فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

وقد خرجنا في الكلام في النبويّ الشريف عمّا يقتضيه وضع الرسالة.

الاستدلال بحديث «الحجب» والمناقشة فيه

ومنها : قوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (١).

فإنّ المحجوب حرمة شرب التتن ، فهي موضوعة عن العباد.

وفيه : أنّ الظاهر ممّا حجب الله علمه ما لم يبيّنه للعباد ، لا ما بيّنه واختفى عليهم بمعصية (٢) من عصى الله في كتمان الحق أو ستره ؛ فالرواية مساوقة لما ورد عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ الله تعالى حدّ حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تعصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلّفوها ؛ رحمة من الله لكم» (٣).

الاستدلال بحديث «السعة» والمناقشة فيه

ومنها : قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لم يعلموا» (٤).

فإنّ كلمة «ما» إمّا موصولة اضيف إليه السعة وإمّا مصدريّة ظرفيّة ، وعلى التقديرين يثبت المطلوب.

وفيه : ما تقدّم في الآيات (٥) : من أنّ الأخباريين لا ينكرون عدم

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من صفات القاضي ، الحديث ٢٨.

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «من معصية».

(٣) نهج البلاغة : ٤٨٧ ، الحكمة ١٠٥.

(٤) عوالي اللآلي ١ : ٤٢٤ ، الحديث ١٠٩ ، وانظر المستدرك ١٨ : ٢٠ ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمات الحدود ، الحديث ٤.

(٥) راجع الصفحة ٢٧.

٤١

وجوب الاحتياط على من لم يعلم بوجوب الاحتياط من العقل والنقل بعد التأمّل والتتبّع.

الاستدلال برواية «عبد الأعلى» والمناقشة فيه

ومنها : رواية عبد الأعلى عن الصادق عليه‌السلام : «قال : سألته عمّن لم يعرف شيئا ، هل عليه شيء؟ قال : لا» (١).

بناء على أنّ المراد بالشيء الأوّل فرد معيّن مفروض في الخارج حتّى لا يفيد العموم في النفي (٢) ، فيكون المراد : هل عليه شيء في خصوص ذلك الشيء المجهول؟ وأمّا بناء على إرادة العموم فظاهره السؤال عن القاصر الذي لا يدرك شيئا.

الاستدلال برواية «أيّما امرئ ...» والمناقشة فيه

ومنها : قوله : «أيّما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه» (٣).

وفيه : أنّ الظاهر من الرواية ونظائرها من قولك : «فلان عمل بكذا بجهالة» هو اعتقاد الصواب أو الغفلة عن الواقع ، فلا يعمّ صورة التردّد في كون فعله صوابا أو خطأ.

ويؤيّده : أنّ تعميم الجهالة لصورة التردّد يحوج الكلام إلى التخصيص بالشاكّ الغير المقصّر ، وسياقه يأبى عن التخصيص ، فتأمّل.

الاستدلال برواية «إنّ الله تعالى يحتجّ ...» والمناقشة فيه

ومنها : قوله عليه‌السلام : «إنّ الله يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم» (٤).

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٤ ، باب حجج الله على خلقه ، الحديث ٢.

(٢) في (ه): «المنفي».

(٣) الوسائل ٥ : ٣٤٤ ، الباب ٣٠ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث الأوّل ، مع تفاوت يسير.

(٤) الكافي ١ : ١٦٢ ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجة ، الحديث الأوّل.

٤٢

وفيه : أنّ مدلوله ـ كما عرفت (١) في الآيات وغير واحد من الأخبار ـ ممّا لا ينكره الأخباريّون.

الاستدلال بمرسلة الفقيه

ومنها : قوله عليه‌السلام في مرسلة الفقيه : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (٢).

استدلّ به الصدوق على جواز القنوت بالفارسية (٣) ، واستند إليه في أماليه حيث جعل إباحة الأشياء حتّى يثبت الحظر من دين الامامية (٤).

ودلالته على المطلب أوضح من الكلّ ، وظاهره عدم وجوب الاحتياط ؛ لأنّ الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو ، لا من حيث كونه مجهول الحكم ، فإن تمّ ما سيأتي من أدلّة الاحتياط (٥) دلالة وسندا وجب ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية وأمثالها ممّا يدلّ على عدم وجوب الاحتياط ، ثمّ الرجوع إلى ما تقتضيه (٦) قاعدة التعارض.

الاستدلال بصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج

وقد يحتجّ بصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج ، في من تزوّج امرأة

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٧ و ٤٢.

(٢) الفقيه ١ : ٣١٧ ، الحديث ٩٣٧. وانظر الوسائل ٤ : ٩١٧ ، الباب ١٩ من أبواب القنوت ، الحديث ٣.

(٣) الفقيه ١ : ٣١٧ ، ذيل الحديث ٩٣٧.

(٤) لم نعثر عليه في أمالي الصدوق ، نعم ذكره قدس‌سره في اعتقاداته ، كما سيأتي في الصفحة ٥٢.

(٥) ستأتي أدلّة الاحتياط في الصفحة ٦٢ ، فما بعدها.

(٦) في النسخ : «يقتضيه».

٤٣

في عدّتها : «قال : أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي (١) عدّتها ، فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك. قلت : بأيّ الجهالتين أعذر (٢) ، بجهالته أنّ ذلك محرّم عليه ، أم بجهالته أنّها في عدّة؟ قال : إحدى الجهالتين أهون من الاخرى ، الجهالة بأن الله حرّم عليه ذلك ؛ وذلك لأنّه لا يقدر معها على الاحتياط ، قلت : فهو في الاخرى معذور؟ قال : نعم ، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها» (٣).

المناقشة في الاستدلال بالصحيحة

وفيه : أنّ الجهل بكونها في العدّة إن كان مع العلم بالعدّة في الجملة والشكّ في انقضائها : فان كان الشك في أصل الانقضاء مع العلم بمقدارها فهو شبهة في الموضوع خارج عمّا نحن فيه ، مع أنّ مقتضى الاستصحاب المركوز في الأذهان عدم الجواز.

ومنه يعلم : أنّه لو كان الشكّ في مقدار العدّة فهي شبهة حكميّة قصّر في السؤال عنها ، وهو ليس (٤) معذورا فيها (٥) اتفاقا ؛ و (٦) لأصالة بقاء العدّة وأحكامها ، بل في رواية اخرى أنّه : «إذا علمت أنّ عليها العدّة لزمتها الحجّة» (٧) ، فالمراد من المعذوريّة عدم حرمتها عليه مؤبّدا ،

__________________

(١) كذا في المصدر ، وفي النسخ : «ينقضي».

(٢) في المصدر : «يعذر».

(٣) الوسائل ١٤ : ٣٤٥ ، الباب ١٧ من ابواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث ٤.

(٤) كذا في (ظ) ، وفي (ر) ، (ص) و (ه): «فهو ليس» ، وفي (ت): «وليس».

(٥) لم ترد «فيها» في (ر) و (ظ).

(٦) «و» من (ت) و (ه).

(٧) الوسائل ١٨ : ٣٩٦ ، الباب ٢٧ من أبواب حد الزنا ، الحديث ٣.

٤٤

لا من حيث المؤاخذة.

ويشهد له أيضا : قوله عليه‌السلام ـ بعد قوله : «نعم ، أنّه إذا انقضت عدّتها فهو معذور» ـ : «جاز له أن يتزوّجها».

وكذا مع الجهل بأصل العدّة ؛ لوجوب الفحص ، وأصالة عدم تأثير العقد ، خصوصا مع وضوح الحكم بين المسلمين الكاشف عن تقصير الجاهل.

هذا إن كان الجاهل ملتفتا شاكّا ، وإن كان غافلا أو معتقدا للجواز فهو خارج عن مسألة البراءة ؛ لعدم قدرته على الاحتياط.

وعليه يحمل تعليل معذوريّة الجاهل بالتحريم بقوله عليه‌السلام : «لأنّه لا يقدر ... الخ» ، وإن كان تخصيص الجاهل بالحرمة بهذا التعليل يدلّ على قدرة الجاهل بالعدّة على الاحتياط ؛ فلا يجوز حمله على الغافل ، إلاّ أنّه إشكال يرد على الرواية على كلّ تقدير ، ومحصّله لزوم التفكيك بين الجهالتين ، فتدبّر فيه وفي دفعه.

الاستدلال برواية «كلّ شيء فيه حلال وحرام ...»

وقد يستدلّ على المطلب (١) ـ أخذا من الشهيد في الذكرى (٢) ـ بقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (٣).

وتقريب الاستدلال كما في شرح الوافية ، أنّ معنى الحديث : أنّ

__________________

(١) المستدلّ هو الفاضل التوني في الوافية : ١٨١ ، وكذا الفاضل النراقي في المناهج : ٢١١.

(٢) الذكرى ١ : ٥٢.

(٣) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

٤٥

كلّ فعل من جملة الأفعال التي تتّصف بالحلّ والحرمة ، وكذا كلّ عين ممّا يتعلّق به فعل المكلّف ويتّصف بالحلّ والحرمة ، إذا لم يعلم الحكم الخاصّ به من الحلّ والحرمة ، فهو حلال ؛ فخرج ما لا يتّصف بهما جميعا : من الأفعال الاضطرارية ، والأعيان التي لا يتعلّق بها فعل المكلّف ، وما علم أنّه حلال لا حرام فيه أو حرام لا حلال فيه. وليس الغرض من ذكر الوصف مجرّد الاحتراز ، بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه.

فصار الحاصل : أنّ ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراما فهو حلال ، سواء علم حكم كليّ فوقه أو تحته ـ بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته أو تحقّقه في ضمنه لعلم حكمه ـ أم لا.

وبعبارة اخرى : أنّ كلّ شيء فيه الحلال والحرام عندك ـ بمعنى أنّك تقسّمه إلى هذين وتحكم عليه بأحدهما لا على التعيين ولا تدري المعيّن منهما ـ فهو لك حلال.

فيقال حينئذ : إنّ الرواية صادقة على مثل اللحم المشترى من السوق المحتمل للمذكّى والميتة ، وعلى شرب التتن ، وعلى لحم الحمير إن لم نقل بوضوحه وشككنا فيه ؛ لأنّه يصدق على كلّ منها أنّه شيء فيه حلال وحرام عندنا ، بمعنى أنّه يجوز لنا أن نجعله مقسما لحكمين ، فنقول : هو إمّا حلال وإمّا حرام ، وأنّه يكون من جملة الأفعال التي يكون بعض أنواعها أو أصنافها حلالا وبعضها حراما ، واشتركت في أنّ الحكم الشرعيّ المتعلّق بها غير معلوم (١) ، انتهى.

__________________

(١) شرح الوافية (مخطوط) : ٢٤٧ ـ ٢٤٨ ، مع تفاوت كثير.

٤٦

المناقشة في الاستدلال

أقول : الظاهر أنّ المراد بالشيء ليس هو خصوص المشتبه ، كاللحم المشترى ولحم الحمير على ما مثّله (١) بهما ؛ إذ لا يستقيم إرجاع الضمير في «منه» إليهما (٢) ، لكن لفظة «منه» ليس في بعض النسخ.

وأيضا : الظاهر أنّ المراد بقوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام» كونه منقسما إليهما ، ووجود القسمين فيه بالفعل ، لا مردّدا بينهما ؛ إذ لا تقسيم مع الترديد أصلا ، لا ذهنا ولا خارجا. وكون الشيء مقسما لحكمين ـ كما ذكره المستدلّ ـ لم يعلم له معنى محصّل ، خصوصا مع قوله قدس‌سره : إنّه يجوز ذلك ؛ لأنّ التقسيم إلى الحكمين الذي هو في الحقيقة ترديد لا تقسيم ، أمر لازم قهريّ لا جائز لنا.

وعلى ما ذكرنا ، فالمعنى ـ والله العالم ـ : أنّ كلّ كلّيّ فيه قسم حلال وقسم حرام ـ كمطلق لحم الغنم المشترك بين المذكّى والميتة ـ فهذا الكلّي لك حلال إلى أن تعرف القسم الحرام معيّنا في الخارج فتدعه.

وعلى الاستخدام يكون المراد : أنّ كلّ جزئيّ خارجيّ في نوعه القسمان المذكوران ، فذلك الجزئيّ لك حلال حتّى تعرف القسم الحرام من ذلك الكلّي في الخارج فتدعه.

وعلى أيّ تقدير فالرواية مختصّة بالشبهة في الموضوع.

وأمّا ما ذكره المستدلّ من أنّ المراد من وجود الحلال والحرام فيه احتماله وصلاحيته لهما ، فهو مخالف لظاهر القضيّة ، ولضمير «منه» ولو على الاستخدام.

__________________

(١) في (ه): «مثّل».

(٢) في (ص): «إليه».

٤٧

ثم الظاهر : أنّ ذكر هذا القيد مع تمام الكلام بدونه ـ كما في قوله عليه‌السلام في رواية اخرى : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» (١) ـ بيان منشأ الاشتباه الذي يعلم من قوله عليه‌السلام : «حتّى تعرف» ، كما أنّ الاحتراز عن المذكورات في كلام المستدل أيضا يحصل بذلك.

ما ذكره الفاضل النراقي انتصار للستدّل

ومنه يظهر : فساد ما انتصر بعض المعاصرين (٢) للمستدلّ ـ بعد الاعتراف بما ذكرنا ، من ظهور القضيّة في الانقسام الفعليّ ؛ فلا يشمل مثل شرب التتن ـ : من أنّا نفرض شيئا له قسمان حلال وحرام ، واشتبه قسم ثالث منه كاللحم ، فإنّه شيء فيه حلال وهو لحم الغنم وحرام وهو لحم الخنزير ، فهذا الكلّي المنقسم حلال ، فيكون لحم الحمار حلالا حتّى تعرف حرمته (٣).

المناقشة فيما أفاه الفاضل النراقي

وجه الفساد : أنّ وجود القسمين في اللحم ليس منشأ لاشتباه لحم الحمار ، ولا دخل له في هذا الحكم أصلا ، ولا في تحقّق الموضوع ، وتقييد الموضوع بقيد أجنبيّ لا دخل له في الحكم ولا في تحقّق الموضوع ، مع خروج بعض الأفراد منه مثل شرب التتن ـ حتّى احتاج هذا المنتصر إلى إلحاق مثله بلحم الحمار وشبهه ممّا يوجد في نوعه قسمان معلومان ، بالإجماع المركّب ـ ، مستهجن جدّا لا ينبغي صدوره من متكلّم فضلا عن الإمام عليه‌السلام.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ ، مع تفاوت.

(٢) هو الفاضل النراقي قدس‌سره في المناهج.

(٣) مناهج الأحكام : ٢١٢.

٤٨

هذا ، مع أنّ اللازم ممّا ذكر (١) عدم الحاجة إلى الإجماع المركّب ، فإنّ الشرب فيه قسمان : شرب الماء وشرب البنج ، فشرب التتن كلحم الحمار بعينه ، وهكذا جميع الافعال المجهولة الحكم.

وأمّا الفرق بين الشرب واللحم بأنّ الشرب جنس بعيد لشرب التتن بخلاف اللحم ، فممّا لا ينبغي أن يصغى إليه.

هذا كلّه ، مضافا إلى أنّ الظاهر من قوله : «حتّى تعرف الحرام منه» معرفة ذلك الحرام الذي فرض وجوده في الشيء ، ومعلوم أنّ معرفة لحم الخنزير وحرمته لا يكون غاية لحلّية لحم الحمار.

وقد أورد على الاستدلال (٢) :

ما أورده المحقّق القمّي على الاستدلال

بلزوم استعمال قوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام» في معنيين : أحدهما : أنّه قابل للاتصاف بهما ـ وبعبارة اخرى : يمكن تعلّق الحكم الشرعيّ به ـ ليخرج ما لا يقبل الاتصاف بشيء منهما.

والثاني : أنّه ينقسم إليهما ويوجد النوعان فيه إمّا في نفس الأمر أو عندنا ، وهو غير جائز.

وبلزوم استعمال قوله عليه‌السلام : «حتّى تعرف الحرام منه بعينه» في المعنيين أيضا ؛ لأنّ المراد حتّى تعرف من الأدلّة الشرعيّة «الحرمة» (٣) ، إذا اريد معرفة الحكم المشتبه ، وحتّى تعرف من الخارج ـ من بيّنة أو غيرها ـ «الحرمة» ، إذا اريد معرفة الموضوع المشتبه فليتأمّل (٤) ، انتهى.

__________________

(١) في (ه): «ممّا ذكره».

(٢) المورد هو المحقّق القمي قدس‌سره في القوانين ٢ : ١٩.

(٣) «الحرمة» من المصدر.

(٤) القوانين ٢ : ٢٥٩.

٤٩

وليته أمر بالتأمّل في الإيراد الأوّل أيضا ، ويمكن إرجاعه إليهما معا ، وهو الأولى.

هذه جملة ما استدلّ به من الأخبار.

المحصّل من الأخبار المستدلّ بها على البراءة

والإنصاف : ظهور بعضها في الدلالة على عدم وجوب الاحتياط في ما لا نصّ فيه في الشبهة (١) ، بحيث لو فرض تماميّة الأخبار الآتية للاحتياط (٢) وقعت المعارضة بينها ، لكن بعضها غير دالّ إلاّ على عدم وجوب الاحتياط لو لم يرد أمر عامّ به ، فلا يعارض (٣) ما سيجيء من أخبار الاحتياط لو نهضت للحجيّة سندا ودلالة.

الاستدلال على البراءة بالإجماع :

وأمّا الإجماع :

فتقريره من (٤) وجهين :

١ ـ دعوى الإجماع فيما لم يرد دليل على تحريه مطلقاً

الأوّل : دعوى إجماع العلماء كلّهم ـ من المجتهدين والأخباريّين ـ على أنّ الحكم في ما لم يرد فيه دليل عقليّ أو نقليّ على تحريمه من حيث هو ولا على تحريمه (٥) من حيث إنّه مجهول الحكم ، هي البراءة وعدم العقاب على الفعل.

وهذا الوجه لا ينفع إلاّ بعد عدم تماميّة ما ذكر من الدليل العقليّ

__________________

(١) في (ص) زيادة : «التحريميّة».

(٢) ستأتي في الصفحة ٦٤ ـ ٦٧ ، ٧٦ ـ ٧٨ و ٨٢.

(٣) في (ر) و (ظ): «فلا تعارض».

(٤) في (ر) و (ص): «على».

(٥) لم ترد «من حيث هو ولا على تحريمه» في (ر).

٥٠

والنقليّ للحظر والاحتياط ، فهو نظير حكم العقل الآتي (١).

٢ ـ دعوى الإجماع فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو

الثاني : دعوى الإجماع على أنّ الحكم في ما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو ، هو (٢) عدم وجوب الاحتياط وجواز الارتكاب.

وتحصيل الإجماع بهذا النحو من وجوه :

تحصيل الإجماع على النحو الثاني من وجوه

الأوّل : ملاحظة فتاوى العلماء في موارد الفقه :

١ ـ ملاحظة فتاوي العلماء

فإنّك لا تكاد تجد من زمان المحدّثين إلى زمان أرباب التصنيف في الفتوى من يعتمد على حرمة شيء من الأفعال بمجرّد الاحتياط. نعم ، ربما يذكرونه في طيّ الاستدلال في جميع الموارد ، حتّى في الشبهة الوجوبيّة التي اعترف القائلون بالاحتياط هنا (٣) بعدم وجوبه فيها. ولا بأس بالاشارة إلى من وجدنا في كلماتهم ما هو ظاهر في هذا القول.

كلام ثقة الإسلام الكليني قدس‌سره

فمنهم : ثقة الإسلام الكلينيّ قدس‌سره ؛ حيث صرّح في ديباجة الكافي : بأنّ الحكم في ما اختلف فيه الأخبار التخيير (٤) ، ولم يلزم (٥) الاحتياط مع ما ورد (٦) من الأخبار بوجوب الاحتياط في ما تعارض فيه النصّان

__________________

(١) في الصفحة ٥٦.

(٢) لم ترد «هو» في (ت) و (ر).

(٣) «هنا» من (ظ).

(٤) الكافي ١ : ٩.

(٥) في (ت) و (ه): «ولم يلتزم».

(٦) في (ظ) زيادة : «فيه».

٥١

وما (١) لم يرد فيه (٢) نصّ بوجوبه في خصوص ما لا نصّ فيه.

فالظاهر : أنّ كلّ من قال بعدم وجوب الاحتياط هناك قال به هنا.

كلام الشيخ الصدوق قدس‌سره

ومنهم : الصدوق ؛ فإنّه قال : اعتقادنا أنّ الأشياء على الإباحة حتّى يرد النهي (٣).

ويظهر من هذا موافقة والده ومشايخه ؛ لأنّه لا يعبّر بمثل هذه العبارة مع مخالفته لهم ، بل ربما يقول : «الذي أعتقده وافتي به» ، واستظهر (٤) من عبارته هذه : أنّه من دين الاماميّة (٥).

وأمّا السيّدان : فقد صرّحا باستقلال العقل بإباحة ما لا طريق إلى كونه مفسدة (٦) ، وصرّحا أيضا في مسألة العمل بخبر الواحد : أنّه متى فرضنا عدم الدليل على حكم الواقعة رجعنا فيها إلى حكم العقل (٧).

كلام الشيخ الطوسي قدس‌سره

وأمّا الشيخ قدس‌سره : فإنّه وإن ذهب وفاقا لشيخه المفيد قدس‌سره إلى أنّ الأصل في الأشياء من طريق العقل الوقف (٨) ، إلاّ أنّه صرّح في العدة : بأنّ حكم الأشياء من طريق العقل وإن كان هو الوقف ، لكنه لا يمتنع

__________________

(١) لم ترد «ما» في (ت) ، (ر) و (ه).

(٢) لم ترد «فيه» في (ت) و (ر).

(٣) الاعتقادات للشيخ الصدوق ، المطبوع ضمن مصنفات الشيخ المفيد ٥ : ١١٤.

(٤) في (ص): «بل استظهر».

(٥) استظهره المحقّق القمّي في القوانين ٢ : ١٦.

(٦) الذريعة ٢ : ٨٠٩ ـ ٨١٢ ، والغنية (الجوامع الفقهية) : ٤٨٦.

(٧) انظر الذريعة ٢ : ٥٤٩ ، والغنية (الجوامع الفقهية) : ٤٧٦.

(٨) العدّة ٢ : ٧٤٢ ، وانظر التذكرة باصول الفقه (مصنفات الشيخ المفيد) : ٤٣.

٥٢

أن يدلّ دليل سمعيّ على أنّ الأشياء على الإباحة بعد أن كانت على الوقف ، بل عندنا الأمر كذلك وإليه نذهب (١) ، انتهى.

وأمّا من تأخّر عن الشيخ قدس‌سره ، كالحلّي (٢) والمحقّق (٣) والعلاّمة (٤) والشهيدين (٥) وغيرهم (٦) : فحكمهم بالبراءة يعلم من مراجعة كتبهم.

وبالجملة : فلا نعرف قائلا معروفا بالاحتياط وإن كان ظاهر المعارج نسبته إلى جماعة (٧).

ثمّ إنّه ربما نسب إلى المحقّق قدس‌سره رجوعه عمّا في المعارج إلى ما في المعتبر (٨) : من التفصيل بين ما يعمّ به البلوى وغيره وأنّه لا يقول بالبراءة في الثاني. وسيجيء الكلام في هذه النسبة بعد ذكر الأدلّة إن شاء الله (٩).

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ تخصيص بعض القول بالبراءة بمتأخّري الإماميّة مخالف للواقع (١٠) ، وكأنّه ناش عمّا رأى من السيّد والشيخ من

__________________

(١) العدّة ٢ : ٧٥٠.

(٢) السرائر ١ : ٤٦.

(٣) المعارج : ٢١٢ ، وانظر المعتبر ١ : ٣٢.

(٤) نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٢٤.

(٥) الذكرى ١ : ٥٢ ، والقواعد والفوائد ١ : ١٣٢ ، وتمهيد القواعد : ٢٧١.

(٦) مثل الوحيد البهبهاني في الرسائل الاصوليّة : ٣٥٣.

(٧) المعارج : ٢٠٣ و ٢١٦.

(٨) الناسب هو المحقّق القمي في القوانين ٢ : ١٥ ، وانظر المعتبر ١ : ٣٢.

(٩) انظر الصفحة ٩٣.

(١٠) التخصيص من الشيخ حسين الكركي في كتاب هداية الأبرار : ٢٦٦.

٥٣

التمسّك بالاحتياط في كثير من الموارد ؛ ويؤيّده ما في المعارج : من نسبة القول برفع الاحتياط على الإطلاق إلى جماعة (١).

٢ ـ الإجماعات المنقولة والشهرة المحقّقة

الثاني : الإجماعات المنقولة والشهرة المحقّقة ، فإنّها قد تفيد القطع بالاتّفاق.

وممّن استظهر منه دعوى ذلك : الصدوق رحمه‌الله في عبارته المتقدّمة (٢) عن اعتقاداته.

كلام الحلّي في السرائر

وممّن ادّعى اتّفاق المحصلين عليه : الحلّيّ في أوّل السرائر ؛ حيث قال بعد ذكر الكتاب والسنّة والإجماع : إنّه إذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسألة الشرعيّة عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة ، التمسّك بدليل العقل (٣) ، انتهى. ومراده بدليل العقل ـ كما يظهر من تتبّع كتابه ـ هو أصل البراءة.

كلام المحقّق في المسائل المصريّة

وممّن ادّعى إطباق العلماء : المحقّق في المعارج في باب الاستصحاب (٤) ، وعنه في المسائل المصريّة أيضا في توجيه نسبة السيّد إلى مذهبنا جواز إزالة النجاسة بالمضاف مع عدم ورود نص فيه : أنّ من أصلنا العمل بالأصل حتّى يثبت الناقل ، ولم يثبت المنع عن إزالة النجاسة بالمائعات (٥).

__________________

(١) المعارج : ٢١٦.

(٢) راجع الصفحة ٤٣.

(٣) السرائر ١ : ٤٦.

(٤) المعارج : ٢٠٨.

(٥) المسائل المصريّة (الرسائل التسع) : ٢١٦.

٥٤

فلو لا كون الأصل إجماعيّا لم يحسن من المحقّق قدس‌سره جعله وجها لنسبة مقتضاه إلى مذهبنا.

وأمّا الشهرة : فإنّها (١) تتحقّق بعد التتبّع في كلمات الأصحاب خصوصا في الكتب الفقهيّة ؛ ويكفي في تحقّقها ذهاب من ذكرنا من القدماء والمتأخّرين (٢).

٣ ـ الإجماع العمل

الثالث : الإجماع العمليّ الكاشف عن رضا المعصوم عليه‌السلام.

فإنّ سيرة المسلمين من أوّل الشريعة بل في كلّ شريعة على عدم الالتزام والإلزام بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من الشارع بعد الفحص وعدم الوجدان ، وأنّ طريقة الشارع كانت تبليغ المحرّمات دون المباحات ؛ وليس ذلك إلاّ لعدم احتياج الرخصة في الفعل إلى البيان وكفاية عدم (٣) النهي فيها.

كلام المحقّق في المعارج

قال المحقّق قدس‌سره ـ على ما حكى عنه ـ : إنّ أهل الشرائع كافة لا يخطّئون من بادر إلى تناول شيء من المشتبهات سواء علم الإذن فيها من الشرع أم لم يعلم ، ولا يوجبون عليه عند تناول شيء من المأكول أن يعلم التنصيص على إباحته ، ويعذرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم ، ولو كانت محظورة لأسرعوا إلى تخطئته حتّى يعلم الإذن (٤) ، انتهى.

__________________

(١) في (ه): «فإنّما».

(٢) راجع الصفحة ٥١ ـ ٥٣.

(٣) في (ر) و (ص) زيادة «وجدان».

(٤) المعارج : ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

٥٥

المناقشة فيما أفاده المحقّق في المعارج

أقول : إن كان الغرض ممّا ذكر ـ من عدم التخطئة ـ بيان قبح مؤاخذة الجاهل بالتحريم ، فهو حسن مع عدم بلوغ وجوب الاحتياط عليه من الشارع ، لكنّه راجع إلى الدليل العقليّ الآتي (١) ، ولا ينبغي الاستشهاد له بخصوص أهل الشرائع ، بل بناء كافّة العقلاء وإن لم يكونوا من أهل الشرائع على قبح ذلك.

وإن كان الغرض منه أنّ بناء العقلاء على تجويز الارتكاب مع قطع النظر عن ملاحظة قبح مؤاخذة الجاهل ، حتّى لو فرض عدم قبحه ـ لفرض العقاب من اللوازم القهريّة لفعل الحرام مثلا ، أو فرض المولى في التكاليف العرفيّة ممّن يؤاخذ على الحرام ولو صدر جهلا ـ لم يزل بناؤهم على ذلك ، فهو مبنيّ على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل ، وسيجيء الكلام فيه (٢) إن شاء الله.

الدليل العقلي على البراءة : «قاعدة قبح العقاب بلا بيان»

الرابع من الأدلّة : حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف.

ويشهد له : حكم العقلاء كافّة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه.

حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل لا يكون بيانا

ودعوى : أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقليّ فلا يقبح بعده المؤاخذة ، مدفوعة : بأنّ الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنّما هو بيان لقاعدة

__________________

(١) يأتي بعد سطور.

(٢) انظر الصفحة ٥٧ ، ٩١ و ١٢٢ ـ ١٢٦.

٥٦

كليّة ظاهريّة وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمّت عوقب على مخالفتها وإن لم يكن تكليف في الواقع ، لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده ؛ فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكورة ، بل قاعدة القبح واردة عليها ؛ لأنّها فرع احتمال الضرر أعني العقاب ، ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان.

فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف فتردّد المكلّف به (١) بين أمرين ، كما في الشبهة المحصورة وما يشبهها.

هذا كلّه إن اريد ب «الضرر» العقاب ، وإن اريد به (٢) مضرّة اخرى غير العقاب ـ التي لا يتوقّف ترتّبها على العلم ـ ، فهو وإن كان محتملا لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان ، إلاّ أنّ الشبهة من هذه الجهة موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين ، فلو ثبت وجوب دفع المضرّة المحتملة لكان هذا مشترك الورود ؛ فلا بدّ على كلا القولين إمّا من منع وجوب الدفع ، وإمّا من دعوى ترخيص الشارع وإذنه فيما شكّ في كونه من مصاديق الضرر ، وسيجيء توضيحه في الشبهة الموضوعية (٣) إن شاء الله.

ما ذكره في الغنية : من أنّ التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق

ثمّ إنّه ذكر السيّد أبو المكارم قدس‌سره في الغنية : أنّ التكليف بما

__________________

(١) لم ترد «به» في (ظ) و (ه).

(٢) كذا في نسخة بدل (ظ) ، وفي غيرها : «بها».

(٣) انظر الصفحة ١٢٢ ـ ١٢٦.

٥٧

لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق (١). وتبعه بعض من تأخّر عنه (٢) ، فاستدلّ به في مسألة البراءة.

المراد ب «ما لا يطاق»

والظاهر : أنّ المراد به ما لا يطاق الامتثال به وإتيانه بقصد الطاعة ، كما صرّح به جماعة من الخاصّة والعامّة (٣) في دليل اشتراط التكليف بالعلم ؛ وإلاّ فنفس الفعل لا يصير ممّا لا يطاق بمجرّد عدم العلم بالتكليف به.

واحتمال كون الغرض من التكليف مطلق صدور الفعل ولو مع عدم قصد الإطاعة ، أو كون (٤) الغرض من التكليف مع الشكّ فيه إتيان الفعل بداعي حصول الانقياد بقصد الإتيان بمجرّد احتمال كونه مطلوبا للآمر ، وهذا ممكن من الشاكّ وإن لم يكن من الغافل ، مدفوع : بأنّه إن قام دليل على وجوب إتيان الشاكّ في التكليف بالفعل لاحتمال المطلوبيّة ، أغنى ذلك من التكليف بنفس الفعل ، وإلاّ لم ينفع التكليف المشكوك في تحصيل الغرض المذكور.

والحاصل : أنّ التكليف المجهول لا يصلح (٥) لكون الغرض منه

__________________

(١) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٦٤.

(٢) كالمحقّق في المعارج : ٢١٢ ـ ٢١٣ ، والعلاّمة في نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٢٤ ، والفاضل التوني في الوافية : ١٨٠ ، والمحقّق القمّي في القوانين ٢ : ١٦.

(٣) كالسيد العميدي في منية اللبيب (مخطوط) : الورقة ٧٢ ، والحاجي والعضدي في شرح مختصر الاصول : ١٠٤ ـ ١٠٥ ، وانظر مفاتيح الاصول : ٣١٨.

(٤) كذا في (ت) ، (ص) و (ه) ، وفي غيرها : «يكون».

(٥) في (ظ) و (ه): «لا يصحّ».

٥٨

الحمل على الفعل مطلقا ، وصدور الفعل من الفاعل أحيانا لا لداعي التكليف لا يمكن أن يكون غرضا للتكليف.

الدليل العقلي الذكور ليس من أدلّة البراءة

واعلم : أنّ هذا الدليل العقليّ ـ كبعض ما تقدّم من الأدلّة النقليّة ـ معلّق على عدم تماميّة أدلّة الاحتياط ؛ فلا يثبت به إلاّ الأصل في مسألة البراءة ، ولا يعدّ من أدلّتها بحيث يعارض أخبار الاحتياط.

الدليل العقلي المذكور ليس من أدلّة البراءة

وقد يستدل على البراءة بوجوه غير ناهضة :

منها : استصحاب البراءة المتيقّنة حال الصغر أو الجنون (١).

١ ـ استصحاب البراءة المتيقّنة

وفيه : أنّ الاستدلال مبنيّ على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، فيدخل أصل البراءة بذلك في الأمارات الدالّة على الحكم الواقعيّ ، دون الاصول المثبتة للأحكام الظاهريّة. وسيجيء عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ (٢) إن شاء الله.

وأمّا لو قلنا باعتباره من باب الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ ، فلا ينفع في المقام ؛ لأنّ الثابت بها ترتّب اللوازم المجعولة الشرعية على المستصحب ، والمستصحب هنا ليس إلاّ براءة الذمّة من التكليف وعدم المنع من الفعل وعدم استحقاق العقاب عليه ، والمطلوب في الآن اللاحق هو القطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل أو ما يستلزم ذلك ـ إذ لو لم يقطع بالعدم واحتمل العقاب (٣) احتاج إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان إليه حتّى يأمن العقل من العقاب ،

__________________

(١) استدل بهذا الوجه صاحب الفصول في الفصول : ٣٥٢.

(٢) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ١٣ و ٨٧.

(٣) في (ظ) بدل «العقاب» : «الاستحقاق».

٥٩

ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة ـ ، ومن المعلوم أنّ المطلوب المذكور لا يترتّب على المستصحبات المذكورة ؛ لأنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة حتّى يحكم به الشارع في الظاهر.

وأمّا الإذن والترخيص في الفعل ، فهو وإن كان أمرا قابلا للجعل ويستلزم انتفاء العقاب واقعا ، إلاّ أنّ الإذن الشرعيّ ليس لازما شرعيّا للمستصحبات المذكورة ، بل هو من المقارنات ؛ حيث إنّ عدم المنع عن الفعل ـ بعد العلم إجمالا بعدم خلوّ فعل المكلّف عن أحد الأحكام الخمسة ـ لا ينفكّ عن كونه مرخّصا فيه ، فهو نظير إثبات وجود أحد الضدّين بنفي الآخر بأصالة العدم.

ومن هنا تبيّن : أنّ استدلال بعض من اعترف بما ذكرنا (١) ـ من عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ وعدم إثباته إلاّ اللوازم الشرعيّة ـ في هذا المقام باستصحاب البراءة ، منظور فيه.

نعم ، من قال باعتباره من باب الظنّ ، أو أنّه يثبت بالاستصحاب (٢) من باب التعبّد كلّ ما لا ينفكّ عن المستصحب لو كان معلوم البقاء ولو لم يكن من اللوازم الشرعيّة ، فلا بأس بتمسّكه به.

مع أنّه يمكن النظر فيه ؛ بناء على ما سيجيء (٣) : من اشتراط العلم ببقاء الموضوع في الاستصحاب ، وموضوع البراءة في السابق ومناطها هو الصغير الغير القابل للتكليف ، فانسحابها في القابل أشبه بالقياس من

__________________

(١) كصاحب الفصول في الفصول : ٣٥٢ ، ٣٧٠ و ٣٧٧.

(٢) لم ترد «بالاستصحاب» في (ت) و (ظ) ، نعم ورد بدلها في (ت): «به».

(٣) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ٢٩١.

٦٠