زبدة الحلب من تاريخ حلب - ج ٢

كمال الدّين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي [ ابن العديم ]

زبدة الحلب من تاريخ حلب - ج ٢

المؤلف:

كمال الدّين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي [ ابن العديم ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١
الجزء ١ الجزء ٢

ودخل الملك الصالح إلى حلب ، وخلف العسكر بأرض «عمّ» (١) و «جاشر» ، حول حارم ؛ يمنعونها من الفرنج ، ويباكرونها كلّ يوم لطلب التّسليم ، ومقدّم العسكر «طمان بن غازي» ـ وكان من أكبر الأمراء ـ.

وعاد الفرنج إلى حماة فحصروها ، ولم يظفروا بطائل ، وطمعوا في حارم ، لعصيان أصحاب كمشتكين بها ، وظنّوا أنّ الملك الصّالح صبي ، وعسكره قليل ، والملك النّاصر بمصر ، فلا ينجدهم إلّا بعد أن يأخذوا «حارم» ، فنزلوا عليها ، ومعهم كند كبير من الفرنج ، كان قد خرج من البحر إلى السّاحل ، يقال له كندر «فلنط لماني» (٢) ، ومعهم البرنس ، وابن لاون ، والقومص صاحب طرابلس ، فندم من «بحارم» ، حيث لم يسلموها إلى الملك الصّالح.

وحصرها الفرنج ، وضايقوها بالمجانيق والسّلالم ، فصاح من فيها : «صلاح الدّين يا منصور»! فأحضروا خيمة ، كانوا أخذوها من خيم الملك الناصر في كسرة «الرّملة» في هذه السنة (٣) وأخبروهم بالكسرة ليضعفوا عزيمتهم ، وعسكر حلب بإزائهم من «عمّ» إلى تيزين (٤).

__________________

(١) عم قرية غناء بين حلب وأنطاكية. معجم البلدان.

(٢) فلنط لماني هو كونت فلاندرز. انظر وليم الصوري ص ١٠٠٥ ـ ١٠٠٧.

(٣) انظر وليم الصوري ص ١٠٠٢ ـ ١٠٠٥.

(٤) تيزين قرية كبيرة من نواحي حلب كانت تعد من أعمال قنسرين. معجم البلدان.

١٠١

ودخلت سنة أربع وسبعين :

والفرنج مجدّون على قتال «حارم» ، ونقبوا في تلّ القلعة ، من جهة القبلة نقبا ، ومن جهة الشّمال آخر. فانهدّ السّور على من تحته ، وهو موضع البغلة (١) ، التي جدّدها السّلطان الملك الظّاهر ـ قدّس الله روحه ـ.

وامتنع القتال من تلك الناحية ، خوفا من وقوع شيء آخر. فأخرج المسلمون رجلا من عندهم إلى «طمان» ، يطلب الأمان من الملك الصّالح والنجدة ، فسيّر إلى الملك الصّالح ، وأعلمه.

فانتخب الملك الصالح رجالا أجلادا من الحلبّيين ، وأعطاهم مالا جزيلا ، وقال لهم : «أريد منكم أن تدخلوا قلعة حارم» ؛ فجاءوا ، والفرنج محدقون بها ، في الّليل ، فسلكوا خيامهم مفرّقين ، حتى جاوزوها ، وصاحوا بالتكبير والتّهليل ، وصعدوا القلعة ، وصار فيها شوكة من المقاتلة ، بعد أن كان قتل من المسلمين بها رجال عدّة. والمسلمون ـ أعني عسكر حلب ـ إذ ذاك حول الفرنج جرايد ، وأثقالهم «بدير سمعان» ، وهم يتخطّفون من يمكنهم أخذه من الفرنج ويحفظون أطراف البلد.

وسار العسكر عند ذاك إلى «دير أطمة» (٢) وصادفوا الفرنج في وطأة «أطمة» ، فحملوا عليهم ، فانهزموا وقتل من الفرنج ، وأسر جماعة ؛ فدام حصار الفرنج أربعة أشهر. وأرسل الملك الصّالح إليهم ، وقال : «إنّ

__________________

(١) جدار استنادي لدعم جدار قديم حتى لا ينهار.

(٢) اطمة الآن من قرى منطقة حارم في محافظة أدلب وتبعد عن ادلب مسافة ٨٩ كم.

١٠٢

الملك النّاصر واصل إلى الشّام ، وربّما يسلّم من بحارم إليه قلعتها ، ويضحي في جواركم ، وبذل لهم مالا بمقدار ما أنفقوا مدّة حصارهم لها ، وانتظم الصّلح ، ورحلوا.

وخرج الملك الصّالح ، فنزل على «حارم» ، فسلّمها إليه أصحاب كمشتكين ، وصفح عن جرمهم ، وولّى فيها «سرخك» جمدار (١) أبيه نور الدّين ، ودخل حلب وطالب نواب كمشتكين بماله ، واعتقل ابن التّنبي وزيره ، فأحضر بعض المال ، وعذّب حتّى أحضره ، ثم هرب من الاعتقال.

وفي سنة خمس وسبعين وخمسمائة :

سعى جماعة بالقاضي محيي الدّين أبي حامد بن الشّهرزوري ، قاضي حلب ، وقدحوا فيه عند جمال الدّين شاذبخت ، وأوهموه أنه يميل إلى الملك الصّالح ، ووضعوا على لسانه أشعارا نسبوها إليه ، فأوجب ذلك استيحاشه ، وتوجّه إلى الموصل. وعرض القضاء على عمّي «أبي غانم محمّد بن هبة الله بن أبي جرادة» فامتنع ، فقلّد والدي القضاء بحلب وأعمالها ، وبقي على قضائها إلى أن مات الملك الصّالح ، وفي دولة عزّ الدّين ، وعماد الدّين ، ومدّة من دولة السّلطان الملك النّاصر.

وقبض الملك الصّالح قرية للاسماعيليّة تعرف بحجيرا من ضياع نقرة

__________________

(١) الجمدار المسؤول عن ثياب الحاكم.

١٠٣

بني أسد ، فكتب «سنان» إلى الملك الصّالح كتبا عدّة في إطلاقها ، فلم يطلقها ، فأرسل جماعة من الرّجال معهم النفط والنار ، فعمدوا إلى الدّكان التي في رأس «الزجّاجين» من الشّرق في القرنة ، فألقوا فيها النار.

فنهض نائب رئيس البلد بمن معه في المربّعة ، والجماعة المرتّبون لحراسة الأسواق ، وأخذوا السّقّائين ليطفئوا الحريق ، فأتى الإسماعيليّة من أسطحة الأسواق ، وألقوا النار والنفط في الأسواق ، فاحترق سوق البزّ الكبير ، وسوق العطّارين ، وسوق مجد الدّين ، المعدّ للبز ، وسوق الخليع ، وسوق الشراشين ـ وهو الآن يعرف بالكتّانيّين ـ وسوق السرّاجين ، والسّوق الذي غربيّ الجامع ، جميعه ، إلى أن انتهى الحريق إلى المدرسة الحلاويّة (١).

واحترق للتجّار والسّوقيّة ، من القماش شيء كثير ، وافتقر كثير منهم بسبب ذلك ، ولم يظفروا من الاسماعيليّة بأحد ، وذلك في سنة خمس وسبعين وخمسمائة.

ومات سيف الدّين غازي ، صاحب الموصل ، ووليها أخوه عزّ الدّين مسعود ، وذلك في سنة ستّ وسبعين وخمسمائة.

وكان الملك الصّالح في هاتين السنتين رخيّ البال ، مستقرّا في مملكته ، سالكا في الإحسان إلى أهل حلب طريق أبيه ، عفيف اليد والفرج

__________________

(١) ذكر ابن شداد بعض أسواق حلب في كتابه الأعلاق ، كما ذكر بعضها ابن الشحنة ، واهتم بها طلس في كتابه الآثار الإسلامية ، راجع الفهارس.

١٠٤

واللّسان ، فقدّر الله تعالى أن حضر أجله ، وله نحو من تسع عشرة سنة (١) ، فمرض بالقولنج واشتدّ مرضه.

فدخل إليه طبيبه «ابن سكّرة اليهوديّ» ، وقال له سرّا : «يا مولانا شفاؤك في الخمر ، فان رأيت أن تأذن لي في حمله في كمّي ، بحيث لا يطّلع الّلالا ، ولا شاذبخت ، ولا أحد من خلق الله على ذلك» ، فقال : «يا حكيم ، كنت والله أظنك عاقلا ، ونبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : إنّ الله لم يجعل شفاء أمّتي فيما حرّم عليها (٢) وما يؤمّنني أن أموت عقيب شربها ـ فألقى الله ، والخمر في بطني ، والله لو قال لي ملك من الملائكة : إنّ شفاءك في الخمر لما استعملته».

حكي لي ذلك والدي عن ابن سكّرة الطبيب.

ولما أيس من نفسه أحضر الأمراء والمستحفظين ، وأوصاهم بتسليم البلد إلى ابن عمّه عزّ الدّين مسعود بن مودود بن زنكي ، واستحلفهم على ذلك ، فقال له بعضهم : «إنّ عماد الدّين ابن عمّك أيضا ، وهو زوج أختك ، وكان والدك يحبّه ويؤثره ، وهو تولّى تربيته ، وليس له غير سنجار ، فلو أعطيته البلد لكان أصلح ، وعزّ الدّين له من البلاد من الفرات إلى همذان ، ولا حاجة له إلى بلدك» ، فقال له» «إنّ هذا لم يغب عنّي ، ولكن قد علمتم أنّ صلاح الدّين ، قد تغلّب على البلاد الشّامية ، سوى

__________________

(١) في بغية الطلب ص ١٨٢٦ : «له نحو من ثمانية عشر سنة».

(٢) انظره في موسوعة أطراف الحديث النبوي ـ اعداد محمد السعيد بسيوني ـ ط. بيروت ١٩٨٩ ج ٣ ص ١٨٢.

١٠٥

ما بيدي ، ومتى سلمت حلب إلى عماد الدّين يعجز عن حفظها ، وإن ملكها صلاح الدّين لم يبق لأهلنا معه مقام ، وان سلّمتها إلى عزّ الدّين أمكنه حفظها بكثرة عساكره وبلاده». فاستحسنوا هذا القول منه ، وعجبوا من حسن رأيه مع شدّة مرضه ، وصغر سنّة.

ثم مات يوم الجمعة خامس وعشرين شهر رجب ، من سنة سبع وسبعين وخمسمائة ، ودفن بقلعة حلب ، إلى أن ابتنت والدته «الخانكاه» (١) تجاه القلعة ، ونقل إليها في أيام ، فسيّر الأمراء. جورديك ، والبصيريّ ، وبزغش ، وجمال الدّين شاذبخت ، النّوريّون ، مع جماعة المماليك النّورية ، إلى «عزّ الدّين» ، يستدعونه ، وجدّدوا الأيمان فيما بينهم له.

وأما علم الدّين سليمان بن جندر ، وحسام الدّين طمان بن غازي ، وأهل الحاضر ، فإنّهم راسلوا «عماد الدّين» صاحب سنجار ، وكتموا أمرهم ، و «شاذبخت» هو الوالي بالقلعة ، والحافظ لخزانتها ، والمدبّر للأمور مع «النّورية» ، فسيّر إلى علم الدّين سليمان ، وحسام الدّين طمان ، وطلب منهما الموافقة في اليمين لعزّ الدّين ، فماطلا ، ودافعا ، فلما تأخّر وصول «عماد الدّين» عليهما ، وافقا على اليمين لعزّ الدّين.

ولما وصل رسول الأمير إلى عزّ الدّين ، سار هو ومجد الدّين قايماز إلى الفرات ، فنزل على «البيرة» ، ووصل شهاب الدّين ـ أخو عماد الدّين ـ مختفيا ـ واجتمع بطمان وابن جندر ، وأعلمهما أن «عماد الدّين» في بعض

__________________

(١) في محلة الفرافرة تحت القلعة. انظر الآثار الإسلامية ص ٣٢١.

١٠٦

الطّريق ، فأخبروه بأخذ اليمين عليهم ، وأنّ تربّصه بالحركة أحوجهم إلى ذلك ، فعاد إليه أخوه وعرّفه ، فعاد إلى بلاده.

وأمّا «عزّ الدّين» ، فحين وصل إلى «البيرة» أرسل إلى الأمراء الّذين بحلب ، واستدعاهم إليه. فخرجوا والتقوه «بالبيرة» ، وساروا معه إلى حلب ، ودخلها في العشرين من شعبان ، واستقبله مقدّموها ورؤساؤها ، وصعد إلى القلعة.

وكان «تقيّ الدّين عمر» ـ ابن أخي الملك النّاصر ـ بمنبج ، فعزم على أن يحول بين «عزّ الدّين» وحلب ، حين وصل إلى «البيرة» لأنّه وصل جريدة ، وتخلّف عنهم الغلمان والحشد ، ثم إنه تثاقل هو وأصحابه عن ذلك.

ولما وصل «عزّ الدّين» إلى حلب ، سار تقيّ الدّين من منبج إلى حماة ، وثار أهل حماة ، ونادوا بشعار «عزّ الدّين» ، فأشار عسكر حلب على عزّ الدّين بقصدها ، وقصد دمشق ، وأطمعوه فيها وفي غيرها من الشّام ، وأعلموه محبّة أهل الشّام لأهل بيته.

وكان «الملك النّاصر» بالدّيار المصرية ، فلم يفعل ، وقال : «بيننا يمين ، ولا نغدر به» ، ولما بلغ «الملك الناصر» أخذ عزّ الدّين حلب قال : «خرجت حلب عن أيدينا ، ولم يبق لنا فيها طمع».

وأقام عزّ الدّين بحلب ، فسيّر إليه أخوه «عماد الدّين زنكي بن

١٠٧

مودود» ، وقال : «كيف تختصّ أنت ببلاد عمي وابنه وبأمواله ، دوني ، وهذا أمر لا صبر لي عنه». وطلب منه تسليم حلب إليه ، وأن يأخذ منه «سنجار» عوضا عنها.

فامتنع «عزّ الدّين» ، ولم يجبه إلى ما أراد ، فأرسل إليه وهدّده بأن يسلّم «سنجار» إلى «الملك النّاصر» فيضايق الموصل بها ، فأشار عليه طائفة من الأمراء بأخذ «سنجار» منه واعطائه حلب ، وكان أشدّ الناس في ذلك «مجاهد الدّين» ، وهو الذي كان يتولّى تدبيره ، وكان أمراء حلب لا يلتفتون إلى «مجاهد الدّين» ، ولا يسلكون معه ما يسلكه عسكر الموصل ، فلذلك ميّل «عزّ الدّين» إلى ذلك.

وشرع «عزّ الدّين» في الميل إلى الأمراء ، الّذين حلفوا له أولا ، والإعراض عن الّذين مالوا إلى أخيه «عماد الدّين» ، وأحسن إلى أهل حلب ، وخلع عليهم ، وأجراهم على عادتهم في أيّام عمّه «نور الدّين» ، وابنه «الملك الصّالح» ، وأبقى قاضيها والدي ، وخطيبها عمّي ، ورئيسها «صفيّ الدّين طارق بن الطريرة» على ولاياتهم ، وولّى بقلعة حلب «شهاب الدّين اسحق بن أميرك» الجاندار (١) ، صاحب الرّقّة ، وأبقي «شاذبخت» في القلعة ناظرا معه ؛ وولّى مدينة حلب والديوان مظفر الدّين بن زين الدّين.

وكان الصّلح قد انفسخ ، بموت الملك الصّالح ، بين الفرنج والمسلمين ، وكانت «شيح الحديد» (٢) مناصفة بين المسلمين والفرنج ،

__________________

(١) الجاندار : حافظ السلاح.

(٢) شيح الحديد قرية كبيرة في طرف العمق. بغية الطلب ص ٤٧٤.

١٠٨

فأضافها عسكر حلب ، قبل وصول عزّ الدّين إلى «الدّربساك» (١) ، واختصّوا بها دون الفرنج ، وحضر أهلها إلى طمان ، فأعطاهم الأمان.

فلمّا وصل «عزّ الدّين» ، سيّر العساكر إلى ناحية «حارم» ، وحاولوا نهب «العمق» ، فانحاز أهله كلّهم إلى «شيح» لعلمهم بأنّ «طمانا» أمّنهم ، فأراد عسكر الموصل أن ينهبوها ، فقال لهم : «إنّ شيح لحلب ، وإنّهم في أماني». فلم يلتفتوا إلى قوله ، وسار واليها ليلا ، فسبقهم إلى «المخاض» ، ووقف في وجوههم يردّهم ، فقتل منهم جماعة ، ثم تكاثروا وعبروا ، فسبقهم طمان إلى «شيح» ، وأمرهم أن يجعلوا النساء في المغاير ودربها.

فوصل عسكر الموصل ، فرأوا ذلك ، فعزموا على القتال ، فصاح طمان : «إذا كنتم تخفرون ذمّتي ، فأنا أرحل إلى الفرنج». وسار في أصحابه إلى أن قرب من «يغرا» ، فوصله من أخبره بأنّهم عادوا عنها ، ولم ينالوا منها طائلا ، وخافوا من ملامة عزّ الدّين ، فعاد «طمان» ، ونزل كلّ منهم في خيامه «بحارم».

وكاتب المواصلة «عزّ الدّين» ، يطعنون على «طمان» ، وأنّه وافق أهل «شيح» في العصيان ، وأراد اللّحاق بالفرنج ، فأحضر «طمان» والمواصلة ، وتقابلوا بين يديه ، فقال عزّ الدّين : «الحق مع حسام الدّين ، ولا يجوز نقص العهد لواحد من المسلمين». وكان ذلك في شهر رمضان من السّنة.

__________________

(١) حصن الدربساك قريب من بغراس. بغية الطلب ص ١٥١.

١٠٩

وبقيت المواحشة بين أمراء حلب والمواصلة ؛ والحلبيّون لا يرون التغاضي لمجاهد الدّين ، ومجاهد الدّين يحاول أن يكونوا معه كأمراء الموصل ، والأمراء الحلبيّون يمنّون عليه. بأنّهم اختاروه لهذا الأمر ، ويطلبون منه الزّيادة ، ويختلق المواصلة عليهم الأكاذيب.

فهرب الأمير علم الدّين سليمان بن جندر ، قاصدا «الملك النّاصر» إلى مصر ، فقالوا لعزّ الدّين : «إنّ طمانا سيهرب بعده ، فأمر عزّ الدّين ، مظفر بن زين الدين ، وبني الغراف ، والجراحي وغيرهم أن يمدوا من «السّعدي» إلى «المباركة» في طريقه ، وأن يقف جماعة حول دار «طمان» ـ وكان يسكن خارج المدينة ـ.

فلما لم يجر من «طمان» شيء من ذلك ، جاءوا إليه نصف اللّيل ، وطلبوه ، فخرج إليهم ، فوجد ابن زين الدّين وبني الغراف ، فسألهم عمّا يريدون ، فقالوا : «إنّه أنهي إلى عزّ الدّين بأنّك تريد الهرب ، وقد أمرنا بأن نعوقك» فقال : «والله ما لهذا صحّة ، ولو أردت المسير عن حلب لمضيت ، لا على وجه الخفية ، ولا أخاف من أحد».

فجعلوا لهم طريقا آخر إلى نيل غرضهم ، وأصبحوا ، وعزّ الدّين منتظر ما يكون ، فقالوا له : «كان قد عزم على الهرب ، فلما علم أنّ الطريق قد أخذ عليه ، وأن الدّار قد أحيط بها أخّر ذلك إلى وقت ينتهز فيه الفرصة ، والمصلحة قبضة قبل هربه». فأمرهم بأن يقبضوه محترما ، ويحضروه إليه.

فجاؤوه ليلا ، من أعلى الدّار وأسفلها ، وأزعجوه ، وكان نائما ،

١١٠

فخرج إلى الباب ، فوجد مظفّر الدّين بن زين الدّين مع بني الغراف ، فقالوا له : «إنّ المولى عزّ الدّين قد أمرنا بالقبض عليك». فقال لهم : «السمع والطاعة ، فشأنكم وما أمرتم به» ؛ فأركبوه ، وحملوه ، والرجال محيطة به ، وفتحوا باللّيل باب القلعة ، واعتقلوه بها غير مضيّق عليه.

وأحضره «عزّ الدّين» ، ووانسه وقال : «لم أفعل ما فعلت إلّا لشدّة رغبتي فيك ، وافتقاري إلى مثلك» ؛ فعرّفه ما ينطوي عليه ، وأنّ ما نقل عنه لم يخطر بباله. فقال : «إنّ وقيعة أعدائك فيك ، لم تزدك عندي إلّا حظوة».

وبقي معتقلا في القلعة أسبوعا ، ثمّ خلع عليه ، وأطلقه وزاد في أقطاعه «الأخترين» (١).

وأقام «عزّ الدّين» حتّى انقضت مدّة الشّتاء ، ثم تزوّج أمّ الملك الصالح ، في خامس شوّال من السنة ، ثم سيّرها إلى الموصل ، واستولى على جميع الخزائن التي كانت لنور الدّين وولده بقلعة حلب ، وما كان فيها من السّلاح ، والزرد ، والقسيّ ، والخوذ ، والبركسطونات (٢) ، والنشّاب ، والآلات ، ولم يترك فيها إلّا شيئا يسيرا من السّلاح العتيق ، وسيّر ذلك كلّه إلى «الرّقّة».

وترك في قلعة حلب ولده نور الدّين محمودا طفلا صغيرا ، وردّ أمره

__________________

(١) الأخترين مركز ناحية تابعة لقضاء عزاز في محافظة حلب ، وتبعد عن حلب مسافة ٤٥ كم.

(٢) البركسطونات : دروع الفرسان أو الحيوانات في الحرب.

١١١

إلى الوالي بالقلعة : شهاب الدّين اسحق ، وسلّم البلد والعسكر إلى مظفّر الدّين بن زين الدّين ، وسار إلى الرقّة ، سادس عشر شوّال ، فأقام بها فصل الرّبيع.

وراسل أخاه «عماد الدّين» ، في المقايضة «بسنجار» ، ليتوفّر على حفظ بلاده ، ويضمّ بعضها إلى بعض ، ولعلمه أنّه يحتاج إلى الإقامة بالشّام ، لتعلّق أطماع «الملك النّاصر» بحلب ، وقدم عليه أخوه. واستقرّت المقايضة على ذلك ، وتحالفا على أن تكون حلب وأعمالها لعماد الدّين و «سنجار» وأعمالها لعزّ الدين ، وأنّ كل واحد منهما ينجد صاحبه ، وأن يكون «طمان» مع عماد الدّين ، فسيّر «طمان» ، وصعد إلى قلعة حلب ، وكان معهم علامة من عزّ الدّين ، فتسلّمها ، وسيّر عزّ الدّين من تسلّم سنجار.

وفي حال طلوع «طمان» ، ونقل الوالي متاعه ، طمع «مظفّر الدّين بن زين الدين» بأن يملك القلعة ، ووافقه جماعة من الحلبيين كانوا بقربه ، في الدّار المعروفة بشمس الدّين عليّ بن الدّاية وجماعة من الأجناد ، ولبس هو زرديّة ، تحت قبائه ، وألبس جماعة من أصحابه الزّرد تحت الثّياب ، ومع كلّ واحد منهم سيف ، وأرسل إلى شهاب الدّين ، وقال له : «إنّه وصلني كتاب من أتابك عز الدّين ، وأمرني أن أطلع في جماعة إليك» ، فأمره بالصّعود.

وكان «جمال الدّين شاذبخت» ، في حوش القلعة الشرقي ، الّذي

١١٢

هدمه الملك العادل ـ وكان بين الجسرين اللّذين جدّدهما السلطان الملك الظاهر ـ رحمه‌الله ـ وعمل مكان ذلك الحوش بغلة (١) فرأى الجند مجتمعين تحت القلعة ، فسيّر «شاذبخت» ، وأحضر بوّابا كان للقلعة ، يقال له «عليّ بن منيعة» وكان جلدا يقظا ، وأمره بالاحتزاز.

فلما أراد أن يدخل من باب القلعة ، تقدّم إليه ، وقال له : «لا تدخل إلّا أنت وحدك». وكان في ركابه جماعة فمنعوهم ، فلم يتمّ له ما أراد.

وعاد ابن زين الدّين إلى داره ، وقيل أنّ ابن مقبل الاسباسلار ، قال له : «أنت تصعد إلى القلعة ، فما هذا الزّرد عليك؟» فعاد ، وجعل يعتذر عمّا شاع في النّاس من فعله.

وكتب شهاب الدّين الوالي وجمال الدّين شاذبخت إلى عزّ الدّين كتابا بخطّ «حسين بن يلدك» ، إمام «المقام». وأخذ تحته خطوط الأجناد ، والنقيب ، والاسباسلار. فلم يمكن «عزّ الدّين» مكاشفته في ذلك ، لقرب «الملك النّاصر» من البلاد.

وبعث «مظفّر الدّين» إلى «عزّ الدين» يعتذر ، ويقول : «إنّ الاسماعيليّة أوعدوني القتل ، وما أمكنني إلّا الاحتزاز بالسّلاح ، أنا ، ومن معي ، وأنكر الحفظة بالقلعة ذلك عليّ ، ولم يكن ذلك لأمر غير ما ذكرته». فلم يقابله على ذلك.

__________________

(١) البغلة دعامة تبنى للجدار الواهي وتحشي الأساس لتقيه من السقوط. موسوعة حلب المقارنة للأسدي ط. حلب ـ مطبعة جامعة حلب.

١١٣

وأما «طمان» ، فإنه قبض على الجماعة الّذين كانوا معه ، وحبسهم في القلعة ، واطّلع على ما كانوا أضمروه ، وأطلقهم في اليوم الثاني ، وستر هذا الأمر.

ثم وصل قطب الدّين ابن عماد الدّين إلى حلب ، ثم ورد أبوه «عماد الدّين» ، فوصل بأهله ، وماله ، وأجناده ، وزوجته بنت نور الدّين.

ووصل على البريّة من جهة «الأحصّ» (١) ، والتقاه الأكابر من الحلبييّن ، وصعد إلى قلعة حلب ، في ثالث عشر المحرّم ، من سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ، وقيل في مستهلّه.

وولّى القلعة «عبد الصّمد بن الحكّاك الموصليّ» ؛ والعسكر ، والخزائن ، والنظر في أحوال القلعة إلى مجاهد الدّين بزغش ، وأنزل «شاذبخت» من القلعة ، والقضاء ، والخطابة ، والرئاسة ، على ما كان عليه ، في أيّام أخيه وابن عمّه.

وولّى الوزارة «بهاء الدّين أبا الفتح نصر بن محمّد بن القيسرانيّ» ، أخا «موفّق الدّين خالد» ـ وزير نور الدّين ـ واستمرّ الشّيعة في أيّامه ، وأيّام أخيه ، على قاعدتهم ، الّتي أقرّهم عليها «الملك الصّالح» ، من إقامة شعارهم بالشرقيّة ، بالمسجد الجامع.

__________________

(١) كانت الأحص كورة كبيرة من كور حلب قصبتها خناصره. معجم البلدان ، هذا ونقل ابن العديم في ترجمته لزنكي الثاني ـ بغية الطلب ص ٣٨٥٧ ـ ٣٨٦٤ وصف دخوله إلى حلب عن عمه ووالده.

١١٤

وأبقى «سرخك» في حارم على ما كان عليه. وحكم «شاذبخت» في عزاز وقلعتها ـ وهو وكيل عن ابنة نور الدّين التي أطلقها الملك النّاصر لها ـ وصالح الفرنج.

وجرى في الاحسان إلى أهل حلب ، على قاعدة عمّه وابن عمه وأخيه ، ولما بلغ الملك النّاصر حديث حلب وأخذ عماد الدّين إياها ، قال : «أخذنا والله حلب» ، فقيل له : «كيف قلت في عزّ الدّين لما أخذها : خرجت حلب عن أيدينا ، وقلت : حين أخذها عماد الدّين : أخذنا حلب؟» فقال : «لأنّ عزّ الدّين ملك صاحب رجال ومال ، وعماد الدّين ، لا مال ولا رجال»!

وخرج «الملك النّاصر» ، من مصر في خامس المحرّم من هذه السّنة ، وخرج الناس يودّعونه ، ويسيرون معه ويتأسّفون على فراقه ، وكان معه معلّم لبعض أولاده فالتفت إلى بعض الحاضرين ، وأنشد :

تمتّع من شميم عرار «نجد»

فما بعد العشيّة من عرار

فانقبض السّلطان ، وتطيّر ، فقدّر أنّه لم يعد إلى مصر ، إلى أن مات ، مع طول مدّته ، واتّساع ملكه في غيرها.

وسار على «أيلة» وأغار على بلاد الفرنج في طريقه ، ووصل دمشق في صفر ، ثم خرج منها إلى ناحية «الغور» ، فأغار على ناحية «طبريّة» و «بيسان» ، وعاد إلى دمشق ، ثم خرج إلى «بيروت» ، ونازلها ، واجتمع الفرنج فرحّلوه عنها. فدخل إلى دمشق ، وبلغه أنّ المواصلة كاتبوا الفرنج

١١٥

على قتاله ، فجعل ذلك حجّة عليهم.

وسار حتّى نزل على حلب ، في ثامن عشر من جمادى الأولى ، سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. ونزل على «عين أشمونيث» (١) ، وامتد عسكره حولها شرقا ، وأقام ثلاثة أيّام ، فقال له عماد الدّين : «امض إلى سنجار ، وخذها وادفعها إليّ ، وأنا أعطيك حلب».

وكان «عماد الدين» قد ندم على مقايضة أخيه بحلب وسنجار ، حيث وصل ووجد خزائنها صفرا من المال ، وقلعتها خالية من العدد والسّلاح والآلات ، وأنّه يجاور مثل «الملك الناصر» فيها.

فعند ذلك سار «الملك الناصر» إلى جسر «البيرة» ، وكان صاحبها «شهاب الدّين بن أرتق» قد صار في طاعته ، فعبر إليه مظفّر الدّين بن زين الدّين إلى الناحية الشّاميّة ، وحرّان ، إذ ذاك في يده ، كان أقطعه إياها عزّ الدّين صاحب الموصل ، وحصلت بينه وبينه وحشة من الوقت الّذي عزم فيه على أخذ قلعة حلب ، فكانت رسله تتردّد إلى «الملك الناصر» ، تطمعه في البلاد ، وتحثّه على الوصول.

وعاد ابن زين الدّين معه حتى عبر الفرات في جسر «البيرة» ، وكان «عزّ الدّين» قد وصل بعساكر الموصل إلى «دارا» (٢) ، ليمنع «الملك النّاصر» من

__________________

(١) تعرف أيضا باسم عين اشمول ، ذكرها ابن الشحنه ص ٢٤٥ بين منتزهات حلب.

(٢) دارا مدينة في لحف جبل بين ماردين ونصيبين ذات بساتين ومياه جارية. الأعلاق الخطيرة ـ قسم الجزيرة ـ ص ٧٩٢.

١١٦

حلب ، فلما عبر الفرات عاد إلى الموصل ، وعبر «الملك النّاصر» ، فأخذ «الرّها» من ابن الزعفراني ، وسلّمها إلى ابن زين الدّين ، وأخذ الرّقّة من ابن حسّان ، ودفعها إلى ابن الزّعفراني ، وكاتب ملوك الشّرق ، فأطاعوه ، وقصد «نصيبين» ، فأخذها.

وسار إلى الموصل ، وفيها عسكر قويّ ، فقوتل قتالا شديدا ، ولم يظفر منها بطائل ، فرحل عنها إلى «سنجار» ، فأنفذ «مجاهد الدّين» إليها عسكرا ، فمنعه «الملك النّاصر» من الوصول ، وحاصر «سنجار» ، فسلمّها إليه أمير من الأكراد الزرزارية ، وكان في برج من أبراجها ، فسلّم إليه تلك النّاحية ، وصارت «الباشورة» (١) معه ، فضعفت نفس واليها «أمير أميران» أخي عزّ الدّين ، فسلّمها بالأمان ، في ثاني شهر رمضان من السّنة وقرّر «الملك النّاصر» أمورها ، وعاد إلى حرّان.

ولما قصد «الملك النّاصر» البلاد الشرقيّة ، رأى عماد الدّين أن يخرّب المعاقل المطيفة ببلد حلب ، فشنّ الغارات على شاطىء الفرات ، وهدم حصن بالس ، وحصر قليعة نادر (٢) ففتحها ، ثم هدمها بعد ذلك ، وأغار على قرى الشطّ ، فأخربها واستاق مواشيها ، وأحرق جسر «قلعة جعبر» (٣).

ثم وصل إلى «منبج» وقاتلها ، وأغار على بلدها ، ووصلت الغارة إلى

__________________

(١) باشورة كل قلعة مدخلها.

(٢) على مقربة من بالس انظر الأعلاق الخطيرة ـ قسم حلب ـ ج ٢ ص ٢٥.

(٣) في بغية الطلب ص ٣٨٥٨ : «فخرب عزاز وحصن بزاعا وحصن بالس وحصن كفرلاثا».

١١٧

«قلعة نجم» (١) ، وعبر الفرات ، فأغار على «سروج» (٢).

ثم عاد إلى حلب ؛ ثم خرج وهدم «حصن الكرزين» (٣) وخرب حصن «بزاعا» وقلعة «عزاز» ، في جمادى الآخرة ، وخرب حصن «كفرلاثا» (٤) بعد أخذه من صاحبه بكمش ، وكان قد استأمن إلى «الملك الناصر» ، وضاق الحال عليه ، فشرع في قطع جامكية أجناد من القلعة ، وقتّر على نفسه في النفقات.

وأما «الملك النّاصر» ، فرحل من «حرّان» فنزل «بحرزم» (٥) تحت قلعة ماردين. فلم ير له فيها طمعا ، فسار إلى «آمد» ، في ذي الحجّة ، وكان قد وعد «نور الدين محمد بن قرا أرسلان» بأخذها من ابن نيسان ، وتسليمها إليه ، وحلف له على ذلك ، فتسلّمها في العشر الأول ، من المحرّم من سنة تسع وسبعين وخمسمائة ، وكان فيها من المال شيء عظيم ، فسلّم ذلك كلّه مع البلد إلى نور الدّين ، وقيل له في أخذ الأموال وتسليم البلد ، فقال : «ما كنت لأعطيه الأصل وأبخل بالفرع».

ثم إنّ الملك الناصر عبر إلى الشّام ، فمرّ «بتلّ خالد» فحصرها ،

__________________

(١) قلعة مطلة على الفرات قرب جسر منبج. الأعلاق ـ قسم الجزيرة ـ ص ٨٢٦.

(٢) سروج بلدة قريبة من حران من ديار مضر. معجم البلدان.

(٣) في منطقة منبج قرية اسمها «كرسان» فلعلها الموقع المقصود.

(٤) كفرلاثة من قرى منطقة أريحا في محافظة ادلب وتبعد عن ادلب مسافة ٢٠ كم.

(٥) بليدة بين ماردين ودنيسر من أعمال الجزيرة. معجم البلدان.

١١٨

فسلّمها أهلها بالأمان في المحّرم. ثم سار منها إلى عين تاب ، وبها «ناصر الدّين محمد» أخو «الشّيخ اسماعيل الخزندار» ، فدخل في طاعته ، فأبقاها عليه.

ولمّا علم «عماد الدّين» ذلك ، وتحقّق قصده لحلب ، أخذ رهائن الحلبييّن ، وأصعد جماعة من أولادهم وأقاربهم ، خوفا من تسليم البلد ، وقسم الأبراج والأبواب على جماعة من الأمراء ، وكان الأمراء «الياروقية» بها في شوكتهم.

وجاء الملك النّاصر ، ونزل على حلب في السّادس والعشرين من محرّم سنة تسع وسبعين وخمسمائة. وامتدّ عسكره من «بابلّى» إلى النّهر ممتّدا إلى «باسلين» (١) ، ونزل هو على «الخناقيّة» (٢) ، وقاتل عسكر حلب قتالا عظيما ، في ذلك اليوم ، وأسر «حسام الدّين محمود بن الختلو» ، بالقرب من «بانقوسا» (٣) ، وهو الذي تولى شحنكية حلب ، فيما بعد.

وهجم تاج الملوك بوري بن أيّوب ، أخو «الملك النّاصر» ، على عسكر حلب ، فضرب بنشّاب زنبورك (٤) فأصاب ركبته ، فوقع في الأكحل ، فبقي

__________________

(١) بابلى وباسلين من منتزهات حلب. انظر الأعلاق ـ قسم حلب ـ ج ١ ص ٣٦٧ ، ٣٧١.

(٢) من منتزهات حلب. ابن الشحنه ص ٢٤٦.

(٣) عد ابن الشحنة ص ٢٣٧ بانقوسا بين حارات حلب خارج الأسوار.

(٤) من أنواع النشاب المرمي بواسطة النوابض ، ومعروف أن الأسلحة تطورت كثيرا في هذه الحقبة.

١١٩

أيّاما ، ومات بعد فتح حلب ، ودفن بتربة «شهاب الدّين الحارميّ» ، «بالمقام» (١) ثم نقل إلى دمشق.

وجدّ الملك الناصر ، بسبب أخيه على محاصرة حلب أياما ، فاجتمع (٢) إليه الأجناد من العسكر والرّجال ، وطلبوا منه قرارهم فمطلهم ، فقالوا : «قد ذهبت أخبازنا (٣) ، ونحتاج لغلاء الأسعار إلى ما لا بدّ منه» ، وشحّ بماله ، فقال لهم : «أنتم تعلمون حالي ، وقلّة مالي ، وأنني تسلّمت حلب صفرا من الأموال ، وضياعها في أقطاعكم». فقال له بعضهم : «من يريد حلب يحتاج إلى أن يخرج الأموال ولو باع حلي نسائه» ؛ فأحضر أواني من الذّهب والفضّة ، وغيرها ؛ وباع ذلك ، وأنفقه فيهم.

وكان الحلبيّون يخرجون على جاري عادتهم ، ويقاتلون أشدّ قتال بغير جامكيّة (٤) ، ولا قرار ، نخوة على البلد ، ومحبّة لملكهم ، فأفكر عماد الدّين ، ورأى أنه لا قبل له بالملك النّاصر ، وأنّ ماله ينفد ، ولا يفيده شيئا ، فخلا ليلة بطمان ، وقال له : «ما عندك في أمرنا؟ هذا الملك النّاصر ، قد نزل محاصرا لنا ، وهو ملك قويّ ، ذو مال ، والظّاهر أنّه يطيل الحصار ، وتعلم أنّني أخذت حلب

__________________

(١) مقام إبراهيم الخليل داخل القلعة.

(٢) الضمير يعود هنا إلى زنكي الثاني ، فقد طالبه الجند بالرواتب المقررة لهم مع التعويضات.

(٣) الخبز الراتب.

(٤) أي بدون نفقات ومرتبات.

١٢٠