فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

المحصور وحمل أخبار المنع على المحصور.

المناقشة في هذا الاستدلال

وفيه :

أوّلا : أنّ المستند في وجوب الاجتناب (١) في المحصور هو اقتضاء دليل نفس الحرام المشتبه لذلك بضميمة حكم العقل ، وقد تقدّم بما لا مزيد عليه (٢) : أنّ أخبار حلّ الشبهة لا تشمل صورة العلم الإجمالي بالحرام.

وثانيا : لو سلّمنا شمولها لصورة العلم الإجمالي حتّى تشمل الشبهة الغير المحصورة ، لكنّها تشمل المحصورة أيضا ، وأخبار (٣) وجوب الاجتناب مختصّة بغير الشبهة الابتدائيّة إجماعا ، فهي على عمومها للشبهة الغير المحصورة أيضا أخصّ مطلقا من أخبار الرخصة.

والحاصل : أنّ أخبار الحلّ نصّ في الشبهة الابتدائيّة وأخبار الاجتناب نصّ في الشبهة المحصورة ، وكلا الطرفين ظاهران في الشبهة الغير المحصورة ، فإخراجها عن أحدهما وإدخالها في الآخر ليس جمعا ، بل ترجيحا بلا مرجّح.

إلاّ أن يقال : إنّ أكثر أفراد الشبهة الابتدائيّة ترجع بالأخرة إلى الشبهة الغير المحصورة ؛ لأنّا نعلم إجمالا (٤) غالبا بوجود النجس والحرام

__________________

(١) في (ت) ونسخة بدل (ه): «الاحتياط».

(٢) راجع الصفحة ٢١١ ـ ٢١٢.

(٣) في (ت) و (ه) بدل «الغير ـ إلى ـ وأخبار» : «الغير المحصورة أيضا ، لكنّ أخبار» مع اختلاف.

(٤) لم ترد «إجمالا» في (ر) و (ظ).

٢٦١

في الوقائع المجهولة الغير (١) المحصورة ، فلو اخرجت هذه الشبهة عن أخبار الحلّ لم يبق تحتها من الأفراد إلاّ النادر ، وهو لا يناسب مساق هذه الأخبار ، فتدبّر.

٤ ـ بعض الأخبار في خصوص المسألة

الوجه الرابع : بعض الأخبار الدالّة على أنّ مجرّد العلم بوجود الحرام بين المشتبهات لا يوجب الاجتناب عن جميع ما يحتمل كونه حراما ، مثل ما في (٢) محاسن البرقي ، عن أبي الجارود ، قال :

رواية أبي الجارود

«سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقلت : أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة ، فقال : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم جميع ما في الأرض؟! فما علمت فيه ميتة فلا تأكله ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله إنّي لأعترض السوق فأشتري اللحم والسّمن والجبن ، والله ما أظنّ كلّهم يسمّون ، هذه البربر وهذه السودان ... الخبر» (٣).

فإنّ قوله : «أمن أجل مكان واحد ... الخبر» ظاهر في أنّ مجرّد العلم بوجود الحرام لا يوجب الاجتناب عن محتملاته.

وكذا قوله عليه‌السلام : «والله ما أظنّ كلّهم يسمّون» ؛ فإنّ الظاهر منه إرادة العلم بعدم تسمية جماعة حين الذبح ، كالبربر والسودان.

__________________

(١) في (ت) و (ه): «بغير».

(٢) في (ت) و (ظ): «عن».

(٣) المحاسن ٢ : ٢٩٦ ، الحديث ١٩٧٦ ، والوسائل ١٧ : ٩١ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٥ ، وليست للحديث تتمّة.

٢٦٢

إلاّ أن يدّعى : أنّ المراد أنّ جعل الميتة في الجبن في مكان واحد لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن ، ولا كلام في ذلك ، لا أنّه لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن يحتمل أن يكون من ذلك المكان ، فلا دخل له بالمدّعى.

وأمّا قوله : «ما أظنّ كلّهم يسمّون» ، فالمراد منه عدم وجوب الظنّ أو القطع بالحلّية ، بل يكفي أخذها من سوق المسلمين ؛ بناء على أنّ السوق أمارة شرعيّة لحلّ الجبن المأخوذ منه ولو من يد مجهول الإسلام.

إلاّ أن يقال : إنّ سوق المسلمين غير معتبر مع العلم الإجماليّ بوجود الحرام ، فلا مسوّغ للارتكاب إلاّ كون الشبهة غير محصورة ، فتأمّل.

الوجه الخامس :

٥ ـ أصالة البراءة

أصالة البراءة ؛ بناء على أنّ المانع من إجرائها ليس إلاّ العلم الإجماليّ بوجود الحرام ، لكنّه إنّما يوجب الاجتناب عن محتملاته من باب المقدّمة العلميّة ، التي لا تجب إلاّ لأجل وجوب دفع الضرر وهو العقاب المحتمل في فعل كلّ واحد من المحتملات ، وهذا لا يجري في المحتملات الغير المحصورة ؛ ضرورة أنّ كثرة الاحتمال توجب عدم الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بين المحتملات.

ألا ترى الفرق الواضح بين العلم بوجود السمّ في أحد إناءين أو واحد (١) من ألفي إناء؟ وكذلك بين قذف أحد الشخصين لا بعينه

__________________

(١) كذا في النسخ ، والأنسب : «وواحد».

٢٦٣

وبين قذف واحد من أهل بلد؟ فإنّ الشخصين كليهما (١) يتأثّران بالأوّل ولا يتأثّر أحد من أهل البلد بالثاني.

وكذا الحال : لو أخبر شخص بموت الشخص المردّد بين ولده وشخص آخر ، وبموت المردّد بين ولده وبين كلّ واحد من أهل بلده ؛ فإنّه لا يضطرب خاطره في الثاني أصلا.

وإن شئت قلت : إنّ ارتكاب المحتمل في الشبهة الغير المحصورة لا يكون عند العقلاء إلاّ كارتكاب الشبهة الغير المقرونة بالعلم الإجماليّ.

وكأنّ ما ذكره الإمام عليه‌السلام في الرواية المتقدّمة (٢) من قوله : «أمن أجل مكان واحد ... الخبر» ـ بناء على الاستدلال به ـ إشارة إلى هذا المعنى ؛ حيث إنّه جعل كون حرمة الجبن في مكان واحد منشأ لحرمة جميع محتملاته الغير المحصورة ، من المنكرات المعلومة عند العقلاء التي لا ينبغي للمخاطب أن يقبلها ؛ كما يشهد بذلك كلمة الاستفهام الإنكاريّ. لكن عرفت : أنّ فيه احتمالا آخر يتمّ معه الاستفهام الانكاريّ أيضا (٣).

وحاصل هذا الوجه

وحاصل هذا الوجه : أنّ العقل إذا لم يستقلّ بوجوب دفع العقاب المحتمل عند كثرة المحتملات ، فليس هنا ما يوجب على المكلّف الاجتناب عن كلّ محتمل ، فيكون عقابه حينئذ عقابا من دون برهان ؛

__________________

(١) كذا في (ت) و (ص) ، وفي غيرهما : «كلاهما».

(٢) المتقدّمة في الصفحة ٢٦٢.

(٣) راجع الصفحة السابقة.

٢٦٤

فعلم من ذلك : أنّ الآمر اكتفى في المحرّم المعلوم إجمالا بين المحتملات ، بعدم العلم التفصيليّ بإتيانه ، ولم يعتبر العلم بعدم إتيانه ، فتأمّل.

الوجه السادس :

٦ ـ عدم الابتلاء إلاّ ببعض معيّن

أنّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف إلاّ ببعض معيّن من محتملات الشبهة الغير المحصورة ويكون الباقي خارجا عن محلّ ابتلائه ، وقد تقدّم (١) عدم وجوب الاجتناب في مثله مع حصر الشبهة ، فضلا عن غير المحصورة.

المستفاد من الأدلّة المذكورة

هذا غاية ما يمكن أن يستدلّ به على حكم الشبهة الغير المحصورة ، وقد عرفت : أنّ أكثرها لا يخلو من منع أو قصور ، لكنّ المجموع منها لعلّه يفيد القطع أو الظنّ بعدم وجوب الاحتياط في الجملة. والمسألة فرعيّة يكتفى فيها بالظنّ.

إلاّ أنّ الكلام يقع في موارد :

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٢٦٥

الأوّل

هل يجوز ارتكاب جميع المشتبهات في غير المحصور؟

أنّه (١) هل يجوز ارتكاب جميع المشتبهات في غير المحصورة بحيث يلزم العلم التفصيليّ ، أم يجب إبقاء مقدار الحرام؟

ظاهر إطلاق القول بعدم وجوب الاجتناب هو الأوّل ، لكن يحتمل أن يكون مرادهم عدم وجوب الاحتياط فيه في مقابلة الشبهة المحصورة التي قالوا فيها بوجوب الاجتناب ، وهذا غير بعيد عن مساق كلامهم. فحينئذ لا يعمّ معقد إجماعهم لحكم ارتكاب الكلّ ، إلاّ أنّ الأخبار لو عمّت المقام دلّت على الجواز.

وأمّا الوجه الخامس ، فالظاهر دلالته على جواز الارتكاب ، لكن مع عدم العزم على ذلك من أوّل الأمر ، وأمّا معه فالظاهر صدق المعصية عند مصادفة الحرام ، فيستحقّ العقاب.

فالأقوى في المسألة : عدم جواز الارتكاب إذا قصد ذلك من أوّل الأمر ؛ فإنّ قصده قصد للمخالفة والمعصية ، فيستحقّ العقاب بمصادفة الحرام.

التحقيق عدم جواز ارتكاب الكلّ

والتحقيق : عدم جواز ارتكاب الكلّ ؛ لاستلزامه طرح الدليل الواقعيّ الدالّ على وجوب الاجتناب عن المحرّم الواقعيّ ، كالخمر في قوله : «اجتنب عن الخمر» ؛ لأنّ هذا التكليف لا يسقط من المكلّف مع علمه بوجود الخمر بين المشتبهات ، غاية ما ثبت في غير المحصور :

__________________

(١) في غير (ظ): «في أنّه».

٢٦٦

غاية ما ثبت في غير المحصور الاكتفاء بترك بعض المحتملات

الاكتفاء في امتثاله بترك بعض المحتملات ، فيكون البعض المتروك بدلا ظاهريّا عن الحرام الواقعيّ ؛ وإلاّ فإخراج الخمر الموجود يقينا بين المشتبهات عن عموم قوله : «اجتنب عن كلّ خمر» ، اعتراف بعدم حرمته واقعا ، وهو معلوم البطلان.

هذا إذا قصد الجميع من أوّل الأمر لأنفسها. ولو قصد نفس الحرام من ارتكاب الجميع فارتكب الكلّ مقدّمة له ، فالظاهر استحقاق العقاب ؛ للحرمة (١) من أوّل الارتكاب بناء على حرمة التجرّي.

فصور ارتكاب الكلّ ثلاث ، عرفت كلّها.

__________________

(١) شطب على «للحرمة» في (ت) و (ه).

٢٦٧

الثاني

ضابط المحصور وغير المحصور

القول بأنّ المرجع فيه العرف والمناقشة فيه

اختلف عبارات الأصحاب في بيان ضابط المحصور وغيره : فعن الشهيد والمحقّق الثانيين (١) والميسيّ (٢) وصاحب المدارك (٣) : أنّ المرجع فيه إلى العرف ، فهو : ما (٤). كان غير محصور في العادة ، بمعنى أنّه يعسر عدّه ، لا ما امتنع عدّه ؛ لأنّ كلّ ما يوجد من الأعداد قابل للعدّ والحصر.

المناقشة في هذا القول

وفيه ـ مضافا إلى أنّه إنّما يتّجه إذا كان الاعتماد في عدم وجوب الاجتناب على الإجماع المنقول على جواز الارتكاب في غير المحصور ، أو على تحصيل الإجماع من اتّفاق من عبّر بهذه العبارة الكاشف عن إناطة الحكم في كلام المعصوم عليه‌السلام بها ـ : أنّ تعسّر العدّ غير متحقّق فيما مثّلوا به لغير المحصور كالألف مثلا ؛ فإنّ عدّ الألف لا يعدّ عسرا.

ما ذكره المحقّق الثاني من الضابط والمناقشة فيه

وربما قيّد المحقّق الثاني عسر العدّ بزمان قصير ، قال في فوائد الشرائع ـ كما عن حاشية الإرشاد (٥) ـ بعد أن ذكر أنّ غير المحصور من

__________________

(١) انظر روض الجنان : ٢٢٤ ، وحاشية الإرشاد للمحقّق الثاني (مخطوط) : ٤٠ ، وفوائد الشرائع (مخطوط) : الورقة ٢٤ ، وجامع المقاصد ٢ : ١٦٦.

(٢) الميسيّة للشيخ علي الميسي ، غير مطبوع ، ولم نعثر على مخطوطه ، نعم حكاه عنه في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥٣.

(٣) المدارك ٣ : ٢٥٣.

(٤) كذا في (ص) ، وفي غيرها : «فما».

(٥) حاشية الإرشاد (مخطوط) : ٤٠ ـ ٤١.

٢٦٨

الحقائق العرفيّة :

كلام المحقّق الثاني في فوائد الشرائع

إنّ طريق ضبطه أن يقال : لا ريب أنّه إذا اخذ مرتبة عليا من مراتب العدد كألف مثلا ، قطع بأنّه ممّا لا يحصر ولا يعدّ عادة ؛ لعسر ذلك في الزمان القصير ، فيجعل طرفا ، ويؤخذ مرتبة اخرى دنيا جدّا كالثلاثة يقطع بأنّها محصورة ؛ لسهولة عدّها في الزمان اليسير ، وما بينهما من الوسائط كلّما جرى مجرى الطرف الأوّل الحق به ، وكذا ما جرى مجرى الطرف الثاني الحق به ، وما يعرض فيه الشكّ يعرض على القوانين والنظائر ، ويراجع فيه القلب ، فإن غلب على الظنّ إلحاقه بأحد الطرفين فذاك ، وإلاّ عمل فيه بالاستصحاب إلى أن يعلم الناقل.

وبهذا ينضبط كلّ ما ليس بمحصور شرعا في أبواب الطهارة والنكاح وغيرهما (١).

أقول : وللنظر فيما ذكره قدس‌سره مجال.

المناقشة فيما أفادة المحقّق الثاني

أمّا أوّلا : فلأنّ جعل الألف من غير المحصور مناف لما علّلوا عدم وجوب الاجتناب به : من لزوم العسر في الاجتناب ؛ فإنّا إذا فرضنا بيتا عشرين ذراعا في عشرين ذراعا ، وعلم بنجاسة جزء يسير منه يصحّ السجود عليه نسبته إلى البيت نسبة الواحد إلى الألف ، فأيّ عسر في الاجتناب عن هذا البيت والصلاة في بيت آخر؟ وأيّ فرق بين هذا الفرض ، وبين أن يعلم بنجاسة ذراع منه أو ذراعين ممّا يوجب حصر الشبهة؟ فإنّ سهولة الاجتناب وعسره لا يتفاوت بكون المعلوم إجمالا قليلا أو كثيرا. وكذا لو فرضنا أوقية من الطعام تبلغ ألف حبّة بل أزيد

__________________

(١) فوائد الشرائع (مخطوط) : الورقة ٢٤.

٢٦٩

يعلم بنجاسة أو غصبيّة حبّة منها ، فإنّ جعل هذا من غير المحصور ينافي تعليل الرخصة فيه بتعسّر الاجتناب.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ظنّ الفقيه بكون العدد المعيّن جاريا مجرى المحصور في سهولة الحصر أو مجرى غيره ، لا دليل عليه.

وأمّا ثالثا : فلعدم استقامة الرجوع في مورد الشكّ إلى الاستصحاب حتّى يعلم الناقل ؛ لأنّه إن اريد استصحاب الحلّ والجواز كما هو الظاهر من كلامه ، ففيه : أنّ الوجه المقتضي لوجوب الاجتناب (١) في المحصور ـ وهو وجوب المقدّمة العلميّة بعد العلم بحرمة الأمر الواقعيّ المردّد بين المشتبهات ـ قائم بعينه في غير المحصور ، والمانع غير معلوم ، فلا وجه للرجوع إلى الاستصحاب.

إلاّ أن يكون نظره إلى ما ذكرنا في الدليل الخامس من أدلّة عدم وجوب الاجتناب (٢) : من أنّ المقتضي لوجوب الاجتناب (٣) في الشبهة الغير المحصورة ـ وهو حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ـ غير موجود ، وحينئذ فمرجع الشكّ في كون الشبهة محصورة أو غيرها إلى الشكّ في وجود المقتضي للاجتناب ، ومعه يرجع إلى أصالة الجواز.

لكنّك عرفت التأمّل في ذلك الدليل (٤) ، فالأقوى : وجوب الرجوع مع الشكّ إلى أصالة الاحتياط ؛ لوجود المقتضي وعدم المانع.

__________________

(١) في (ظ): «الاحتياط».

(٢) راجع الصفحة ٢٦٣.

(٣) في (ر) ، (ص) و (ظ): «الاحتياط».

(٤) راجع الصفحة ٢٦٥.

٢٧٠

وكيف كان : فما ذكروه : من إحالة غير المحصورة وتميّزه (١) إلى العرف ، لا يوجب إلاّ زيادة التحيّر في موارد الشكّ.

ما ذكره الفاضل الهندي من الضابط والمناقشة فيه

وقال كاشف اللثام في مسألة المكان المشتبه بالنجس : لعلّ الضابط أنّ ما يؤدّي اجتنابه إلى ترك الصلاة غالبا فهو غير محصور ، كما أنّ اجتناب شاة أو امرأة مشتبهة في صقع من الأرض يؤدّي إلى الترك غالبا (٢) ، انتهى. واستصوبه في مفتاح الكرامة (٣).

وفيه : ما لا يخفى من عدم الضبط.

الضابط بنظر المصنّف

ويمكن أن يقال ـ بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس ـ : إنّ غير المحصور ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الإجماليّ الحاصل فيها ؛ ألا ترى : أنّه لو نهى المولى عبده عن المعاملة مع زيد فعامل العبد مع واحد من أهل قرية كبيرة يعلم بوجود زيد فيها ، لم يكن ملوما وإن صادف زيدا؟

وقد ذكرنا : أنّ المعلوم بالإجمال قد يؤثّر مع قلّة الاحتمال ما لا يؤثّر (٤) مع الانتشار وكثرة الاحتمال ، كما قلناه في سبّ واحد مردّد بين اثنين أو ثلاثة ، و (٥) مردّد بين أهل بلدة.

__________________

(١) في (ت) بدل «تميّزه» : «تمييزه» ، وفي (ظ) بدل «غير المحصورة وتميّزه» : «تميّز المحصور عن غيره».

(٢) كشف اللثام ٣ : ٣٤٩.

(٣) مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥٣.

(٤) في (ر) ، (ظ) و (ه): «لا يؤثّره».

(٥) في (ت) و (ص): «أو».

٢٧١

ونحوه : ما إذا علم إجمالا بوجود بعض القرائن الصارفة المختفية لبعض ظواهر الكتاب والسنّة ، أو حصول النقل في بعض الألفاظ ، إلى غير ذلك من الموارد التي لا يعتنى فيها بالعلوم الإجماليّة المترتّب (١) عليها الآثار المتعلّقة بالمعاش والمعاد في كلّ مقام.

وليعلم : أنّ العبرة في المحتملات كثرة وقلّة بالوقائع التي تقع موردا للحكم بوجوب الاجتناب مع العلم التفصيليّ بالحرام ، فإذا علم بحبّة أرز محرّمة أو نجسة في ألف حبّة ، والمفروض أنّ تناول ألف حبّة من الأرز في العادة بعشر لقمات ، فالحرام مردّد بين عشرة محتملات لا ألف محتمل ؛ لأنّ كلّ لقمة يكون فيها الحبّة حرم أخذها ؛ لاشتمالها على مال الغير ، أو مضغها ؛ لكونه مضغا للنجس ، فكأنّه علم إجمالا بحرمة واحدة من عشر لقمات. نعم ، لو اتّفق تناول الحبوب في مقام يكون تناول كلّ حبّة واقعة مستقلّة كان له حكم غير المحصور.

وهذا غاية ما ذكروا أو يمكن أن يذكر في ضابط المحصور وغيره ، ومع ذلك فلم يحصل للنفس وثوق بشيء منها.

إذا شكّ في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة

فالأولى : الرجوع في موارد الشكّ إلى حكم العقلاء بوجوب مراعاة العلم الإجماليّ الموجود في ذلك المورد ؛ فإنّ قوله : «اجتنب عن الخمر» لا فرق في دلالته على تنجّز التكليف بالاجتناب عن الخمر ، بين الخمر المعلوم المردّد بين امور محصورة وبين الموجود المردّد بين امور غير محصورة ، غاية الأمر قيام الدليل في غير المحصورة على اكتفاء الشارع عن الحرام الواقعيّ ببعض محتملاته ، كما تقدّم سابقا (٢).

__________________

(١) في (ت) و (ر): «المترتّبة».

(٢) راجع الصفحة ٢٥٧ ـ ٢٦٥.

٢٧٢

فإذا شكّ في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة ، شكّ في قيام الدليل على قيام بعض المحتملات مقام الحرام الواقعيّ في الاكتفاء عن امتثاله بترك ذلك البعض ، فيجب ترك جميع المحتملات ؛ لعدم الأمن من الوقوع في العقاب بارتكاب البعض.

٢٧٣

الثالث

إذا كان المردّد بين الامور غير المحصورة أفرادا كثيرة

إذا كان المردّد بين الامور الغير المحصورة أفرادا كثيرة نسبة مجموعها إلى المشتبهات كنسبة الشيء إلى الامور المحصورة ، كما إذا علم بوجود خمسمائة شاة محرّمة في ألف وخمسمائة شاة ، فإنّ نسبة مجموع المحرّمات إلى المشتبهات كنسبة الواحد إلى الثلاثة ، فالظاهر أنّه ملحق بالشبهة المحصورة ؛ لأنّ الأمر متعلّق بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة في المثال ، ومحتملات هذا الحرام المتباينة ثلاثة ، فهو كاشتباه الواحد في الثلاثة ، وأمّا ما عدا هذه الثلاثة من الاحتمالات فهي احتمالات لا تنفكّ عن الاشتمال على الحرام (١).

__________________

(١) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ظ) زيادة : «فلا تعارض احتمال الحرمة» ، وشطب عليها في (ت).

٢٧٤

الرابع

أقسام الشكّ في الحرام مع العلم بالحرمة

أنّا ذكرنا في المطلب الأوّل (١) المتكفّل لبيان حكم أقسام الشكّ في الحرام مع العلم بالحرمة : أنّ مسائله أربع : الاولى منها الشبهة الموضوعيّة.

المسائل الثلاث الأخر : اشتباه الحرام بغير الواجب من جهة اشتباه الحكم

وأمّا الثلاث الأخر وهي ما إذا اشتبه الحرام بغير الواجب ؛ لاشتباه الحكم من جهة عدم النصّ ، أو إجمال النصّ ، أو تعارض النصّين

فحكمها يظهر ممّا ذكرنا في الشبهة المحصورة (٢).

لكنّ أكثر ما يوجد من هذه الأقسام الثلاثة هو القسم الثاني ، كما إذا تردّد الغناء المحرّم بين مفهومين بينهما عموم من وجه ؛ فإنّ مادّتي الافتراق من هذا القسم. ومثل ما إذا ثبت بالدليل حرمة الأذان الثالث يوم الجمعة (٣) واختلف في تعيينه (٤). ومثل (٥) قوله عليه‌السلام : «من جدّد قبرا

__________________

(١) راجع الصفحة ١٩٧.

(٢) في (ر) بدل «المحصورة» : «الموضوعيّة».

(٣) كما في رواية حفص : «الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة». الوسائل ٥ : ٨١ ، الباب ٤٩ من أبواب صلاة الجمعة ، الحديث ١ و ٢.

(٤) انظر نفس المصدر ، ذيل الحديث ٢.

(٥) في (ه): «ومثله».

٢٧٥

أو مثّل مثالا فقد خرج عن الإسلام» (١) ؛ حيث قرئ : «جدّد» بالجيم والحاء المهملة والخاء المعجمة ، وقرئ «جدث» بالجيم والثاء المثلّثة (٢).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٨٦٨ ، الباب ٤٣ من أبواب الدفن ، الحديث الأوّل.

(٢) انظر تفصيل الأقوال في الفقيه ١ : ١٢٠ ـ ١٢١ ، ذيل الحديث ٥٧٩ ، والتهذيب ١ : ٤٥٩ ـ ٤٦٠ ، ذيل الحديث ١٤٩٧.

٢٧٦

المطلب الثاني

في اشتباه الواجب بغير الحرام

وهو على قسمين ؛ لأنّ الواجب :

إمّا مردّد بين أمرين متنافيين (١) ، كما إذا تردّد الأمر بين وجوب الظهر والجمعة في يوم الجمعة ، وبين القصر والإتمام في بعض المسائل.

وإمّا مردّد بين الأقلّ والأكثر ، كما إذا تردّدت الصلاة الواجبة بين ذات السورة وفاقدتها ؛ للشكّ في كون السورة جزءا. وليس المثالان الأوّلان من الأقلّ والأكثر ، كما لا يخفى.

واعلم : أنّا لم نذكر في الشبهة التحريميّة من الشكّ في المكلّف به صور دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ مرجع الدوران بينهما في تلك الشبهة (٢) إلى الشكّ في أصل التكليف ؛ لأنّ الأكثر معلوم الحرمة والشكّ في حرمة الأقلّ (٣).

__________________

(١) في (ص): «متباينين».

(٢) في (ظ) زيادة : «بجميع أقسامها».

(٣) كذا في (ت) و (ه) ، وفي (ر) و (ظ) بدل «الأكثر ـ إلى ـ الأقلّ» : «الأقلّ حينئذ معلوم الحرمة والشكّ في حرمة الأكثر».

٢٧٧

أمّا القسم الأوّل

[فيما إذا دار الأمر في الواجب بين المتباينين](١)

فالكلام فيه يقع في مسائل على ما ذكرنا في أوّل الباب ؛ لأنّه إمّا أن يشتبه الواجب بغير الحرام من جهة عدم النصّ المعتبر ، أو إجماله ، أو تعارض النصّين ، أو من جهة اشتباه الموضوع.

__________________

(١) العنوان منّا.

٢٧٨

[المسألة الاولى]

[ما إذا اشتبه الواجب بغيره من جهة عدم النص](١)

الشتباه الواجب بغيره من جهة فقدان النصّ

أمّا الاولى ، فالكلام فيها (٢) : إمّا في جواز المخالفة القطعيّة في غير ما علم ـ بإجماع أو ضرورة ـ حرمتها ، كما في المثالين السابقين (٣) ؛ فإنّ ترك الصلاة فيهما رأسا مخالف للإجماع بل الضرورة ، وإمّا في وجوب الموافقة القطعيّة.

الظاهر حرمة المخالفة القطعيّة والدليل عليه

أمّا الأوّل : فالظاهر حرمة المخالفة القطعيّة ؛ لأنّها معصية عند العقلاء ، فإنّهم لا يفرّقون بين الخطاب المعلوم تفصيلا أو إجمالا في حرمة مخالفته وفي عدّها معصية.

ويظهر من المحقّق الخوانساري : دوران حرمة المخالفة مدار الإجماع ، وأنّ الحرمة في مثل الظهر والجمعة من جهته (٤) ، ويظهر من

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) في النسخ : «فيه».

(٣) في الصفحة ٢٧٧.

(٤) مشارق الشموس : ٢٦٧.

٢٧٩

الفاضل القمّي رحمه‌الله : الميل إليه (١) ، والأقوى ما عرفت (٢).

الأقوى وجوب الموافقة القطعيّة والدليل عليه

وأمّا الثاني : ففيه قولان ، أقواهما (٣) الوجوب ؛ لوجود المقتضي وعدم المانع.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ وجوب الأمر المردّد ثابت في الواقع ، والأمر به على وجه يعمّ العالم والجاهل صادر عن الشارع واصل إلى من علم به تفصيلا ؛ إذ ليس موضوع الوجوب في الأوامر مختصّا بالعالم بها ؛ وإلاّ لزم الدور كما ذكره العلاّمة رحمه‌الله في التحرير (٤) ؛ لأنّ العلم بالوجوب موقوف على الوجوب ، فكيف يتوقّف الوجوب عليه؟

عدم كون الجهل التفصيلي عذرا لا عقلا ولا نقلا

وأمّا المانع ؛ فلأنّ المتصوّر منه ليس إلاّ الجهل التفصيليّ بالواجب ، وهو غير مانع عقلا ولا نقلا.

أمّا العقل ؛ فلأنّ حكمه بالعذر : إن كان من جهة عجز الجاهل عن الإتيان بالواقع ـ حتّى يرجع الجهل إلى فقد شرط من شروط وجود المأمور به ـ فلا استقلال للعقل بذلك ، كما يشهد به جواز التكليف بالمجمل في الجملة ، كما اعترف به غير واحد ممّن قال بالبراءة فيما نحن فيه ، كما سيأتي (٥).

وإن كان من جهة كونه غير قابل لتوجّه (٦) التكليف إليه ، فهو

__________________

(١) القوانين ٢ : ٣٧.

(٢) أي : حرمة المخالفة القطعيّة.

(٣) في (ظ): «أقربهما».

(٤) لم نعثر عليه في التحرير ، نعم ذكره في المنتهى ٤ : ٢٣٠.

(٥) انظر الصفحة ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

(٦) في (ه): «لتوجيه».

٢٨٠