الشيخ مرتضى الأنصاري
المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤
نعم ، قد يدلّ بواسطة بعض الأمارات الخارجيّة ، كما استفيد نجاسة البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء من أمر الشارع بالطهارة عقيبه ؛ من جهة استظهار أنّ الشارع جعل هذا المورد من موارد تقديم الظاهر على الأصل ، فحكم بكون الخارج بولا ، لا أنّه أوجب خصوص الوضوء بخروجه.
وبه يندفع تعجّب صاحب الحدائق من حكمهم بعدم النجاسة فيما نحن فيه وحكمهم بها في البلل ، مع كون كلّ منهما مشتبها حكم عليه ببعض أحكام النجاسة (١).
رواية عمرو ابن شمر |
وأمّا الرواية ، فهي رواية عمرو بن شمر ، عن جابر الجعفيّ ، عن أبي جعفر عليهالسلام : «أنّه أتاه رجل فقال له : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت ، فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر عليهالسلام : لا تأكله ، فقال الرجل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي لأجلها ، فقال له أبو جعفر عليهالسلام : إنّك لم تستخفّ بالفأرة وإنّما استخففت بدينك ، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء» (٢).
الاستدلال برواية عمرو بن شمر على تنجّس الملاقي |
وجه الدلالة : أنّه عليهالسلام جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافا بتحريم الميتة ، ولو لا استلزامه لتحريم ملاقيه لم يكن أكل الطعام استخفافا بتحريم الميتة ؛ فوجوب الاجتناب عن شيء يستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقيه.
الجواب عن الرواية |
لكنّ الرواية ضعيفة سندا. مع أنّ الظاهر من الحرمة فيها النجاسة ؛
__________________
(١) انظر الحدائق ١ : ٥١٤.
(٢) الوسائل ١ : ١٤٩ ، الباب ٥ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢.
لأنّ مجرّد التحريم لا يدلّ على النجاسة فضلا عن تنجّس الملاقي ، وارتكاب التخصيص في الرواية بإخراج ما عدا النجاسات من المحرّمات ، كما ترى ؛ فالملازمة بين نجاسة الشيء وتنجّس ملاقيه ، لا حرمة الشيء وحرمة ملاقيه.
فإن قلت : وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه وإن لم يكن من حيث ملاقاته له ، إلاّ أنّه يصير كملاقيه في العلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة المشتبه الآخر ، فلا فرق بين المتلاقيين في كون كلّ منهما أحد طرفي الشبهة ، فهو نظير ما إذا قسم أحد المشتبهين قسمين وجعل كلّ قسم في إناء.
أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي سليمة عن المعارض |
قلت : ليس الأمر كذلك ؛ لأنّ أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي ـ بالكسر ـ سليم عن معارضة أصالة طهارة المشتبه الآخر ، بخلاف أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي ـ بالفتح ـ فإنّها معارضة بها في المشتبه الآخر.
والسرّ في ذلك : أنّ الشكّ في الملاقي ـ بالكسر ـ ناش عن الشبهة المتقوّمة بالمشتبهين ؛ فالأصل فيهما (١) أصل في الشكّ السببيّ ، والأصل فيه أصل في الشكّ المسبّبي (٢) ، وقد تقرّر في محلّه (٣) : أنّ الأصل في الشكّ السببيّ حاكم (٤) على الأصل في الشكّ المسبّبي (٥) ـ سواء كان مخالفا له ،
__________________
(١) في (ر) ، (ص) ومحتمل (ظ): «فيها».
(٢) في (ظ) و (ه): «المسبّب».
(٣) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ٣٩٤.
(٤) في (ت) ، (ظ) و (ه) زيادة : «ووارد».
(٥) في (ر) ، (ظ) و (ه): «المسبّب».
كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة نجاسة الثوب النجس المغسول به ، أم موافقا له كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة إباحة الشرب ـ ، فما دام الأصل الحاكم الموافق أو المخالف يكون جاريا لم يجر الأصل المحكوم ؛ لأنّ الأوّل رافع شرعيّ للشكّ المسبّب بمنزلة الدليل بالنسبة إليه ، وإذا لم يجر الأصل الحاكم لمعارضته بمثله زال المانع من جريان الأصل في الشكّ المسبّب ووجب الرجوع إليه ؛ لأنّه كالأصل بالنسبة إلى المتعارضين.
ألا ترى : أنّه يجب الرجوع عند تعارض أصالة الطهارة والنجاسة ـ عند تتميم الماء النجس كرّا بطاهر ، وعند غسل المحلّ النجس بماءين مشتبهين بالنجس ـ إلى قاعدة الطهارة ، ولا تجعل القاعدة كأحد المتعارضين؟
نعم ، ربما تجعل معاضدا لأحدهما الموافق لها (١) بزعم كونهما في مرتبة واحدة.
لكنّه توهّم فاسد ؛ ولذا لم يقل أحد في مسألة الشبهة المحصورة بتقديم أصالة الطهارة في المشتبه الملاقى ـ بالفتح ـ لاعتضادها بأصالة طهارة الملاقي ، بالكسر.
التحقيق في تعارض الأصلين الرجوع إلى ما وراءهما من الاصول |
فالتحقيق في تعارض الأصلين مع اتّحاد مرتبتهما لاتّحاد الشبهة الموجبة لهما : الرجوع إلى ما وراءهما من الاصول التي لو كان أحدهما سليما عن المعارض لم يرجع إليه ، سواء كان هذا الأصل مجانسا لهما أو من غير جنسهما كقاعدة الطهارة في المثالين ، فافهم واغتنم.
__________________
(١) كذا في (ت) وهامش (ه) ، وفي غيرهما : «له».
وتمام الكلام في تعارض الاستصحابين إن شاء الله تعالى (١).
نعم ، لو حصل للأصل في هذا الملاقي ـ بالكسر ـ أصل آخر في مرتبته كما لو وجد معه ملاقي المشتبه الآخر ، كانا من الشبهة المحصورة.
ولو كان ملاقاة شيء لأحد المشتبهين قبل العلم الإجمالي وفقد الملاقى ـ بالفتح ـ ثمّ حصل العلم الإجمالي بنجاسة المشتبه الباقي أو المفقود ، قام ملاقيه مقامه في وجوب الاجتناب عنه وعن الباقي ؛ لأنّ أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ معارضة بأصالة الطهارة في المشتبه الآخر ؛ لعدم جريان الأصل في المفقود حتّى يعارضه ؛ لما أشرنا إليه في الأمر الثالث (٢) : من عدم جريان الأصل في ما لا يبتلي به المكلّف ولا أثر له بالنسبة إليه.
فمحصّل ما ذكرنا : أنّ العبرة في حكم الملاقي بكون أصالة طهارته سليمة أو معارضة.
ولو كان العلم الإجمالي قبل فقد الملاقى والملاقاة ففقد ، فالظاهر طهارة الملاقي ووجوب الاجتناب عن صاحب الملاقى ، ولا يخفى وجهه ، فتأمّل جيّدا.
__________________
(١) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ٣٩٣.
(٢) راجع الصفحة ٢٣٣ ـ ٢٣٤.
الخامس
الاضطرار إلى بعض المحتملات لو كان المضطرّ إليه بعضا معيّنا |
لو اضطرّ إلى ارتكاب بعض المحتملات : فإن كان بعضا معيّنا ، فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الباقي إن كان الاضطرار قبل العلم أو معه ؛ لرجوعه إلى عدم تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعيّ ؛ لاحتمال كون المحرّم هو المضطرّ إليه ، وقد عرفت توضيحه في الأمر المتقدّم (١).
وإن كان بعده فالظاهر وجوب الاجتناب عن الآخر ؛ لأنّ الإذن في ترك بعض المقدّمات العلميّة بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعيّ ، يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض المشتبهات.
لو كان المضطرّ إليه بعضا غير معيّن |
ولو كان المضطرّ إليه بعضا غير معيّن ، وجب الاجتناب عن الباقي وإن كان الاضطرار قبل العلم الإجماليّ ؛ لأنّ العلم حاصل بحرمة واحد من امور لو علم حرمته تفصيلا وجب الاجتناب عنه ، وترخيص بعضها على البدل موجب لاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي.
__________________
(١) تقدّم توضيحه في الأمر الثالث ، الصفحة ٢٣٣ ـ ٢٣٤.
فإن قلت : ترخيص ترك بعض المقدّمات دليل على عدم إرادة الحرام الواقعيّ ولا تكليف بما عداه ، فلا مقتضي لوجوب الاجتناب عن الباقي.
قلت : المقدّمة العلميّة مقدّمة للعلم ، واللازم من الترخيص فيها عدم وجوب تحصيل العلم ، لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعيّ رأسا ، وحيث إنّ الحاكم بوجوب تحصيل العلم هو العقل ـ بملاحظة تعلّق الطلب الموجب للعقاب على المخالفة الحاصلة من ترك هذا المحتمل ـ ، كان الترخيص المذكور موجبا للأمن من العقاب على المخالفة الحاصلة من (١) ترك هذا الذي رخّص في تركه ، فيثبت من ذلك تكليف متوسّط بين نفي التكليف رأسا وثبوته متعلّقا بالواقع على ما هو عليه.
وحاصله : ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخّص الشارع في امتثاله منه ، وهو ترك باقي المحتملات. وهذا نظير جميع الطرق الشرعيّة المجعولة للتكاليف الواقعيّة ، ومرجعه إلى القناعة عن الواقع ببعض محتملاته معيّنا كما في الأخذ بالحالة السابقة في الاستصحاب ، أو مخيّرا كما في موارد التخيير.
وممّا ذكرنا تبيّن : أنّ مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم التفصيلي بالأحكام الشرعيّة وعدم وجوب تحصيل العلم الإجمالي (٢) فيها
__________________
(١) كذا في (ظ) ، وفي غيرها بدل «من» : «في» ، وشطب في (ت) و (ه) على : «الحاصلة».
(٢) لم ترد «الإجمالي» في (ظ).
بالاحتياط ـ لمكان الحرج أو قيام الإجماع على عدم وجوبه ـ : أن يرجع في ما عدا البعض المرخّص في ترك الاحتياط فيه أعني موارد الظنّ مطلقا أو في الجملة إلى الاحتياط ، مع أنّ بناء أهل الاستدلال بدليل الانسداد بعد إبطال الاحتياط ووجوب العمل بالظنّ مطلقا أو في الجملة ـ على الخلاف بينهم ـ على الرجوع في غير موارد الظنّ المعتبر إلى الاصول الموجودة في تلك الموارد دون الاحتياط.
نعم ، لو قام بعد بطلان (١) وجوب الاحتياط دليل عقليّ أو إجماع على وجوب (٢) كون الظنّ ـ مطلقا أو في الجملة ـ حجّة وطريقا في الأحكام الشرعيّة ، أو منعوا أصالة وجوب الاحتياط عند الشكّ في المكلّف به ، صحّ ما جروا عليه من الرجوع في موارد عدم وجود هذا الطريق إلى الاصول الجارية في مواردها.
لكنّك خبير : بأنّه لم يقم ولم يقيموا على وجوب اتّباع المظنونات إلاّ بطلان الاحتياط ، مع اعتراف أكثرهم بأنّه الأصل في المسألة وعدم جواز ترجيح المرجوح ، ومن المعلوم أنّ هذا لا يفيد إلاّ جواز مخالفة الاحتياط بموافقة الطرف الراجح في المظنون دون الموهوم ، ومقتضى هذا لزوم الاحتياط في غير المظنونات.
__________________
(١) في (ت) ، (ر) و (ص): «إبطال».
(٢) شطب على «وجوب» في (ص).
السادس
لو كانت المشتبهات ممّا توجد تدريجا |
لو كان المشتبهات ممّا يوجد تدريجا ، كما إذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها بأن تنسى وقتها وإن حفظت عددها ، فيعلم (١) إجمالا أنّها حائض في الشهر ثلاثة أيام مثلا ، فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر ، ويجب على الزوجة أيضا الإمساك عن دخول المسجد وقراءة العزيمة تمام الشهر أم لا؟ وكما إذا علم التاجر إجمالا بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربويّة ، فهل يجب عليه الامساك عمّا لا يعرف حكمه من المعاملات في يومه أو شهره أم لا؟
التحقيق أن يقال : إنّه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد بينها إذا كان الابتلاء دفعة ، وعدمه ؛ لاتّحاد المناط في وجوب الاجتناب.
عدم الابتلاء دفعة في التدريجيّات |
نعم ، قد يمنع الابتلاء دفعة في التدريجيّات ، كما في مثال الحيض ؛ فإنّ تنجّز تكليف الزوج بترك وطء الحائض قبل زمان حيضها ممنوع ؛ فإنّ قول الشارع : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
__________________
(١) في (ت) و (ص): «فتعلم».
يَطْهُرْنَ)(١) ، ظاهر في وجوب الكفّ عند الابتلاء بالحائض ؛ إذ الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء ، فلا يطلب ، فهذا الخطاب كما (٢) أنّه مختصّ بذوي الأزواج ولا يشمل العزّاب إلاّ على وجه التعليق ، فكذلك من لم يبتل بالمرأة الحائض.
ويشكل الفرق بين هذا وبين ما إذا نذر أو حلف على ترك الوطء في ليلة خاصّة ، ثمّ اشتبهت بين ليلتين أو أزيد.
ولكنّ الأظهر هنا وجوب الاحتياط ، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدّمين.
بناء على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجيّة فالظاهر جواز المخالفة القطعيّة |
وحيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجيّة ، فالظاهر جواز المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعيّ بالنسبة إليه ، فالواجب الرجوع في كلّ مشتبه إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه إباحة وتحريما.
فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض ، فيرجع فيه إلى أصالة الإباحة ؛ لعدم جريان استصحاب الطهر. وفي المثال الثاني إلى أصالة الإباحة والفساد ، فيحكم في كلّ معاملة بشكّ في كونها ربويّة بعدم استحقاق العقاب على إيقاع عقدها وعدم ترتّب الأثر عليها ؛ لأنّ فساد الربا ليس دائرا مدار الحكم التكليفيّ ؛ ولذا يفسد في حقّ القاصر بالجهل والنسيان و (٣) الصغر على وجه.
__________________
(١) البقرة : ٢٢٢.
(٢) في (ت): «بهذا الخطاب وكما».
(٣) كذا في (ر) ، وفي غيرها : «أو».
وليس هنا مورد التمسّك بعموم صحّة العقود (١) ؛ للعلم بخروج بعض المشتبهات التدريجيّة عن العموم ؛ لفرض العلم بفساد بعضها ، فيسقط العامّ عن الظهور بالنسبة إليها ، ويجب الرجوع إلى أصالة الفساد.
اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العلم الإجماليّ بين المشتبهات التدريجيّة كما لا يقدح في إجراء الاصول العمليّة فيها ، كذلك لا يقدح في إجراء (٢) الاصول اللفظيّة ، فيمكن التمسّك فيما نحن فيه لصحّة (٣) كلّ واحد من المشتبهات بأصالة العموم ، لكنّ الظاهر الفرق بين الاصول اللفظيّة والعمليّة ، فتأمّل.
__________________
(١) في (ص) و (ظ) زيادة عبارة : «وإن قلنا بالرجوع إلى العامّ عند الشكّ في مصداق ما خرج عنه» ، وفي (ر) زيادة عبارة قريبة منها.
(٢) «إجراء» من (ظ).
(٣) في (ت): «في صحّة» ، وفي (ظ) و (ه): «بصحّة».
السابع
العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة قد ينشأ عن اشتباه المكلّف به وقد يكون من جهة اشتباه المكلّف |
قد عرفت (١) : أنّ المانع من إجراء الأصل في كلّ من المشتبهين بالشبهة المحصورة هو العلم الإجماليّ (٢) المتعلّق بالمكلّف به (٣) ، وهذا العلم قد ينشأ عن اشتباه المكلّف به ، كما في المشتبه بالخمر أو النجس أو غيرهما ، وقد يكون من جهة اشتباه المكلّف ، كما في الخنثى العالم إجمالا بحرمة إحدى لباسي الرجل والمرأة عليه ، وهذا من قبيل ما إذا علم أنّ هذا الإناء خمر أو أنّ هذا الثوب مغصوب.
وقد عرفت في الأمر الأوّل (٤) : أنّه لا فرق بين الخطاب الواحد المعلوم وجود موضوعه بين المشتبهين وبين الخطابين المعلوم وجود موضوع أحدهما بين المشتبهين.
حكم الخنثى |
وعلى هذا فيحرم على الخنثى كشف كلّ من قبليه ؛ لأنّ أحدهما
__________________
(١) راجع الصفحة ٢١١ ـ ٢١٢.
(٢) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «بالتكليف».
(٣) لم ترد «به» في (ر) و (ص).
(٤) راجع الصفحة ٢٢٥.
عورة قطعا ، والتكلّم مع الرجال والنساء إلاّ لضرورة ، وكذا استماع صوتهما وإن جاز للرجال والنساء استماع صوتها بل النظر إليها ؛ لأصالة الحلّ ، بناء على عدم العموم في آية «الغضّ» للرجال (١) وعدم جواز التمسّك بعموم آية «حرمة إبداء الزينة على النساء» (٢) ؛ لاشتباه مصداق المخصّص.
وكذا يحرم عليه التزويج والتزوّج ؛ لوجوب إحراز الرجوليّة في الزوج والانوثيّة في الزوجة ؛ وإلاّ فالأصل (٣) عدم تأثير العقد ووجوب حفظ الفرج.
القول بعدم توجّه الخطابات التكليفيّة المختصّة إليها |
ويمكن أن يقال : بعدم توجّه الخطابات التكليفيّة المختصّة إليها ؛ إمّا لانصرافها إلى غيرها ، خصوصا في حكم اللباس المستنبط ممّا دلّ على حرمة تشبّه كلّ من الرجل والمرأة بالآخر ، وإمّا لاشتراط التكليف بعلم المكلّف بتوجّه الخطاب إليه تفصيلا وإن كان مردّدا بين خطابين موجهين (٤) إليه تفصيلا ؛ لأنّ الخطابين بشخص واحد بمنزلة خطاب واحد لشيئين (٥) ؛ إذ لا فرق بين قوله : «اجتنب عن الخمر» و «اجتنب عن مال الغير» ، وبين قوله : «اجتنب عن كليهما» ، بخلاف الخطابين الموجّهين
__________________
(١) النور : ٣٠.
(٢) النور : ٣١.
(٣) كذا في (ظ) ، وفي (ر) و (ص): «إذ الأصل» ، وفي (ت): «والأصل» ، وفي (ه): «أو الأصل».
(٤) في (ت) و (ه): «متوجّهين».
(٥) في (ت) ومحتمل (ص) و (ظ): «بشيئين».
إلى صنفين يعلم المكلّف دخوله تحت أحدهما.
المناقشة في القول المذكور |
لكن كلّ من الدعويين خصوصا الأخيرة ضعيفة ؛ فإنّ دعوى عدم شمول ما دلّ على وجوب حفظ الفرج عن الزنا أو العورة عن النظر للخنثى ، كما ترى.
وكذا دعوى اشتراط التكليف بالعلم بتوجّه خطاب تفصيليّ ؛ فإنّ المناط في وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة عدم جواز إجراء أصل الإباحة في المشتبهين ، وهو ثابت في ما نحن فيه ؛ ضرورة عدم (١) جريان أصالة الحلّ في كشف كلّ من قبلي الخنثى ؛ للعلم بوجوب حفظ الفرج من النظر والزنا على كلّ أحد ، فمسألة الخنثى نظير المكلّف المردّد بين كونه مسافرا أو حاضرا لبعض الاشتباهات ، فلا يجوز له ترك العمل بخطابهما (٢).
__________________
(١) في غير (ت) زيادة : «جواز».
(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «بخطابيهما».
الثامن
التسوية بين كون الأصل في كلّ واحد من المشتبهين هو الحلّ أو الحرمة |
أنّ ظاهر كلام الأصحاب التسوية بين كون الأصل في كلّ واحد من المشتبهين في نفسه هو الحلّ أو الحرمة ؛ لأنّ المفروض عدم جريان الأصل فيهما ـ لأجل معارضته بالمثل ـ ، فوجوده كعدمه.
ويمكن الفرق من المجوّزين لارتكاب ما عدا مقدار الحرام ، وتخصيص الجواز بالصورة الاولى ، ويحكمون في الثانية بعدم جواز الارتكاب ؛ بناء على العمل بالأصل فيهما ، ولا يلزم هنا مخالفة قطعيّة في العمل ، ولا دليل على حرمتها إذا لم تتعلّق بالعمل ، خصوصا إذا وافق الاحتياط.
إلاّ أنّ استدلال بعض المجوّزين (١) للارتكاب بالأخبار الدالّة على حلّية المال المختلط بالحرام ، ربما يظهر منه التعميم ، وعلى التخصيص فيخرج عن محلّ النزاع ، كما (٢) لو علم بكون إحدى المرأتين أجنبيّة ، أو إحدى الذبيحتين ميتة ، أو أحد المالين مال الغير ، أو أحد الأسيرين
__________________
(١) كالمحقّق القمّي في القوانين ٢ : ٢٦.
(٢) في (ت): «ما».
محقون الدم ، أو كان الإناءان معلومي النجاسة سابقا فعلم طهارة أحدهما.
وربما يقال (١) : إنّ الظاهر أنّ محلّ الكلام في المحرّمات الماليّة ونحوها كالنجس ، لا في الأنفس والأعراض ، فيستظهر (٢) أنّه لم يقل أحد فيها بجواز الارتكاب ؛ لأنّ المنع في مثل ذلك ضروريّ.
وفيه نظر.
__________________
(١) قائله هو الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين : ٢٢١.
(٢) في (ه): «فيظهر».
التاسع
أنّ المشتبه بأحد المشتبهين حكمه حكمهما ؛ لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة ، وهو ظاهر.
المقام الثاني
في الشبهة الغير المحصورة
المعروف عدم وجوب الاجتناب والاستدلال عليه من وجوه : |
والمعروف فيها : عدم وجوب الاجتناب.
ويدلّ عليه وجوه :
الأوّل
الإجماع الظاهر المصرّح به في الروض (١) وعن جامع المقاصد (٢) وادّعاه صريحا المحقّق البهبهانيّ في فوائده ـ وزاد عليه نفي الريب فيه ، وأنّ مدار المسلمين في الأعصار والأمصار عليه (٣) ـ وتبعه في دعوى الإجماع غير واحد ممّن تأخّر عنه (٤) ، وزاد بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة ، وبالجملة : فنقل الإجماع مستفيض ، وهو كاف في المسألة.
الثاني :
٢ ـ لزوم المشقّة في الاجتناب |
ما استدلّ به جماعة (٥) : من لزوم المشقّة في الاجتناب. ولعلّ المراد
__________________
(١) روض الجنان : ٢٢٤.
(٢) جامع المقاصد ٢ : ١٦٦.
(٣) الفوائد الحائريّة : ٢٤٧.
(٤) كصاحب الرياض في الرياض (الطبعة الحجريّة) ٢ : ٢٩٧ ، والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥٣.
(٥) كالمحقّق والشهيد الثانيين ، في جامع المقاصد ٢ : ١٦٦ ، وروض الجنان : ٢٢٤.
به لزومه في أغلب أفراد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين ، فيشمله عموم قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(١) ، وقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٢) ؛ بناء على أنّ المراد أنّ ما كان الغالب فيه الحرج على الغالب فهو مرتفع عن جميع المكلّفين حتّى من لا حرج بالنسبة إليه.
وهذا المعنى وإن كان خلاف الظاهر ، إلاّ أنّه يتعيّن الحمل عليه ؛ بمعونة ما ورد : من إناطة الأحكام الشرعيّة الكلّية (٣) ـ وجودا وعدما ـ بالعسر واليسر الغالبين (٤).
المناقشة في هذا الاستدلال |
وفي هذا الاستدلال نظر ؛ لأنّ أدلّة نفي العسر والحرج من الآيات والروايات لا تدلّ إلاّ على أنّ ما كان فيه ضيق على مكلّف فهو مرتفع عنه ، وأمّا ارتفاع ما كان ضيقا على الأكثر عمّن هو عليه في غاية السهولة ، فليس فيه امتنان على أحد ، بل فيه تفويت مصلحة التكليف من غير تداركها بالتسهيل.
عدم فائدة دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب فيما نحن فيه |
وأمّا ما ورد : من دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب ، فلا ينفع فيما نحن فيه ؛ لأنّ الشبهة الغير المحصورة ليست واقعة واحدة (٥)
__________________
(١) البقرة : ١٨٥.
(٢) الحجّ : ٧٨.
(٣) لم ترد «الكلّية» في (ر) ، ووردت في (ص) بعنوان نسخة بدل.
(٤) انظر الوسائل ٥ : ٢٤٦ ، الباب ١٤ من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ، الحديث الأوّل. و ١٤ : ٧٤ ، الباب ٤٨ من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث الأوّل.
(٥) لم ترد «واحدة» في (ت) و (ه).
حكم فيها بحكم حتّى يدّعى أنّ الحكم بالاحتياط في أغلب مواردها عسر على أغلب الناس ، فيرتفع حكم الاحتياط فيها مطلقا ، بل هي عنوان لموضوعات متعدّدة لأحكام متعدّدة ، والمقتضي للاحتياط في كلّ موضوع هو نفس الدليل الخاصّ التحريميّ الموجود في ذلك الموضوع ، والمفروض أنّ ثبوت التحريم لذلك الموضوع مسلّم ، ولا يرد منه حرج على الأغلب ، وأنّ الاجتناب في صورة اشتباهه أيضا في غاية اليسر ؛ فأيّ مدخل للأخبار الواردة في أنّ الحكم الشرعيّ يتبع الأغلب في اليسر والعسر.
وكأنّ المستدلّ بذلك ، جعل الشبهة الغير المحصورة واقعة واحدة مقتضى الدليل فيها وجوب الاحتياط لو لا العسر ، لكن لمّا تعسّر الاحتياط في أغلب الموارد على أغلب الناس حكم بعدم وجوب الاحتياط كلّية.
وفيه : أنّ دليل الاحتياط في كلّ فرد من الشبهة ليس إلاّ دليل حرمة ذلك الموضوع.
نعم ، لو لزم الحرج من جريان حكم العنوان المحرّم الواقعيّ في خصوص مشتبهاته الغير المحصورة على أغلب المكلّفين في أغلب الأوقات ـ كأن يدّعى : أنّ الحكم بوجوب الاجتناب (١) عن النجس الواقعيّ مع اشتباهه في امور غير محصورة ، يوجب الحرج الغالبيّ ـ أمكن التزام ارتفاع وجوب الاحتياط في خصوص النجاسة المشتبهة.
لكن لا يتوهّم (٢) من ذلك : اطّراد الحكم بارتفاع التحريم في الخمر
__________________
(١) في (ر) ، (ه) ونسخة بدل (ص): «الاحتياط».
(٢) في (ظ): «لا يلزم».
المشتبه بين مائعات غير محصورة ، والمرأة المحرّمة المشتبهة في ناحية مخصوصة ، إلى غير ذلك من المحرّمات.
ولعلّ كثيرا ممّن تمسّك في هذا المقام بلزوم المشقّة أراد المورد الخاصّ ، كما ذكروا ذلك في الطهارة والنجاسة.
عدم لزوم الحرج في الاجتناب عن الشبهة غير المحصورة |
هذا كلّه ، مع أنّ لزوم الحرج في الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة التي يقتضي الدليل المتقدّم (١) وجوب الاحتياط فيها ، ممنوع.
ووجهه : أنّ كثيرا من الشبهات الغير المحصورة لا يكون جميع المحتملات فيها (٢) مورد ابتلاء (٣) المكلّف ، ولا يجب الاحتياط في مثل هذه الشبهة وإن كانت محصورة كما أوضحناه سابقا (٤) ، وبعد إخراج هذا عن محلّ الكلام فالإنصاف : منع غلبة التعسّر في الاجتناب.
٣ ـ أخبار الحل |
الوجه الثالث : الأخبار الدالّة على حلّية كلّ ما لم يعلم حرمته (٥) ؛ فإنّها بظاهرها وإن عمّت الشبهة المحصورة ، إلاّ أنّ مقتضى الجمع بينها وبين ما دلّ على وجوب الاجتناب بقول مطلق (٦) ، هو حمل أخبار الرخصة على غير
__________________
(١) أي دليل لزوم المشقّة المتقدّم في الصفحة ٢٥٧.
(٢) «فيها» من (ص) و (ظ) ، ووردت بدلها في (ت) و (ه): «منها».
(٣) في (ت) و (ه): «موردا لابتلاء».
(٤) راجع الصفحة ٢٣٣ ـ ٢٣٤.
(٥) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١ ، ٢ و ٤.
(٦) الوسائل ١٨ : ١١١ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢ ، ٩ و ١٣.