فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» (١) ، وغير ذلك (٢) ، بناء على أنّ هذه الأخبار كما دلّت على حلّية المشتبه مع عدم العلم الإجماليّ وإن كان محرّما في علم الله سبحانه ، كذلك دلّت على حلّية المشتبه مع العلم الإجماليّ.

ويؤيّده : إطلاق الأمثلة المذكورة في بعض هذه الروايات ، مثل الثوب المحتمل للسرقة والمملوك المحتمل للحرّية والمرأة المحتملة للرضيعة ؛ فإنّ إطلاقها يشمل الاشتباه مع العلم الإجمالي ، بل الغالب ثبوت العلم الإجماليّ ، لكن مع كون الشبهة غير محصورة.

عدم صلاحيّة أخبار «الحلّ» للمنع عن الحرمة

ولكن هذه الأخبار وأمثالها لا تصلح للمنع ؛ لأنّها كما تدلّ على حلّية كلّ واحد من المشتبهين ، كذلك تدلّ على حرمة ذلك المعلوم إجمالا ؛ لأنّه أيضا شيء علم حرمته.

فإن قلت : إنّ غاية الحلّ معرفة الحرام بشخصه ولم يتحقّق في المعلوم الإجماليّ.

ما هو غاية الحلّ في أخبار «الحلّ»؟

قلت : أمّا قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء (٣) حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» فلا يدلّ على ما ذكرت ؛ لأنّ قوله عليه‌السلام : «بعينه» تأكيد للضمير جيء به للاهتمام في اعتبار العلم ، كما يقال : «رأيت زيدا نفسه بعينه» (٤) لدفع توهّم وقوع الاشتباه في الرؤية ؛ وإلاّ فكلّ شيء علم حرمته فقد

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٢) يعني أخبار البراءة المتقدّمة في الصفحة ٢٨ و ٤١ ـ ٤٤.

(٣) في (ت) والمصدر زيادة : «لك».

(٤) لم ترد «نفسه» في (ر) و (ص) ، ولم ترد «بعينه» في (ظ).

٢٠١

علم حرمته بعينه (١) ، فإذا علم نجاسة إناء زيد وطهارة إناء عمرو فاشتبه الإناءان ، فإناء زيد شيء علم حرمته بعينه.

نعم ، يتّصف هذا المعلوم المعيّن بكونه لا بعينه إذا اطلق عليه عنوان «أحدهما» فيقال : أحدهما لا بعينه ، في مقابل أحدهما المعيّن عند القائل.

وأمّا قوله عليه‌السلام : «فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» ، فله ظهور في ما ذكر ؛ حيث إنّ قوله : «بعينه» قيد للمعرفة ، فمؤدّاه اعتبار معرفة الحرام بشخصه ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ إذا أمكنت الإشارة الحسّية إليه ، و (٢) إناء زيد المشتبه بإناء عمرو في المثال وإن كان معلوما بهذا العنوان إلاّ أنّه مجهول باعتبار الامور المميّزة له في الخارج عن إناء عمرو ، فليس معروفا بشخصه.

إلاّ أنّ إبقاء الصحيحة على هذا الظهور يوجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه ، مثل قوله : «اجتنب عن الخمر» ؛ لأنّ الإذن في كلا المشتبهين ينافي المنع عن عنوان مردّد بينهما ، ويوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم إجمالا في متن الواقع ، وهو ممّا يشهد الاتّفاق والنصّ على خلافه ، حتّى نفس هذه الأخبار ، حيث إنّ مؤدّاها ثبوت الحرمة الواقعيّة للأمر المشتبه.

فإن قلت : مخالفة الحكم الظاهريّ للحكم الواقعيّ لا يوجب ارتفاع الحكم الواقعيّ ، كما في الشبهة المجرّدة عن العلم الإجماليّ ، مثلا

__________________

(١) كذا في (ظ) ، وفي غيرها بدل «حرمته بعينه» : «حرمة نفسه».

(٢) في (ر) و (ص) زيادة : «أمّا».

٢٠٢

قول الشارع : «اجتنب عن الخمر» شامل للخمر الواقعيّ الذي لم يعلم به المكلّف ولو إجمالا ، وحلّيته في الظاهر لا يوجب خروجه عن العموم المذكور حتّى لا يكون حراما واقعيّا ، فلا ضير في التزام ذلك في الخمر الواقعيّ المعلوم إجمالا.

قبح جعل الحكم الظاهري مع علم المكلّف بمخالفته للحكم الواقعي

قلت : الحكم الظاهريّ لا يقدح مخالفته للحكم الواقعيّ في نظر الحاكم مع جهل المحكوم بالمخالفة ؛ لرجوع ذلك إلى معذوريّة المحكوم الجاهل كما في أصالة البراءة ، وإلى (١) بدليّة الحكم الظاهريّ عن الواقع أو كونه طريقا مجعولا إليه ، على الوجهين في الطرق الظاهريّة المجعولة.

وأمّا مع علم المحكوم بالمخالفة فيقبح من الجاعل جعل كلا الحكمين ؛ لأنّ العلم بالتحريم يقتضي وجوب الامتثال بالاجتناب عن ذلك المحرّم ، فإذن الشارع في فعله ينافي حكم العقل بوجوب الإطاعة.

فإن قلت : إذن الشارع في فعل المحرّم مع علم المكلّف بتحريمه إنّما ينافي حكم العقل من حيث إنّه إذن في المعصية والمخالفة ، وهو إنّما يقبح مع علم المكلّف بتحقّق المعصية حين ارتكابها ، والإذن في ارتكاب المشتبهين ليس كذلك إذا كان على التدريج ، بل هو إذن في المخالفة مع عدم علم المكلّف بها إلاّ بعدها ، وليس في العقل ما يقبّح ذلك ؛ وإلاّ لقبّح الإذن في ارتكاب جميع المشتبهات بالشبهة الغير المحصورة ، أو في ارتكاب مقدار يعلم عادة بكون الحرام فيه ، وفي ارتكاب الشبهة المجرّدة التي يعلم المولى اطّلاع العبد بعد الفعل على كونه معصية ، وفي الحكم بالتخيير الاستمراريّ بين الخبرين أو فتوى المجتهدين.

__________________

(١) في (ص): «أو إلى».

٢٠٣

قلت : إذن الشارع في أحد المشتبهين ينافي ـ أيضا ـ حكم العقل بوجوب امتثال التكليف المعلوم المتعلّق بالمصداق المشتبه ؛ لإيجاب العقل حينئذ الاجتناب عن كلا المشتبهين.

نعم ، لو أذن الشارع في ارتكاب أحدهما مع جعل الآخر بدلا عن الواقع في الاجتزاء بالاجتناب عنه جاز ، فإذن الشارع في أحدهما لا يحسن إلاّ بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر بدلا ظاهريّا عن الحرام الواقعيّ ، فيكون المحرّم الظاهريّ هو أحدهما على التخيير وكذا المحلّل الظاهريّ ، ويثبت المطلوب وهو حرمة المخالفة القطعيّة بفعل كلا المشتبهين.

وحاصل معنى تلك الصحيحة : أنّ كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، حتّى تعرف أنّ في ارتكابه فقط أو في ارتكابه المقرون مع ارتكاب غيره ارتكابا للحرام ، والأوّل في العلم التفصيليّ والثاني في العلم الإجماليّ.

فإن قلت : إذا فرضنا المشتبهين ممّا لا يمكن ارتكابهما إلاّ تدريجا ، ففي زمان ارتكاب أحدهما يتحقّق الاجتناب عن الآخر قهرا ، فالمقصود من التخيير وهو ترك أحدهما حاصل مع الإذن في ارتكاب كليهما ؛ إذ لا يعتبر في ترك الحرام القصد ، فضلا عن قصد الامتثال.

وجوب الاحتياط فيما لا يرتكب إلاّ تدريجا أيضا

قلت : الإذن في فعلهما في هذه الصورة ـ أيضا ـ ينافي الأمر بالاجتناب عن العنوان الواقعيّ المحرّم ؛ لما تقدّم : من أنّه مع وجود دليل حرمة ذلك العنوان المعلوم وجوده في المشتبهين لا يصحّ الإذن في أحدهما إلاّ بعد المنع عن الآخر بدلا عن المحرّم الواقعيّ ، ومعناه المنع عن فعله بعده ؛ لأنّ هذا هو الذي يمكن أن يجعله الشارع بدلا عن

٢٠٤

الحرام الواقعيّ حتّى لا ينافي أمره بالاجتناب عنه ؛ إذ (١) تركه في زمان فعل الآخر لا يصلح أن يكون بدلا (٢) ، وحينئذ (٣) : فإن منع في هذه الصورة عن واحد من الأمرين المتدرّجين في الوجود لم يجز ارتكاب الثاني بعد ارتكاب الأوّل ؛ وإلاّ لغى المنع المذكور.

فإن قلت : الإذن في أحدهما يتوقّف على المنع عن الآخر في نفس تلك الواقعة بأن لا يرتكبهما (٤) دفعة ، والمفروض امتناع ذلك في ما نحن فيه من غير حاجة إلى المنع ، ولا يتوقّف على المنع عن الآخر بعد ارتكاب الأوّل ، كما في التخيير الظاهريّ الاستمراريّ.

قلت : تجويز ارتكابهما من أوّل الأمر ـ ولو تدريجا ـ طرح لدليل حرمة الحرام الواقعيّ ، والتخيير الاستمراريّ في مثل ذلك ممنوع ، والمسلّم منه ما إذا لم يسبق التكليف بمعيّن (٥) أو سبق (٦) التكليف (٧) بالفعل حتّى يكون المأتيّ به في كلّ دفعة بدلا عن المتروك على تقدير وجوبه ، دون العكس بأن يكون المتروك في زمان الإتيان بالآخر بدلا عن المأتيّ به على تقدير حرمته ، وسيأتي تتمّة ذلك في الشبهة الغير المحصورة (٨).

__________________

(١) في (ر) و (ص): «أمّا».

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «عن حرمته».

(٣) كذا في (ت) ، (ظ) وهامش (ه) ، وفي غيرها : «فحينئذ».

(٤) في (ت): «يرتكبهما».

(٥) في (ر) و (ص): «بالتكليف المعيّن» ، وفي (ظ): «بالتكليف بمعيّن».

(٦) في (ر) ، (ص) و (ه): «يسبق».

(٧) في (ت) ، (ر) و (ظ): «تكليف».

(٨) انظر الصفحة ٢٤٨.

٢٠٥

توهّم وجود المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي في الشرعيّات

فإن قلت : إنّ المخالفة القطعيّة للعلم الإجماليّ فوق حدّ الاحصاء في الشرعيّات ، كما في الشبهة الغير المحصورة ، وكما لو قال القائل في مقام الإقرار : هذا لزيد بل لعمرو ، فإنّ الحاكم يأخذ المال لزيد وقيمته لعمرو ، مع أنّ أحدهما أخذ للمال بالباطل ، وكذا يجوز للثالث أن يأخذ المال من يد زيد وقيمته من يد عمرو ، مع علمه بأنّ أحد الأخذين تصرّف في مال الغير بغير إذنه. ولو قال : هذا لزيد بل لعمرو بل لخالد ، حيث إنّه يغرم لكلّ من عمرو وخالد تمام القيمة ، مع أنّ حكم الحاكم باشتغال ذمّته بقيمتين مخالف للواقع قطعا.

وأيّ فرق بين قوله عليه‌السلام : «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (١) ، وبين أدلّة حلّ ما لم يعرف كونه حراما (٢) ، حتّى أنّ الأوّل يعمّ الإقرارين المعلوم مخالفة أحدهما للواقع ، والثاني لا يعمّ الشيئين المعلوم حرمة أحدهما؟

وكذلك لو تداعيا عينا في موضع يحكم بتنصيفها بينهما ، مع العلم بأنّها ليست إلاّ لأحدهما.

وذكروا ـ أيضا ـ في باب الصلح : أنّه لو كان لأحد المودعين (٣) درهم وللآخر درهمان ، فتلف عند الودعيّ أحد الدراهم ، فإنّه يقسّم أحد الدرهمين الباقيين بين المالكين ، مع العلم الإجماليّ بأنّ دفع أحد النصفين دفع للمال إلى غير صاحبه.

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ١١١ ، الباب ٣ من كتاب الإقرار ، الحديث ٢.

(٢) تقدّمت أخبار الحلّ في الصفحة ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٣) في (ت) ، (ر) و (ص): «الودعيّين».

٢٠٦

وكذا لو اختلف المتبايعان في المبيع أو الثمن وحكم بالتحالف وانفساخ البيع ، فإنّه يلزم مخالفة العلم الإجمالي بل التفصيلي في بعض الفروض ، كما لا يخفى.

الجواب عن التوهّم المذكور

قلت : أمّا الشبهة الغير المحصورة فسيجيء وجه جواز المخالفة فيها (١).

وأمّا الحاكم فوظيفته أخذ ما يستحقّه المحكوم له على المحكوم عليه بالأسباب الظاهريّة ، كالإقرار والحلف والبيّنة وغيرها ، فهو قائم مقام المستحقّ في أخذ حقّه ، ولا عبرة بعلمه الإجماليّ.

نظير ذلك : ما إذا أذن المفتي لكلّ واحد من واجدي المنيّ في الثوب المشترك في دخول المسجد ، فإنّه إنّما يأذن كلاّ منهما بملاحظة تكليفه في نفسه ، فلا يقال : إنّه يلزم من ذلك إذن الجنب في دخول المسجد وهو حرام.

وأمّا غير الحاكم ممّن اتّفق له أخذ المالين من الشخصين المقرّ لهما في مسألة الإقرار ، فلا نسلّم جواز أخذه لهما ، بل ولا لشيء منهما ، إلاّ إذا قلنا بأنّ ما يأخذه كلّ (٢) منهما يعامل معه معاملة الملك الواقعيّ ، نظير ما يملكه ظاهرا بتقليد أو اجتهاد مخالف (٣) لمذهب من يريد ترتيب الأثر (٤) ، بناء على أنّ العبرة في ترتيب آثار الموضوعات الثابتة في الشريعة ـ كالملكيّة والزوجيّة وغيرهما ـ بصحّتها عند المتلبّس بها ـ كالمالك والزوجين ـ ما لم يعلم تفصيلا من يريد ترتيب الأثر خلاف

__________________

(١) انظر الصفحة ٢٥٧ ـ ٢٦٥.

(٢) لم ترد «كلّ» في غير (ت) و (ظ).

(٣) كذا في (ت) ، وفي غيرها : «يخالف».

(٤) في (ت) و (ص): «الآثار».

٢٠٧

ذلك ؛ ولذا (١) قيل (٢) بجواز الاقتداء في الظهرين بواجدي المنيّ في صلاة واحدة ؛ بناء على أنّ المناط في صحّة الاقتداء الصحّة عند المصلّي ما لم يعلم تفصيلا فساده.

وأمّا مسألة الصلح ، فالحكم فيها تعبّديّ ، وكأنّه صلح قهريّ بين المالكين ، أو يحمل على حصول الشركة بالاختلاط ، وقد ذكر بعض الأصحاب أنّ مقتضى القاعدة الرجوع إلى القرعة (٣).

وبالجملة : فلا بدّ من التوجيه في جميع ما توهم (٤) جواز المخالفة القطعيّة الراجعة إلى طرح دليل شرعيّ ؛ لأنّها كما عرفت ممّا يمنع عنها العقل والنقل (٥) ، خصوصا إذا قصد من ارتكاب المشتبهين التوصّل إلى الحرام. هذا ممّا لا تأمّل فيه ، ومن يظهر منه جواز الارتكاب فالظاهر أنّه قصد غير هذه الصورة.

ومنه يظهر : أنّ إلزام القائل بالجواز (٦) : بأنّ تجويز ذلك يفضي إلى إمكان التوصّل إلى فعل جميع المحرّمات على وجه مباح ـ بأن يجمع بين الحلال والحرام المعلومين تفصيلا كالخمر والخلّ على وجه يوجب

__________________

(١) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «ولذلك».

(٢) انظر التذكرة ١ : ٢٢٤ ، والمدارك ١ : ٢٧٠.

(٣) لم نظفر بقائله في المقام ، نعم ، حكاه العلاّمة المجلسي في أربعينه (الصفحة ٥٨٢) عن بعض الأصحاب ، ونسبه في أوثق الوسائل (الصفحة ٣٢٣) إلى ابن طاوس.

(٤) كذا في جميع النسخ ، والمناسب : «يوهم».

(٥) راجع الصفحة ٢٠٠.

(٦) الملزم هو صاحب الفصول في الفصول : ١٨١.

٢٠٨

الاشتباه فيرتكبهما ـ ، محلّ نظر ، خصوصا على ما مثّل به من الجمع بين الأجنبيّة والزوجة.

هذا كلّه فيما إذا كان الحرام المشتبه عنوانا واحدا مردّدا بين أمرين ، وأمّا إذا كان مردّدا بين عنوانين ، كما مثّلنا سابقا بالعلم الإجماليّ بأنّ أحد المائعين (١) خمر أو الآخر مغصوب ، فالظاهر أنّ حكمه كذلك ؛ إذ لا فرق في عدم جواز المخالفة للدليل الشرعيّ بين كون ذلك الدليل معلوما بالتفصيل وكونه معلوما بالإجمال ؛ فإنّ من ارتكب الإناءين في المثال يعلم بأنّه خالف دليل حرمة الخمر أو دليل حرمة المغصوب ؛ ولذا (٢) لو كان إناء واحد مردّدا بين الخمر والمغصوب لم يجز ارتكابه ، مع أنّه لا يلزم منه إلاّ مخالفة أحد الدليلين لا بعينه ، وليس ذلك إلاّ من جهة أنّ مخالفة الدليل الشرعيّ محرّم عقلا وشرعا ، سواء تعيّن للمكلّف أو تردّد بين دليلين.

تفصيل صاحب الحدائق في الشبهة المحصورة

ويظهر من صاحب الحدائق : التفصيل في باب الشبهة المحصورة بين كون المردّد بين المشتبهين فردا من عنوان فيجب الاجتناب عنه ، وبين كونه مردّدا بين عنوانين فلا يجب (٣).

فإن أراد عدم وجوب الاجتناب عن شيء منهما في الثاني وجواز ارتكابهما معا ، فظهر ضعفه بما ذكرنا ، وإن أراد عدم وجوب الاحتياط فيه ، فسيجيء ما فيه.

__________________

(١) في غير (ظ) ونسخة بدل (ت) زيادة : «إمّا».

(٢) في (ت): «كذا».

(٣) الحدائق ١ : ٥١٧.

٢٠٩

هل يجب اجتناب جميع المشتبهات؟

و (١) أمّا المقام الثاني :

الحقّ وجوب الاجتناب والاحتياط

فالحقّ فيه : وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقا للمشهور ، وفي المدارك : أنّه مقطوع به في كلام الأصحاب (٢) ، ونسبه المحقّق البهبهانيّ في فوائده إلى الأصحاب (٣) ، وعن المحقّق المقدّس الكاظمي في شرح الوافية : دعوى الإجماع صريحا (٤) ، وذهب جماعة إلى عدم وجوبه (٥) ، وحكي عن بعض (٦) القرعة.

الاستدلال عليه

لنا على ما ذكرنا : أنّه إذا ثبت كون أدلّة تحريم المحرّمات شاملة للمعلوم إجمالا ولم يكن هنا مانع عقليّ أو شرعيّ من تنجّز (٧) التكليف به ، لزم بحكم العقل التحرّز عن ارتكاب ذلك المحرّم بالاجتناب عن كلا المشتبهين.

وبعبارة اخرى : التكليف بذلك المعلوم إجمالا إن لم يكن ثابتا جازت المخالفة القطعيّة ، والمفروض في هذا المقام التسالم على حرمتها ،

__________________

(١) «و» من نسخة جماعة المدرّسين.

(٢) المدارك ١ : ١٠٧.

(٣) الفوائد الحائريّة : ٢٤٨.

(٤) الوافي في شرح الوافية (مخطوط) ، الورقة ٢١٠.

(٥) كالسيّد العاملي في المدارك ١ : ١٠٧ ، والمحقّق السبزواري في الذخيرة : ١٣٨ ، والمحقّق القمي في القوانين ٢ : ٢٥.

(٦) تقدّم الكلام عن هذا البعض في الصفحة ٢٠٨.

(٧) في (ر) و (ص): «تنجيز».

٢١٠

وإن كان ثابتا وجب الاحتياط فيه بحكم العقل ؛ إذ يحتمل أن يكون ما يرتكبه من المشتبهين هو الحرام الواقعيّ ، فيعاقب عليه ؛ لأنّ المفروض لمّا كان ثبوت التكليف بذلك المحرّم لم يقبح العقاب عليه إذا اتّفق ارتكابه ولو لم يعلم به (١) حين الارتكاب.

واختبر ذلك من حال العبد إذا قال له المولى : «اجتنب وتحرّز عن الخمر المردّد بين هذين الإناءين» ؛ فإنّك لا تكاد ترتاب في وجوب الاحتياط ، ولا فرق بين هذا الخطاب وبين أدلّة المحرّمات الثابتة في الشريعة إلاّ العموم والخصوص.

توهّم جريان أصالة الحلّ في كلا المشتبهين والتخيير بينهما ودفعه

فإن قلت : أصالة الحلّ في كلا المشتبهين جارية في نفسها ومعتبرة لو لا المعارض ، وغاية ما يلزم في المقام تعارض الأصلين ، فيتخيّر (٢) في العمل (٣) في أحد المشتبهين ، ولا وجه لطرح كليهما.

قلت : أصالة الحلّ غير جارية هنا بعد فرض كون المحرّم الواقعيّ مكلّفا بالاجتناب عنه منجّزا ـ على ما هو مقتضى (٤) الخطاب بالاجتناب عنه ـ ؛ لأنّ مقتضى العقل في الاشتغال اليقينيّ بترك الحرام الواقعيّ هو الاحتياط والتحرّز عن كلا المشتبهين حتّى لا يقع في محذور فعل الحرام ، وهو معنى المرسل المرويّ (٥) في بعض كتب الفتاوى : «اترك ما لا بأس

__________________

(١) لم ترد «به» في (ه).

(٢) في (ر) و (ه): «فتخيّر».

(٣) في (ظ) زيادة : «به».

(٤) في (ظ) زيادة : «عموم».

(٥) لم ترد «المرويّ» في (ت) و (ه).

٢١١

به حذرا عمّا به البأس» (١) ، فلا يبقى مجال للإذن في فعل أحدهما. وسيجيء في باب الاستصحاب (٢) ـ أيضا ـ : أنّ الحكم في تعارض كلّ أصلين (٣) لم يكن أحدهما حاكما على الآخر ، هو التساقط لا التخيير.

الحكم في تعارض الأصلين هو التساقط ، لا التخيير

فإن قلت : قوله : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» (٤) و (٥) نحوه (٦) ، يستفاد منه حلّية المشتبهات بالشبهة المجرّدة عن العلم الإجماليّ جميعا ، وحلّية الشبهات (٧) المقرونة بالعلم الإجماليّ على البدل ؛ لأنّ الرخصة في كلّ شبهة مجرّدة لا تنافي الرخصة في غيرها ؛ لاحتمال كون الجميع حلالا في الواقع ، فالبناء على كون هذا المشتبه بالخمر خلا ، لا ينافي البناء على كون المشتبه الآخر خلا.

وأمّا الرخصة في الشبهة المقرونة بالعلم الإجماليّ والبناء على كونه خلاّ لمّا تستلزم وجوب البناء على كون المحرّم هو المشتبه الآخر ، فلا يجوز الرخصة فيه جميعا ، نعم يجوز الرخصة فيه بمعنى جواز ارتكابه والبناء على أنّ المحرّم غيره ، مثل : الرخصة في ارتكاب أحد المشتبهين

__________________

(١) ورد ما يقرب منه في البحار ٧٧ : ١٦٦ ، الحديث ١٩٢.

(٢) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ٤٠٩.

(٣) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «إذا».

(٤) في (ر) ، (ص) و (ه) بدل (أنّه حرام): «الحرام». الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٥) في (ر) ، (ص) و (ه): «أو».

(٦) انظر الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٧) في (ر) و (ص): «المشتبهات».

٢١٢

بالخمر مع العلم بكون أحدهما خمرا ، فإنّه لمّا علم من الأدلّة تحريم الخمر الواقعي ولو تردّد بين الأمرين ، كان معنى الرخصة في ارتكاب أحدهما الإذن في البناء على عدم كونه هو الخمر المحرّم عليه وأنّ المحرّم غيره ، فكلّ منهما حلال ، بمعنى جواز البناء على كون المحرّم غيره.

والحاصل : أنّ مقصود الشارع من هذه الأخبار أن يلغي من طرفي الشكّ في حرمة الشيء وحلّيته احتمال الحرمة ويجعل محتمل الحلّية في حكم متيقّنها ، ولمّا كان في المشتبهين بالشبهة المحصورة شكّ واحد ولم يكن فيه إلاّ احتمال كون هذا حلالا وذاك حراما واحتمال العكس ، كان إلغاء احتمال الحرمة في أحدهما إعمالا له في الآخر وبالعكس ، وكان الحكم الظاهريّ في أحدهما بالحلّ حكما ظاهريا بالحرمة في الآخر ، وليس معنى حلّية كلّ منهما إلاّ الإذن في ارتكابه وإلغاء احتمال الحرمة فيه المستلزم لإعماله في الآخر.

فتأمّل حتّى لا تتوهّم : أنّ استعمال قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال» بالنسبة إلى الشبهات المقرونة بالعلم الإجماليّ والشبهات المجرّدة استعمال في معنيين.

عدم استفادة الحليّة على البدل من أخبار «الحلّ»

قلت : الظاهر من الأخبار المذكورة البناء على حلّية محتمل التحريم والرخصة فيه ، لا وجوب البناء على كونه هو الموضوع المحلّل.

ولو سلّم ، فظاهرها البناء على كون كلّ مشتبه كذلك ، وليس الأمر بالبناء على كون أحد المشتبهين هو الخلّ أمرا بالبناء على كون الآخر هو الخمر ، فليس في الروايات من البدليّة عين ولا أثر ، فتدبّر.

٢١٣

أدلّة القول بجواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام :

احتجّ من جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ومنع عنه بوجهين :

الأوّل :

١ ـ ما دلّ على حِلّ مالم يعلم حرمته

الأخبار الدالّة على حلّ ما لم يعلم حرمته التي تقدّم بعضها (١) ، وإنّما منع من ارتكاب مقدار الحرام ؛ إمّا لاستلزامه للعلم بارتكاب الحرام وهو حرام ، وإمّا لما ذكره بعضهم (٢) : من أنّ ارتكاب مجموع المشتبهين حرام ؛ لاشتماله على الحرام ، قال في توضيح ذلك :

إنّ الشارع منع عن استعمال الحرام المعلوم وجوّز استعمال ما لم يعلم حرمته ، والمجموع من حيث المجموع معلوم الحرمة ولو باعتبار جزئه وكذا كلّ منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ، فيجب اجتنابه ، وكلّ منهما بشرط الانفراد مجهول الحرمة فيكون حلالا (٣).

المناقشة في الدليل المذكور

والجواب عن ذلك : أنّ الأخبار المتقدّمة ـ على ما عرفت (٤) ـ إمّا أن لا تشمل شيئا من المشتبهين ، وإمّا أن تشملهما جميعا ، وما ذكر (٥) من الوجهين لعدم جواز ارتكاب الأخير بعد ارتكاب الأوّل ، فغير صالح للمنع.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه : إن اريد أنّ مجرّد تحصيل العلم بارتكاب الحرام

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٢) هو الفاضل النراقي قدس‌سره في مناهج الأحكام.

(٣) مناهج الأحكام : ٢١٧.

(٤) راجع الصفحة ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(٥) في (ص): «ذكره».

٢١٤

حرام ، فلم يدلّ دليل عليه ، نعم تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام حرام من حيث التجسّس المنهيّ عنه وإن لم يحصل له العلم.

وإن اريد : أنّ الممنوع عنه عقلا من مخالفة أحكام الشارع (١) ـ بل مطلق الموالي ـ هي المخالفة العلميّة دون الاحتماليّة ؛ فإنّها لا تعدّ عصيانا في العرف ، فعصيان الخطاب باجتناب الخمر المشتبه هو ارتكاب المجموع دون المحرّم الواقعيّ وإن لم يعرف حين الارتكاب ، وحاصله : منع وجوب المقدّمة العلميّة ، ففيه :

مع إطباق العلماء بل العقلاء ـ كما حكي ـ على وجوب المقدّمة العلميّة ، أنّه : إن اريد من حرمة المخالفة العلميّة حرمة المخالفة المعلومة حين المخالفة ، فهذا اعتراف بجواز ارتكاب المجموع تدريجا ؛ إذ لا يحصل معه مخالفة معلومة تفصيلا.

وإن اريد منها حرمة المخالفة التي تعلّق العلم بها ولو بعدها ، فمرجعها إلى حرمة تحصيل العلم الذي يصير به المخالفة معلومة ، وقد عرفت منع حرمتها جدّا.

وممّا ذكرنا يظهر : فساد الوجه الثاني ؛ فإنّ حرمة المجموع إذا كان باعتبار جزئه الغير المعيّن ، فضمّ الجزء الآخر إليه لا دخل له في حرمته. نعم له دخل في كون الحرام معلوم التحقّق ، فهي مقدّمة للعلم بارتكاب الحرام ، لا لنفسه ، فلا وجه لحرمتها بعد عدم حرمة العلم بارتكاب الحرام.

ومن ذلك يظهر : فساد جعل الحرام كلا منهما بشرط الاجتماع مع

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه): «الشرع».

٢١٥

الآخر ؛ فإنّ حرمته وإن كانت معلومة ، إلاّ أنّ الشرط شرط لوصف كونه معلوم التحقّق لا لذات الحرام ، فلا يحرم إيجاد الاجتماع ، إلاّ إذا حرم جعل ذات الحرام معلومة التحقّق ، ومرجعه إلى حرمة تحصيل العلم بالحرام.

الثاني :

٢ ـ ما دلّ على جواز تناول الشبهة المحصورة

ما دلّ (١) على جواز تناول الشبهة المحصورة ، فيجمع بينه (٢) ـ على تقدير ظهوره في جواز تناول الجميع (٣) ـ وبين ما دلّ على تحريم العنوان الواقعيّ ، بأنّ الشارع جعل بعض المحتملات بدلا عن الحرام الواقعيّ ، فيكفي تركه في الامتثال الظاهريّ ، كما لو اكتفى بفعل الصلاة إلى بعض الجهات المشتبهة ورخّص في ترك الصلاة إلى بعضها. وهذه الأخبار كثيرة :

موثّقة سماعة

منها : موثّقة سماعة. قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب مالا من عمّال بني اميّة ، وهو يتصدّق منه ويصل قرابته ويحجّ ؛ ليغفر له ما اكتسب ، ويقول : إنّ الحسنات يذهبن السيّئات ، فقال عليه‌السلام : إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة ، وإنّ الحسنة تحطّ الخطيئة. ثمّ قال : إن كان

__________________

(١) في (ص) و (ظ) زيادة : «بنفسه أو بضميمة ما دلّ على المنع عن ارتكاب الحرام الواقعيّ».

(٢) في (ر) و (ص): «بينها» ، وفي (ظ): «بينهما».

(٣) لم ترد «على تقدير ظهوره في جواز تناول الجميع» في (ظ) ، وفي (ص) كتب عليها : «زائد».

٢١٦

خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال ، فلا بأس» (١).

فإنّ ظاهره : نفي البأس عن التصدّق والصلة والحجّ من المال المختلط وحصول الأجر في ذلك ، وليس فيه دلالة على جواز التصرّف في الجميع. ولو فرض ظهوره فيه صرف عنه ؛ بما دلّ على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعيّ ، وهو مقتض بنفسه لحرمة التصرّف في الكلّ ، فلا يجوز ورود الدليل على خلافها ، ومن جهة حكم العقل بلزوم الاحتياط لحرمة التصرّف في البعض المحتمل أيضا ، لكن عرفت أنّه يجوز الإذن في ترك بعض المقدّمات العلميّة بجعل بعضها الآخر بدلا ظاهريّا عن ذي المقدّمة.

الجواب عن الموثّقة

والجواب عن هذا الخبر : أنّ ظاهره جواز التصرّف في الجميع ؛ لأنّه يتصدّق ويصل ويحجّ بالبعض ويمسك الباقي ، فقد تصرّف في الجميع بصرف البعض وإمساك (٢) الباقي ؛ فلا بدّ إمّا من الأخذ به وتجويز المخالفة القطعيّة ، وإمّا من صرفه عن ظاهره ، وحينئذ : فحمله على إرادة نفي البأس عن التصرّف في البعض وإن حرم عليه إمساك مقدار الحرام ، ليس بأولى من حمل الحرام على حرام خاصّ يعذر فيه الجاهل ، كالربا بناء على ما ورد في عدّة أخبار : من حلّية الربا الذي اخذ جهلا ثمّ لم يعرف بعينه في المال المخلوط (٣).

__________________

(١) الوسائل ٨ : ١٠٤ ، الباب ٥٢ من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ، الحديث ٩.

(٢) في (ه) زيادة : «البعض الآخر» ، وفي (ت) بدل «الباقي» : «البعض الآخر».

(٣) الوسائل ١٢ : ٤٣١ ، الباب ٥ من أبواب الربا ، الحديث ٢ و ٣.

٢١٧

الأخبار الواردة في حلّية ما لم يعلم حرمته :

وبالجملة : فالأخبار الواردة في حلّية ما لم يعلم حرمته على أصناف.

١ ـ أخبار الحلّ والجواب عنها

منها : ما كان من قبيل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» (١).

وهذا الصنف لا يجوز الاستدلال به لمن لا يرى جواز ارتكاب المشتبهين ؛ لأنّ حمل تلك الأخبار على الواحد لا بعينه في الشبهة المحصورة والآحاد المعيّنة في الشبهة المجرّدة من العلم الإجماليّ والشبهة الغير المحصورة ، متعسّر بل متعذّر ، فيجب حملها على صورة عدم التكليف الفعليّ بالحرام الواقعيّ.

٢ ـ ما دلّ على ارتكاب كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة والجواب عنه

ومنها : ما دلّ على ارتكاب كلا المشتبهين في خصوص الشبهة المحصورة ، مثل الخبر المتقدّم (٢).

وهذا أيضا لا يلتزم المستدلّ بمضمونه ، ولا يجوز حمله على غير الشبهة المحصورة ـ لأنّ مورده فيها ـ ، فيجب حمله على أقرب المحتملين : من ارتكاب البعض مع إبقاء مقدار الحرام ، ومن وروده في مورد خاصّ ، كالربا ونحوه ممّا يمكن الالتزام بخروجه عن قاعدة الشبهة المحصورة.

٣ ـ أخبار جواز الأخذ من العامل والسارق والسلطان والجواب عنها

ومن ذلك يعلم : حال ما ورد في الربا من حلّ جميع المال المختلط به.

ومنها : ما دلّ على جواز أخذ ما علم فيه الحرام إجمالا ، كأخبار

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٢) وهي رواية سماعة المتقدّمة في الصفحة ٢١٦ ـ ٢١٧.

٢١٨

جواز الأخذ من العامل (١) والسارق (٢) والسلطان (٣).

وسيجيء : حمل جلّها أو كلّها على كون الحكم بالحلّ مستندا إلى كون الشيء مأخوذا من يد المسلم ، ومتفرّعا على تصرّفه المحمول على الصحّة عند الشكّ.

قاعدة وجوب دفع الضرر المقطوع به بين المشتبهين عقلا

فالخروج بهذه الأصناف من الأخبار عن القاعدة العقليّة الناشئة عمّا دلّ من الأدلّة القطعيّة على وجوب الاجتناب عن العناوين المحرّمة الواقعيّة ـ وهي وجوب دفع الضرر المقطوع به بين المشتبهين ، ووجوب إطاعة التكاليف المعلومة المتوقّفة على الاجتناب عن كلا المشتبهين ـ ، مشكل جدّا ، خصوصا مع اعتضاد القاعدة بوجهين آخرين هما كالدليل على المطلب.

اعتضاد القاعدة بوجهين آخرين

أحدهما : الأخبار الدالّة على هذا المعنى :

١ ـ الأخبار الدالّة على هذه القاعدة

منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ غلب الحرام الحلال» (٤) ، والمرسل المتقدّم (٥) : «اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس» ، وضعفها ينجبر بالشهرة المحقّقة والإجماع المدّعى في كلام من تقدّم (٦).

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ١٦١ ، الباب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٢) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٦.

(٣) الوسائل ١٢ : ١٦١ ، الباب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٥.

(٤) المستدرك ١٣ : ٦٨ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٥.

(٥) تقدّم في الصفحة ٢١١ ـ ٢١٢.

(٦) راجع الصفحة ٢١٠.

٢١٩

ومنها : رواية ضريس ، عن السّمن والجبن في أرض المشركين؟ «قال : أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل ، وأمّا ما لم تعلم فكل» (١) ؛ فإنّ الخلط يصدق مع الاشتباه. ورواية ابن سنان : «كلّ شيء حلال حتّى يجيئك شاهدان أنّ فيه الميتة» (٢) ؛ فإنّه يصدق على مجموع قطعات اللحم أنّ فيه الميتة.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث التثليث : «وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم» (٣) بناء على أنّ المراد بالهلاكة ما هو أثر للحرام ، فإن كان الحرام لم يتنجّز التكليف به (٤) فالهلاك المترتّب عليه منقصته الذاتيّة (٥) ، وإن كان ممّا يتنجّز التكليف به ـ كما في ما نحن فيه ـ كان المترتب عليه هو العقاب الاخرويّ ، وحيث إنّ دفع العقاب المحتمل واجب بحكم العقل وجب الاجتناب عن كلّ مشتبه بالشبهة المحصورة ، ولمّا كان دفع الضرر غير العقاب غير لازم إجماعا كان الاجتناب عن الشبهة المجرّدة (٦) غير واجب ، بل مستحبّا.

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٤٠٣ ، الباب ٦٤ من أبواب حكم السمن والجبن ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ١٧ : ٩١ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٢ ، وفيه أنّ الراوي ابن سليمان.

(٣) الوسائل ١٨ : ١١٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

(٤) في (ظ) زيادة : «لأجل الجهل».

(٥) في (ر) ، (ص) و (ه): «منقصة ذاتيّة».

(٦) في (ص) و (ظ) زيادة : «عن العلم الإجمالي».

٢٢٠