زبدة الحلب من تاريخ حلب - ج ٢

كمال الدّين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي [ ابن العديم ]

زبدة الحلب من تاريخ حلب - ج ٢

المؤلف:

كمال الدّين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي [ ابن العديم ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١
الجزء ١ الجزء ٢

«حارم» ، لغدر وقع من الفرنج بناحية «العمق» ، وأغاروا على التركمان ، في تلك الناحية. وسيّر بعض العسكر إلى «خناصرة» ليقطع الطريق على الملك العادل إن توجّه إلى دمشق.

وصالح الملك الظّاهر الفرنج ورحل إلى «مرج قراحصار» في سلخ رجب من سنة خمس وتسعين.

وسار الملك العادل حتى بلغ إلى «تدمر» ، وسار في البرية إلى دمشق ، ونزل الملك الأفضل على دمشق ، في نصف شعبان من السنة ، ونزل بعض عسكره في «الميدان» ، وهجم بعض العسكر المدينة بمخامرة من أهلها ، ونادوا بشعار الملك الأفضل.

وكان مجد الدّين ـ أخو الفقيه عيسى ـ هو الّذي دخل منها حتى بلغ السّوق ، وشربوا الفقاع ، فخرج الملك العادل ، من القلعة ، وأخرجهم من البلد.

وخامر بعض العسكر على «الملك الأفضل» ، ودخلوا في اللّيل إلى دمشق ، فاختلّ الأمر عند ذلك ، وتأخر الملك الأفضل إلى «جسر الخشب».

وسار الملك الظّاهر إلى حماة ، فالتقى سيف الدين طغرل الظّاهري قطعة من عسكر حماة سائرة إلى منبج فظفر بها «طغرل» وأسر رجالها ، وأحضرهم إلى الملك الظاهر ، فأطلقهم بعدّتهم ودوابّهم.

١٨١

ولمّا وصل الملك الظاهر إلى «حماة» ، منعه عسكرها من العبور على الجسر فعبر قهرا ، ونزل عليها ، وقاتلها ، فهادنه الملك المنصور صاحبها ، وأخرج اليه تقدمة سنية ، وسيّر عسكره في خدمته ، فأقطعه الملك الظاهر «بارين» وكانت في يد ابن المقدّم ، فخرج صاحب «حماة» إليها محاصرا لها.

وسيّر الملك الظاهر إلى «الموصل» رسولا يأمر صاحبها بانجاد «ماردين» ؛ وترحيل الملك الكامل والملك العادل عنها ، ووصل الملك الظّاهر إلى دمشق ، واجتمع بالملك الأفضل في منزلته ، وخيموا بأرض «داريّا» ، ثم إنّهم زحفوا على المدينة ، وقاتلوها.

وبلغ الملك الظاهر أنّ «جهاركس» و «سامة» و «سراسنقر» وغيرهم ، قد عزموا على الدخول إلى دمشق ، نجدة للملك العادل ، فسيّر الملك الظاهر عسكرا مقدّمه «سيف الدّين بن علم الدّين» ، ليمنعوهم من الدخول ، فاختلفوا في الطريق ، ودخل المذكورون إلى الملك العادل ، فاشتدّ بهم أزره ، ولم يكن ينصح في القتال ، وقت الحصار غير العسكر الحلبيّ ، فأما المصري فأكثره منافق.

ووصل المواصلة إلى «ماردين» ؛ ورحّلوا الملك الكامل عنها ، ونهبوا ما كان لعسكره بها ، فضربت البشائر خارج دمشق في العسكر.

وسيّر الملك «الظّاهر» عسكرا ، مقدّمه «سيف الدّين» المذكور إلى الشرق ، ليجتمعوا مع المواصلة ، ويحصروا بلاد الملك العادل بالشّرق ، وأقطع سيف الدّين «سروج» ، وكان الأمر قد استقرّ مع المواصلة ، أن يردّ

١٨٢

إليهم سروج والرقّة. فلما علموا بأنّ السلطان أقطع سيف الدين «سروج» انحرفوا عنه ، وعادوا ، وخرج عسكر الرّها ، فوقعوا على سيف الدين فانهزم عن سروج.

وفتح الملك المنصور صاحب حماة «بارين» في ذي القعدة من ابن المقدّم ، وعوّضه عنها بمنبج ، بعد ذلك ، على ما سنذكره فيما بعد.

ووصلت رسل الشّرق إلى الملك الظّاهر ـ وهو على دمشق ـ واتفقوا على أن يكون لصاحب الموصل حرّان ، والرّها ، والرّقة ، وسروج ، وأن يكونوا يدا واحدة على من خالفهم ، وتحالفوا على ذلك ، في ذي الحجّة من سنة خمس وتسعين وخمسمائة.

١٨٣

ودخلت سنة ست وتسعين

والحصار على دمشق على حاله ، وأكثر الأجناد يحملون الأزواد في اللّيل ، ويبيعونه على أهل البلد ، فأخرج الملك العادل خزائنه جميعها ، ثم اقترض من التّجار جملة كبيرة ، وأمر بعمل الرّوايا والقرب ، للصعود إلى مصر ، واستدعى ابنه الملك الكامل من البلاد الشرقيّة ، فجمع وحشد.

وسيّر الملك الظاهر إلى سيف الدّين بن علم الدّين ، وإلى الملك المنصور صاحب حماة ، فاجتمعوا على «سلمية» ليمنعوا الملك الكامل من العبور ، فعبر في جيش عظيم ، لم يكن لهما به طاقة ، فانحازوا إلى «حماة» ، وساق سيف الدين بن علم الدين ، وأعلم السلطان الملك الظّاهر بذلك.

ووصل الملك الكامل إلى دمشق ، فرحل الملك الظّاهر ، والملك الأفضل ، إلى «مرج الصّفر» ، ثم إلى «رأس المآء».

ورحل الملك الظّاهر ، وأخفى نفسه جريدة إلى ناحية «صرخد» ومعه الملك المجاهد صاحب حمص ، وسار إلى طرف «السّماوة» ، وخرجوا إلى

١٨٤

«تدمر». وسار الملك الظّاهر إلى حلب ، ووصل بعده بغال الثقل ، دون الجمال على البريّة ، حتى وصلوا إلى «القريتين» ، ولحقهم الملك الكامل «بالقريتين» ، وهو مسرع إلى الشرق ، ووقع عسكر حلب على قطعة من أصحابه ، فظفروا بهم.

فلما وصل الملك الكامل ، وقد دخل ثقل السّلطان إلى «القريتين» ، سيّر إلى مقدّم عسكر حلب «علم الدين قيصر الناصريّ» ، واستدعاه وقال له : «ما بيننا وبينكم إلّا الخير ، وما جئنا لنتبعكم ، فردّوا علينا ما أخذتم لنا». ففعل ذلك ، وسار الملك الكامل إلى الشرق ، ووصلت البغال إلى حلب ، في تاسع عشر شهر ربيع الأوّل.

وأما الملك الأفضل ، فانّه توجّه من «رأس المآء» إلى مصر ، وتوجّه ثقل الملك الظاهر وخزانته معه إلى مصر. وخرج الملك العادل من دمشق ، وسار خلفه إلى مصر ، فدخلها ، وهرب الملك الأفضل إلى «صرخد».

واستولى الملك العادل على الديار المصرية ، في صورة الكافل ، والمربّي ، للملك المنصور محمد بن العزيز ، وسيّر خزانة «الملك الظّاهر» ، وبقية ثقلة جميعه إليه ؛ وخفر أصحابه حتى وصلوا إلى حلب ، في نصف جمادى الأولى ، والسّلطان «بتلّ السلطان» ، فدخل إلى حلب.

ووصلته رسل الملك العادل تطلب منه الموافقة ، فلم يجبهم إلى ذلك ، وخرج إلى «بكاس» و «حارم» فمرض. ودخل حلب ، واشتدّ مرضه ، وطلب إليه إلى القلعة الزهاد الّذين كانوا بحلب ، مثل أبي الحسن

١٨٥

الفاسي ، وعمّي أبي غانم ، وعبد الرحمن ابن الأستاذ ، وسألهم الدّعاء ، وتبرك بهم ، وأزال مظالم كثيرة. ثم أبلّ من مرضه ذلك ، في ذي الحجة من سنة ستّ وتسعين.

وانفصل عنه صاحب حمص وصاحب حماة ، وصارا مع عمّه الملك العادل ، وعوّض صاحب حماة عزّ الدّين بن المقدّم بمنبج عن «بارين» ، باشارة الملك العادل. ومات ابن المقدّم بأفامية ، وصار فيها أخ له صغير.

واستقلّ الملك العادل بملك مصر ، وقطع الخطبة والسكّة للملك المنصور بن العزيز ، واختلف جندها ، فمنهم من مال إلى تمليك الملك العادل ، وأقام في خدمته ، ومنهم من كان يريد ابن العزيز ، فانفصل منهم جهاركس ، والجحاف ، وغيرهما ، فانهم انفصلوا عن مصر ، واتفقوا مع الملك الأفضل.

فوصل الملك الأفضل إلى أخيه السلطان الملك الظاهر إلى حلب ، في عاشر جمادى الأولى من سنة سبع وتسعين وخمسمائة ، ووصل معه الجحاف ، وأخبراه أن جهاركس «بالغور» ، مع العسكر ، واتفقوا على محاصرة دمشق.

وسيّر الملك الظاهر إلى الموصل بطلب نجدة تصله ، وبرز مع أخيه الأفضل ، وقصدا منبج ، ففتحها الملك الظّاهر ، وقبض على ابن المقدّم وحبسه ، وأقطعها الجحاف ، بعد أن خرب حصنها. وكان ابن فاخر سعد الدّين مسعود بقلعة نجم ، نائبا عن ابن المقدّم ، وأخته معه ، فسلّمها إلى «الملك الظّاهر» ، وعوضه «بمائز» ـ قرية من بلد عزاز ـ وسلّمها الملك الظّاهر إلى الأفضل.

١٨٦

وسار إلى أفامية ، ومعه ابن المقدم ، فعاقبه تحتها ليسلّموا اليه ، فلم يسلّموا ، فسيّره ، وحبسه بحلب ، وأقام بكفرطاب ، واستولى على بلدها ، ونزل بمعرة النعمان ، ونهب بلدها ، وأخذ ما فيها لبيت المال ، وسار إلى حماة ، فنزل عليها ، في شعبان ، وقاتلها إلى أن صالحه الملك المنصور صاحبها ، ووزن له ثلاثين ألف دينار ، ووافقه.

وسار إلى حمص ، فصالح الملك المجاهد صاحبها ، ووافقه ، وسار إلى دمشق فنازلها ، واستدعى «جهاركس» و «قراجا» من الغور ، فدافعا عن الوصول ، فسار السلطان الملك الظاهر اليهما بنفسه ، ولا طفهما حتى رحلا معه ، بعد أن أعطى الملك الأفضل قراجا «صرخد» ، وأخرج أمه وعياله منها ، ونزلوا على دمشق ، وعزموا على قتالها ، ففند جهاركس عن ذلك ، وكان قد صار في الباقين مع الملك العادل ، وقال : «المصلحة أننا نلقى الملك العادل ، فاذا كسرناه تمّ لنا ما نريد».

وكان الملك العادل قد نزل من مصر إلى «الكرك» ، ثم توجّه إلى نابلس ، فلما رأى جهاركس جدّ الملك الظّاهر على حصار دمشق هرب من العسكر إلى الملك العادل إلى نابلس ، وهرب قراجا إلى صرخد ، وعصى بها ، وتركا خيامهما على حالها وبركهما فأنهب السلطان الملك الظاهر ذلك جميعه ، ثم زحف بالعساكر على دمشق ، وقاتلوها قتالا شديدا ، وأحرقوا «العقيبة» ، ونهبوا الخانات.

وراسل الملك العادل صاحب الموصل ، فاتفق معه ، ورجع عن الملك

١٨٧

الظاهر ، بعد أن وصل إلى «رأس عين» (١).

وسار الملك «الفائز بن العادل» من البلاد الشرقية ، طالبا تشعيث بلاد السلطان الملك الظاهر ، وشغل خاطره عن حصار دمشق ، فسيّر الملك الظاهر «المبارز أقجا» ـ وكان من أكبر أمراء حلب ـ ومعه بعض العسكر ، فنزل على «بالس» ونهبها ، وسار إلى «منبج» فنزلها ، فوصل الملك «الفائز» إليها ، فانهزم بمن كان معه من العسكر إلى «بزاعا» ، ودخلها الفائز ، وبنى قلعتها وحصّنها ، وسار منها طالبا عسكر حلب إلى «بزاعا» ، فاندفعوا بين يديه إلى حلب ، وأقام على بزاعا أياما ، وجفل بلد حلب خوفا منه ، وهرب فلّاحوه.

ورحل إلى أبيه إلى نابلس ، فسيّر الملك العادل نجدة تدخل إلى دمشق ، فبلغ حديثها الملك الظاهر ، وقد أحدقت العساكر بدمشق ، فكمن لهم كمينا ، فوقعوا عليهم ، وقتلوا منهم جمعا كثيرا ، وانهزم بعضهم ، ولم يدخل إلى المدينة إلّا القليل. ونكث صاحب حماة ، وخرج إلى ناحية «الروج» ، وأغار عليه ، ونهب رستاق «شيرز».

وسار عسكر حلب إلى منبج ، فلم يجد فيها مطمعا ، واستدعاهم الملك الظاهر ، فمضوا إليه إلى دمشق ، وطال الحصار ، وضجر العسكر ، وهرب شقير ، والجحاف ، بعد استيلاء الفائز على منبج ، وكانت خبز الجحاف.

__________________

(١) رأس العين بلدة في الجزيرة السورية تتبع محافظة الحسكة وتبعد عن الحسكة / ٨٤ / كم ، وهي إلى الشمال الغربي منها.

١٨٨

ووقع الخلف بين الملك الأفضل والملك الظاهر على دمشق ، فالملك الظاهر يريدها لنفسه ، لأنه أخرج الخزائن ، وبذل الأموال ، وحصرها بعسكره ، والملك الأفضل يريدها لنفسه لأنها بلده ، وأنه أخرج «صرخد» من يده بسببها. وحصل بينهما منافرة أوجبت رحيل الملك الظاهر ، ومعه ميمون القصري ، وسراسنقر ، وأيبك فطيس ، والبكي الفارس ، والقبيسي.

ورحل الملك الأفضل فنزل حمص ، عند صاحبها الملك المجاهد ، وزوّج ابنه «الملك المنصور إبراهيم» بابنة الملك الأفضل.

وسار الملك الظاهر إلى حماة ، فأغار عليها ، وشعّث بلدها ، وصانع صاحبها الملك المنصور ، على مال أخذه منه ، وسار إلى منبج ، وعزم على أن يهجمها بالسيف ، ويقتل جميع من بها ، لأنهم قاموا مع الملك «الفائز» ، فشفع إليه الأمراء في أن يسلّموها طائعين ، ويعفو عنهم ، فتسلّمها ، وأقطعها ابن المشطوب ، في المحرّم من سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.

ثم دخل إلى حلب ، وأقطع ميمون القصري عزاز ، وشيح ، وبلد الحوّار ، وأقطع أيبك فطيس أقطاعا أرضاه ، وعاد عنه سراسنقر ، وتسلّم السلطان أفاميّة من ابن المقدّم ، وعوضه عنها «بالراوندان».

وتوفي وزير السّلطان الملك الظاهر «جمال الدين أبو غالب عبد الواحد بن الحصين البغدادي» في شعبان سنة سبع وتسعين ، وكان في خدمة أبيه الملك الناصر ، فانتقل بعد موته إلى حلب ، ووزر له ، وصار وزيره

١٨٩

بعده نظام الدين أبو المؤيد محمد بن الحسين.

ووصل الملك العادل إلى دمشق ، فتوجّه إليه الملك المجاهد صاحب حمص ، ومعه الملك الأفضل ، وترقّق اليه ، فأعطى الملك الأفضل «شبختان» و «جملين» و «الموزر» و «قلعة السنّ» و «سميساط». وسار إليها الملك الأفضل ، ونزل الملك العادل إلى حماة ، وراسل الملك الظّاهر ، حتى استقرّ الصلح بينه وبينه ، على أن خطب له الملك الظاهر بحلب ، وضرب السكّة باسمه مع اسمه ، في شهر جمادى الآخرة ، من سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.

وصعد الرسول شمس الدين بن التنبي إلى المنبر ، وقت اقامة الدعوة له ، يوم الجمعة ، ونثر ذهبا كثيرا على الناس. وبلغ الملك الظاهر ، عن ابن المشطوب ، أنّه كان قد عزم على المخامرة ، فسيّر إلى «منبج» العسكر ، وأخذها منه ، وعفا عنه ، وهدم قلعتها وسورها ، فمضى ابن المشطوب إلى الشرق.

وجمع الملك الظّاهر العرب في دابق ، لأخذ العداد منهم ، وخاف ابن المقدّم منه ، فهرب إلى «الراوندان» ، ليعصي بها ، فسار الملك الظاهر خلفه ، ولم يمهله ، فلم يبت في قلعتها غير ليلة واحدة. ومضى إلى «بدر الدين دلدرم» ، بتل باشر ، منهزما من السلطان. فوصل السلطان اليها ، ونزل عليها محاصرا لها ، فسلّمها من كان بها إليه ، وحاز جميع ما كان فيها من الذخائر والأموال ، ورتّب أمورها.

١٩٠

وسار منها إلى منبج ، وسيّر نجدة للملك الكامل ابن عمه العادل ، وكان نازلا على «ماردين» ، لأن صاحبها صار مع ركن الدين بن قلج أرسلان ، ونزل السلطان في «بدّايا» ، واتفق الأمر بينه وبين [صاحب] «ماردين» وابن الملك على الصلح ، فعاد إلى حلب بعد أن توجه إلى «البيرة».

وخرج من البحر جمع كبير من الفرنج ، في سنة تسع وتسعين وخمسمائة. ووصلت طائفة منهم إلى جهة «انطاكية» ، مجتازة على اللاذقية في البر ، وكان مقطع اللاذقية إذ ذاك ، سيف الدّين بن علم الدين ، وعبروا في أرض الّلاذقيّة ، على كره من المسلمين ، وفي عزمهم إن رأوا لهم طمعا في اللّاذقية يأخذوها.

فخرج سيف الدّين بعسكره ، والتقوا ، ونصره الله عليهم ، وأسر ملوكهم ومقدّميهم ـ وكان ملكهم أعور ـ وقتل منهم جمعا كثيرا ، ووصل الأسرى ، والملك ، والرؤوس ، والخيل ، والسلاح ، إلى حلب وكانت غنيمة عظيمة.

وعصى الملك الأفضل على عمّه الملك العادل ، في البلاد التي كان أعطاه إيّاها ، فسيّر ، واستعاد منه شبختان ، وجملين ، والموزر ، وسروج ، والسنّ ، وسار الملك الظاهر إلى «قلعة نجم» ، فأخذها من الملك الأفضل خوفا أن يستولي عليها عمّه ، وكان «الملك الظّاهر» قد سلّمها إلى الأفضل ، فوصلت أمّ الملك الأفضل إلى حلب ، تسأل الملك الظاهر ،

١٩١

سؤال عمه فيه ، وفي ردّ البلاد عليه ، فسيّر معها إلى دمشق «سيف الدّين بن علم الدّين» في ذلك ، فلم يجب إلى ترك شيء من البلاد عليه ، سوى «سميساط». وشرط عليه أن لا تكون له حركة بعد ذلك.

١٩٢

ودخلت سنة ستمائة

ووصلت الأخبار بحركة الفرنج إلى «جبلة» و «الّلاذقية» ، فسيّر السّلطان إليها العساكر ، وأمرهم بخراب «جبلة» و «الّلاذقية» ، فلم يكن للفرنج حركة ، وخربت قلعة «اللاذقية» و «العتيقة» ـ وكانت من جهة الشمال ـ وذلك بعد أن أخذت اللاذقية من ابن جندر ـ سيف الدين بن علم الدين.

وولد للسّلطان «الملك الظّاهر» ولده ، الملك «الصّالح أحمد» في صفر ، وسر به سرورا عظيما ، وزيّن البلد والقلعة ، ولبس العسكر في أجمل هيئة وزيّ. ولبس السلطان ، ولعب العسكر معه في ميدان «باب الصغير».

وفي محرّم سنة إحدى وستّمائة ، هجم ملك الأرمن «ابن لاون» ـ وهو من ولد «بردس الفقاس» ، الذي كان في زمن سيف الدّولة [صاحب] أنطاكية ـ فسيّر الملك الظاهر عسكرا من حلب ، لنجدة البرنس صاحبها ، فلما وصلوا إلى «العاصي» ، ضعف أمر ابن «لاون» عندهم ، وقاموا عليه ،

١٩٣

وأخرجوه منها ، وقتلوا جماعة كبيرة من أصحابه ، فعاد عسكر حلب إليها ، ففسخ «ابن لاون» الهدنة ، وأغار في بلد العمق ، واستاق مواشيها ، وشرع في عمارة حصن داثر في الجبل ، بالقرب من «دربساك» ، ليضيّق به عليها.

وأرسل إلى السلطان ، وسأله أن يخلي بينه وبين «أنطاكية». وأن يعيد جميع ما أخذه من «العمق» ، فأجابه إلى ذلك ، وهادنه على هذا الأمر. ونزل على «أنطاكية» ، وخرّب رستاقها ، ووقع فيها غلاء عظيم ، فكان الملك الظّاهر يمدّ أهل «أنطاكية» بالغلال ، حتى قويت.

١٩٤

ودخلت سنة اثنتين وستمائة

فجرّد «ابن لاون» في جمادى الأولى ، في اللّيل ، عسكرا في ليلة الميلاد ، وجاء على غفلة إلى ربض «دربساك» ، فلم ينكروا وقود النار في ليلة الميلاد ، فقاتلهم أهل الربض ومن به من الأجناد ، في بيوت الربض ، فلم يظفروا منهم بطائل ، وطلع الفجر ، فانتشروا في أرض «العمق» ، ونهبوا من كان فيه من التركمان ، وداموا إلى ضحوة ذلك النّهار ، ورجعوا.

وابتدرت عساكر تلك الناحية من المسلمين فلم يدركوهم ، ودخل الأرمن إلى «جبل اللكّام» ، فجاءهم في اللّيل ثلج عظيم ، وهلك معهم من الخيل والمواشي ، فكانوا يسلخون الشاء ويلبسون جلودها ، لشدّة البرد ، فسيّر الملك الظاهر عسكرا من عسكر حلب يقدمه «ميمون القصري» ، ومعه «أيبك فطيس» ، فنزلوا على «حارم» ، وقطعة من العسكر مع ابن طمان «بدربساك» ، وسيف الدين بن علم الدّين نازل بعسكره على «تيزين» ـ وكانت جارية في أقطاعه ـ وفي أكثر الأيّام تجري وقعات بين العسكر المقيم «بدربساك» ، وبين عسكر ابن لاون «ببغراس».

١٩٥

وخرج السّلطان إلى «مرج دابق» ، في شعبان من هذه السّنة ، للدّخول إلى بلد «لاون» ، وجمع العساكر ، وسيّر إليه عمّه «الملك العادل» ، وغيره من ملوك الإسلام النجد ، فأقام «بدابق» إلى أن انسلخ شهر الصيّام.

فسار «ابن لاون» من «التينات» ، وجاء على غير طريق اليزك في الليل ، فأصبح في «العمق» غائرا على غرّة من العسكر ، وكبس العسكر الذي كان مع ميمون ، حتى حصلوا معهم في الخيام ، وقابلوهم على غير أهبة فقاتلهم المسلمون ، فقتل منهم جماعة ، ولم يلبث إلّا قليلا ، وعاد ، وساق سيف الدين من «تيزين» ، فوجده قد رجع.

وبلغ الخبر إلى السّلطان ، وهو «بدابق» ، فسار بالجيوش التي معه فنزل «بالعمق» ، واجتمع من العساكر والتركمان ما لا يحدّ كثرة ، فسيّر «ابن لاون» يبذل الطاعة ، وأن يهدم الحصن الذي بناه بقرب «دربساك».

فأعرض عنه ، وردّ فلّاحي «العمق» ، وعمر ضياعه ، وكمل استغلال ذلك البلد ، والرّسل تتردّد في إصلاح الحال ، إلى أن استقرّت القاعدة : على أن يهدم «ابن لاون» الحصن الذي بناه ، ويردّ جميع ما أخذ في الغارة ، ويردّ جميع أسارى المسلمين الذين في يده ، وأن لا يعرض «لأنطاكية». وقرّر الصّلح إلى ثماني سنين ، وخرب الحصن ، ورد ما استقرّ الأمر عليه.

ودخل السّلطان حلب ، في سنة ثلاث وستمائة ، وأمّر جماعة من مماليكه وأصحابه. وعاث الفرنج على بلد «حماة» ، في سنة خمس وستمائة ،

١٩٦

فسيّر الملك الظاهر من حلب ، نجدة من عسكره.

ونزل الملك العادل على «قدس» ، وغارت خيله على طرابلس ، وخربوا حصونها ، وشتّى «بحماة» إلى أن انقضى فصل الربيع ، وعاد إلى دمشق ، وعاد ابنه «الأشرف» ، إلى بلاده ، من خدمة أبيه ، فعبر في حلب ، فالتقاه الملك «الظّاهر» ، واحتفل به وأنزله في داره بقلعة حلب ، وقدّم له تحفا جليلة من السّلاح ، والخيل ، والذّهب ، والجوهر ، والمماليك ، والجواري ، والثياب ، بما قيمته ألف دينار ، وودّعه بعد سبعة أيام ، إلى قراحصار ، وعاد إلى حلب.

وقصد كيخسرو بن قلج أرسلان بلاد «ابن لاون» ، وطلب نجدة من السّلطان الملك الظّاهر ، فأرسل إليه عسكرا مقدّمه سيف الدّين بن علم الدين ، وفي صحبته أيبك فطيس ، فاجتمعوا بمرعش ، ونزلوا على برتوس (١) في سنة خمس وستمائة ، فافتتحوها ، وافتتحوا حصونا عدة من بلد ابن لاون.

فراسل «ابن لاون» الملك العادل ، والتجأ إليه ، فأرسل الملك العادل إلى كيخسرو وإلى الملك الظاهر ، فابتدر كيخسرو ، وصالح «ابن لاون» على أن يردّ حصن «بغراس» إلى «الداويّة» ، وأن لا يعرض لأنطاكية ، وأن يردّ ماله الذي تركه عنده ، في حياة أخيه ركن الدّين. وكان قد خاف من أخيه ، فقدم حلب ، وأقام عند الملك الظّاهر مدّة ، وخاف الملك الظّاهر من

__________________

(١) كذا بالأصل ، وفي مفرج الكروب «غرقوس» فلعلها تصحيف «عربسوس» أي «أفسوس».

١٩٧

أخيه ركن الدّين ، أن يتغيّر قلبه عليه بسببه ، وأنّه ربّما يطلبه منه ، فلا يمكنه تسليمه إليه ، فأعرض عنه. فدخل إلى «ابن لاون» ، ثم خاف منه ، فانهزم ، وترك عنده مالا وافرا ، فاحتوى عليه فردّه عليه ، عند هذه الهدنة. ودفع إليه جميع الأسرى من المسلمين ، الذين كانوا في بلاده ، وأن لا يعرض لبلاد السّلطان الملك الظاهر. ووصلت نجدة حلب إلى حلب.

وخرج العادل من دمشق ، في سنة ستّ وستمائة ، وطلب من الملك الظّاهر نجدة ، تكون معه إلى الشرق ، ليمضي إلى خلاط ، لدفع «الكرج» عنها ، فسيّر إليه نجدة ، وعبر «الفرات». فلما وصل إلى «رأس عين» ؛ رحل «الكرج» عن خلاط ، ووصل إليه صاحب «آمد» ، فسار في العسكر إلى «سنجار» ، وأقطع بلد الخابور ، ونصيبين.

ونزل على «سنجار» محاصرا لها ، وشفع إليه مظفّر الدّين بن زين الدّين ، في صاحب سنجار ، فلم يقبل شفاعته. وقال : «لا يجوز لي في الشّرع ، تمكين هؤلاء من أخذ أموال بيت المال في الفساد ، وترك خدمة الأجناد ، وفي مصلحة الجهاد» ، وضايق سنجار ، وقاتلها في شهر جمادى الآخرة.

وقام نور الدّين بن عزّ الدّين ـ صاحب الموصل ـ في نصرة ابن عمه صاحبها ، واتّفق مع «مظفّر الدّين» ، وتحالفا ، وأفسدا جماعة من عسكر «الملك العادل» وراسلا «الملك الظاهر» ، على أن يجعلاه السّلطان ، ويخطبوا له ، ويضربوا السكّة باسمه.

١٩٨

وجعل «الملك الظّاهر» يداري الجهتين ، والرسل تتواتر إليه من البلدان ، وهو في الظاهر في طاعة عمّه ، وعسكره معه ، وفي الباطن في النّظر في حفظ سنجار ، ومداخلة المواصلة ، وهو يظهر لعمّه أنه متمّسك بيمينه له ، إلى أن أرسل أخاه «الملك المؤيّد» ، ووزيره «نظام الدّين الكاتب» إلى عمّه ، معلما له أن رسول الموصل ، ومظفّر الدّين ، وصلا يطلبان منه الشفاعة إليه ، في إطلاق سنجار ، وتقرير الأمر على حالة يراها.

وتوسّط الحال عند قدومه ، على أن شفع فيهم الملك الظّاهر ، وأطلق لهم «سنجار» ، واستنزلهم عن «الخابور» و «نصيبين». وعاد «الملك المؤيّد» ، من حضرة عمّه بالبرّ الوافر ، فلما وصل «رأس عين» ، دخل إليها في ليلة باردة كثيرة الثلج ، فنزل في دار فيها منزل مجصّص ، فستر بابه ، وسدّ ما فيه من المنافس ، وأوقد فيه نار في منقل ، وعنده ثلاثة من أصحابه ، فاختنق ، وواحد من أصحابه ، وحمل إلى «حلب» ميتا في شعبان ، من سنة ست وستمائة. وجرى على الملك الظّاهر منه ما لا يوصف من الحزن والأسف.

ووصل الملك العادل إلى «حرّان» ، وخافه صاحب الموصل والجزيرة ، فراسل الملك الظّاهر ، وطلب منه أن يخلي بينه وبين ملوك الشرق ، وأن يحتكم في ما يطلبه منه ، وراسله صاحب الموصل ، وصاحب إربل ، وصاحب الجزيرة ، يعتضدون به وهو لا يؤيسهم ، فخرج السلطان إلى «حيلان» بعسكره ، ثم رحل إلى «السمّوقة» وراسل عمّه في مهادنتهم ، وتطييب قلوبهم ، وهو مخيم على «السموقة» ـ على نهر قويق ـ وطلب منه أن تكون كلمة المسلمين كلّهم متفقة.

١٩٩

وكذلك تدخّل في الصّلح ملك الرّوم ، وأن يقصدوا الفرنج بجملتهم ، فانّ الفرنج في نية التحرك ، وخامر جماعة من عسكر الملك العادل ، ووصل ابن كهدان إلى السّلطان الملك الظّاهر ، فأكرمه ، فتخاذل عسكر الملك العادل ، فاتفق الحال بينهم على الصلح ، ودخول ملوك الإسلام فيه.

وتمّت المصاهرة بين «الملك العادل» و «الملك الظّاهر» ، على ابنته الخاتون الجليلة «ضيفة خاتون» ـ بنت الملك العادل ـ وشرع السّلطان في عمل «قناة حلب» وفرّقها على الآمراء ، والخواص. وحرّر عيونها ، وكلس طريقها جميعه ، حتى كثر الماء بحلب. وقسم الماء في جميع محال حلب.

وابتنى القساطل في المحالّ. ووقف عليها وقفا لإصلاحها ، وذلك في سنة سبع وستمائة.

وتوفّي وزير السّلطان الملك الظاهر «نظام الدّين محمد بن الحسين» بحلب ، بعلة الدوسنطاريا ، في صفر سنة سبع وستمائة. وكان ـ رحمه‌الله ـ وزيرا صالحا ، مشفقا ، ناصحا ، واسطة خير عند السّلطان ، لا يشير عليه إلّا بما فيه مصلحة رعيته ، والإحسان إليهم. وقام بعده بكتابة الإنشاء والأسرار «شرف الدين أبو منصور بن الحصين» ، و «شمس الدين بن أبي يعلى» كان مستوفي الدواوين. فلما مات أبو منصور بن الحصين استقلّ بالوزارة ، وأضيف إليه ديوان الإنشاء مع الإستيفاء.

وعمر السلطان باب قلعة حلب ، والدركاه ، وأوسع خندقها وعمل

٢٠٠