فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

وبالجملة : فحصول اللطف بالفعل المأتيّ به من الجاهل فيما نحن فيه غير معلوم (١) ، بل ظاهرهم عدمه ، فلم يبق عليه إلاّ التخلّص من تبعة مخالفة الأمر الموجّه (٢) إليه ؛ فإنّ هذا واجب عقليّ في مقام الإطاعة والمعصية ، ولا دخل له بمسألة اللطف ، بل هو جار على فرض عدم اللطف وعدم المصلحة في المأمور به رأسا ، وهذا التخلّص يحصل بالإتيان بما يعلم أنّ مع تركه يستحقّ العقاب والمؤاخذة فيجب الإتيان ، وأمّا الزائد فيقبح المؤاخذة عليه مع عدم البيان.

فإنّ قلت : إنّ ما ذكر في وجوب الاحتياط في المتباينين بعينه موجود هنا ، وهو أنّ المقتضي ـ وهو تعلّق الوجوب الواقعي بالأمر الواقعيّ المردّد بين الأقلّ والأكثر ـ موجود ، والجهل التفصيليّ به لا يصلح مانعا لا عن المأمور به ولا عن توجّه الأمر ، كما تقدّم في المتباينين حرفا بحرف (٣).

الجهل مانع عقلي عن توجّه التكليف بالجزء المشكوك

قلت : نختار هنا أنّ الجهل مانع عقليّ عن توجّه التكليف بالمجهول إلى المكلّف ؛ لحكم العقل بقبح المؤاخذة على ترك الأكثر المسبّب عن ترك الجزء المشكوك من دون بيان ، ولا يعارض بقبح المؤاخذة على ترك الأقلّ من حيث هو من دون بيان ؛ إذ يكفي في البيان المسوّغ للمؤاخذة عليه العلم التفصيليّ بأنّه مطلوب للشارع بالاستقلال أو في ضمن الأكثر ، ومع هذا العلم لا يقبح المؤاخذة.

__________________

(١) في (ت) و (ه) زيادة : «وإن احرز الواقع».

(٢) في (ظ) و (ه): «المتوجّه».

(٣) راجع الصفحة ٢٨٠.

٣٢١

عدم جريان الدليل العقلي المتقدّم في المتباينين فيما نحن فيه

وما ذكر في المتباينين ـ سندا لمنع كون الجهل مانعا : من استلزامه لجواز المخالفة القطعيّة ، وقبح خطاب الجاهل المقصّر ، وكونه معذورا بالنسبة إلى الواقع ـ مع أنّه خلاف المشهور أو المتّفق عليه ، غير جار فيما نحن فيه.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ عدم جواز المخالفة القطعيّة لكونها مخالفة معلومة بالتفصيل ؛ فإنّ وجوب الأقلّ بمعنى استحقاق العقاب بتركه معلوم تفصيلا وإن لم يعلم أنّ العقاب لأجل ترك نفسه أو لترك ما هو سبب في تركه وهو الأكثر ؛ فإنّ هذا العلم غير معتبر في إلزام العقل بوجوب الإتيان ؛ إذ مناط تحريك العقل إلى فعل الواجبات وترك المحرّمات ، دفع العقاب ، ولا يفرّق في تحريكه بين علمه بأنّ العقاب لأجل هذا الشيء أو لما هو مستند إليه.

عدم معذوريّة الجاهل المقصّر

وأمّا عدم معذوريّة الجاهل المقصّر ، فهو للوجه الذي لا يعذر من أجله الجاهل بنفس التكليف المستقلّ ، وهو العلم الإجماليّ بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، وأنّه لولاه لزم إخلال الشريعة ، لا العلم الإجماليّ الموجود في المقام ؛ إذ الموجود في المقام علم تفصيليّ ، وهو وجوب الأقلّ بمعنى ترتّب العقاب على تركه ، وشكّ في أصل وجوب الزائد ولو مقدّمة.

العلم الإجمالي فيما نحن فيه غير مؤثّر في وجوب الاحتياط

وبالجملة : فالعلم الإجماليّ فيما نحن فيه غير مؤثّر في وجوب الاحتياط ؛ لكون أحد طرفيه معلوم الإلزام تفصيلا والآخر مشكوك الإلزام رأسا.

ودوران الإلزام في الأقلّ بين كونه مقدّميّا أو نفسيّا ، لا يقدح في كونه معلوما بالتفصيل ؛ لما ذكرنا : من أنّ العقل يحكم بوجوب القيام بما

٣٢٢

علم إجمالا أو تفصيلا إلزام المولى به على أيّ وجه كان ، ويحكم بقبح المؤاخذة على ما شكّ في إلزامه ، والمعلوم إلزامه تفصيلا هو الأقلّ ، والمشكوك إلزامه رأسا هو الزائد ، والمعلوم إلزامه إجمالا هو الواجب النفسيّ المردّد بين الأقلّ والأكثر ، ولا عبرة به بعد انحلاله إلى معلوم تفصيليّ ومشكوك ، كما في كلّ معلوم إجماليّ كان كذلك ، كما لو علم إجمالا بكون أحد من الإناءين اللذين أحدهما المعيّن نجس ، خمرا ؛ فإنّه يحكم بحلّيّة الطاهر منهما ، والعلم الإجمالي بالخمر لا يؤثّر في وجوب الاجتناب عنه.

التمسّك بأصالة عدم وجوب الأكثر في المسألة

وممّا ذكرنا يظهر : أنّه يمكن التمسّك في عدم وجوب الأكثر بأصالة عدم وجوبه ؛ فإنّها سليمة في هذا المقام عن المعارضة بأصالة عدم وجوب الأقلّ ؛ لأنّ وجوب الأقلّ معلوم تفصيلا فلا يجري فيه الأصل.

وتردّد وجوبه بين الوجوب النفسيّ والغيريّ مع العلم التفصيلي بورود الخطاب التفصيليّ بوجوبه بقوله : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)(١) ، وقوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ)(٢) ، وقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ)(٣) ، وقوله : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)(٤) ، وغير ذلك (٥) من الخطابات المتضمّنة للأمر

__________________

(١) المدّثّر : ٣.

(٢) البقرة : ٢٣٨.

(٣) المزّمّل : ٢٠.

(٤) الحجّ : ٧٧.

(٥) كما في البقرة : ٤٣ ، وآل عمران : ٤٣.

٣٢٣

بالأجزاء ، لا يوجب جريان أصالة عدم الوجوب أو أصالة البراءة.

المناقشة في هذا الأصل

لكنّ الإنصاف : أنّ التمسّك بأصالة عدم وجوب الأكثر لا ينفع في المقام ، بل هو قليل الفائدة ؛ لأنّه : إن قصد به نفي أثر الوجوب الذي هو استحقاق العقاب بتركه ، فهو وإن كان غير معارض بأصالة عدم وجوب الأقلّ كما ذكرنا ، إلاّ أنّك قد عرفت فيما تقدّم في الشكّ في التكليف (١) : أنّ استصحاب عدم التكليف المستقلّ (٢) ـ وجوبا أو تحريما ـ لا ينفع في دفع (٣) استحقاق العقاب على الترك أو الفعل ؛ لأنّ عدم استحقاق العقاب ليس من آثار عدم الوجوب والحرمة الواقعيّين حتّى يحتاج إلى إحرازهما بالاستصحاب ، بل يكفي فيه عدم العلم بهما ، فمجرّد الشكّ فيهما كاف في عدم استحقاق العقاب بحكم العقل القاطع.

وقد أشرنا إلى ذلك عند التمسّك في حرمة العمل بالظنّ بأصالة عدم حجّيته ، وقلنا : إنّ الشكّ في حجّيته كاف في التحريم ولا يحتاج إلى إحراز عدمها بالأصل (٤).

وإن قصد به نفي الآثار المترتّبة على الوجوب النفسيّ المستقلّ ، فأصالة عدم هذا الوجوب في الأكثر معارضة بأصالة عدمه في الأقلّ ، فلا تبقى لهذا الأصل فائدة إلاّ في نفي ما عدا العقاب من الآثار المترتّبة على مطلق الوجوب الشامل للنفسيّ والغيريّ.

__________________

(١) راجع الصفحة ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) لم ترد «المستقلّ» في (ظ).

(٣) في (ظ) ونسخة بدل (ص): «رفع».

(٤) راجع مبحث الظن ١ : ١٢٧ ـ ١٢٨.

٣٢٤

سائر ما يتمسّك به لوجوب الاحتياط في المسألة ، والمناقشة فيها

ثمّ بما ذكرنا في منع جريان الدليل العقليّ المتقدّم في المتباينين فيما نحن فيه ، تقدر على منع سائر ما يتمسّك به لوجوب الاحتياط في هذا المقام.

مثل : استصحاب الاشتغال بعد الإتيان بالأقلّ (١).

ومثل (٢) : أنّ الاشتغال اليقينيّ يقتضي وجوب تحصيل اليقين بالبراءة (٣).

ومثل : أدلّة اشتراك الغائبين مع الحاضرين في الأحكام المقتضية لاشتراكنا ـ معاشر الغائبين ـ مع الحاضرين العالمين بالمكلّف به تفصيلا (٤).

ومثل : وجوب دفع الضرر ـ وهو العقاب (٥) ـ المحتمل قطعا ، وبعبارة اخرى : وجوب المقدّمة العلميّة للواجب (٦).

ومثل : أنّ قصد القربة غير ممكن بالإتيان بالأقلّ ؛ لعدم العلم بمطلوبيّته في ذاته ، فلا يجوز الاقتصار عليه في العبادات ، بل لا بدّ من الإتيان بالجزء المشكوك.

المناقشة فيما يتمسُك به

فإنّ الأوّل مندفع ـ مضافا إلى منع جريانه حتّى في مورد وجوب الاحتياط ، كما تقدّم في المتباينين ـ بأنّ بقاء وجوب الأمر المردّد بين

__________________

(١) استدلّ به في ضوابط الاصول : ٣٢٦ ، وهداية المسترشدين : ٤٥٠.

(٢) «مثل» من (ص).

(٣) استدلّ به في ضوابط الاصول : ٣٢٧.

(٤) أشار إلى هذا الوجه في ضوابط الاصول : ٣٢٦.

(٥) لم ترد «وهو العقاب» في (ظ).

(٦) هذا الوجه أيضا ذكره في هداية المسترشدين : ٤٥٠ ، وضوابط الاصول : ٣٢٨.

٣٢٥

الأقلّ والأكثر بالاستصحاب لا يجدي ؛ بعد فرض كون وجود المتيقّن قبل الشكّ غير مجد في الاحتياط.

نعم ، لو قلنا بالأصل المثبت ، وأنّ استصحاب الاشتغال بعد الإتيان بالأقلّ يثبت كون الواجب هو الأكثر فيجب الإتيان به ، أمكن الاستدلال بالاستصحاب.

لكن يمكن أن يقال : إنّا نفينا في الزمان السابق وجوب الأكثر ؛ لقبح المؤاخذة (١) من دون بيان ، فتعيّن الاشتغال بالأقلّ ، فهو منفيّ في الزمان السابق ، فكيف يثبت في الزمان اللاحق؟

وأمّا الثاني ، فهو حاصل الدليل المتقدّم في المتباينين المتوهّم جريانه في المقام ، وقد عرفت الجواب (٢) ، وأنّ الاشتغال اليقينيّ إنّما هو بالأقلّ ، وغيره مشكوك فيه (٣).

وأمّا الثالث ، ففيه : أنّ مقتضى الاشتراك كون الغائبين والحاضرين على نهج واحد مع كونهما في العلم والجهل على صفة واحدة ، ولا ريب أنّ وجوب الاحتياط على الجاهل من الحاضرين فيما نحن فيه عين الدعوى.

وأمّا الرابع ، فلأنّ وجوب المقدّمة فرع وجوب ذي المقدّمة ، وهو الأمر المتردّد (٤) بين الأقلّ والأكثر ، وقد تقدّم (٥) : أنّ وجوب المعلوم

__________________

(١) في (ظ) بدل «المؤاخذة» : «العقاب».

(٢) في (ص) زيادة : «عنه».

(٣) راجع الصفحة ٣٢١ ـ ٣٢٣.

(٤) في (ت): «المردّد».

(٥) راجع الصفحة ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

٣٢٦

إجمالا مع كون أحد طرفيه متيقّن الإلزام من الشارع ولو بالإلزام المقدّمي ، غير مؤثّر في وجوب الاحتياط ؛ لكون الطرف الغير المتيقّن ـ وهو الأكثر في ما نحن فيه ـ موردا لقاعدة البراءة ، كما مثّلنا له بالخمر المردّد بين إناءين (١) أحدهما المعيّن نجس.

نعم ، لو ثبت أنّ ذلك ـ أعني تيقّن أحد طرفي المعلوم بالاجمال تفصيلا وترتّب أثره عليه ـ لا يقدح في وجوب العمل بما يقتضيه من الاحتياط ، فيقال في المثال : إنّ التكليف بالاجتناب عن هذا الخمر المردّد بين الإناءين يقتضي استحقاق العقاب على تناوله بتناول أيّ الإناءين (٢) اتّفق كونه خمرا ، فيجب الاحتياط بالاجتناب عنهما ، فكذلك فيما نحن فيه.

والدليل العقليّ على البراءة من هذه الجهة يحتاج إلى مزيد تأمّل.

وأمّا الخامس ، فلأنّه يكفي في قصد القربة الإتيان بما علم من الشارع الإلزام به وأداء تركه إلى استحقاق العقاب لأجل التخلّص عن العقاب ؛ فإنّ هذا المقدار كاف في نيّة القربة المعتبرة في العبادات حتّى لو علم بأجزائها تفصيلا.

كيف تقصد القربة بإتيان الأقلّ؟

بقي الكلام في أنّه كيف يقصد القربة بإتيان الأقلّ مع عدم العلم بكونه مقرّبا ؛ لتردّده بين الواجب النفسيّ المقرّب والمقدّمي الغير المقرّب؟

فنقول :

يكفي في قصد القربة : قصد التخلّص من العقاب ؛ فإنّها إحدى

__________________

(١) في (ر) و (ص): «الإناءين».

(٢) في (ت) و (ظ) زيادة : «إذا».

٣٢٧

الغايات المذكورة في العبادات (١).

الاستدلال بالأخبار على البراءة في المسألة :

وأمّا الدليل النقلي :

فهو الأخبار الدالّة على البراءة ، الواضحة سندا ودلالة ؛ ولذا عوّل عليها في المسألة من جعل مقتضى العقل فيها وجوب الاحتياط (٢) ، بناء على وجوب مراعاة العلم الإجمالي وإن كان الإلزام في أحد طرفيه معلوما بالتفصيل. وقد تقدّم أكثر تلك الأخبار في الشكّ في التكليف التحريمي والوجوبي (٣).

١ ـ حديث الحجب

منها : قوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٤).

فإنّ وجوب الجزء المشكوك محجوب علمه عن العباد ، فهو موضوع عنهم ؛ فدلّ على أنّ الجزء المشكوك وجوبه غير واجب على الجاهل ، كما دلّ على أنّ الشيء المشكوك وجوبه النفسيّ غير واجب في الظاهر على الجاهل.

ويمكن تقريب الاستدلال : بأنّ وجوب الأكثر ممّا حجب علمه ، فهو موضوع.

ولا يعارض بأنّ وجوب الأقلّ كذلك ؛ لأنّ العلم بوجوبه المردّد

__________________

(١) لم ترد عبارة «بقي الكلام ـ إلى ـ العبادات» في (ت) و (ه) ، وكتب عليها في (ص): «زائد».

(٢) هو صاحب الفصول في الفصول : ٣٥٧.

(٣) راجع الصفحة ٢٨ و ٤١ ـ ٤٤.

(٤) الوسائل ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٨.

٣٢٨

بين النفسيّ والغيريّ غير محجوب ، فهو غير موضوع.

٢ ـ حديث الرفع

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن امّتي ... ما لا يعلمون» (١).

فإنّ وجوب الجزء المشكوك ممّا لم يعلم ، فهو مرفوع عن المكلّفين ، أو أنّ العقاب والمؤاخذة المترتّبة على تعمّد ترك الجزء المشكوك الذي هو سبب لترك الكلّ ، مرفوع عن الجاهل.

إلى غير ذلك من أخبار البراءة الجارية في الشبهة الوجوبيّة.

وكان بعض مشايخنا قدّس الله نفسه يدّعي ظهورها في نفي الوجوب النفسيّ المشكوك ، وعدم جريانها في الشكّ في الوجوب الغيريّ (٢).

عدم الفرق في أخبار البراءة بين الشكّ في الوجوب النفسي أو في الوجوب الغيري

ولا يخفى على المتأمّل : عدم الفرق بين الوجوبين في نفي ما يترتّب عليه ، من استحقاق العقاب ؛ لأنّ ترك الواجب الغيريّ منشأ لاستحقاق العقاب ولو من جهة كونه منشأ لترك الواجب النفسيّ.

نعم ، لو كان الظاهر من الأخبار نفي العقاب المترتّب على ترك الشيء من حيث خصوص ذاته ، أمكن دعوى ظهورها في ما ادّعي.

مع إمكان أن يقال : إنّ العقاب على ترك الجزء أيضا من حيث خصوص ذاته ؛ لأنّ ترك الجزء عين ترك الكلّ ، فافهم.

هذا كلّه إن جعلنا المرفوع والموضوع في الروايات خصوص المؤاخذة ، وأمّا لو عمّمناه لمطلق الآثار الشرعيّة المترتّبة على الشيء المجهول ، كانت الدلالة أوضح ، لكن سيأتي ما في ذلك (٣).

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل.

(٢) هو شريف العلماء ، انظر تقريرات درسه في ضوابط الاصول : ٣٢٩.

(٣) انظر الصفحة ٣٣٥.

٣٢٩

حكومة أخبار البراءة على الدليل العقليّ المتقدّم لوجوب الاحتياط

ثمّ إنّه لو فرضنا عدم تماميّة الدليل العقليّ المتقدّم (١) ، بل كون العقل حاكما بوجوب الاحتياط ومراعاة حال العلم الإجماليّ بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر ، كانت هذه الأخبار كافية في المطلب حاكمة على ذلك الدليل العقليّ ؛ لأنّ الشارع أخبر بنفي العقاب على ترك الأكثر لو كان واجبا في الواقع ، فلا يقتضي العقل وجوبه من باب الاحتياط الراجع إلى وجوب دفع العقاب المحتمل.

كلام صاحب الفصول في حكومة أدلّة الاحتياط على أخبار البراءة في المسألة

وقد توهّم بعض المعاصرين (٢) عكس ذلك وحكومة أدلّة الاحتياط على هذه الأخبار ، فقال : لا نسلّم حجب العلم في المقام ؛ لوجود الدليل في المقام ، وهي أصالة الاشتغال في الأجزاء والشرائط المشكوكة. ثمّ قال : لأنّ ما كان لنا إليه طريق في الظاهر لا يصدق في حقّه الحجب قطعا ؛ وإلاّ لدلّت هذه الرواية على عدم حجّية الأدلّة الظنّية ، كخبر الواحد وشهادة العدلين وغيرهما. ثمّ (٣) قال :

ولو التزم تخصيصها بما دلّ على حجّية تلك الطرق ، تعيّن تخصيصها ـ أيضا ـ بما دلّ على حجّية أصالة الاشتغال : من عمومات أدلّة الاستصحاب ، ووجوب المقدّمة العلميّة. ثمّ قال :

والتحقيق : التمسّك بهذه الأخبار على نفي الحكم الوضعي وهي الجزئيّة والشرطيّة (٤) ، انتهى.

__________________

(١) المتقدّم في الصفحة ٣١٨.

(٢) هو صاحب الفصول في الفصول.

(٣) «ثمّ» من (ص).

(٤) الفصول : ٥١.

٣٣٠

المناقشة فيما أفاده صاحب الفصول

أقول : قد ذكرنا في المتباينين (١) وفيما نحن فيه (٢) : أنّ استصحاب الاشتغال لا يثبت لزوم الاحتياط إلاّ على القول باعتبار الأصل المثبت الذي لا نقول به وفاقا لهذا الفاضل ، وأنّ العمدة في وجوب الاحتياط هو : حكم العقل بوجوب إحراز محتملات الواجب الواقعي بعد إثبات (٣) تنجّز التكليف ، وأنّه المؤاخذ به والمعاقب على تركه ولو حين الجهل به وتردّده بين متباينين أو الأقلّ والأكثر.

ولا ريب أنّ ذلك الحكم مبناه وجوب دفع العقاب المحتمل على ترك ما يتركه المكلّف ، وحينئذ : فإذا أخبر الشارع ـ في قوله «ما حجب الله ...» ، وقوله «رفع عن امّتي ...» وغيرهما ـ بأنّ الله سبحانه لا يعاقب على ترك ما لم يعلم جزئيّته ، فقد ارتفع احتمال العقاب في ترك ذلك المشكوك ، وحصل الأمن منه ، فلا يجري فيه حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل.

نظير ما إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الصلاة إلى جهة خاصّة من الجهات لو فرض كونها القبلة الواقعيّة ، فإنّه يخرج بذلك عن باب المقدّمة ؛ لأنّ المفروض أنّ تركها لا يفضي إلى العقاب (٤).

نعم ، لو كان مستند الاحتياط أخبار الاحتياط ، كان لحكومة تلك الأخبار على أخبار البراءة وجه أشرنا إليه في الشبهة التحريميّة من

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

(٢) راجع الصفحة ٣٢٦.

(٣) لم ترد «إثبات» في (ظ).

(٤) لم ترد عبارة «لو فرض ـ إلى ـ العقاب» في (ظ).

٣٣١

أقسام الشكّ في التكليف (١).

حكومة أخبار البراءة على استصحاب الاشتغال أيضا

وممّا ذكرنا يظهر : حكومة هذه الأخبار على استصحاب الاشتغال على تقدير القول بالأصل المثبت أيضا كما أشرنا إليه سابقا (٢) ؛ لأنّه إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر الذي حجب العلم بوجوبه ، كان المستصحب ـ وهو الاشتغال المعلوم سابقا ـ غير متيقّن إلاّ بالنسبة إلى الأقلّ ، وقد ارتفع بإتيانه ، واحتمال بقاء الاشتغال حينئذ من جهة (٣) الأكثر منفيّ (٤) بحكم هذه الأخبار.

وبالجملة : فما ذكره ، من حكومة أدلّة الاشتغال على هذه الأخبار ضعيف جدّا ؛ نظرا إلى ما تقدّم (٥).

استدلال صاحب الفصول بأخبار البراءة على نفي الحكم الوضعي

وأضعف من ذلك : أنّه رحمه‌الله عدل ـ من أجل هذه الحكومة التي زعمها لأدلّة الاحتياط على هذه الأخبار ـ عن الاستدلال بها لمذهب المشهور من حيث نفي الحكم التكليفيّ ، إلى التمسّك بها في نفي الحكم الوضعيّ ، أعني جزئيّة الشيء المشكوك أو شرطيّته ، وزعم أنّ ماهيّة المأمور به تبيّن (٦) ظاهرا كونها الأقلّ بضميمة نفي جزئيّة المشكوك ، ويحكم بذلك على أصالة الاشتغال.

__________________

(١) راجع الصفحة ٥٠.

(٢) راجع الصفحة ٣٢٦.

(٣) في (ص) زيادة : «كون الواجب هو»

(٤) في (ظ) بدل «منفيّ» : «ملقى».

(٥) راجع الصفحة ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٦) في (ظ): «يتبيّن».

٣٣٢

قال في توضيح ذلك :

كلام صاحب الفصول

إنّ مقتضى هذه الروايات : أنّ ماهيّات العبادات عبارة عن الأجزاء المعلومة بشرائطها المعلومة ، فيتبيّن مورد التكليف ويرتفع منها الإجمال والإبهام.

ثمّ أيّد هذا المعنى ، بل استدلّ عليه ، بفهم العلماء منها ذلك ، حيث قال :

إنّ من الاصول المعروفة عندهم ما يعبّر عنه ب «أصالة العدم» ، و «عدم الدليل دليل العدم» ، ويستعملونه في نفي الحكم التكليفيّ والوضعيّ ، ونحن قد تصفّحنا فلم نجد لهذا الأصل مستندا يمكن التمسّك به غير عموم هذه الأخبار ، فتعيّن تعميمها للحكم الوضعيّ ولو بمساعدة أفهامهم ، فيتناول الجزئيّة المبحوث عنها في المقام (١) ، انتهى.

المناقشة فيما أفاده صاحب الفصول

أقول : أمّا ما ادّعاه من عموم تلك الأخبار لنفي غير الحكم الالزاميّ التكليفيّ ، فلولا عدوله عنه في باب البراءة والاحتياط من الأدلّة العقليّة (٢) ، لذكرنا بعض ما فيه : من منع العموم أوّلا ، ومنع كون الجزئيّة أمرا مجعولا شرعيّا غير الحكم التكليفيّ ـ وهو إيجاب المركّب المشتمل على ذلك الجزء ـ ثانيا.

وأمّا ما استشهد به : من فهم الأصحاب وما ظهر له بالتصفّح ، ففيه :

أنّ (٣) ما يظهر للمتصفّح في هذا المقام : أنّ العلماء لم يستندوا في

__________________

(١) الفصول : ٥١.

(٢) انظر الفصول : ٣٦٣.

(٣) في (ص) زيادة : «أوّل».

٣٣٣

الأصلين المذكورين إلى هذه الأخبار.

أمّا «أصل العدم» ، فهو الجاري عندهم في غير الأحكام الشرعيّة أيضا ، من الأحكام اللفظيّة كأصالة عدم القرينة وغيرها (١) ، فكيف يستند فيه بالأخبار المتقدّمة؟

وأمّا «عدم الدليل دليل العدم» ، فالمستند فيه عندهم شيء آخر ، ذكره كلّ من تعرّض لهذه القاعدة ، كالشيخ (٢) وابن زهرة (٣) والفاضلين (٤) والشهيد (٥) وغيرهم (٦) ، ولا اختصاص له بالحكم التكليفي والوضعي (٧).

وبالجملة : فلم نعثر على من يستدلّ بهذه الأخبار في هذين الأصلين :

أمّا رواية الحجب ونظائرها فظاهر.

وأمّا النبويّ المتضمّن لرفع الخطأ والنسيان وما لا يعلمون ، فأصحابنا بين من يدّعي ظهوره في رفع المؤاخذة ولا ينفي به غير الحكم التكليفيّ ـ كأخواته من رواية الحجب وغيرها ـ وهو المحكيّ عن

__________________

(١) لم ترد عبارة «أيضا من ـ إلى ـ وغيرها» في (ظ).

(٢) العدّة ٢ : ٧٥٣.

(٣) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٨٦.

(٤) انظر المعتبر ١ : ٣٢ ، ونهاية الوصول (مخطوط) : ٤٢٤.

(٥) الذكرى ١ : ٥٢ ـ ٥٣.

(٦) كالفاضل التوني في الوافية : ١٩٩ ، وصاحب الحدائق في الحدائق ١ : ٤٥ ، وانظر القوانين ٢ : ١٣ ، ومناهج الأحكام : ٢٠٧.

(٧) لم ترد «ولا اختصاص ـ إلى ـ الوضعي» في (ظ).

٣٣٤

أكثر الاصوليّين ، وبين من يتعدّى عن ذلك إلى الأحكام الغير التكليفيّة (١) ، لكن في موارد وجود الدليل على ثبوت ذلك الحكم وعدم جريان الأصلين المذكورين بحيث لو لا النبويّ لقالوا بثبوت ذلك الحكم. ونظرهم في ذلك إلى : أنّ النبويّ ـ بناء على عمومه لنفي الحكم الوضعي ـ حاكم على تلك الأدلّة المثبتة لذلك الحكم الوضعي.

ومع ما عرفت ، كيف يدّعي أنّ مستند الأصلين المذكورين المتّفق عليهما ، هو هذه الروايات التي ذهب الأكثر إلى اختصاصها بنفي المؤاخذة؟

نعم ، يمكن التمسّك بها ـ أيضا ـ في مورد جريان الأصلين المذكورين ؛ بناء على أنّ صدق رفع أثر هذه الامور أعني الخطأ والنسيان وأخواتهما ، كما يحصل بوجود المقتضي لذلك الأثر (٢) تحقيقا ـ كما في موارد ثبوت الدليل المثبت لذلك الأثر ، الشامل لصورة الخطأ والنسيان (٣) ـ كذلك يحصل بتوهّم ثبوت المقتضي ولو لم يكن عليه دليل ولا له مقتض محقّق.

لكن تصادق بعض موارد الأصلين والرواية مع تباينهما الجزئيّ ، لا يدلّ على الاستناد لهما بها ، بل يدلّ على العدم.

ثمّ إنّ في الملازمة التي صرّح بها في قوله : وإلاّ لدلّت هذه الأخبار على نفي حجّية الطرق الظنّية كخبر الواحد وغيره ، منعا

__________________

(١) تقدّم الكلام عن ذلك في الصفحة ٢٨ ـ ٣١.

(٢) في (ر) ومصحّحة (ص): «الأمر».

(٣) لم ترد «الأثر الشامل ـ إلى ـ والنسيان» في (ه).

٣٣٥

واضحا ، ليس هنا محلّ ذكره ، فافهم (١).

اصول أخر قد يتمسّك بها على لبنختار والمناقشة فيها

واعلم : أنّ هنا اصولا ربما يتمسّك بها على المختار :

منها : أصالة عدم وجوب الأكثر.

وقد عرفت سابقا حالها (٢).

١ ـ أصالة عدم وجوب الأكثر

ومنها : أصالة عدم وجوب الشيء المشكوك في جزئيّته.

٢ ـ أصالة عدم وجوب الشيء المشكوك في جزئيّتة

وحالها حال سابقها بل أردأ ؛ لأنّ الحادث المجعول (٣) هو وجوب المركّب المشتمل عليه ، فوجوب الجزء في ضمن الكلّ عين وجوب الكلّ ، ووجوبه المقدّمي بمعنى اللاّبدّية لازم له غير حادث بحدوث مغاير كزوجيّة الأربعة ، وبمعنى الطلب الغيري حادث مغاير ، لكن لا يترتّب عليه أثر يجدي فيما نحن فيه ؛ إلاّ على القول باعتبار الأصل المثبت ليثبت بذلك كون الماهيّة هي الأقلّ.

٣ ـ أصالة عدم جزئيّتة عدم جزئيّتة الشيء المشكوك

ومنها : أصالة عدم جزئيّة الشيء المشكوك.

وفيه : أنّ جزئيّة الشيء المشكوك ـ كالسورة ـ للمركّب الواقعيّ وعدمها (٤) ، ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم.

وإن اريد : أصالة عدم صيرورة السورة جزء المركّب المأمور (٥)

__________________

(١) وردت في (ظ) بدل «لكنّ تصادق ـ إلى ـ فافهم» : «وهنا يجري الأصلان ، لكن لا حاجة معهما إلى التمسّك بالنبويّ».

(٢) راجع الصفحة ٣٢٤.

(٣) في (ت) ونسخة بدل (ص): «المجهول».

(٤) لم ترد «وعدمها» في (ت).

(٥) في (ه): «لمركّب مأمور» ، وفي (ت): «للمركّب المأمور».

٣٣٦

به ، ليثبت بذلك خلوّ المركّب المأمور به منه ، ومرجعه إلى أصالة عدم الأمر بما يكون هذا جزء منه ، ففيه : ما مرّ من أنّه أصل مثبت.

وإن اريد : أصالة عدم دخل هذا المشكوك في المركّب عند اختراعه له ، الذي هو عبارة عن ملاحظة عدّة أجزاء غير مرتبطة في نفسها شيئا واحدا ، ومرجعها إلى أصالة عدم ملاحظة هذا الشيء مع المركّب المأمور به شيئا واحدا ؛ فإنّ الماهيّات المركّبة لمّا كان تركّبها جعليّا حاصلا بالاعتبار ـ وإلاّ فهي أجزاء لا ارتباط بينها في أنفسها ولا وحدة تجمعها إلاّ باعتبار معتبر ـ توقّف جزئيّة شيء لها على ملاحظته معها واعتبارها مع هذا الشيء أمرا واحدا.

فمعنى جزئيّة السورة للصلاة ملاحظة السورة مع باقي الأجزاء شيئا واحدا ، وهذا معنى اختراع الماهيّات وكونها مجعولة ؛ فالجعل والاختراع فيها من حيث التصوّر والملاحظة ، لا من حيث الحكم حتّى يكون الجزئيّة حكما شرعيّا وضعيّا في مقابل الحكم التكليفيّ ، كما اشتهر في ألسنة جماعة (١) ، إلاّ أن يريدوا بالحكم الوضعي هذا المعنى. وتمام الكلام يأتي في باب الاستصحاب عند ذكر التفصيل بين الأحكام الوضعيّة والأحكام التكليفيّة (٢).

ثمّ إنّه إذا شكّ في الجزئيّة بالمعنى المذكور فالأصل عدمها ، فإذا ثبت عدمها في الظاهر يترتّب عليه كون الماهيّة المأمور بها هي الأقلّ ؛ لأنّ تعيين الماهيّة في الأقلّ يحتاج إلى جنس وجودي ، وهي الأجزاء

__________________

(١) سيأتي ذكرهم في باب الاستصحاب ، مبحث الأحكام الوضعيّة ٣ : ١٢٥.

(٢) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ١٢١ ـ ١٤٨.

٣٣٧

المعلومة ، وفصل عدميّ هو عدم جزئيّة غيرها وعدم ملاحظته معها ، والجنس موجود بالفرض ، والفصل ثابت بالأصل ، فتعيّن المأمور به ، فله وجه (١).

إلاّ أن يقال : إنّ جزئيّة الشيء مرجعها إلى ملاحظة المركّب منه ومن الباقي شيئا واحدا ، كما أنّ عدم جزئيّته راجع إلى ملاحظة غيره من الأجزاء شيئا واحدا ، فجزئيّة الشيء وكلّية المركّب المشتمل عليه مجعول بجعل واحد ، فالشكّ في جزئيّة الشيء شكّ في كلّية الأكثر ، ونفي جزئيّة الشيء نفي لكلّيته ، فإثبات كلّية الأقلّ بذلك إثبات لأحد الضدّين بنفي الآخر ، وليس أولى من العكس.

التمسّك بأصالة عدم التفات الآمر إلى الجزء المشكوك والمناقشة فيه

ومنه يظهر : عدم جواز التمسّك بأصالة عدم التفات الآمر حين تصوّر المركّب إلى هذا الجزء ، حتّى يكون بالملاحظة (٢) شيئا واحدا مركّبا من ذلك ومن باقي الأجزاء ؛ لأنّ هذا ـ أيضا ـ لا يثبت أنّه اعتبر التركيب بالنسبة إلى باقي الأجزاء.

هذا ، مع أنّ أصالة عدم الالتفات لا يجري بالنسبة إلى الشارع المنزه عن الغفلة ، بل لا يجري مطلقا في ما دار أمر الجزء بين كونه جزءا واجبا أو جزءا مستحبّا ، لحصول الالتفات فيه قطعا ، فتأمّل.

__________________

(١) لم ترد : «فله وجه» في (ظ).

(٢) في (ه): «بملاحظته».

٣٣٨

المسألة الثانية

ما إذا كان الشكّ في الجزئيّة ناشئا من إجمال الدليل

الشكّ في الجزئيّتة من جهة إجمال النصّ

كما إذا علّق الوجوب في الدليل اللفظي بلفظ مردّد ـ بأحد أسباب الإجمال ـ بين مركّبين يدخل أقلّهما جزءا تحت الأكثر بحيث يكون الآتي بالأكثر آتيا بالأقلّ.

الإجمال قد يكون في المعنى العرفي وقد يكون في المعنى الشرعي

والإجمال : قد يكون في المعنى العرفيّ ، كأن وجب في الغسل غسل ظاهر البدن ، فيشكّ في أنّ الجزء الفلاني ـ كباطن الاذن أو عكنة (١) البطن ـ من الظاهر أو الباطن.

وقد يكون في المعنى الشرعيّ ، كالأوامر المتعلّقة في الكتاب والسنّة بالصلاة وأمثالها ، بناء على أنّ هذه الألفاظ موضوعة للماهيّة الصحيحة يعني الجامعة لجميع الأجزاء الواقعيّة.

الأقوى جريان أصالة البراءة أيضا

والأقوى هنا أيضا : جريان أصالة البراءة ؛ لعين ما أسلفناه في سابقه من العقل والنقل.

وربما يتخيّل : جريان قاعدة الاشتغال هنا وإن جرت أصالة

__________________

(١) في (ص): «عكن» ، وفي (ظ): «عكرة» ، والعكنة : ما انطوى وتثنّى من لحم البطن سمنا ، والعكرة : من عكر ، أي عطف ورجع ، والمراد من كليهما : انطواء بعض البطن ورجوعه على بعضه الآخر من كثرة السمن.

٣٣٩

تخيّل جريان قاعدة الاشتغال في المسألة

البراءة في المسألة المتقدّمة ؛ لفقد الخطاب التفصيليّ المتعلّق بالأمر المجمل في تلك المسألة ووجوده هنا ، فيجب الاحتياط بالجمع بين محتملات الواجب المجمل ، كما هو الشأن في كلّ خطاب تعلّق بأمر مجمل ؛ ولذا فرّعوا على القول بوضع الألفاظ للصحيح كما هو المشهور ، وجوب الاحتياط في أجزاء العبادات وعدم جواز إجراء أصل البراءة فيها.

دفع التخيّل المذكور

وفيه : أنّ وجوب الاحتياط في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر ممنوع ؛ لأنّ المتيقّن من مدلول هذا الخطاب وجوب الأقلّ بالوجوب المردّد بين النفسيّ والمقدّمي ، فلا محيص عن الإتيان به ؛ لأنّ تركه مستلزم للعقاب ، وأمّا وجوب الأكثر فلم يعلم من هذا الخطاب ، فيبقى مشكوكا ، فيجيء (١) فيه ما مرّ من الدليل العقلي والنقلي.

والحاصل : أنّ مناط وجوب الاحتياط عدم جريان أدلّة البراءة في واحد معيّن من المحتملين ـ لمعارضته بجريانها في المحتمل الآخر ـ حتّى يخرج المسألة بذلك عن مورد البراءة ويجب الاحتياط فيها ؛ لأجل تردّد الواجب المستحقّ على تركه العقاب بين أمرين لا معيّن (٢) لأحدهما ، من غير فرق في ذلك بين وجود خطاب تفصيليّ في المسألة متعلّق بالمجمل وبين وجود خطاب مردّد بين خطابين.

فإذا (٣) فقد المناط المذكور وأمكن البراءة في واحد معيّن ، لم يجب الاحتياط من غير فرق بين الخطاب التفصيليّ وغيره.

__________________

(١) راجع الصفحة ٣١٨ و ٣٢٨.

(٢) في (ت) ، (ر) و (ه): «لا تعيّن».

(٣) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «وإذا».

٣٤٠