فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل

لو كان الاشتباه الموضوعي في شرط من شروط الواجب

أنّه يمكن القول بعدم وجوب الاحتياط في مسألة اشتباه القبلة ونحوها ممّا كان الاشتباه الموضوعيّ في شرط من شروط الواجب ، كالقبلة واللباس وما يصحّ السجود عليه وشبهها ، بناء على دعوى سقوط هذه الشروط عند الاشتباه ؛ ولذا أسقط الحلّي وجوب الستر عند اشتباه الساتر الطاهر بالنجس وحكم بالصلاة عاريا (١) ، بل النزاع فيما كان من هذا القبيل ينبغي أن يكون على هذا الوجه ؛ فإنّ القائل بعدم وجوب الاحتياط ينبغي أن يقول بسقوط الشروط عند الجهل ، لا بكفاية الفعل مع احتمال الشرط ، كالصلاة المحتمل وقوعها إلى القبلة بدلا عن القبلة الواقعيّة.

دعوى سقوط الشرط المجهول لوجهين

ثمّ الوجه في دعوى سقوط الشرط المجهول :

إمّا انصراف أدلّته إلى صورة العلم به تفصيلا ، كما في بعض الشروط نظير اشتراط الترتيب (٢) بين الفوائت.

__________________

(١) السرائر ١ : ١٨٤ و ١٨٥.

(٢) في (ر) ، (ظ) و (ه): «الترتّب».

٣٠١

وإمّا دوران الأمر بين إهمال هذا الشرط المجهول وإهمال شرط آخر ، وهو وجوب مقارنة العمل لوجهه بحيث يعلم بوجوب الواجب وندب المندوب حين فعله ، وهذا يتحقّق مع القول بسقوط الشرط المجهول (١). وهذا هو الذي يظهر من كلام الحلّي.

وكلا الوجهين ضعيفان :

المناقشة في الوجه الأول

أمّا الأوّل : فلأنّ مفروض الكلام ما إذا ثبت الوجوب الواقعي للفعل بهذا الشرط ؛ وإلاّ لم يكن من الشكّ في المكلّف به ؛ للعلم حينئذ بعدم وجوب الصلاة إلى القبلة الواقعيّة المجهولة بالنسبة إلى الجاهل.

المناقشة في الوجه الثاني

وأمّا الثاني : فلأنّ ما دلّ على وجوب مقارنة العمل بقصد وجهه والجزم مع النيّة ، إنّما يدلّ عليه مع التمكّن ، ومعنى التمكّن القدرة على الإتيان به مستجمعا للشرائط جازما بوجهه ـ من الوجوب والندب ـ حين الفعل ، أمّا مع العجز عن ذلك فهو المتعيّن للسقوط ، دون الشرط المجهول الذي أوجب العجز عن الجزم بالنيّة.

والسرّ في تعيّنه (٢) للسقوط هو : أنّه إنّما لوحظ اعتباره في الفعل المستجمع للشرائط ، وليس اشتراطه في مرتبة سائر الشرائط ، بل متأخّر عنه ، فإذا قيّد اعتباره بحال التمكّن سقط حال العجز ، يعني العجز عن إتيان الفعل الجامع للشرائط مجزوما به.

__________________

(١) لم ترد «وهذا ـ إلى ـ المجهول» في (ت) ، (ظ) و (ه).

(٢) كذا في (ت) ، وفي غيرها : «تعيينه».

٣٠٢

الثاني

كيفيّة النيّة في الصلوات المتعدّدة في مسألة اشتباه القبلة ونحوها

أنّ النيّة في كلّ من الصلوات المتعدّدة ، على الوجه المتقدّم في مسألة الظهر والجمعة (١) ، وحاصله : أنّه ينوي في كلّ منهما فعلها احتياطا لإحراز الواجب الواقعيّ المردّد بينها وبين صاحبها تقرّبا إلى الله ، على أن يكون القرب علّة للإحراز الذي جعل غاية للفعل.

ويترتّب على هذا : أنّه لا بدّ من أن يكون حين فعل أحدهما عازما على فعل الآخر ؛ إذ النيّة المذكورة لا تتحقّق بدون ذلك ؛ فإنّ من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصدا لامتثال الواجب الواقعيّ على كلّ تقدير ، نعم هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل له لا مطلقا ، وهذا غير كاف في العبادات المعلوم وقوع التعبّد بها. نعم ، لو احتمل كون الشيء عبادة ـ كغسل الجنابة إن احتمل الجنابة (٢) ـ اكتفى فيه بقصد الامتثال على تقدير تحقّق الأمر به. لكن ليس هنا تقدير آخر يراد (٣) منه التعبّد على ذلك التقدير ، فغاية ما

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٩١.

(٢) لم ترد «إن احتمل الجنابة» في (ه).

(٣) في (ظ): «يريد».

٣٠٣

يمكن قصده هنا : هو التعبّد على طريق الاحتمال. بخلاف ما نحن فيه ممّا علم فيه ثبوت التعبّد بأحد الأمرين ؛ فإنّه لا بدّ فيه من الجزم بالتعبّد.

٣٠٤

الثالث

وجوب كلّ من المحتملات عقليّ لا شرعي

أنّ الظاهر : أنّ وجوب كلّ من المحتملات عقليّ لا شرعيّ ؛ لأنّ الحاكم بوجوبه ليس إلاّ العقل من باب وجوب دفع العقاب المحتمل على تقدير ترك أحد المحتملين ، حتّى أنّه لو قلنا بدلالة أخبار الاحتياط أو الخبر المتقدّم (١) في الفائتة على وجوب ذلك ، كان وجوبه من باب الإرشاد. وقد تقدّم الكلام في ذلك في فروع الاحتياط في الشكّ في التكليف (٢).

وأمّا إثبات وجوب التكرار شرعا في ما نحن فيه بالاستصحاب وحرمة نقض اليقين بغير اليقين شرعا ، فقد تقدّم في المسألة الاولى (٣) : عدم (٤) دلالة الاستصحاب على ذلك إلاّ بناء على أنّ المستصحب يترتّب عليه الامور الاتّفاقيّة المقارنة معه ، وقد تقدّم إجمالا ضعفه (٥)

__________________

(١) المتقدّم في الصفحة ٣٠٠.

(٢) راجع الصفحة ١٠١.

(٣) راجع الصفحة ٢٩٣.

(٤) في (ص) و (ظ): «من جهة عدم» ، وفي (ه): «من عدم».

(٥) راجع الصفحة ٢٩٤.

٣٠٥

وسيأتي تفصيلا (١).

وعلى ما ذكرنا ، فلو ترك المصلّي المتحيّر في القبلة أو الناسي لفائتة جميع المحتملات لم يستحقّ إلاّ عقابا واحدا ، وكذا لو ترك أحد المحتملات واتّفق مصادفته للواجب الواقعيّ ، ولو لم يصادف لم يستحقّ عقابا من جهة مخالفة الأمر به ، نعم قد يقال باستحقاقه العقاب من جهة التجرّي. وتمام الكلام فيه قد تقدّم (٢).

__________________

(١) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ٢٣٣ ـ ٢٣٦.

(٢) راجع الصفحة ٢٣١.

٣٠٦

الرابع

لو انكشفت مطابقة المأتيّ به للواقع قبل فعل الباقي

لو انكشف مطابقة ما أتى به للواقع قبل فعل الباقي أجزأ عنه (١) ؛ لأنّه صلّى الصلاة الواقعيّة قاصدا للتقرّب بها إلى الله وإن لم يعلم حين الفعل أنّ المقرّب هو هذا الفعل ؛ إذ لا فرق بين أن يكون الجزم بالعمل ناشئا عن تكرار الفعل أو ناشئا عن انكشاف الحال.

__________________

(١) كذا في (ت) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرهما : «عنها».

٣٠٧

الخامس

لو كانت محتملات الواجب غير محصورة

لو فرض محتملات الواجب غير محصورة لم يسقط الامتثال في الواجب المردّد باعتبار شرطه كالصلاة إلى القبلة المجهولة وشبهها قطعا ؛ إذ غاية الأمر سقوط الشرط ، فلا وجه لترك المشروط رأسا.

وأمّا في غيره ممّا كان نفس الواجب مردّدا ، فالظاهر ـ أيضا ـ عدم سقوطه ولو قلنا بجواز ارتكاب الكلّ في الشبهة الغير المحصورة ؛ لأنّ فعل الحرام لا يعلم هناك به إلاّ بعد الارتكاب ، بخلاف ترك الكلّ هنا ؛ فإنّه يعلم به مخالفة الواجب الواقعيّ حين المخالفة.

وهل يجوز الاقتصار على واحد ـ إذ به يندفع محذور المخالفة ـ أم يجب الإتيان بما تيسّر من المحتملات؟ وجهان :

من أنّ التكليف بإتيان الواقع ساقط ، فلا مقتضي لإيجاب مقدّماته العلميّة ، وإنّما وجب الإتيان بواحد فرارا من المخالفة القطعيّة.

ومن أنّ اللازم بعد الالتزام بحرمة مخالفة الواقع مراعاته مهما أمكن ؛ وعليه بناء العقلاء في أوامرهم العرفيّة.

والاكتفاء بالواحد التخييريّ عن الواقع إنّما يكون مع نصّ الشارع عليه ، وأمّا مع عدمه وفرض حكم العقل بوجوب مراعاة

٣٠٨

الواقع (١) ، فيجب مراعاته حتّى يقطع بعدم العقاب ؛ إمّا لحصول الواجب ، وإمّا لسقوطه بعدم تيسّر الفعل ، وهذا لا يحصل إلاّ بعد الإتيان بما تيسّر ، وهذا هو الأقوى.

وهذا الحكم مطّرد في كلّ مورد وجد المانع من الإتيان ببعض غير معيّن من المحتملات. ولو طرأ المانع من بعض معيّن منها ، ففي الوجوب ـ كما هو المشهور ـ إشكال ، من عدم العلم بوجود الواجب بين الباقي ، والأصل البراءة.

__________________

(١) كذا في (ت) ، (ظ) ، (ه) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرها : «الواجب».

٣٠٩

السادس

هل يشترط في الامتثال الإجمالي عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي؟

هل يشترط في تحصيل العلم الإجماليّ بالبراءة بالجمع بين المشتبهين ، عدم التمكّن من الامتثال التفصيليّ بإزالة الشبهة و (١) اختياره ما يعلم به البراءة تفصيلا ، أم يجوز الاكتفاء به وإن تمكّن من ذلك ، فيجوز لمن (٢) قدر على تحصيل العلم بالقبلة أو تعيين الواجب الواقعي من القصر والإتمام أو (٣) الظهر والجمعة ، الامتثال بالجمع بين المشتبهات؟ وجهان ، بل قولان :

ظاهر الأكثر : الأوّل ؛ لوجوب اقتران الفعل المأمور به عندهم بوجه الأمر. وسيأتي الكلام في ذلك عند التعرّض لشروط البراءة والاحتياط (٤) إن شاء الله.

لو قدر على العلم التفصيلي من بعض الجهات وعجز عنه من جهة اخرى

ويتفرّع على ذلك : أنّه لو قدر على العلم التفصيليّ من بعض

__________________

(١) كذا في (ر) ، وفي غيرها : «أو».

(٢) كذا في (ص) و (ظ) ، وفي غيرها : «إن».

(٣) في (ت) و (ه): «و».

(٤) انظر الصفحة ٤٠٥.

٣١٠

لو قدر على العلم تفصيلي من بعض الجهات وعجز عنه من جهةٍ اُخرى

الجهات وعجز عنه من جهة اخرى ، فالواجب مراعاة العلم التفصيليّ من تلك الجهة ، فلا يجوز لمن قدر على الثوب الطاهر المتيقّن (١) وعجز عن تعيين القبلة ، تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين إلى أربع جهات ؛ لتمكّنه من العلم التفصيليّ بالمأمور به من حيث طهارة الثوب وإن لم يحصل مراعاة ذلك العلم التفصيليّ على الإطلاق.

__________________

(١) في (ظ): «المتعيّن».

٣١١

السابع

لو كان الواجب المشتبه أمرين مترتّبين شرعا

لو كان الواجب المشتبه أمرين مترتّبين شرعا ، كالظهر والعصر المردّدين بين القصر والإتمام أو بين الجهات الأربع ، فهل يعتبر في صحّة الدخول في محتملات الواجب اللاحق الفراغ اليقينيّ من الأوّل بإتيان جميع محتملاته ، كما صرّح به في الموجز (١) وشرحه (٢) والمسالك (٣) والروض (٤) والمقاصد العليّة (٥) ، أم يكفي فيه فعل بعض محتملات الأوّل ، بحيث يقطع بحصول الترتيب بعد الاتيان بمجموع محتملات المشتبهين ـ كما عن نهاية الإحكام (٦) والمدارك (٧) ـ فيأتي بظهر وعصر قصرا ، ثمّ بهما تماما؟

__________________

(١) انظر الموجز الحاوي (الرسائل العشر لابن فهد) : ٦٦.

(٢) انظر كشف الالتباس (مخطوط) : ١٣٤.

(٣) المسالك ١ : ١٥٨.

(٤) روض الجنان : ١٩٤.

(٥) المقاصد العليّة : ١١٧.

(٦) نهاية الإحكام ١ : ٢٨٢.

(٧) المدارك ٢ : ٣٥٩.

٣١٢

قولان في المسألة

قولان ، متفرّعان على القول المتقدّم في الأمر السادس (١) ـ من وجوب مراعاة العلم التفصيليّ مع الإمكان ـ مبنيّان على أنّه :

هل يجب مراعاة ذلك من جهة نفس الواجب؟ فلا يجب إلاّ إذا أوجب إهماله تردّدا في أصل الواجب ، كتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين إلى أربع جهات ، فإنّه يوجب تردّدا في الواجب زائدا على التردّد الحاصل من جهة اشتباه القبلة ، فكما يجب رفع التردّد مع الإمكان كذلك يجب تقليله.

أمّا إذا لم يوجب إهماله تردّدا زائدا في الواجب فلا يجب ، كما في ما نحن فيه ؛ فإنّ الإتيان بالعصر المقصورة بعد الظهر المقصورة لا يوجب تردّدا زائدا على التردّد الحاصل من جهة القصر والإتمام ؛ لأنّ العصر المقصورة إن كانت مطابقة للواقع كانت واجدة لشرطها ، وهو الترتّب على الظهر ، وإن كانت مخالفة للواقع لم ينفع وقوعها مترتّبة على الظهر الواقعيّة ؛ لأنّ الترتّب (٢) إنّما هو بين الواجبين واقعا.

ومن ذلك يظهر : عدم جواز التمسّك بأصالة بقاء الاشتغال بالظهر وعدم فعل الواجب الواقعيّ ؛ وذلك لأنّ المترتّب على بقاء الاشتغال وعدم فعل الواجب عدم جواز الإتيان بالعصر الواقعيّ ، وهو مسلّم ؛ ولذا لا يجوز الإتيان حينئذ بجميع محتملات العصر ، وهذا المحتمل غير معلوم أنّه العصر الواقعيّ ، والمصحّح للإتيان به هو المصحّح لإتيان محتمل الظهر المشترك معه في الشكّ و (٣) جريان الأصلين فيه.

__________________

(١) راجع الصفحة ٣١٠.

(٢) في (ظ): «الترتيب».

(٣) في (ص) و (ظ) بدل «و» : «في».

٣١٣

أو أنّ الواجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة نفس الخصوصيّة المشكوكة في العبادة وإن لم يوجب إهماله تردّدا في الواجب ، فيجب على المكلّف العلم التفصيليّ عند الإتيان بكون ما يأتي به هو نفس الواجب الواقعي؟

فإذا تعذّر ذلك من بعض الجهات لم يعذر في إهماله من الجهة المتمكّنة ، فالواجب على العاجز عن تعيين (١) كون الصلاة قصرا أو تماما (٢) : العلم التفصيلي بكون المأتيّ به مترتّبا على الظهر ، ولا يكفي العلم بترتّبه على تقدير صحّته.

إذا تحقّق الأمر بأحدهما في الوقت المختصّ

هذا كلّه مع تنجّز الأمر بالظهر والعصر دفعة واحدة في الوقت المشترك ، أمّا إذا تحقّق الأمر بالظهر فقط في الوقت المختصّ ففعل بعض محتملاته ، فيمكن أن يقال بعدم الجواز ؛ نظرا إلى الشكّ في تحقّق الأمر بالعصر ، فكيف يقدّم على محتملاتها التي لا تجب إلاّ مقدّمة لها؟ بل الأصل عدم الأمر ، فلا يشرع الدخول في مقدّمات الفعل.

ويمكن أن يقال : إنّ أصالة عدم الأمر إنّما تقتضي عدم مشروعيّة الدخول في المأمور به ومحتملاته التي يحتمله (٣) على تقدير عدم الأمر واقعا ، كما إذا صلّى العصر إلى غير الجهة التي صلّى الظهر ، أمّا (٤) ما لا يحتمله إلاّ على تقدير وجود الأمر ، فلا يقتضي الأصل المنع عنه ، كما لا يخفى.

__________________

(١) كذا في (ت) ، ولم ترد «تعيين» في (ظ) ، وفي غيرهما : «تعيّن».

(٢) في (ر) و (ه): «إتماما».

(٣) في (ت) و (ه): «تحتمله».

(٤) في (ر) و (ص): «وأمّا».

٣١٤

الثاني

فيما إذا دار الأمر في الواجب بين الأقلّ والأكثر

الجزء المشكوك إمّا جزءُ خارجي وإما جزء ذهني وهو الفيد

ومرجعه إلى الشكّ في جزئيّة شيء للمأمور به وعدمها ، وهو على قسمين ؛ لأنّ الجزء المشكوك :

إمّا جزء خارجي.

أو جزء ذهني وهو القيد ، وهو على قسمين :

لأنّ القيد إمّا منتزع من أمر خارجيّ مغاير للمأمور به في الوجود الخارجي ، فمرجع (١) اعتبار ذلك القيد إلى إيجاب ذلك الأمر الخارجي ، كالوضوء الذي يصير منشأ للطهارة المقيّد بها الصلاة.

وإمّا خصوصيّة متّحدة في الوجود مع المأمور به ، كما إذا دار الأمر بين وجوب مطلق الرقبة أو رقبة خاصّة ، ومن ذلك دوران الأمر بين إحدى الخصال وبين واحدة معيّنة منها.

والكلام في كلّ من القسمين (٢) في أربع مسائل :

__________________

(١) في (ت) و (ه): «فيرجع».

(٢) في (ت) ونسخة بدل (ص): «الأقسام».

٣١٥

أمّا مسائل القسم الأوّل ، وهو الشكّ في الجزء الخارجيّ :

فالاولى منها

أن يكون ذلك مع عدم النصّ المعتبر في المسألة

الشكّ في الجزئيّة من جهة فقدان النصّ

فيكون ناشئا من ذهاب جماعة إلى جزئيّة الأمر الفلانيّ ، كالاستعاذة قبل القراءة في الركعة الاولى ـ مثلا ـ على ما ذهب إليه بعض فقهائنا (١).

وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا ، فصرّح بعض متأخّري المتأخّرين بوجوبه (٢) ، وربما يظهر من كلام بعض القدماء كالسيّد (٣) والشيخ (٤) ، لكن لم يعلم كونه مذهبا لهما ، بل ظاهر كلماتهم (٥) الأخر

__________________

(١) هو المفيد الثاني (ولد الشيخ الطوسي) ، على ما حكاه عنه الشهيد في الذكرى (الطبعة الحجريّة) : ١٩١ ، وانظر مفتاح الكرامة ٢ : ٣٩٩.

(٢) كالمحقّق السبزواري في ذخيرة المعاد : ٢٧٣ ، وشريف العلماء على ما في ضوابط الاصول : ٣٢٦ ، والشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين : ٤٤٩ ، والسيد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٥٢٨.

(٣) انظر الانتصار : ١٤٦ و ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٤) انظر الخلاف ١ : ١٨٢ ، المسألة ١٣٨.

(٥) في (ظ): «كلماته».

٣١٦

خلافه (١).

المشهور إجراء أصالة البراءة في المسألة

وصريح جماعة إجراء أصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط ، والظاهر : أنّه المشهور بين العامّة (٢) والخاصّة ، المتقدّمين منهم والمتأخّرين ، كما يظهر من تتبّع كتب القوم ، كالخلاف (٣) والسرائر (٤) وكتب الفاضلين (٥) والشهيدين (٦) والمحقّق الثاني (٧) ومن تأخّر عنهم (٨).

بل الإنصاف : أنّه لم أعثر في كلمات من تقدّم على المحقّق السبزواريّ ، على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط وإن كان فيهم من يختلف كلامه في ذلك ، كالسيّد (٩) والشيخ (١٠) والشهيد (١١) قدس سرهم.

المختار جريان البراءة

وكيف كان : فالمختار جريان أصل البراءة.

__________________

(١) انظر الذريعة ٢ : ٨٣٣ ، والعدّة ٢ : ٧٥٣.

(٢) راجع الإحكام في اصول الأحكام لابن حزم ٥ : ٤٧ ، وتفسير القرطبي ٦ : ٨٤.

(٣) الخلاف ١ : ٨٥ ، المسألة ٣٥.

(٤) السرائر ١ : ٢٣٢.

(٥) انظر المعارج : ٢١٦ ـ ٢١٧ ، والمعتبر ١ : ٣٢ ، والمختلف ١ : ٤٩٥.

(٦) انظر القواعد والفوائد ١ : ١٣٢ ، والذكرى ١ : ٥٣ ، وتمهيد القواعد : ٢٧١.

(٧) انظر جامع المقاصد ٢ : ٢١٩ و ٣٢٨.

(٨) كالوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية : ٤٤١ ـ ٤٤٢ ، والمحقق القمّي في القوانين ٢ : ٣٠ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٥١ و ٣٥٧ ، والفاضل النراقي في المناهج : ٢٢١.

(٩) كما عرفت من الانتصار والذريعة.

(١٠) كما عرفت من الخلاف والعدّة.

(١١) في (ر) و (ص): «بل الشهيدين» وفي (ظ): «بل الشهيد».

٣١٧

لنا على ذلك : حكم العقل وما ورد من النقل.

الاستدلال عليه من العقل

أمّا العقل : فلاستقلاله بقبح مؤاخذة من كلّف بمركّب لم يعلم من أجزائه إلاّ عدّة أجزاء ، ويشكّ في أنّه هو هذا أو له جزء آخر وهو الشيء الفلانيّ ، ثمّ بذل جهده في طلب الدليل على جزئيّة ذلك الأمر فلم يقتدر ، فأتى بما علم وترك المشكوك ، خصوصا مع اعتراف المولى بأنّي ما نصبت لك عليه دلالة ، فإنّ القائل بوجوب الاحتياط لا ينبغي أن يفرّق في وجوبه بين أن يكون الآمر لم ينصب دليلا أو نصب واختفى ، غاية الأمر : أنّ ترك النصب من الآمر قبيح ، وهذا لا يرفع التكليف بالاحتياط عن المكلّف.

فإن قلت : إنّ بناء العقلاء على وجوب الاحتياط في الأوامر العرفيّة الصادرة من الأطبّاء أو الموالي ؛ فإنّ الطبيب إذا أمر المريض بتركيب معجون فشكّ في جزئيّة شيء له مع العلم بأنّه غير ضارّ له ، فتركه المريض مع قدرته عليه ، استحقّ اللوم. وكذا المولى إذا أمر عبده بذلك.

قلت : أمّا أوامر الطبيب ، فهي إرشاديّة ليس المطلوب فيها إلاّ إحراز الخاصيّة المترتّبة على ذات المأمور به ، ولا نتكلّم فيها من حيث الإطاعة والمعصية ؛ ولذا لو كان بيان ذلك الدواء بجملة خبريّة غير طلبيّة (١) ، كان اللازم مراعاة الاحتياط فيها وإن لم يترتّب على مخالفته وموافقته ثواب أو عقاب ، والكلام في المسألة من حيث قبح عقاب الآمر على مخالفة المجهول وعدمه.

__________________

(١) في (ظ) بدل «غير طلبيّة» : «مجملة».

٣١٨

قبح المؤاخذة إذا عجز العبد عن تحصيل العلم بجزء

وأمّا أوامر الموالي الصادرة بقصد الإطاعة ، فنلتزم (١) فيها بقبح المؤاخذة إذا عجز العبد عن تحصيل العلم بجزء فاطّلع عليه المولى وقدر على رفع جهله ولو على بعض الوجوه الغير المتعارفة إلاّ أنّه اكتفى بالبيان المتعارف فاختفى على العبد لبعض العوارض.

نعم ، قد يأمر المولى بمركّب يعلم أنّ المقصود منه تحصيل عنوان يشكّ في حصوله إذا أتى بذلك المركّب بدون ذلك الجزء المشكوك ، كما إذا أمر بمعجون وعلم أنّ المقصود منه إسهال الصفراء ، بحيث كان هو المأمور به في الحقيقة أو علم أنّه الغرض من المأمور به ، فإنّ تحصيل العلم بإتيان المأمور به لازم ، كما سيجيء في المسألة الرابعة (٢).

فإن قلت : إنّ الأوامر الشرعيّة كلّها من هذا القبيل ؛ لابتنائها على مصالح في المأمور به ، فالمصلحة فيها إمّا من قبيل العنوان في المأمور به أو من قبيل الغرض.

وبتقرير آخر : المشهور بين العدليّة أنّ الواجبات الشرعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة ، فاللطف إمّا هو المأمور به حقيقة أو غرض للآمر ، فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف ، ولا يحصل إلاّ بإتيان كلّ ما شكّ في مدخليّته.

عدم ابتناء مسألة البراءة والاحتياط على مسألة اللطف

قلت : أوّلا : مسألة البراءة والاحتياط غير مبنيّة (٣) على كون كلّ واجب فيه مصلحة وهو لطف في غيره ، فنحن نتكلّم فيها على مذهب

__________________

(١) كذا في (ت) و (ه) ، وفي (ر) و (ص): «فيلتزم».

(٢) انظر الصفحة ٣٥٢.

(٣) في (ت) و (ص): «غير مبتنية».

٣١٩

الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح (١) ، أو (٢) مذهب بعض العدليّة المكتفين بوجود المصلحة في الأمر وإن لم يكن في المأمور به (٣).

اللطف إنّما هو في الإتيان على وجه الامتثال

وثانيا : إنّ نفس الفعل من حيث هو ، ليس لطفا ؛ ولذا لو اتي به لا على وجه الامتثال لم يصحّ ولم يترتّب عليه لطف ولا أثر آخر من آثار العبادة الصحيحة ، بل اللطف إنّما هو في الإتيان به على وجه الامتثال ، وحينئذ : فيحتمل أن يكون اللطف منحصرا في امتثاله التفصيلي مع معرفة وجه الفعل ليوقع الفعل على وجهه ـ فإنّ من صرّح من العدليّة (٤) بكون العبادات السمعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة ، قد صرّح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به ـ وهذا متعذّر فيما نحن فيه ؛ لأنّ الآتي بالأكثر لا يعلم أنّه الواجب أو الأقلّ المتحقّق في ضمنه ؛ ولذا صرّح بعضهم كالعلاّمة رحمه‌الله (٥) ويظهر من آخر منهم (٦) : وجوب تميّز الأجزاء الواجبة من المستحبّات ليوقع كلا على وجهه.

__________________

(١) في (ت) و (ه) زيادة : «رأسا».

(٢) في (ر) و (ص) زيادة : «على».

(٣) انظر الفصول : ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(٤) كالعلاّمة قدس‌سره ، انظر كشف المراد : ٣٤٨ (المسألة الثانية في وجوب البعثة) ، و ٤٠٨ (المسألة الخامسة في الثواب والعقاب) ، وكذا المحقّق الثاني في جامع المقاصد ١ : ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(٥) قواعد الأحكام ١ : ٢٦٩.

(٦) كالمحقّق الثاني في جامع المقاصد ٢ : ٢٢١ ، وانظر مفتاح الكرامة ٢ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

٣٢٠