زبدة الحلب من تاريخ حلب - ج ٢

كمال الدّين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي [ ابن العديم ]

زبدة الحلب من تاريخ حلب - ج ٢

المؤلف:

كمال الدّين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي [ ابن العديم ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١
الجزء ١ الجزء ٢

خالية من الخزائن ، والجند فيطالبونني وليس لي من المال ما يكفيني لمصابرته ، ولا أدري عاقبة هذا الأمر إلى ما ينتهي».

فأحسّ طمان عند ذلك بما قد حصل في نفسه ، فقال له : «أنا أذكر لك ما عندي ، على شريطة الكتمان والاحتياط بالمواثيق والأيمان ، على أن لا يطّلع أحد على ما يدور بيننا ، فإنّ هؤلاء الأمراء إن اطّلعوا على شيء ممّا نحن فيه أفسدوه ، وانعكس الغرض» ، فتحالفا على كتمان ذلك ، فقال له طمان : «أرى من الرأي في حلب أن تسلّمها إلى الملك النّاصر ، بجاهها ، وحرمتها ، قبل أن تنتهك حرمتها ، ويضعف أمرها ، وتفنى الأموال ، وتضجر الرجال ، ويستغلّ بلدها فيتقوّى هو وعسكره به ، ونحن لا نزداد إلّا ضعفا ، والآن فنحن عندنا قوة ، ونأخذ منه ما نريد من الأموال والبلاد ، ونستريح من الأجناد وإلحاحهم في الطّلب ، ثمّ قد أصبح ملكا عظيما ، وهو صاحب مصر ، وأكثر الشّام ، وملوك الشّرق قد أطاعوه ومعظم الجزيرة في يده».

فقال له : «والله هذا الّذي قلته كلّه رأيي ، وهو الذي وقع لي ، فاخرج إليه ، وتحدّث معه على أن يعطيني : الخابور ، وسنجار ؛ وأيّ شيء قدرت على أن تزداده فافعل ، واطلب الرّقّة لنفسك».

ثم إنّ طمان كتم ذلك الأمر ، وباكر القتال ، وأظهر أنّ بداره واصطبله «بالحاضر» خشبا عظيما ، وأنه يريد نقضها ، كيلا يحرقها العسكر ، فكان يبيت كلّ ليلة في داره ، خارج المدينة. ويجتمع بالسّلطان

١٢١

الملك النّاصر ، خاليا ، ويرتّب الأمور معه ، ويجيء إلى عماد الدّين ويقرّر الحال معه ، وينزل ، ويصعد إلى القلعة من «برج المنشار» ـ وكان عند باب الجبل الآن متّصلا بالمنشار ـ إلى أن قرّر مع الملك النّاصر : أن يأخذ حلب وعملها ، ولا يأخذ معها شيئا من أموالها ، وذخائرها ، وجميع ما فيها من الآلات والسّلاح ، وأن يعطي عماد الدّين عوضا عنها : سنجار ، والخابور ، ونصيبين ، وسروج ، وأن يكون لطمان الرّقّة (١) ؛ ويكون مع عماد الدّين.

وشرط عليه أن تكون الخطابة والقضاء للحنفيّة (٢) بحلب ، في بني العديم ، على ما هي عليه ، كما كان في دولة الملك الصّالح ، وأن لا ينقل إلى الشافعيّة.

هذا كلّه يتقرّر ، والقتال في كلّ يوم بين العسكرين على حاله. وليس عند الطائفتين علم بما يجري ، ويخرج من الحلبيّن في كلّ يوم عشرة آلاف مقاتل أو أكثر ، يقاتلون أشدّ قتال.

ولم يعلم أحد من الأمراء ولا من أهل البلد ، حتّى صعدت أعلام «الملك النّاصر» على القلعة ، بعد أن توثّق كلّ واحد من الملكين من صاحبه بالأيمان. فأسقط في أيدي أهل حلب والأمراء من «الياروقيّة» ، وغيرهم ،

__________________

(١) في بغية الطلب ص ٣٨٥٨ «وأن يعوضه عنها بسنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج وأن تكون بصرى لطمان ، ويكون في خدمة زنكي».

(٢) كان صلاح الدين شافعيا.

١٢٢

وخاف «الياروقيّة» على أخبازهم ، والحلبيّون على أنفسهم ، لما تكرّر منهم من قتال «الملك النّاصر» على القلعة ، بعد أن توثّق كلّ واحد ، في أيّام الملك الصّالح.

وصرّح العوامّ بسبّه ، وحمل رجل من الحلبّين يقال له «سيف بن المؤذن» إجانة الغسّال ، وصار بها إلى تحت الطيّارة (١) بالقلعة ، وعماد الدّين جالس بها يشير إليه أن يغسل فيها كالمخانيث ، ونادى إليه : «يا عماد الدّين ، نحن كنّا نقاتل بلا جامكيّة ولا جراية ، فما حملك على أن فعلت ما فعلت؟».

وقيل : إنّ بعضهم رماه بالنشّاب فوقع في وسط الطيّارة ، وعمل عوامّ حلب أشعارا عاميّة ، كانوا يغنّون بها ، ويدقّون على طبيلاتهم بها ، منها :

أحباب قلبي لا تلوموني

هذا «عماد الدّين» مجنون

ودقّ آخر على طبله ، وقال مشيرا إلى «عماد الدّين» :

وبعت «بسنجار» قلعة حلب

عدمتك من بايع مشتري

خريت على حلب خرية

نسخت بها خرية «الأشعري» (٢)

وصعد إليه «صفيّ الدّين» ـ رئيس البلد ـ ووبّخه على ما فعل ، وهو

__________________

(١) امتداد مسقوف لقاعة مشرفة على الشارع يطل منه الحاكم فيرى ما يجري بالخارج دون أن يرى وهو بالوقت نفسه متمتع بالحماية.

(٢) لعله أراد أبا موسى الأشعرى وما راج بين الناس عن موقفه في التحكيم.

١٢٣

في قلعة حلب لم يخرج منها بعد ، فقال له عماد الدّين : فما فات ، فاستهزأ به (١).

وأنفذ عسكر حلب وأهلها ، إلى السلطان الملك النّاصر : عزّ الدّين جورديك ، وزين الدّين بلك ، فاستحلفوه للعسكر ولأهل البلد ، في سابع عشر صفر ، من سنة تسع وسبعين وخمسمائة.

وخرجت العساكر ومقدّمو حلب إليه إلى «الميدان الأخضر» (٢) وخلع عليهم ، وطيّب قلوبهم.

ولما استقرّ أمر الصّلح ، حضر الملك النّاصر صلاح الدّين عند أخيه تاج الملوك ، «بالخناقية» يعوده وقال له : «هذه حلب ، قد أخذناها ، وهي لك» فقال : «لو كان وأنا حيّ ، وو الله ، لقد أخذتها غالية حيث تفقد مثلي». فبكى الملك النّاصر والحاضرون.

وأقام «عماد الدّين» بالقلعة ، يقضي أشغاله ، وينقل أقمشته ، وخزائنه ، والسلطان الملك النّاصر مقيم «بالميدان الأخضر» ، إلى يوم

__________________

(١) عبارة بغية الطلب ص ٣٨٦٠ أقوم وأوضح قوله : «ووبخه على ذلك ، فقال وهو بالقلعة : لم نخرج منها بعد ، فما فات شيء ، فاستهزأ به».

(٢) خارج أسوار المدينة. الأعلاق الخطيرة ـ قسم حلب ـ ج ١ ص ٦٦ ، ٣٩٦.

١٢٤

الخميس ثالث وعشرين من صفر ، فنزل «عماد الدّين» من القلعة ورتّب فيها «طمان» مقيما بها ، إلى أن يتسلّم نواب «عماد الدّين» ما اعتاض به عن حلب ، واستنابه في بيع جميع ما كان في قلعة حلب ، حتى باع الأغلاق والخوابي ، واشترى الملك النّاصر منها شيئا كثيرا.

١٢٥

[عصر الدولة الأيوبية](١)

ونزل عماد الدّين ، في ذلك اليوم إلى السّلطان الملك النّاصر وعمل له السّلطان وليمة واحتفل وقدّم «لعماد الدّين» أشياء فاخرة من الخيل والعدد ، والمتاع الفاخر ، وهم في ذلك إذ جاءه بعض أصحابه وأسرّ إليه بموت أخيه «تاج الملوك» ، فلم يظهر جزعا ولا هلعا ، وكتم ذلك عن عماد الدّين ، إلى أن انقضى المجلس ، وأمرهم بتجهيزه.

فلما انقضى أمر الدّعوة وعلم عماد الدّين بعد ذلك عزّاه عن أخيه ، وسار السّلطان الملك النّاصر معه مشيّعا في ذلك اليوم ، فسار حتى نزل «مرج قراحصار» (٢) فنزل به ، والسّلطان في خيمته إلى أن وصل «عماد الدّين» رسل أصحابه يخبرونه بأنّهم تسلموا «سنجار» ، والمواضع التي تقرّرت له معها ،

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح.

(٢) على نحو فرسخين من حلب في جهة المشرق. بغية الطلب ص ٣٨٦٢.

١٢٦

فرفعت أعلام الملك النّاصر ، عند ذلك على القلعة ، وصعد إليها في يوم الاثنين السّابع والعشرين ، من صفر ، من سنة تسع وسبعين وخمسمائة.

وامتنع سرخك ، والي «حارم» ، من تسليمها إلى السّلطان الملك النّاصر ، فبذل له ما يحب من الإقطاع ، فاشتطّ في الطّلب ، وراسل الفرنج ، ليست .. نجد بهم ، فسمع بعض الأجناد ، بقلعة حارم ، ذلك ، فخافوا أن يسلّمها إلى الفرنج ، فوثبوا عليه ، وحبسوه ، وأرسلوا إلى السّلطان ، يعلمونه بذلك ، ويطلبون منه الأمان والإنعام ، فأجابهم إلى ذلك وتسلّمها.

وأقرّ عين تاب بيد صاحبها ، وسلّم «تلّ خالد» إلى «بدر الدّين دلدرم» صاحب «تل باشر» ، وكان من كبار الياروقية ، وأقطع «عزاز» الأمير علم الدين سليمان بن جندر. وولّى الملك النّاصر قلعة حلب سيف الدّين يازكج الأسدي ، وولّى شحنكية حلب حسام الدّين تميرك بن يونس ، وولّى ديوان حلب ناصح الدّين بن العميد الدمشقي ، وأبقى الرئيس «صفيّ الدين طارق بن أبي غانم بن الطّريرة» ، في منصبه على حاله ، وزاد إقطاعه.

وكان الفقيه «عيسى» كثير التعصّب ، فمازال به ، وعزل عنها عمّي «أبو المعالي». ووليها «أبو البركات سعيد بن هاشم» ، وفعل في القضاء كذلك ، فسيّر إلى القاضي محيي الدّين محمد بن زكيّ الدّين عليّ إلى دمشق ،

١٢٧

بسفارة «القاضي الفاضل» ، فأحضر إلى حلب وولّي قضاءها ، وعزل «والدي» عن القضاء ، وامتدحه محيي الدّين بن الزّكيّ ، بقصيدة بائيّة ، قال فيها :

وفتحكم «حلبا» بالسّيف في صفر

مبشّر بفتوح «القدس» في رجب

فاتّفق من أحسن الإتفاقات ، وأعجبها ، فتح القدس في شهر رجب من سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.

وأقام محيي الدّين في القضاء بحلب مدّة ، ثم استناب القاضي زين الدّين أبا البيان نبأ بن البانياسي في قضاء حلب ، وسار إلى بلده دمشق.

ثم إنّ السّلطان «الملك الناصر» أقام بحلب ، ورحل منها في الثاني والعشرين من ربيع الآخر ، من سنة تسع وخمسمائة. وجعل فيها ولده الملك «الظّاهر غازي» ـ وكان صبيا ـ وجعل تدبير أمره إلى سيف الدّين يازكج.

وسار إلى دمشق ، ثمّ خرج إلى الغزاة في جمادى الآخرة ، وسار إلى «بيسان» ، وقد هرب أهلها ، فخرّبها ، ونهبها ؛ وخرّب حصنها. ثم سار إلى «عفربلا» ، فخرّبها ، وجرّد قطعة من العسكر ، فخربوا «النّاصرة» و «الفولة» (١) ، وما حولهما من الضّياع.

__________________

(١) الفولة قرية في قضاء الناصرة. معجم بلدان فلسطين لمحمد شراب ط. دمشق ١٩٨٧. وانظر أيضا وليم الصوري ص ١٠٦١ ـ ١٠٦٢.

١٢٨

وجاء الفرنج فنزلوا «عين الجالوت» ، ودار المسلمون بهم ، وبثّوا السّرايا في ديارهم ، للغارة والنّهب ، ووقع جورديك ، وجاولي الأسدي ، وجماعة من النّورية على عسكر «الكرك» و «الشّوبك» ، سائرين في نجدة الفرنج ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وأسروا مائة نفر ، وعادوا.

وجرى للمسلمين مع الفرنج وقعات ، ولم يتجاسروا على الخروج للمصاف ، وعاد السلطان «إلى الطّور» (١) في سابع عشر جمادى الآخرة.

فنزل تحت «الجبل» ، مترقبا رحيلهم ، ليجد فرصة ، فأصبحوا ، ورحلوا راجعين على أعقابهم. ورحل نحوهم ، وناوشهم العسكر الإسلاميّ ، فلم يخرجوا إليهم ، والمسلمون حولهم ، حتى نزلوا «الفولة» راجعين ؛ وفرغت أزواد المسلمين ، فعادوا إلى دمشق ، ودخل السّلطان دمشق ، في رابع وعشرين جمادى الآخرة.

ثم عزم على غزو «الكرك» ، فخرج إليها في رجب ، وكتب إلى أخيه «الملك العادل» ، وأمره أن يلتقيه إلى الكرك ، وسار السّلطان إلى الكرك ، وحاصرها ، ونهب أعمالها ، وهجم ربضها ، في رابع شعبان. وهدم سورها بالمنجنيقات ، وأعجزه طمّ خندقها ، ووصلت الفرنج لنجدتها فلما اجتمعوا «بالجليل» ، رحل عنها ، ونزل بازائها (٢).

__________________

(١) ويسمى أيضا جبل طابور ، يقع شرقي الناصرة. معجم بلدان فلسطين.

(٢) انظر وليم الصوري ص ١٠٦٥ ـ ١٠٦٧ ، ١٠٦٩ ـ ١٠٧١.

١٢٩

ووصل أخوه «الملك العادل» ، من مصر ، وعقد لابن أخيه «تقيّ الدّين عمر» ، على ولايتها ، فسار إليها في نصف شعبان.

وعاد السّلطان الملك الناصر إلى دمشق ، والملك العادل أخوه معه ، فعقد له على ولاية حلب ، وسار إليها في ثاني شهر رمضان ، فوصلها ، وصعد قلعتها في يوم الجمعة ، ثاني وعشرين من شهر رمضان ، وخرج السّلطان الملك الظّاهر منها ومعه «يازكج» ، فوصل إلى والده في شوّال.

ويقال إنّ «الملك العادل» دفع إلى السّلطان ، لأجل حلب ، ثلاثمائة ألف دينار مصريّة ، وقيل دون ذلك ، وكان السّلطان محتاجا إليها لأجل الغزاة ، فلذلك سلّم إليه حلب ، وأخذها من ولده.

ولما دخلها «الملك العال» ، ولّى بقلعتها صارم الدّين بزغش ، وولّى الدّيوان والأقطاع والجند ، واستهداء الأموال ، وشحنكيّة البلد : «شجاع الدّين محمّد بن بزغش البصراوي» ، واستكتب الصّنيعة ابن النحّال ـ وكان نصرانيا ـ فأسلم على يديه ، وولّى وقوف الجامع فخر الدّين أحمد بن عبد الله بن القصري ، وأمره بتجديد المساجد الدّاثرة بحلب ، والقيام بمصالحها ، وتوفير أوقافها عليها ، وان لا يتعرّض لوقف المسجد الجامع ، بل

١٣٠

يوفّر وقفه على مصالحه ، ولا يرفع إلى «الزّردخاناه (١)» إلا ما فضل عن ذلك كلّه ، وجدّد في أيامه مساجد متعدّدة كانت قد تهدّمت.

ووقع في أيامه وقعة بين الحنفيّة والشافعيّة ، وصار بينهم جراح ، فصنع لهم الملك العادل دعوة في الميدان الأخضر ؛ وأصلح بين الفريقين ، وخلع على الأكابر من الفقهاء والمدرّسين ، وهدم الحوش القبليّ الشّرقيّ الذي كان للقلعة ، وهو ما بين الجسرين تحت المركز ، ورأى أن يسفّحه ، فسفّحه السّلطان الملك الظّاهر بعده ، وكتب عليه اسمه بالسّواد إلى أن غاب في أيام ابنه الملك العزيز فجدّد ، وزالت الكتابة ، وبقي بعضها.

ووصل رسول الخليفة شيخ الشّيوخ «صدر الدّين عبد الرّحيم بن اسماعيل» ، إلى السّلطان «الملك النّاصر» ، في الاصلاح بينه وبين عزّ الدّين ـ صاحب الموصل ـ وورد معه من الموصل القاضي محيي الدّين أبو حامد بن الشّهرزوري ، الّذي كان قاضي حلب ثم تولّى قضاء الموصل ، والقاضي بهاء الدين أبو المحاسن بن شدّاد ، الذي صار قاضي عسكر السلطان «الملك الناصر» ، وولى قضاء حلب في أيام ابنه الملك الظّاهر ، ولم يتفق الصلح. بينهما (٢).

__________________

(١) الزردخاناه : مستودع حفظ الأسلحة ، ويبدو من النص أنه كان يحفظ به ما فضل من دخل الأوقاف.

(٢) مكث ابن شداد لدى صلاح الدين وهو الذي ألف حوله كتاب المحاسن اليوسفية.

١٣١

وحضرني حكاية جرت لشيخ الشيوخ مع «محيي الدّين» ، في هذه السّفرة ، وذلك أن شيخ الشيوخ كان قد وصل إلى السّلطان «الملك النّاصر» ، وهو محاصر للموصل ، ليصلح بينه وبين عزّ الدّين ، في المحاصرة الأولى ، فلم يتّفق الصلح ، واتّهم أهل الموصل شيخ الشّيوخ بالميل مع «الملك النّاصر» ، فعمل محيي الدّين فيه أبياتا منها :

بعثت رسولا أم بعثت محرّضا

على القتل تستجلي القتال وتستحلي؟

وقال فيها مخاطبا للإمام النّاصر :

فلا تغترر منه بفضل تنمّس

فما هكذا كان «الجنيد» ولا «الشّبلي»(١)

فبلغت الأبيات شيخ الشيوخ.

فلما اجتمعا في هذه السفرة وتباسطا ، قال له شيخ الشيوخ : «كيف تلك الأبيات التي عملتها فيّ؟» فغالطه عنها ، فأقسم عليه بالله أن ينشده إيّاها ، فذكرها له ، حتى أنشده البيت الذي ذكرناه أوّلا ، فقال : «والله لقد ظلمتني ، وانني والله ، اجتهدت في الاصلاح فما اتّفق» فأنشده تمامها ، حتى بلغ إلى قوله : «فما هكذا كان الجنيد ولا الشّبلي» فقال : «والله لقد صدقت ، فما هكذا كان الجنيد ولا الشّبلي ، أدور على أبواب الملوك من باب هذا إلى باب هذا».

ثمّ إنّ الرّسل ساروا عن غير زبدة ، وتوجّه الملك العادل من حلب في ذي الحجّة ، وعيّد عند أخيه بدمشق ، ثم عاد إلى حلب.

__________________

(١) من أشهر أئمة الصوفية.

١٣٢

واهتمّ السّلطان الملك النّاصر ، في سنة ثمانين وخمسمائة ، لغزاة «الكرك» ، فوصل إليه «نور الدّين بن قرا أرسلان» ، واجتاز بحلب ، فأكرمه «الملك العادل» ، وأطلعه إلى قلعتها في صفر ، ثم رحل معه إلى دمشق ، فخرج السّلطان ، والتقاه على عين الجر (١) ، «بالبقاع» ، ثم تقدّم إلى دمشق وتجرد وتأهب للغزاة ، وخرج إلى «الكرك» ، واستحضر العساكر المصرية ، فوصل تقيّ الدّين ابن أخيه ، ومعه بيت الملك العادل ، وخزائنه ، فسيرهم إلى حلب.

ونازل الكرك ، وأحدقت العساكر بها ، وهجموا الربض ، وبينه وبين القلعة خندق وهما جميعا على سطح جبل ، وسدّوا أكثر الخندق ، وقاربوا فتح الحصن ، وكانت للبرنس «أرناط» ، فكاتب من فيها الفرنج ، فوصلوا في جموعهم إلى موضع يعرف «بالواله» (٢) ، فسيّر «الملك النّاصر» الأثقال ، ورحل بعد أن هدم الحصن بالمنجنيقات.

ورحل عنها في جمادى الآخرة ، وأمر بعض العسكر فدخلوا إلى بلاد الفرنج ، فهجموا نابلس ، ونهبوها ، وخربوها ، واستنقذوا منها أسرى من المسلمين ، وفعلوا في «سبسطية» (٣) و «جينين» (٤) مثل ذلك ، وعادوا ودخلوا

__________________

(١) هي عنجر الحالية في لبنان على مقربة من الحدود السورية اللبنانية الحالية قبل بلدة شتورا.

(٢) لم يرد ذكر هذا الموقع في المعاجم العامة أو المتخصصة بفلسطين ، ويستفاد من وليم الصوري ص ١٠٧٠ ، أنه كان على أطراف البحر الميت.

(٣) سبسطية قرية في الشمال الغربي من مدينة نابلس على بعد مسافة ١٥ كم منها. معجم بلدان فلسطين.

(٤) تمثل مدينة جينين (جنين) الرأس الجنوبي للمثلث المتكون من مرج بني عامر. معجم بلدان فلسطين.

١٣٣

دمشق مع السلطان.

ووصل إليه «شيخ الشّيوخ» بالخلع ، من الخليفة النّاصر ، له ولأخيه «الملك العادل» ، ولابن عمّه ناصر الدّين (١) ، فلبسوها ، ثم خلع السّلطان ، بعد أيّام خلعته الواردة من الخليفة على نور الدّين بن قرا أرسلان.

وورد إليه رسول مظفّر الدّين بن زين الدّين ، يخبره أن عسكر «الموصل» ، وعسكر «قزل» نزلوا على «إربل» ، وأنهم نهبوا وأخربوا ، وأنّه انتصر عليهم ، ويشير عليه بقصد الموصل ، ويقوّي طمعه ، وبذل له إذا سار إليها خمسين ألف دينار ، فعند ذلك هادن الفرنج مدّة.

ورحل من دمشق في ذي القعدة من سنة ثمانين ، فوصل حلب وأقام بها إلى أن خرجت السنة ، وسار منها إلى «حرّان» ، والتقاه مظفر الدين بالبيرة ، في المحرم سنة إحدى وثمانين ، وعاد معه إلى «حرّان» ، وطالبه بما بذل له من المال ، فأنكر ذلك فأحضر رسوله العلم بن ماهان ، فقابله على ذلك ، فأنكر ، فقبض عليه ، ووكّل به.

ثم أخذ منه مدينتي حرّان والرّها ، وأقام في الاعتقال إلى مستهل شهر ربيع الأول ، ثم أطلقه خوفا من انحراف الناس عنه ، لأنهم علموا أنه الذي ملّكه البلاد الجزرية ، وأعاد عليه «حرّان» ، ووعده باعادة الرها ، إذا عاد من سفرته ، فأعادهما عليه.

__________________

(١) ابن أسد الدين شيركوه ، وكان إقطاعه حمص.

١٣٤

وسار الملك النّاصر إلى الموصل ، فوصل «بلد» (١) ، فنزلت إليه والدة عزّ الدّين ، ومعها ابنة نور الدّين ، وغيرها من نساء بني أتابك ، يطلبن منه المصالحة ، والموافقة ، فردّهن خائبات ، ظنا منه أن «عزّ الدّين» أرسلهنّ عجزا عن حفظ الموصل ؛ واعتذر بأعذار ندم عليها بعد ذلك.

ورحل ، حتّى صار بينه وبين الموصل مقدار فرسخ فكان يجري القتال بين العسكرين ، وبذل أهل الموصل نفوسهم في القتال لردّه النّساء ، وندم السّلطان على ردّهن ، وافتتح «تل عفر» ، فأعطاها عماد الدّين صاحب سنجار.

وأقام على حصار الموصل شهرين ، ثمّ رحل عنها ، وجاءه الخبر بموت شاه أرمن ، وكاتبه جماعة من أهل خلاط ، فترك الموصل طمعا في خلاط فاصطلح أهل خلاط مع البهلوان صاحب «أذربيجان» ، فنزل السّلطان على «ميّافارقين» ، وكان صاحبها «قطب الدّين ايلغازي بن ألبي بن تمرتاش» ، وملك بعده حسام الدّين بولق أرسلان ، وهو طفل ، فطمع في أخذها ، ونازلها ، فتسلّمها من واليها ، وزوّج بعض بنيه ببنت الخاتون بنت قرا أرسلان ، ثم عاد إلى الموصل عند إياسه من خلاط ، فوصل إلى «كفر زمّار» (٢) ، في شعبان ، من سنة إحدى وثمانين ، فأقام بها مدّة ، والرسل تتردّد بينه وبين عزّ الدّين.

__________________

(١) مدينة قديمة فوق الموصل على دجلة بينهما سبعة فراسخ. الأعلاق ـ قسم الجزيرة ـ ص ٧٦٨.

(٢) كفر زمار : قرية من قرى الموصل : معجم البلدان.

١٣٥

فمرض السّلطان بكفر زمار ، فسار عائدا إلى حرّان ، وأتبعه عزّ الدين بالقاضي بهاء الدين بن شداد ، وبهاء الدّين الرّبيب ، رسولين إليه في موافقته على الخطبة والسكّة ، وأن يكون معه عسكر من جهته ، وأن يسلم إليه «شهرزور» (١) ، وأعمالها ، وما وراء «الزّاب».

واشتد مرض السّلطان بحرّان في شوّال ، وأيس منه ، وأرجف بموته ، ووصل إليه الملك العادل من حلب ، ومعه أطبّاؤها ، واستدعى المقدّمين من الأمراء من البلاد ، فوصلوا إليه. وعزم «الملك العادل» على استحلاف الناس لنفسه.

وسار ناصر الدين صاحب حمص طمعا في ملك الشّام ، وقيل انه اجتاز بحلب ، ففرّق على أحداثها مالا ، وسار إلى حمص ، وجرى من تقيّ الدّين بمصر حركات من يريد أن يستبدّ بالملك.

وتماثل السّلطان ، وبلغه ذلك كلّه ، وأركب ، فرآه الناس ، وفرحوا ، وابتنى دارا ظاهر «حرّان» فجلس فيها حين عوفي ، فسمّيت «دار العافية». ولما عوفي ردّ على مظفّر الدّين «الرّها» ، وأعطاه سنجقا ، وأحضر رسولي الموصل ، وحلف لهما على ما تقرّر في يوم عرفة.

وبلغه موت ابن عمّه ناصر الدّين ، صاحب حمص ، ورحل عن حرّان إلى حلب ، وصعد قلعتها يوم الأحد ، رابع عشر محرم سنة اثنتين

__________________

(١) شهرزور : كورة واسعة في الجبال بين اربل وهمذان. معجم البلدان.

١٣٦

وخمسمائة. وأقام بها أربعة أيام ، ثم رحل إلى دمشق ، فلقيه «أسد الدّين شيركوه» ، ابن صاحب حمص ، فأعطاه حمص ، وسار إلى دمشق.

وسيّر إلى «الملك العادل» ، وطلبه إليه إلى دمشق ، فخرج من حلب جريدة ، ليلة السّبت الرّابع والعشرين ، من شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتين. فوصل إليه إلى دمشق ، وجرت بينهما أحاديث ومراجعات استقرّت على أن الملك العادل يطلع إلى مصر ، ومعه الملك العزيز ، ويكون أتابكة ؛ ويسلّم حلب إلى الملك «الظّاهر غازي» ، وينزل الأفضل إلى دمشق من مصر ، وينزل تقيّ الدين أيضا منها.

وكان الّذي حمله على إخراج الملك العادل من حلب أنّ علم الدين سليمان بن جندر كان بينه وبين الملك النّاصر صحبة قديمة ، قبل الملك ، ومعاشرة ، وانبساط ، وكان الملك العادل وهو بحلب لا يوفيه ما يجب له ، ويقدّم عليه غيره.

فلما عوفي الملك النّاصر سايره يوما «سليمان» ، وجرى حديث مرضه ، وكان قد أوصى لكلّ واحد من أولاده بشيء من البلاد ، فقال له «سليمان بن جندر» : «بأيّ رأي كنت تظنّ أن وصيتّك تمضي كأنّك كنت خارجا إلى الصيد ، وتعود فلا يخالفونك ، أما تستحي أن يكون الطّائر أهدى منك إلى المصلحة؟». قال : «وكيف ذلك؟» ـ وهو يضحك ـ. قال : «إذا أراد الطائر أن يعمل عشّا لفراخه ، قصد أعالي الشّجرة ، ليحمي فراخه ، وأنت سلّمت الحصون إلى أهلك ، وجعلت أولادك على الأرض ، هذه حلب ،

١٣٧

وهي أمّ البلاد بيد أخيك ؛ وحماة بيد تقيّ الدّين ، وحمص بيد ابن أسد الدّين ، وابنك الأفضل مع تقيّ الدّين بمصر يخرجه متى شاء ، وابنك الآخر مع أخيك في خيمته يفعل به ما أراد». فقال له : «صدقت ، واكتم هذا الأمر».

ثم أخذ حلب من أخيه ، وأعطاها ابنه «الملك الظاهر» ، وأعطى الملك العادل بعد ذلك حرّان ، والرّها ، وميافارقين ، ليخرجه من الشام ، ويتوفّر الشام على أولاده. فكان ما كان ، وأخرج «تقيّ الدّين» من مصر ، فشقّ عليه ذلك وامتنع من القدوم ، ثم خاف ، فقدم عليه.

وسيّر الملك العادل «الصّنيعة» لا حضار أهله من حلب ، وسار «الملك الظّاهر» ـ قدّس الله روحه ـ إلى حلب ، وسيّر في خدمته «شجاع الدين عيسى بن بلاشوا» (١) ، وولّاه قلعة حلب ، وأوصاه بتربية الملك الظّاهر ، وأخيه الملك الزّاهر ، وحسام الدين بشارة ـ صاحب بانياس ـ وولّاه المدينة ، وجعل الديوان بينهما.

وجعل قرار «الملك الظاهر» في السنة ثمانية وأربعين ألف دينار بيضاء في كلّ شهر أربعة آلاف دينار ، وكلّ يوم قباء وكمه (٢) ، وعليق دوابّه من

__________________

(١) في مفرج الكروب ج ٢ ص ١٧٩ «عيسى بن بلاشق».

(٢) كذا بالأصل ولعلها تصحيف «كمر» أي قباء ونطاق.

١٣٨

الأهراء ، وخبزه من الأهراء ، واستمرّت هذه الوظيفة ، إلى سنة ستّ وثمانين إلى رجب.

فورد كتاب الملك النّاصر إلى ولده الملك الظّاهر ، يأمره بأن يأمر وينهى ، وأن يقطع الإقطاعات ، وأنّ البلد بلده. وكان القاضي الزبداني يكتب له ، فلم يعجبه ، فانصرف على حال غير محمودة.

وعلى ذكر «علم الدين سليمان بن جندر» ، تذكرت حكاية مستملحة عنه ، فأثبتها : أخبرني الزكي أحمد بن مسعود الموصلي المقرىء ، قال : كنت أؤم بعلم الدّين سليمان بن جندر ، فاتّفق أن خرجت معه إلى حارم ، في سنة سبع وسبعين وخمسمائة ، وجلست معه تحت شجرة هناك ، فقال : كنت ومجد الدّين أبو بكر بن الدّاية والملك النّاصر صلاح الدّين ، تحت هذه الشجرة ، ونور الدّين إذ ذاك يحاصر حارم ، وهي في أيدي الفرنج ، فقال مجد الدّين : كنت أتمنّى أن نور الدّين يفتح حارم ، ويعطيني إيّاها ، فقال صلاح الدّين : أتمنّى على الله مصر ، ثم قالا لي : تمنّ أنت شيئا ، فقلت : إذا كان مجد الدّين صاحب حارم وصلاح الدّين صاحب مصر ، ما أضيع بينهما ، فقالا : لا بدّ من أن تتمنّى شيئا ، فقلت : إذا كان ولا بدّ من ذلك فأريد «عمّ».

فقدّر الله أنّ نور الدّين كسر الفرنج ، وفتح حارم ، وأعطاها مجد الدّين ، وأعطاني «عمّ». فقال صلاح الدّين : أخذت أنا مصر والله ، فانّنا

١٣٩

كنّا ثلاثة ، وتمنّى «مجد الدّين» حارم ، وأخذها ، وتمنّى علم الدّين «عمّ» وأخذها. وقد بقيت أمنيتي. فقدّر الله تعالى : أن فتح أسد الدّين مصر ، ثمّ آل الأمر إلى أن ملكها صلاح الدين. وهذا من أغرب الاتفاقات.

وزوّج السّلطان الملك النّاصر ولده «الملك الظّاهر» ، في هذه السّنة ، بابنة أخيه «غازية خاتون» بنت «الملك العادل». ودخل بها يوم الأربعاء سادس وعشرين من شهر رمضان.

ثم إنّ السّلطان عزم على قصد «الكرك» مرّة أخرى فبرز من دمشق ، في النّصف من محرّم سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ، وسيّر إلى حلب يستدعي عسكرها ، فاعتاق عليه ، لاشتغاله بالفرنج بأرض «أنطاكية» ، وبلاد «ابن لاون» ، وذلك أنه كان قد مات ، وأوصى لابن أخيه بالملك.

وكان الملك المظفّر تقيّ الدّين بحماة ، فسيّر إليه السّلطان ، وأمره بالدّخول إلى بلاد العدوّ ، فوصل إلى حلب في سابع عشري محرّم ، ونزل في دار «عفيف الدّين بن زريق» (١) ، وأقام بها إلى ثالث صفر ، وانتقل إلى داري الآن ، وكانت إذ ذاك في ملك الأمير طمان ، ثم خرج إلى «حارم» ، وأقام بها إلى أن صالحهم ، في العشر الأواخر من شهر ربيع الأوّل ، ثم سار حتى لحق السّلطان ، وأما السّلطان فانه سار إلى رأس الماء (٢) ، واجتمعت اليه العساكر

__________________

(١) تحولت إلى مدرسة عرفت بالمدرسة الصلاحية في محلة سويقة علي. الآثار الاسلامية ص ٢٢٨.

(٢) سلف أن ذكرت أن رأس الماء يعرف الآن باسم نبع السريا ومنه تشرب بلدة الشيخ مسكين في حوران.

١٤٠