وأمراءه ، واستحلفهم لابنه الملك العزيز محمد ، ثم من بعده لابنه الملك الصالح أحمد ، ثم من بعده لابن أخيه ، وزوج ابنته : الملك المنصور محمّد بن الملك العزيز. وجعل الأمير سيف الدّين بن علم الدّين مقدّم العسكر ؛ وشهاب الدين طغرل الخادم والي القلعة ، ومتولّي الخزانة ، وتربية أولاده ، والنظر في مصالح الدّار والنساء.

وأنزل «بدر الدين ايدمر» والي قلعة حلب منها ، وأقطعه زيادة على ما كان في يده من الأقطاع «قلعة نجم» ، بذخائرها وعددها ، و «زردنا» ،

__________________

(١) مرض تظهر آثاره على الوجه والجلد.

٢٠٦

مع تسع ضياع أخر من أمّهات الضياع. وحلف إخوة السلطان على ذلك.

واستشعر السلطان من أخيه الملك الظافر «خضر» ـ وكان مقيما «بالياروقية» ـ فأقطعه «كفرسود» ، وتقدّم إليه بالتوجّه إليها ، فسار إليها ، فسبقه الملك «الزّاهر» ، فاستولى عليها ، وعلى «البيرة» و «حروص» و «المرزبان» و «نهر الجوز» و «الكرزين» و «العمق».

ومات السّلطان الملك الظاهر ـ رحمه‌الله ـ بقلعة حلب ، في الخامس والعشرين ، من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة وستمائة ، وكتم خبر موته ذلك اليوم ، حتى دفن في الحجرة ، إلى جنب الدّار الكبيرة ، التي أنشأها بقلعة حلب.

ثم أركب في اليوم الثاني من موته ولداه : الملك العزيز ، والملك الصالح ، وأنزلا بالثياب السّود إلى أسفل جسر القلعة ، وصعد أكابر البلد إليهما.

وأصيب أهل حلب بمصيبة فتّت في أعضادهم ، وكان له ـ رحمه‌الله ـ في كل دار بها مأتم وعزاء ، وفي كل قلية (١) نكبة وبلاء :

والنّاس مأتمهم عليه واحد

في كلّ دار أنّة وزفير

ووصل «القاضي بهاء الدّين» من الرّسالة ، في اليوم الثالث ، والوزير ابن أبي يعلى ، قد استولى على التّدبير ، وحكم على الصغير والكبير ، فصعد

__________________

(١) تصغير قلة ، وهي أعلى مكان في القلعة ، أو أنها تصحيف «قبيلة».

٢٠٧

القلعة ، واجتمع «بشهاب الدّين طغرل» ، وصرفه عن إضافة الأمور إلى الوزير.

وقرّر أن الأمراء يجتمعون ، ويتشاورون فيما يدبّرونه ، وأن لا يخرج الأمر عن رأي «شهاب الدّين» أيضا ، فاجتمعوا «بدار العدل» ، واتّفقت آراؤهم على أن يكون «الملك المنصور بن العزيز» أتابك العسكر ، وأمر الإقطاع إليه ، وأمر المناصب الدينيّة يكون راجعا إلى «شهاب الدين طغرل» ؛ وحلّفوه على ذلك ، وركب ، والأمراء كلّهم في خدمته.

ونزل الملك العزيز ، والملك الصالح ، وجلسا في دار العدل ، والملك العزيز في منصب أبيه ، وأخوه إلى جانبه ، والملك المنصور ، إلى جانبهما ثم اضطّربت الحال ، ولم يرض إخوة «الملك الظّاهر» ، بولاية المنصور.

ووصل في أثناء ذلك رسول الملك الرومي كيكاوس ـ وكان مخيّما بالقرب من البلاد ينتظر وصول السّلطان «الملك الظّاهر» إليه ـ فسيّر رسولا معزّيا ، ومشيرا بالموافقة معه ، وأن يكون «الملك الأفضل» أتابك العسكر ، فانّه عمّ الملك العزيز ، وهو أولى بتربيته وحفظ ملكه.

ومال الأمراء المصريون مثل : «مبارز الدّين يوسف بن خطلخ» ، و «مبارز الدين سنقر الحلبي» ، و «ابن أبي ذكرى الكردي» ، وغيرهم ، إلى هذا الرأي ، وقالوا : «أنّ هذا ملك كبير ، ولا ينتظم حفظ الملك إلّا به ، وإذا صار أمر حلب راجعا إليه كان قادرا على أخذ ثأره من عمّه ، وأخذ الملك به».

٢٠٨

ورأى القاضي «بهاء الدين» ، وسيف الدّين بن علم الدّين وسيف الدين بن قلج ، وغيرهما ، غير ذلك ، وقالوا : «إنّ هذا إذا فعل ، كان الملك العزيز على خطر من الجانبين ، لأنّ الملك العادل ملك عظيم ، وصاحب الديار المصرية ، فاذا قبلنا ذلك خرج من أيدينا ، فان كانت الغلبة له انتزع الملك من أيدينا. «وإن كانت عليه فلا نأمن أنّ الملك الأفضل ، يتغلّب على ابن أخيه وينتزع الملك منه ، ويستقلّ به ، كما فعل الملك العادل بابن العزيز ، والملك العادل قد حلف للملك الظاهر ، ولابنه الملك العزيز من بعده ، وهو ابن ابنته ، وابنته بقلعة حلب ، ونحن نطالبه بالوفاء بالعهد ، وهو يذبّ عن حلب كما يذبّ عن غيرها من ممالكه ، وأمور الخزائن وهي راجعة إلى شهاب الدّين طغرل ، وهو متولّي القلعة ، والرأي أن يقع الإتّفاق عليه ، فانّ المال عنده بالقلعة ، وهو فيها ينتصف ممّن خالفه ، وقد وقع إعتماد الملك الظّاهر عليه».

فاتفق رأيهم كلهم عليه ، وعملت نسخة يمين ، حلف بها جماعة الأمراء والمقدّمين من أهل البلد ، على الموالاة والطاعة للمك العزيز ، ثم من بعده لأخيه الملك الصّالح ، وعلى الموالاة لأتابكه «شهاب الدّين طغرل» ، وانقاد الجميع له طائعين ومكرهين.

وأبعد الوزير ابن أبي يعلى ، وصرف ، واستقرّ الأمر على ذلك ، في أواخر شعبان ، من السّنة ، وسار ابن أبي يعلى عن حلب ، في شهر رمضان من السّنة ، واستقلّ طغرل بترتيب البلاد والقلاع وتفريق الأموال والأقطاع ،

٢٠٩

ولا يخرج في ذلك كلّه ، عن رأي القاضي بهاء الدين ، وسيف الدّين بن علم الدّين ، وسيف الدّين بن قلج.

وأقطع علم الدين قيصر «دربساك» ، وابن أمير التركمان «الّلاذقية» ، وسيّر علم الدّين إلى الملك الزّاهر ، أولا ، يعاتبه على إستيلائه على البلاد ، فاعتلقه ، وقال : «أنا أحقّ بذلك ، فإنّني كنت وليّ العهد لأخي ، وقد حلف لي الناس». وطمع بملك حلب ، ثم انقاد إلى الطّاعة والخطبة ، وشرط أن تبقى البلاد ، التي استولى عليها بيده ، فأجيب إلى بذلك.

ولما استقرّ أمر الأتابكية لشهاب الدّين طغرل ، كره ذلك جماعة من المماليك الظّاهرية ، فعمد «عزّ الدين أيبك الجمدار» الظاهري ، واستضاف إليه جماعة من المماليك الظّاهرية ، والأجناد. وكاتب «الأسد أقطغان» ، ـ وكان والي حارم ـ واتفق معه على أن يأتي إليه ، إلى «حارم» بالجماعة الذين وافقهم ، ويفتح له القلعة ، فإذا حصلوا بها انضم إليهم جماعة غيرهم ، وكان لهم شأن حينئذ.

وكان العسكر المقيم «بحارم» قد أصعد إلى القلعة ، ورتّب بها ، وفيهم «المبارز أيوب بن المبارز أقجا» ، فأحسّوا باختلال أمر «الأسد» الوالي» ، وأنكروا عليه أشياء ، فاستيقظوا لأنفسهم ، واتّفقوا على حفظ القلعة ، والإحتياط عليها.

وسار أيبك الجمدار إلى حارم ، ووقف تحت القلعة ، ورام الصّعود إليها ، فمنعه الأجناد والأمراء ، الذين في القلعة من ذلك ، ولم يمكّنوا الوالي

٢١٠

من التحرّك فيها بحركة ، واحتاطوا عليه.

فسار أيبك إلى «دربساك» ، وطمع أن يتمّ له فيها حيلة أيضا ، فلم يستتبّ له ذلك ، وعصى «ألطنبغا» بقلعة بهسنى ، وانضاف إلى ملك الرّوم «كيكاوس». وانتظم الأمر بعد ذلك ، وسكنت الفتنة ، في أواخر شوّال من السّنة.

ونزل «الملك العادل» من مصر إلى الشّام ، وأرسل إلى «أتابك» بما يطيّب نفسه ، وسيّر خلعة للملك العزيز ، وسنجقا ، وحلف له على ما أوجب السكون والثقة.

واتّفق خروج الفرنج من البحر ، وتجمّعوا في أرض عكّار ، وأغاروا على «الغور» ، واندفع «الملك العادل» بين أيديهم ، إلى «عجلون» ، ثم إلى «حوران» ، ثم نازل الفرنج «الطّور» ، وزحفوا عليه ، فكانت النّصرة للمسلمين ، وقتل منهم جمع كثير ، وانهزموا عنها ، وهدمها الملك العادل.

وسار الفرنج إلى «دمياط» ، ونزلوا عليها ، وبينها وبينهم «النّيل» ، والملك «الكامل» في مقابلتهم ، واستدعى الملك «العادل» ابنه «الملك الأشرف» ، فسار في عسكره إلى «حمص» ، ودخل بلاد الفرنج ، ليشغلهم عن محاصرة «دمياط» فدخل إلى «صافيتا» ، فخربوا ربضها ، ونهبوا رستاقها ، وهدموا ما حولها من الحصون ، ودخلوا إلى ربض «حصن الأكراد» ، فنهبوه ، وحاصروا القلعة ، حتى أشرفت على الأخذ ، والملك العادل مقيم في «عالقين».

٢١١

ودخلت سنة خمس عشرة وستمائة

وتحرّك ملك الرّوم «كيكاوس» ، ومعه «الملك الأفضل» ، طالبا أن يملك حلب ، ويطمع «الأفضل» أن يأخذها له ، ليرغب الأمراء في تمليكه عليهم ؛ وكاتب جماعة من الأمراء ، وكتب لهم التواقيع ، ومن جملة من كاتبه «علم الدّين قيصر». وكتب له توقيعا «بأبلستان». واغتنما شغل قلب «الملك العادل» بالفرنج ، ووافقهما الملك الصّالح ـ صاحب آمد ـ وكان «كيكاوس» ، يريد الملك لنفسه ، ويجعل «الأفضل» ذريعة للتوصّل إليه ، وكاتبه أمراء حلب الّذين كانوا يميلون إلى «الأفضل». فجمع العساكر.

واحتشد ، واستصحب المناجيق ، وسار في شهر ربيع الأوّل ، فنزل رعبان وحصرها ، وفتحها.

فسيّر «الأتابك شهاب الدّين» «زين الدّين ابن الأستاذ» رسولا إلى «الملك العادل» ، يستصرخه على «الرّومي» ، و «الأفضل». فكتب إلى ولده «الملك الأشرف» ، يأمره بالرّحيل إلى إنجاد حلب بالعساكر ، وسيّر إليه خزانة ، وجعل «الملك المجاهد» ـ صاحب حمص ـ في مقابلة الفرنج.

٢١٢

وسار «الملك الأشرف» ، حتى نزل حلب «بالميدان الأخضر» وخرج الأمراء إلى خدمته واستحلفهم ، وخلع عليهم ، وأتاه «مانع» أمير العرب بجموعه المتوافرة ، وعاث العرب في بلد حلب ، «والملك الأشرف» يداريهم لحاجته إليهم.

وسار علم الدّين قيصر إلى ملك الرّوم من «دربساك» ، وجاهر بالعصيان ، ونزل «نجم الدين ألطنبعا» إليه من «بهسنى». وتسلّم الروميّ «المرزبان» ، وسار إلى «تلّ باشر» وهي في يد ولد «بدر الدين دلدرم» ، فنازلها ، وحصرها ، وفتحها. ولم يعط الملك الأفضل شيئا من البلاد التي افتتحها. فتحقّق «الملك الأفضل» فساد نيته ، وسار إلى منبج ، ففتحها بتسليم أهلها ، وكان قد صار في جملته رجل يقال له «الصّارم المنبجي» ، وله اتباع بمنبج فتولّى له أمر «منبج» وشرع في ترميم سورها ، وإصلاحه.

وسار «الملك الأشرف» نحوه من حلب إلى «وادي بزاعا» على عزم لقائه ، وجماعة من الأمراء المخامرين في صحبته ، فنزل في وادي بزاعا ، وسيّر «الرّومي» ألف فارس ، هم نخبة عسكره ، ومقدّمهم «سوباشي سيواس» ، فوصلوا إلى «تلّ قبّاسين» فوقع عليهم العرب ، واحتووا عليهم ، وعلى سوادهم. وركب «الملك الأشرف» ، فوصل إليهم ، وقد استباحوهم قتلا وأسرا ، وسيّروا الأسرى إلى حلب ، ودخلوا بهم والبشائر تضرب بين يديهم ، وأودعوا السّجن.

ولما سمع «كيكاوس» ذلك ، سار عن منبج هاربا ، ورحل «الملك

٢١٣

الأشرف» من منزلته ، واتبعه يتخطّف أطراف عسكره ، حتى وصل إلى «تل باشر» ، فنزل عليها ، وحاصرها حتى افتتحها ، وسلّمها إلى نوّاب الملك العزيز ، وقال : «هذه كانت ، أولا ، للملك الظّاهر ـ رحمه‌الله ـ وكان يؤثر ارتجاعها إليه ، وأنا أردّها إلى ولده». وذلك في جمادى الأولى ، من سنة خمس عشرة وستمائة. ثم أنه ملّكها للأتابك شهاب الدين طغرل ، في سنة ثمان عشرة وستمائة ، بجميع قراها.

ثم سار «الملك الأشرف» إلى «رعبان» و «تلّ خالد» فافتتحهما وافتتح «برج الرّصاص» ، وأعطى الجميع «الملك العزيز» ، وأقطعت «رعبان» لسيف الدين بن قلج. وعاد منكفئا إلى حلب ، ونزل على «بانقوسا».

وكان الخبر قد ورد بموت «الملك العادل» ـ رحمه‌الله ـ وكان مرض على «عالقين» ، فرحل إلى دمشق ، فمات في الطريق ، في جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة. فكتب الأتابك شهاب الدّين بذلك إلى الأمراء ، و «الملك الأشرف» قد قارب «مدينة حلب» ، فأعلموه بذلك ، فجلس في خيمته للعزاء ، وخرج أكابر البلد والأمراء إلى خدمته ، وأنشده الشعراء مراثي الملك العادل ، وتكلّم الوعّاظ بين يديه.

ولما انفصل العزاء ، سيّر «الأتابك شهاب الدّين» إلى «الملك الأشرف» ، وتحدّث معه في أن يكون هو السّلطان موضع أبيه ، وأن يخطب له في البلاد ، وتضرب السكّة باسمه ، وأن تكون العساكر الحلبيّة في خدمته. فقال : «لا والله لا أغيّر قاعدة قرّرها أبي ، بل يكون السّلطان أخي

٢١٤

«الملك الكامل» ، ويكون قائما مقام أبي» ، فاتّفق الحال بين «أتابك» وبينه ، برأي القاضي «بهاء الدّين» ، وسيف الدّين بن علم الدّين ، وسيف الدّين بن قلج ، على أن خطب بحلب وأعمالها «للملك الكامل» ، وبعده للملك الأشرف ، ثم للملك العزيز ، وضرب اسم «الملك الكامل» ، والملك العزيز ، على السكّة. وجعل أمر الأجناد والأقطاع في عسكر حلب إلى «الملك الأشرف» ، وأخليت له دار «الملك الظافر» «بالياروقية» ، فنزل فيها ، ورتب له برسم المعونة ، من أعمال حلب «سرمين» و «بزاعا» و «الجبّول» ، ووصلت إليه رسل البلاد ، من جميع الجهات ، ومالوا إليه ، وصاروا أتباعا له ، وأمر ونهى ببلد حلب ، في الأجناد والأقطاع لا غير ، وتردّد أكابر الحلبيّين إلى خدمته ، وخلع عليهم ، وانقضى فضل الشتاء.

٢١٥

ودخلت سنة ست عشرة وستمائة

فأقطع الأقطاع لأجناد حلب ، ورتّب أمور أمرائها ، ولا يفعل شيئا من ذلك إلّا بمراجعة «الأتابك شهاب الدّين» ، وبدا من الأمراء المصريين تحرّك في أمره ، وكرهوا أمره ونهيه في حلب ، وخافوا من استيلائه عليها ، وانتقامه منهم لميلهم إلى «الملك الأفضل». وبلغه عنهم أشياء عزموا عليها ، وهو ثابت لذلك كله.

ووصلته رسل أخيه «الملك الكامل» ، يطلب منه النجدة إلى «دمياط». وكان «ابن المشطوب» قد أراد الوثوب عليه وتمليك «الفائز» أخيه ، فأخرجه من الديار المصريّة ، بعد أن رحل من منزلته ، التي كان بها في قبالة الفرنج ، وعبور الفرنج إليها ، ونهب الخيم ومنازلة «دمياط» ، وقطعهم المادة عنها ، فاتفق رأي «الملك الأشرف» على تسيير الأمراء ، الذين كانوا يضمرون له الغدر ، فسيّرهم نجدة إلى أخيه ، وهم المبارزان : «ابن خطلخ» و «سنقر» الحلبيّان ، وابن كهدان ، وغيرهم ، وخاف ابن خطلخ منه ، فاستحلفه على أن لا يؤذيه ، فحلف له ، وسيّرهم إلى أخيه «الملك الكامل» ، فأقاموا عنده بالكلية.

٢١٦

وتوفّي نور الدّين ـ صاحب الموصل ـ في هذه السنة. وترك ابنا صغيرا قام «بدر الدين لؤلؤ» ، مملوك جدّه بتربيته. وخطب للكامل والأشرف.

وقام زنكي بن عز الدين ، فأخذ «العمادية» ـ وهي قلعة حصينة فيها أموال الموصل ـ بمواطأة من أجنادها ، وعزم على أخذ الموصل ، وقال : «أنا أولى بكفالة ابن أخي». وساعده «مظفّر الدّين» صاحب «إربل» على ذلك ، فسيّر لؤلؤ رسولا إلى «الملك الأشرف» إلى حلب ، يطلب إنجاده ، فسيّر إليه عزّ الدّين أيبك الأشرفي.

وكان عماد الدّين بن سيف الدّين علي المشطوب ، لما نفي من الديار المصريّة ، قد وصل إلى «حماة» ، وأقام عند صاحبها ، وكاتب «الملك الأفضل» ، وجمع جموعا كثيرة من الأكراد ، وأرباب الفساد ، وساعده الملك المنصور ـ صاحب حماة ـ بالمال والرجال على ذلك وعزم على أن يمضي ، بمن جمعه من العساكر إلى الأفضل ، وأن يقوم معه ، ويساعده صاحب حماة ، وسلطان الرّوم. ثم سار ابن المشطوب ، بغتة ، وخاض بلد حلب ، وكان الزمن زمن الربيع ، وخيول الأجناد متفرّقة في الربيع ، فوصل إلى «قنّسرين» ونفذ منها إلى «تلّ أعرن» (١) ، وبلغ «الساجور» ، واستاق في طريقه ما وجد من الخيل ، وغيره.

__________________

(١) كان يعرف أيضا باسم تل عرن ، وهو ما يزال يحمل الاسم نفسه ، وهو قرية في جبل الأحص تتبع منطقة السفيرة ـ محافظة حلب ، وتبعد القرية ٥ كم عن السفيرة ، يتوسطها تل كبير ، هو تل عرن. المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري.

٢١٧

وبلغ خبره إلى الملك الأشرف ، فأركب من كان بحضرته من العساكر ، خلفه ، وكان فيهم ابن عماد الدّين صاحب «قرقيسيا» ، فلحقوه على «السّاجور» ، وفي صحبته «نجم الدّين بن أبي عصرون» ، فقبضوا عليه وأتوا به إلى «الملك الأشرف» ، فعفا عنه ، و «عن ابن أبي عصرون» ، وأقطع ابن المشطوب «رأس عين» وأقام عنده مخيّما «بالياروقيّة» ، إلى أن دخل شعبان ، من السنة المذكورة. وسار «الملك الأشرف» ، إلى بلاده الشرقيّة ، لا صلاح أمر الموصل ، وكان صاحب إربل وزنكي ، قد كسرا «لؤلؤ» و «أيبك الأشرفي» ، على الموصل. فنزل الملك الأشرف على حرّان ، وفي صحبته عسكر حلب.

ومات «كيكاوس» ، ملك الروم ، وملك بعده أخوه كيقباذ ، فراسل الملك الأشرف ، واتفق معه. وخربت القدس في أوائل هذه السنة.

وخرج إلى الفرنج المنازلين «دمياط» نجدة من البحر ، ووقع الوباء في أهل «دمياط» ، وضعفوا عن حفظها ، فهجمها الفرنج على غفلة من أهلها ، في عاشر شهر رمضان ، والملك الكامل ، مرابط حولها بالعساكر ، وابتنى مدينة سماها «المنصورة» ، أقام فيها في مقابلة الفرنج.

٢١٨

ودخلت سنة سبع عشرة وستمائة

والملك الأشرف في «حرّان» ، و «ابن المشطوب» في اقطاعه «رأس عين» ، وقد داخل صاحب «ماردين» ؛ وقرّر الأمر معه على العصيان على «الملك الأشرف» ، وجمع جماعة من الأكراد ، فنمى الخبر إلى الملك الأشرف ، وخاف «ابن المشطوب» ، فسار إلى سنجار ، فاعترضه والي «نصيبين» ، من جهة الملك الأشرف ، وقاتله فهزمه ، واستباح عسكره ، وسار إلى سنجار ، فأجاره قطب الدّين صاحبها. وأرسل «الملك الأشرف» اليه ، في طلبه ، فلم يجبه إلى ذلك ، فسار الملك الأشرف نحوه ، فترك «سنجار» ، ومضى إلى «تلعفر» ، فعصى بها ، فوصل إليه «ابن صبره» وعسكر الموصل. ووصل «الملك الأشرف» إلى «سنجار» ، وفتحها ، وعوّض صاحبها «بالرّقة» عنها ، وفتح لؤلؤ «تلعفر» ، وسلّمها إلى «الملك الأشرف» ، واستجار «ابن المشطوب» بلؤلؤ ، فأجاره على حكم الملك الأشرف ، فيه ، وسلّمه إلى الملك الأشرف ، فقيّده ، وسجنه بسنجار.

وسار الملك الأشرف إلى الموصل ، ومعه عسكر حلب ، فأقام مخيّما

٢١٩

على ظاهرها ، حتى أصلح أمرها مع صاحب «إربل» ، وهادنه.

ووصل الملك «الفائز» ، من الديار المصريّة ، مستصرخا ، وطالبا للنجد ، ووصل إلى حلب ، وأنزل «بالميدان الأخضر» ، وسار إلى الموصل ، إلى أخيه «الملك الأشرف» ، فأقام عنده ، بظاهر الموصل ، شهرا ومات.

وانفصل الملك الأشرف عن الموصل ، بعد إصلاح أمورها ، وشتّى «بسنجار» ، وقبض على «حسام الدين بن خشترين» ـ وكان أميرا من أمراء حلب ـ لغدر بلغه عنه ، وقيّده ، وسيّره ، وابن المشطوب إلى قلعة «حرّان» ، فحبسهما فيها إلى أن ماتا. وقبض على ابن عماد الدّين ـ صاحب «قرقيسيا» ـ وأخذها ، «وعانة» والبلاد التي كانت معه من يده ، وقدم حرّان ، فوصل إليه أخوه «الملك المعظّم» في محرّم سنة ثمان عشرة من دمشق ، فوافقه على الصعود إلى الديار المصريّة ، لا زاحة الفرنج عنها ، فجهّز العساكر ، واستدعى عسكر حلب ، وعبر الفرات ، والتقى بعسكر حلب.

وسار إلى دمياط ، مع أخيه «الملك المعظّم» ، وخرج الفرنج عن «دمياط» ، ونزلوا في مقابلة المسلمين ، فأرسلوا الماء عليهم ، فمنعهم من العود إلى «دمياط» ، ولم يبق لهم طريق اليها ؛ وزحف المسلمون عليهم ، واستداروا حولهم ، فطلبوا الأمان وتسليم «دمياط» فتسلّمها المسلمون في العشرين من شهر رجب سنة ثمان عشرة وستمائة.

وكان الملك المنصور ـ صاحب حماة ـ قد توفّي في ذي القعدة ، سنة

٢٢٠