فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

الموجودة في الفعل ؛ لأنّ الاحتياط هو الاحتراز عن موارد احتمال المضرّة ، فيختلف رضا المرشد بتركه وعدم رضاه بحسب مراتب المضرّة ، كما أنّ الأمر في الأوامر الواردة في إطاعة الله ورسوله للإرشاد المشترك بين فعل الواجبات وفعل المندوبات.

هذا ، والذي يقتضيه دقيق النظر : أنّ الأمر المذكور بالاحتياط لخصوص الطلب الغير الإلزاميّ ؛ لأنّ المقصود منه بيان أعلى مراتب الاحتياط ، لا جميع مراتبه ولا المقدار الواجب.

والمراد من قوله : «بما شئت» ليس التعميم من حيث القلّة والكثرة والتفويض إلى مشيئة الشخص ؛ لأنّ هذا كلّه مناف لجعله بمنزلة الأخ ، بل المراد : أنّ أيّ مرتبة من الاحتياط شئتها فهي في محلّها ، وليس هنا مرتبة من الاحتياط لا يستحسن بالنسبة إلى الدين ؛ لأنّه بمنزلة الأخ الذي هو كذلك (١) ، وليس بمنزلة سائر الامور (٢) لا يستحسن فيها بعض مراتب الاحتياط ، كالمال وما عدا الأخ من الرجال ، فهو بمنزلة قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(٣).

الجواب عن سائر الأخبار

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن سائر الأخبار المتقدّمة ، مع ضعف السند في الجميع.

ما ذكره المحقّق في النبوي «دع ما يريك»

نعم ، يظهر من المحقّق في المعارج : اعتبار إسناد (٤) النبويّ : «دع ما

__________________

(١) في (ر) و (ص) بدل «كذلك» : «لك».

(٢) في (ص) زيادة : «التي».

(٣) التغابن : ١٦.

(٤) في (ه) ونسخة بدل (ت): «سند».

٨١

يريبك» ؛ حيث اقتصر في ردّه على : أنّه خبر واحد لا يعوّل عليه في الاصول ، وأنّ إلزام المكلّف بالأثقل مظنّة الريبة (١).

التأمّل فيما ذكره المحقّق

وما ذكره قدس‌سره محلّ تأمّل ؛ لمنع كون المسألة اصوليّة ، ثم منع كون النبويّ من أخبار الآحاد المجرّدة ؛ لأنّ مضمونه ـ وهو ترك الشبهة ـ يمكن دعوى تواتره ، ثمّ منع عدم اعتبار أخبار الآحاد في المسألة الاصوليّة.

وما ذكره : من أنّ إلزام المكلّف بالأثقل ... الخ ، فيه : أنّ الإلزام من هذا الأمر ، فلا ريبة فيه (٢).

٤ ـ أخبار التثليث

الرابعة : أخبار التثليث المرويّة عن النبيّ والوصيّ وبعض الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين :

مقبولة ابن حظلة

ففي مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الخبرين المتعارضين ـ بعد الأمر بأخذ المشهور (٣) منهما وترك الشاذّ النادر ؛ معلّلا بقوله عليه‌السلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ـ قوله : «وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله ورسوله ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشّبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشّبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم» (٤).

__________________

(١) المعارج : ٢١٦.

(٢) في (ت) ، (ر) و (ص): «فلا ريب فيه».

(٣) في (ر) و (ص): «بالأخذ بالمشهور».

(٤) الوسائل ١٨ : ٧٥ ـ ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

٨٢

وجه الاستدلال

وجه الدلالة : أنّ الإمام عليه‌السلام أوجب طرح الشاذّ معلّلا : بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، والمراد أنّ الشاذّ فيه ريب (١) ، لا أنّ الشهرة تجعل الشاذّ ممّا لا ريب في بطلانه ؛ وإلاّ لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأعدليّة والأصدقيّة والأورعيّة ، ولا لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين ، ولا لتثليث الامور ثمّ الاستشهاد بتثليث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والحاصل : أنّ الناظر في الرواية يقطع بأنّ الشاذّ ممّا فيه الريب فيجب طرحه ، وهو الأمر المشكل الذي أوجب الإمام ردّه إلى الله ورسوله.

فيعلم من ذلك كلّه : انّ الاستشهاد بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في التثليث لا يستقيم إلاّ مع وجوب الاحتياط والاجتناب عن الشبهات. مضافا إلى دلالة قوله : «نجا من المحرّمات» ، بناء على أنّ تخليص (٢) النفس من المحرّمات واجب ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وقع في المحرّمات ، وهلك من حيث لا يعلم».

ودون هذا النبويّ (٣) في الظهور : النبويّ المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في كلام طويل ـ ، وقد تقدّم (٤) في أخبار التوقّف ، وكذا مرسلة الصدوق عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٥).

__________________

(١) في (ر) و (ظ): «الريب».

(٢) في (ر) ، (ص) و (ظ): «تخلّص».

(٣) لم ترد «النبوي» في (ر) ، (ص) و (ظ).

(٤) وهي رواية جميل المتقدّمة في الصفحة ٦٦ ـ ٦٧.

(٥) تقدّمت في الصفحة ٦٨ ، وستأتي في الصفحة ٨٦.

٨٣

المناقشة في الاستدلال

والجواب عنه : ما ذكرنا سابقا (١) ، من أنّ الأمر بالاجتناب عن الشبهة إرشاديّ للتحرّز (٢) عن المضرّة المحتملة فيها ، فقد تكون المضرّة عقابا وحينئذ فالاجتناب لازم ، وقد تكون مضرّة اخرى فلا عقاب على ارتكابها على تقدير الوقوع في الهلكة ، كالمشتبه بالحرام حيث لا يحتمل فيه الوقوع في العقاب على تقدير الحرمة اتّفاقا ؛ لقبح العقاب على الحكم الواقعيّ المجهول باعتراف الأخباريين أيضا ، كما تقدّم (٣).

ليس المقصود من الأمر بطرح الشبهات خصوص الإلزام

وإذا تبيّن لك : أنّ المقصود من الأمر بطرح الشبهات ليس خصوص الإلزام ، فيكفي حينئذ في مناسبة ذكر كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المسوق للإرشاد : أنّه إذا كان الاجتناب عن المشتبه بالحرام راجحا (٤) ـ تفصّيا عن الوقوع في مفسدة الحرام ـ ، فكذلك طرح الخبر الشاذّ واجب ؛ لوجوب التحرّي عند تعارض الخبرين في تحصيل ما هو أبعد من الريب وأقرب إلى الحقّ ؛ إذ لو قصّر في ذلك وأخذ بالخبر الذي فيه الريب احتمل أن يكون قد أخذ بغير ما هو الحجّة له ، فيكون الحكم به حكما من غير الطرق المنصوبة من قبل الشارع ، فتأمّل.

المؤيّد لما ذكرنا امور :

ويؤيّد ما ذكرنا : من أن النبويّ ليس واردا في مقام الإلزام بترك الشبهات ، امور :

__________________

(١) راجع الصفحة ٦٩.

(٢) في (ظ): «للتحذّر».

(٣) راجع الصفحة ٢٧ و ٤٢.

(٤) في (ظ): «واجبا».

٨٤

١ ـ عموم الشبهات للشبهة الموضوعيّة التحريميّة

أحدها : عموم الشبهات للشبهة الموضوعيّة التحريميّة التي اعترف الأخباريّون بعدم وجوب الاجتناب عنها.

وتخصيصه بالشبهة الحكميّة ـ مع أنّه إخراج لأكثر الأفراد ـ مناف للسياق ؛ فإنّ سياق الرواية آب عن التخصيص ؛ لأنّه ظاهر في الحصر ، وليس الشبهة الموضوعيّة من الحلال البيّن ، ولو بني على كونها منه ـ لأجل أدلّة جواز ارتكابها ـ قلنا بمثله في الشبهة الحكميّة.

٢ ـ كون المراد جنس الشبهة

الثاني : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رتّب على ارتكاب الشبهات الوقوع في المحرّمات والهلاك من حيث لا يعلم ، والمراد (١) جنس الشبهة ـ لأنّه في مقام بيان ما تردّد بين الحلال والحرام ، لا في مقام التحذير عن ارتكاب المجموع ، مع أنّه ينافي استشهاد الإمام عليه‌السلام ـ ، ومن المعلوم أنّ ارتكاب جنس الشبهة لا يوجب الوقوع في الحرام ولا الهلاك من حيث لا يعلم إلاّ على مجاز المشارفة ؛ كما يدلّ عليه بعض ما مضى (٢) وما يأتي (٣) من الأخبار ، فالاستدلال موقوف على إثبات كبرى ، وهي : أنّ الإشراف على الوقوع في الحرام والهلاك من حيث لا يعلم محرّم ، من دون سبق علم به أصلا.

٣ ـ الأخبار الكثيرة

الثالث : المساوقة لهذا الخبر الشريف ، الظاهرة في الاستحباب بقرائن مذكورة فيها :

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «منها».

(٢) راجع الصفحة ٦٨.

(٣) انظر الصفحة اللاحقة.

٨٥

منها : قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في رواية النعمان ، وقد تقدّم (١) في أخبار التوقّف (٢).

ومنها : قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في مرسلة الصدوق ، أنّه خطب وقال : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك ، والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها» (٣).

ومنها : رواية أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «قال : قال جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام : من رعى غنمه قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى ، ألا : وإنّ لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى الله محارمه ، فاتّقوا حمى الله ومحارمه» (٤).

ومنها : ما ورد من : «أنّ في حلال الدّنيا حسابا وفي حرامها عقابا وفي الشّبهات عتابا» (٥).

ومنها : رواية فضيل بن عياض : «قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : من الورع من النّاس؟ قال : الذي يتورّع عن محارم الله ويجتنب

__________________

(١) تقدّمت في الصفحة ٦٨.

(٢) في (ر) ، (ص) و (ظ): «الوقف».

(٣) الفقيه ٤ : ٧٥ ، باب نوادر الحدود ، الحديث ٥١٤٩ ، وقد تقدّم تخريجها عن الوسائل ، راجع الصفحة ٦٨.

(٤) الوسائل ١٨ : ١٢٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٧.

(٥) مستدرك الوسائل ١٢ : ٥٢ ، الباب ٦٣ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل.

٨٦

هؤلاء ، فإذا لم يتّق الشّبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه» (١).

الدليل العقلي على وجوب الاحتياط من وجهين :

وأمّا العقل ، فتقريره بوجهين :

أحدهما :

١ ـ العلم الإجمالي بوجود محرّمات كثيرة

أنّا نعلم إجمالا قبل مراجعة الأدلّة الشرعيّة بمحرّمات كثيرة يجب ـ بمقتضى قوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(٢) ونحوه ـ الخروج عن عهدة تركها على وجه اليقين بالاجتناب أو اليقين بعدم العقاب ؛ لأنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي اليقين بالبراءة (٣) باتّفاق المجتهدين والأخباريّين ، وبعد مراجعة الأدلّة والعمل بها لا يقطع بالخروج عن جميع تلك المحرّمات الواقعيّة ، فلا بدّ من اجتناب كلّ ما احتمل (٤) أن يكون منها إذا لم يكن هناك دليل شرعيّ يدلّ على حلّيته ؛ إذ مع هذا الدليل يقطع بعدم العقاب على الفعل على تقدير حرمته واقعا.

فإن قلت : بعد مراجعة الأدلّة نعلم تفصيلا بحرمة امور كثيرة ، ولا نعلم إجمالا بوجود ما عداها ، فالاشتغال بما عدا المعلوم بالتفصيل غير متيقّن حتّى يجب الاحتياط. وبعبارة اخرى : العلم الإجماليّ قبل الرجوع إلى الأدلّة ، وأمّا بعده فليس هنا علم إجماليّ.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٥.

(٢) الحشر : ٧.

(٣) في (ظ): «يستدعي البراءة» ، وفي (ر) و (ص): «يستدعي البراءة اليقينيّة».

(٤) في (ر) و (ص): «يحتمل».

٨٧

قلت : إن اريد من الأدلّة ما يوجب العلم بالحكم الواقعيّ الأوّليّ ، فكلّ مراجع في الفقه يعلم أنّ ذلك غير ميسّر ؛ لأنّ سند الأخبار لو فرض قطعيّا لكن دلالتها ظنّيّة. وإن اريد منها ما يعمّ الدليل الظنّي المعتبر من الشارع فمراجعتها لا توجب (١) اليقين بالبراءة من ذلك التكليف المعلوم إجمالا ؛ إذ ليس معنى اعتبار الدليل الظنّي إلاّ وجوب الأخذ بمضمونه ، فإن كان تحريما صار ذلك كأنّه أحد المحرّمات الواقعيّة ، وإن كان تحليلا كان اللازم منه عدم العقاب على فعله وإن كان في الواقع من المحرّمات ، وهذا المعنى لا يوجب انحصار المحرّمات الواقعيّة في مضامين تلك الأدلّة حتّى يحصل العلم بالبراءة بموافقتها ، بل ولا يحصل الظنّ بالبراءة عن جميع المحرّمات المعلومة إجمالا.

وليس الظنّ التفصيليّ بحرمة جملة من الأفعال كالعلم التفصيليّ بها ؛ لأنّ العلم التفصيليّ بنفسه مناف لذلك العلم الإجماليّ ، والظنّ غير مناف له ، لا بنفسه ولا بملاحظة اعتباره شرعا على الوجه المذكور.

نعم ، لو اعتبر الشارع هذه الأدلّة بحيث انقلب التكليف إلى العمل بمؤدّاها بحيث يكون هو المكلّف به ، كان ما عدا ما تضمّنه الأدلّة من محتملات التحريم خارجا عن المكلّف به ، فلا يجب الاحتياط فيها.

وبالجملة : فما نحن فيه بمنزلة قطيع غنم يعلم إجمالا بوجود محرّمات فيها ، ثمّ قامت البيّنة على تحريم جملة منها وتحليل جملة وبقي الشكّ في جملة ثالثة ؛ فإنّ مجرّد قيام البيّنة على تحريم البعض لا يوجب

__________________

(١) في النسخ : «لا يوجب».

٨٨

العلم ولا الظنّ بالبراءة من جميع المحرّمات.

نعم ، لو اعتبر الشارع البيّنة في المقام ، بمعنى أنّه أمر بتشخيص المحرّمات المعلومة وجودا وعدما بهذا الطريق ، رجع التكليف إلى وجوب اجتناب ما قامت (١) عليه البيّنة ، لا الحرام الواقعيّ.

والجواب عن هذا الوجه

والجواب : أوّلا : منع تعلّق تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلاّ بما أدّى إليه الطرق الغير العلميّة المنصوبة له ، فهو مكلّف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق ، لا بالواقع من حيث هو ، ولا بمؤدّى هذه الطرق من حيث هو حتّى يلزم التصويب أو ما يشبهه ؛ لأنّ ما ذكرناه هو المتحصّل من ثبوت الأحكام الواقعيّة للعالم وغيره وثبوت التكليف بالعمل بالطرق ، وتوضيحه في محلّه ، وحينئذ : فلا يكون ما شكّ في تحريمه ممّا هو مكلّف به فعلا على تقدير حرمته واقعا.

وثانيا : سلّمنا التكليف الفعليّ بالمحرّمات الواقعيّة ، إلاّ أنّ من المقرّر في الشبهة المحصورة ـ كما سيجيء (٢) إن شاء الله تعالى ـ أنّه إذا ثبت في المشتبهات (٣) المحصورة وجوب الاجتناب عن جملة منها لدليل آخر غير التكليف المتعلّق بالمعلوم الإجماليّ ، اقتصر في الاجتناب على ذلك القدر ؛ لاحتمال كون المعلوم الإجماليّ هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلا ، فأصالة الحلّ في البعض الآخر غير معارضة بالمثل ، سواء كان

__________________

(١) في النسخ : «قام».

(٢) انظر الصفحة ٢٣٣.

(٣) كذا في (ه) ، وفي (ت) ، (ر) و (ص): «الشبهات».

٨٩

ذلك الدليل سابقا على العلم الإجماليّ ـ كما إذا علم نجاسة أحد الإناءين تفصيلا فوقع قذرة في أحدهما المجهول ، فإنّه لا يجب الاجتناب عن الآخر ؛ لأنّ حرمة أحدهما معلومة تفصيلا ـ أم كان لاحقا ، كما في مثال الغنم المذكور ؛ فإنّ العلم الإجماليّ غير ثابت بعد العلم التفصيلي بحرمة بعضها بواسطة وجوب العمل بالبيّنة ، وسيجيء توضيحه إن شاء الله تعالى ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

٢ ـ أصالة الحظر في الأفعال

الوجه الثاني :

أنّ الأصل في الأفعال الغير الضرورية الحظر ، كما نسب إلى طائفة من الإماميّة (١) ، فيعمل به حتّى يثبت من الشرع الإباحة ، ولم يرد الإباحة في ما لا نصّ فيه. وما ورد ـ على تقدير تسليم دلالته ـ معارض بما ورد من الأمر بالتوقّف والاحتياط ، فالمرجع إلى الأصل.

ولو تنزّلنا عن ذلك فالوقف ، كما عليه الشيخان قدس سرهما (٢). واحتجّ عليه في العدّة : بأنّ الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم فيه المفسدة (٣).

وقد جزم بهذه القضيّة السيّد أبو المكارم في الغنية (٤) ، وإن قال

__________________

(١) نسبه إليهم المحقّق في المعارج : ٢٠٣.

(٢) انظر التذكرة باصول الفقه (مصنّفات الشيخ المفيد) ٩ : ٤٣ ، والعدّة ٢ : ٧٤٢.

(٣) العدّة ٢ : ٧٤٢

(٤) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٧٦ ـ ٤٧٧.

٩٠

بالإباحة (١)(٢) كالسيّد المرتضى رحمه‌الله (٣) ؛ تعويلا على قاعدة «اللطف» ، وأنّه لو كان في الفعل مفسدة لوجب على الحكيم بيانه.

لكن ردّها في العدّة : بأنّه قد يكون المفسدة في الإعلام ويكون المصلحة في كون الفعل (٤) على الوقف (٥).

والجواب عن هذا الوجه أيضا

والجواب : بعد تسليم استقلال العقل بدفع الضرر ، أنّه : إن اريد ما يتعلّق بأمر الآخرة من العقاب ، فيجب على الحكيم تعالى بيانه ، فهو مع عدم البيان مأمون.

وإن اريد غيره ممّا لا يدخل في عنوان المؤاخذة من اللوازم المترتّبة مع الجهل أيضا ، فوجوب دفعها غير لازم عقلا ؛ إذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتراز عن الضرر الدنيويّ المقطوع إذا كان لبعض الدواعي النفسانيّة ، وقد جوّز الشارع بل أمر به في بعض الموارد. وعلى تقدير الاستقلال فليس ممّا يترتّب عليه العقاب ؛ لكونه من باب الشبهة الموضوعيّة ـ لأنّ المحرّم هو مفهوم الإضرار ، وصدقه في هذا المقام مشكوك ، كصدق المسكر المعلوم التحريم على هذا المائع الخاصّ ـ ، والشبهة الموضوعيّة لا يجب الاجتناب عنها باتّفاق الأخباريّين أيضا ،

__________________

(١) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «بأصالة الإباحة».

(٢) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٨٦.

(٣) الذريعة ٢ : ٨٠٩ ـ ٨١٢.

(٤) في (ظ): «العقل».

(٥) العدّة ٢ : ٧٤٢ ـ ٧٤٣.

٩١

وسيجيء تتمّة الكلام في الشبهة الموضوعيّة (١) إن شاء الله.

__________________

(١) انظر الصفحة ١٢٢ ـ ١٢٦.

٩٢

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل

التفصيل المحكي عن المحقّق بين ما يعمّ به البلوى وغيره

أنّ المحكيّ عن المحقّق (١) التفصيل في اعتبار أصل البراءة بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، فيعتبر في الأوّل دون الثاني ، ولا بدّ من حكاية كلامه قدس‌سره في المعتبر والمعارج حتّى يتّضح حال النسبة ، قال في المعتبر :

كلام المحقّق في المعتبر

الثالث ـ يعني من أدلّة العقل ـ : الاستصحاب ، وأقسامه ثلاثة :

الأوّل : استصحاب حال العقل ، وهو التمسّك بالبراءة الأصليّة ، كما يقال : الوتر ليس واجبا ؛ لأنّ الأصل براءة العهدة. ومنه : أن يختلف العلماء في حكم الدية (٢) بين الأقلّ والأكثر ، كما في دية عين الدابّة المتردّدة بين النصف والربع.

إلى أن قال :

الثاني : أن يقال : عدم الدليل على كذا ، فيجب انتفاؤه. وهذا يصحّ فيما يعلم أنّه لو كان هنا دليل لظفر به ، أمّا لا مع ذلك فيجب التوقّف ، ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة. ومنه القول بالإباحة لعدم

__________________

(١) حكاه عنه المحقّق القمّي في القوانين ٢ : ١٥.

(٢) في (ت) ، (ر) و (ص) زيادة : «المردّدة».

٩٣

دليل الوجوب والحظر.

الثالث : استصحاب حال الشرع. فاختار أنّه ليس بحجّة (١) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه قدس‌سره.

وذكر في المعارج ، على ما حكي عنه :

كلام المحقّق في المعارج

أنّ الأصل : خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ، فإذا ادّعى مدّع حكما شرعيّا جاز لخصمه أن يتمسّك في انتفائه بالبراءة الأصليّة ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعيّة ، لكن ليس كذلك ، فيجب نفيه. وهذا الدليل لا يتمّ إلاّ ببيان مقدّمتين :

إحداهما : أنّه لا دلالة عليه شرعا ، بأن ينضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة ويبيّن عدم دلالتها عليه.

والثانية : أن يبيّن أنّه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلّت عليه إحدى تلك الدلائل ؛ لأنّه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، ولو كانت عليه دلالة غير تلك الأدلّة لما كانت أدلّة الشرع منحصرة فيها ، لكنّا بينّا انحصار الأحكام في تلك الطرق ، وعند ذلك : يتمّ كون ذلك دليلا على نفي الحكم (٢) ، انتهى.

وحكي عن المحدّث الأستراباديّ في فوائده :

ما ذكره المحدّث الأسترابادي في تحقيق كلاك المحقّق

أنّ تحقيق هذا الكلام هو : أنّ المحدّث الماهر إذا تتبّع الأحاديث المرويّة عنهم عليهم‌السلام في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر

__________________

(١) المعتبر ١ : ٣٢ ، مع تفاوت في العبارة.

(٢) المعارج : ٢١٢ ـ ٢١٣.

٩٤

لعموم البلوى بها ، فإذا لم يظفر بحديث دلّ على ذلك الحكم ينبغي أن يحكم قطعا عاديّا بعدمه ؛ لأنّ جمّا غفيرا من أفاضل علمائنا ـ أربعة آلاف منهم تلامذة الصادق عليه‌السلام ، كما في المعتبر (١) ـ كانوا ملازمين لأئمّتنا عليهم‌السلام في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة ، وكان هممهم وهمّ الأئمّة عليهم‌السلام إظهار الدين عندهم وتأليفهم كلّ ما يسمعون منهم في الاصول ؛ لئلاّ يحتاج الشيعة إلى سلوك طريق العامّة ، ولتعمل (٢) بما في تلك الاصول في زمان الغيبة الكبرى ؛ فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام لم يضيّعوا من في أصلاب الرجال من شيعتهم ، كما في الروايات المتقدّمة ، ففي مثل تلك الصورة يجوز التمسّك بأنّ نفي ظهور دليل على حكم مخالف للأصل دليل على عدم ذلك الحكم في الواقع.

إلى أن قال :

ولا يجوز التمسّك به في غير المسألة المفروضة ، إلاّ عند العامّة القائلين بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أظهر عند أصحابه كلّ ما جاء به ، وتوفّرت الدواعي على جهة واحدة على نشره ، وما خصّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أحدا بتعليم شيء لم يظهره عند غيره ، ولم يقع بعده ما اقتضى اختفاء ما جاء به (٣) ، انتهى.

المناقشة فيما أفاده المحقّق قدس‌سره

أقول : المراد بالدليل المصحّح للتكليف ـ حتّى لا يلزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ـ هو ما تيسّر للمكلّف الوصول إليه

__________________

(١) المعتبر ١ : ٢٦.

(٢) كذا في المصدر ، وفي (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه): «وليعمل» ، وفي (ظ) : «ويعمل».

(٣) الفوائد المدنيّة : ١٤٠ ـ ١٤١.

٩٥

والاستفادة منه ، فلا فرق بين ما لم يكن في الواقع دليل شاف (١) أصلا ، أو كان ولم يتمكّن المكلّف من الوصول إليه ، أو تمكّن لكن بمشقّة رافعة للتكليف ، أو تيسّر ولم يتمّ دلالته في نظر المستدلّ ؛ فإنّ الحكم الفعليّ في جميع هذه الصور قبيح على ما صرّح به المحقّق قدس‌سره في كلامه السابق (٢) ، سواء قلنا بأنّ وراء الحكم الفعليّ حكما آخر ـ يسمّى حكما واقعيّا و (٣) حكما شأنيّا ـ على ما هو مقتضى مذهب المخطّئة ، أم قلنا بأنّه ليس وراءه حكم آخر ؛ للاتّفاق على أنّ مناط الثواب والعقاب ومدار التكليف هو الحكم الفعليّ.

وحينئذ : فكلّ ما تتبّع المستنبط في الأدلّة الشرعيّة في نظره إلى أن علم من نفسه عدم تكليفه بأزيد من هذا المقدار من التتبّع ، ولم يجد فيها ما يدلّ على حكم مخالف للأصل ، صحّ له دعوى القطع بانتفاء الحكم الفعليّ.

ولا فرق في ذلك بين العامّ (٤) البلوى وغيره ، ولا بين العامّة والخاصّة ، ولا بين المخطّئة والمصوّبة ، ولا بين المجتهدين والأخباريّين ، ولا بين أحكام الشرع وغيرها من أحكام سائر الشرائع وسائر الموالي بالنسبة إلى عبيدهم.

هذا بالنسبة إلى الحكم الفعليّ ، وأمّا بالنسبة إلى الحكم الواقعيّ

__________________

(١) في (ر) و (ظ): «شأنيّ».

(٢) في الصفحة ٩٤.

(٣) في (ت) و (ه): «أو».

(٤) في (ظ): «عامّ».

٩٦

النازل به جبرئيل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لو سمّيناه حكما بالنسبة إلى الكلّ ـ فلا يجوز الاستدلال على نفيه بما ذكره المحقّق قدس‌سره (١) : من لزوم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ؛ لأنّ المفروض عدم إناطة التكليف به.

نعم ، قد يظنّ من عدم وجدان الدليل عليه بعدمه ؛ بعموم (٢) البلوى به لا بمجرّده ، بل مع ظنّ عدم المانع عن نشره في أوّل الأمر من الشارع أو خلفائه أو من وصل إليه.

لكن هذا الظنّ لا دليل على اعتباره ، ولا دخل له بأصل البراءة التي هي من الأدلّة العقليّة ، ولا بمسألة التكليف بما لا يطاق ، ولا بكلام المحقّق.

فما تخيّله المحدّث تحقيقا لكلام المحقّق ـ مع أنّه غير تامّ في نفسه ـ أجنبيّ عنه بالمرّة.

نعم ، قد يستفاد من استصحاب البراءة السابقة : الظنّ بها فيما بعد الشرع ـ كما سيجيء عن بعضهم (٣) ـ لكن لا من باب لزوم التكليف بما لا يطاق الذي ذكره المحقّق.

ومن هنا يعلم : أنّ تغاير القسمين الأوّلين من الاستصحاب (٤) باعتبار كيفيّة الاستدلال ؛ حيث إنّ مناط الاستدلال في هذا القسم

__________________

(١) ذكره في كلامه المتقدّم عن المعارج في الصفحة ٩٤.

(٢) في (ص) و (ظ): «لعموم».

(٣) انظر الصفحة ٩٩.

(٤) في (ر) زيادة : «في كلامه».

٩٧

الملازمة بين عدم الدليل وعدم الحكم مع قطع النظر عن ملاحظة الحالة السابقة ، فجعله من أقسام الاستصحاب مبنيّ على إرادة مطلق الحكم على طبق الحالة السابقة عند الشكّ ولو لدليل آخر غير الاتّكال على الحالة السابقة ، فيجري فيما لم يعلم فيه الحالة السابقة ، ومناط الاستدلال في القسم الأوّل ملاحظة الحالة السابقة حتّى مع عدم العلم بعدم الدليل على الحكم.

ويشهد لما ذكرنا ، من المغايرة الاعتباريّة : أنّ الشيخ لم يقل بوجوب مضيّ المتيمّم الواجد للماء في أثناء صلاته لأجل الاستصحاب ، وقال به لأجل أنّ عدم الدليل دليل العدم (١).

نعم ، هذا القسم الثاني أعمّ موردا من الأوّل ؛ لجريانه في الأحكام العقليّة وغيرها ، كما ذكره جماعة من الاصوليّين (٢).

والحاصل : أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ بناء المحقّق قدس‌سره على التمسّك بالبراءة الأصليّة مع الشكّ في الحرمة ، كما يظهر من تتبّع فتاويه في المعتبر (٣).

__________________

(١) العدّة ٢ : ٧٥٦.

(٢) انظر الفصول : ٣٥١ ، والقوانين ٢ : ١٣.

(٣) انظر المعتبر ١ : ٢٥٢ ، ٣٣٥ ، ٣٥٨ ، ٣٥٩ و ٤٦٢.

٩٨

الثاني

هل أنّ أصالة الإباحة من الأدلّة الظنّية أو من الاصول؟

مقتضى الأدلّة المتقدّمة : كون الحكم الظاهريّ في الفعل المشتبه الحكم هي الإباحة من غير ملاحظة الظنّ بعدم تحريمه في الواقع ، فهذا الأصل يفيد القطع بعدم اشتغال الذمّة ، لا الظنّ بعدم الحكم واقعا ، ولو أفاده لم يكن معتبرا.

إلاّ أنّ الذي يظهر من جماعة كونه من الأدلّة الظنّيّة ، منهم صاحب المعالم عند دفع الاعتراض عن بعض مقدّمات الدليل الرابع الذي ذكره لحجّية خبر الواحد (١) ، ومنهم شيخنا البهائيّ قدس‌سره (٢) ، ولعلّ هذا هو المشهور بين الاصوليّين ؛ حيث لا يتمسّكون فيه إلاّ باستصحاب البراءة السابقة (٣) ، بل ظاهر المحقّق رحمه‌الله في المعارج الإطباق على التمسّك بالبراءة الأصليّة حتّى يثبت الناقل (٤) ، وظاهره أنّ اعتمادهم في الحكم

__________________

(١) المعالم : ١٩٤.

(٢) الزبدة : ٥٨.

(٣) انظر المعتبر ١ : ٣٢ ، والقواعد والفوائد ١ : ١٣٢ ، وتمهيد القواعد : ٢٧١.

(٤) المعارج : ٢٠٨.

٩٩

بالبراءة على كونها هي الحالة السابقة الأصليّة.

والتحقيق : أنّه لو فرض حصول الظنّ من الحالة السابقة فلا يعتبر ، والإجماع ليس على اعتبار هذا الظنّ ، وإنّما هو على العمل على طبق الحالة السابقة ، ولا يحتاج إليه بعد قيام الأخبار المتقدّمة (١) وحكم العقل.

__________________

(١) أي : أخبار البراءة المتقدّمة في الصفحة ٢٨ و ٤١ ـ ٤٥.

١٠٠