فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

توضيح الاندفاع : أنّ المحرّم وهو الطرح في مقام العمل غير متحقّق ، والواجب في مقام التديّن الالتزام بحكم الله على ما هو عليه في الواقع ، وهو أيضا متحقّق في الواقع (١) ، فلم يبق إلاّ وجوب تعبّد المكلّف وتديّنه والتزامه بما يحتمل الموافقة للحكم الواقعيّ ، وهذا ممّا لا دليل على وجوبه أصلا.

والحاصل : أنّ الواجب شرعا هو الالتزام والتديّن بما علم أنّه حكم الله الواقعيّ ، ووجوب الالتزام بخصوص الوجوب بعينه أو الحرمة بعينها ، من اللوازم العقليّة للعلم (٢) التفصيليّ يحصل من ضمّ صغرى معلومة تفصيلا إلى تلك الكبرى ، فلا يعقل وجوده مع انتفائه ، وليس حكما شرعيا ثابتا في الواقع حتّى يجب مراعاته ولو مع الجهل التفصيليّ.

عدم صحّة قياس ما نحن فيه بصورة تعارض الخبرين

ومن هنا يبطل قياس ما نحن فيه بصورة تعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجّية الدالّة أحدهما على الأمر والآخر على النهي ، كما هو مورد بعض الأخبار الواردة في تعارض الخبرين (٣).

ولا يمكن أن يقال : إنّ المستفاد منه ـ بتنقيح المناط ـ وجوب الأخذ بأحد الحكمين وإن لم يكن على كلّ واحد منهما دليل معتبر معارض بدليل الآخر.

فإنّه يمكن أن يقال : إنّ الوجه في حكم الشارع هناك بالأخذ

__________________

(١) لم ترد «في الواقع» في (ظ).

(٢) في (ر) و (ص) زيادة : «العادي».

(٣) الوسائل ١٨ : ٨٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٢.

١٨١

بأحدهما ، هو أنّ الشارع أوجب الأخذ بكلّ من الخبرين المفروض استجماعهما لشرائط الحجّية ، فإذا لم يمكن الأخذ بهما معا فلا بدّ من الأخذ بأحدهما ، وهذا تكليف شرعيّ في المسألة الاصوليّة غير التكليف المعلوم تعلّقه إجمالا في المسألة الفرعيّة بواحد من الفعل والترك ، بل ولو لا النصّ الحاكم هناك بالتخيير أمكن القول به من هذه الجهة ، بخلاف ما نحن فيه ؛ إذ لا تكليف إلاّ بالأخذ بما صدر واقعا في هذه الواقعة ، والالتزام به حاصل من غير حاجة إلى الأخذ بأحدهما بالخصوص.

ويشير إلى ما ذكرنا من الوجه : قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» (١). وقوله عليه‌السلام : «من باب التسليم» إشارة إلى أنّه لمّا وجب على المكلّف التسليم لجميع ما يرد عليه بالطرق المعتبرة من أخبار الأئمّة عليهم‌السلام ـ كما يظهر ذلك من الأخبار الواردة في باب التسليم لما يرد من الأئمّة عليهم‌السلام ، منها قوله : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنّا ثقاتنا» (٢) ـ ، وكان التسليم لكلا الخبرين الواردين بالطرق المعتبرة المتعارضين ممتنعا ، وجب التسليم لأحدهما مخيّرا في تعيينه (٣).

ثمّ إنّ هذا الوجه وإن لم يخل عن مناقشة أو منع ، إلاّ أنّ مجرّد احتماله يصلح فارقا بين المقامين مانعا عن استفادة حكم ما نحن فيه

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٨٠ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٩.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٠٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

(٣) في (ت) و (ظ) بدل «تعيينه» : «نفسه».

١٨٢

من حكم الشارع بالتخيير في مقام التعارض ، فافهم (١).

وبما ذكرنا ، يظهر حال قياس ما نحن فيه على حكم المقلّد عند اختلاف المجتهدين في الوجوب والحرمة.

عدم شمول ما ذكروه في مسألة اختلاف الامّة لما نحن فيه

وما ذكروه في مسألة اختلاف الامّة لا يعلم شموله لما نحن فيه ممّا كان الرجوع إلى الثالث غير مخالف من حيث العمل لقول الإمام عليه‌السلام ، مع أنّ عدم جواز الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ليس اتّفاقيّا.

ظاهر كلام الشيخ في مسألة اختلاف الاُمّة هو التخبير الواقعي

على : أنّ ظاهر كلام الشيخ القائل بالتخيير ـ كما سيجيء (٢) ـ هو إرادة التخيير الواقعيّ المخالف لقول الإمام عليه‌السلام في المسألة ؛ ولذا اعترض عليه المحقّق (٣) : بأنّه لا ينفع التخيير فرارا عن الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ؛ لأنّ التخيير أيضا طرح لقول الإمام عليه‌السلام.

وإن انتصر للشيخ بعض (٤) : بأنّ التخيير بين الحكمين ظاهرا وأخذ أحدهما ، هو المقدار الممكن من الأخذ بقول الشارع في المقام. لكنّ ظاهر كلام الشيخ قدس‌سره يأبى عن ذلك ، قال في العدّة :

__________________

(١) وردت في (ظ) وهامش (ص) ، بعنوان «نسخة» زيادة ، وهي : «فالأقوى في المسألة : التوقّف واقعا وظاهرا ؛ وأنّ الأخذ بأحدهما قول بما لا يعلم لم يقم عليه دليل ، والعمل على طبق ما التزمه على أنّه كذلك لا يخلو من التشريع».

(٢) سيجيء في الصفحة اللاحقة.

(٣) انظر المعارج : ١٣٣.

(٤) هو سلطان العلماء في حاشيته على المعالم وتبعه صاحبا القوانين والفصول ، انظر المعالم (الطبعة الحجريّة) : ١٨١ ، حاشية سلطان العلماء المبدوّة بقوله : «هذا ممنوع في العمل ... الخ» ، والقوانين ١ : ٣٨٣ ، والفصول : ٢٥٧.

١٨٣

كلام الشيخ في العدّة

إذا اختلفت الامّة على قولين فلا يكون إجماعا ، ولأصحابنا في ذلك مذهبان : منهم من يقول : إذا تكافأ الفريقان ولم يكن مع أحدهما دليل يوجب العلم أو يدلّ على أنّ المعصوم عليه‌السلام داخل فيه ، سقطا ووجب التمسّك بمقتضى العقل من حظر أو إباحة على اختلاف مذاهبهم. وهذا القول ليس بقويّ.

ثمّ علّله باطّراح قول الإمام عليه‌السلام ، قال (١) : ولو جاز ذلك لجاز مع تعيين قول الإمام عليه‌السلام تركه والعمل بما في العقل.

ومنهم من يقول : نحن مخيّرون في العمل بأيّ القولين ، وذلك يجري مجرى خبرين إذا تعارضا ، انتهى.

ثمّ فرّع على القول الأوّل جواز اتّفاقهم بعد الاختلاف على قول واحد ، وعلى القول الثاني عدم جواز ذلك ؛ معلّلا بأنّه يلزم من ذلك بطلان القول الآخر ، وقد قلنا : إنّهم مخيّرون في العمل ، ولو كان إجماعهم على أحدهما انتقض ذلك ، انتهى.

وما ذكره من التفريع أقوى شاهد على إرادة التخيير الواقعيّ ، وإن كان القول به لا يخلو عن الإشكال.

هذا ، وقد مضى شطر من الكلام في ذلك في المقصد الأوّل من الكتاب ، عند التكلّم في فروع اعتبار القطع (٢) ، فراجع (٣).

__________________

(١) في (ه): «وقال».

(٢) راجع مبحث القطع ١ : ٩٠.

(٣) لم ترد «هذا ـ إلى ـ فراجع» في (ر) ، (ص) و (ظ) ، نعم وردت في (ر) و (ص) بعد أسطر من قوله : «لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب».

١٨٤

وكيف كان : فالظاهر بعد التأمّل في كلماتهم في باب الإجماع إرادتهم ب «طرح قول الإمام عليه‌السلام» الطرح (١) من حيث العمل ، فتأمّل.

شمول أدلّة الإباحة لما نحن فيه

اللازم في المسألة هو التوقّف

ولكنّ الإنصاف : أنّ أدلّة الإباحة في محتمل الحرمة تنصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب ، وأدلّة نفي التكليف عمّا لم يعلم نوع التكليف لا تفيد إلاّ عدم المؤاخذة على الترك والفعل ، وعدم تعيين الحرمة أو الوجوب ، وهذا المقدار لا ينافي وجوب الأخذ بأحدهما مخيّرا فيه (٢). نعم ، هذا الوجوب يحتاج إلى دليل وهو مفقود ؛ فاللازم هو التوقّف ، وعدم الالتزام إلاّ بالحكم الواقعيّ على ما هو عليه في الواقع ، ولا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن حكم ظاهريّ إذا لم يحتج إليه في العمل ، نظير ما لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب.

بناء على وجوب الأخذ ، هل يتعيّن الأخذ بالحرمة أو يتخيّر؟

ثمّ على تقدير وجوب الأخذ ، هل يتعيّن الأخذ بالحرمة ، أو يتخيّر بينه وبين الأخذ بالوجوب؟ وجهان ، بل قولان :

يستدلّ على الأوّل ـ بعد قاعدة الاحتياط ؛ حيث يدور الأمر بين التخيير والتعيين ـ :

أدلّة تعيّن الأخذ بالحرمة

بظاهر ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة (٣) ؛ فإنّ الظاهر من التوقّف ترك الدخول في الشبهة.

كلام العلّامة في نهاية الوصول

وبأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ؛ لما عن النهاية : من أنّ الغالب في الحرمة دفع مفسدة ملازمة للفعل ، وفي الوجوب تحصيل مصلحة لازمة للفعل ، واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أتمّ.

__________________

(١) «الطرح» من (ص).

(٢) لم ترد «مخيّرا فيه» في (ه) ، وشطب عليها في (ت).

(٣) تقدّم ما يدلّ على التوقّف في الصفحة ٦٤ ـ ٦٧.

١٨٥

ويشهد له (١) : ما ارسل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : من أنّ «اجتناب السيّئات أولى من اكتساب الحسنات (٢)» (٣) ، وقوله عليه‌السلام : «أفضل من اكتساب الحسنات اجتناب السيّئات» (٤).

ولأنّ إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتمّ من إفضاء الوجوب إلى مقصوده ؛ لأنّ مقصود الحرمة يتأتّى بالترك سواء كان مع قصد أم غفلة ، بخلاف فعل الواجب (٥) ، انتهى.

وبالاستقراء ؛ بناء على أنّ الغالب في موارد اشتباه مصاديق الواجب والحرام تغليب الشارع لجانب الحرمة ، ومثّل له بأيّام الاستظهار ، وتحريم استعمال الماء المشتبه بالنجس.

المناقشة في الأدلّة

ويضعّف الأخير : بمنع الغلبة. وما ذكر من الأمثلة ـ مع عدم ثبوت الغلبة بها ـ خارج عن محلّ الكلام ؛ فإنّ ترك العبادة في أيام الاستظهار ليس على سبيل الوجوب عند المشهور (٦). ولو قيل بالوجوب فلعلّه لمراعاة أصالة بقاء الحيض وحرمة العبادة. وأمّا ترك غير ذات الوقت العبادة بمجرّد (٧) الرؤية ، فهو للإطلاقات (٨) وقاعدة «كلّ ما أمكن» ؛

__________________

(١) لم يرد في النهاية الاستشهاد بالمرسلتين.

(٢) غرر الحكم : ٨١ ، الفصل الأوّل ، الحكمة ١٥٥٩.

(٣) في (ت) و (ظ) زيادة : «بل».

(٤) غرر الحكم : ١٩٦ ، الفصل الرابع ، الحكمة ٢٢٥.

(٥) نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٦٠ ، وحكاه عنه في شرح الوافية (مخطوط) : ٢٩٩.

(٦) انظر المدارك ١ : ٣٣٣ ، ومفتاح الكرامة ١ : ٣٨١.

(٧) في (ظ): «غير ذات العادة بمجرّد».

(٨) انظر الوسائل ٢ : ٥٣٧ ، الباب ٣ من أبواب الحيض ، الحديث ٢.

١٨٦

وإلاّ فأصالة الطهارة وعدم الحيض هي المرجع.

وأمّا ترك الإناءين المشتبهين في الطهارة ، فليس من دوران الأمر بين الواجب والحرام ؛ لأنّ الظاهر ـ كما ثبت في محلّه (١) ـ أنّ حرمة الطهارة بالماء النجس تشريعيّة لا ذاتيّة (٢) ، وإنّما منع عن الطهارة مع الاشتباه لأجل النصّ (٣).

مع أنّها لو كانت ذاتيّة ، فوجه ترك الواجب وهو الوضوء ثبوت البدل له وهو التيمّم ، كما لو اشتبه إناء الذهب بغيره مع انحصار الماء في المشتبهين ، وبالجملة : فالوضوء من جهة ثبوت البدل له لا يزاحم محرّما.

مع أنّ القائل بتغليب جانب الحرمة لا يقول بجواز المخالفة القطعيّة في الواجب لأجل تحصيل الموافقة القطعيّة في الحرام ؛ لأنّ العلماء والعقلاء متّفقون على عدم جواز ترك الواجب تحفّظا عن الوقوع في الحرام (٤) ، فهذا المثال (٥) أجنبيّ عمّا نحن فيه قطعا.

ويضعّف ما قبله : بأنّه يصلح وجها لعدم تعيين الوجوب ، لا لنفي التخيير.

وأمّا أولويّة دفع المفسدة فهي مسلّمة ، لكنّ المصلحة الفائتة بترك

__________________

(١) انظر المدارك ١ : ١٠٦ ، والجواهر ١ : ٢٨٩.

(٢) في مصحّحة (ظ) زيادة : «فالأمر دائر بين الواجب وغير الحرام».

(٣) الوسائل ١ : ١١٦ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١٤.

(٤) في (ظ) زيادة : «بل اللازم إجماعا في مثل ذلك ارتكاب أحدهما وترك الآخر».

(٥) في (ظ) زيادة : «المفروض فيه وجوب المخالفة القطعيّة في الواجب».

١٨٧

الواجب أيضا مفسدة ؛ وإلاّ لم يصلح للإلزام ؛ إذ مجرّد فوات (١) المنفعة عن الشخص وكون حاله بعد الفوت كحاله فيما قبل الفوت (٢) ، لا يصلح وجها لإلزام شيء على المكلّف ما لم يبلغ حدّا يكون في فواته مفسدة ؛ وإلاّ لكان أصغر المحرّمات أعظم من ترك أهمّ الفرائض ، مع أنّه جعل ترك الصلاة أكبر الكبائر (٣).

وبما ذكر يبطل قياس ما نحن فيه على دوران الأمر بين فوت المنفعة الدنيويّة وترتّب المضرّة الدنيويّة ؛ فإنّ فوات النفع من حيث هو نفع لا يوجب ضررا.

وأمّا الأخبار الدالّة على التوقّف ، فظاهرة في ما لا يحتمل الضرر في تركه ، كما لا يخفى.

وظاهر كلام السيّد الشارح للوافية : جريان أخبار الاحتياط أيضا في المقام (٤) ، وهو بعيد.

وأمّا قاعدة «الاحتياط عند الشكّ في التخيير والتعيين» فغير جار في أمثال المقام ممّا يكون الحاكم فيه العقل ؛ فإنّ العقل إمّا أن يستقلّ بالتخيير وإمّا أن يستقلّ بالتعيين (٥) ، فليس في المقام شكّ على كلّ تقدير ، وإنّما الشكّ في الأحكام التوقيفيّة التي لا يدركها العقل.

__________________

(١) في (ر) و (ظ): «فوت».

(٢) في (ص) و (ظ) ونسخة بدل (ت) بدل «الفوت» : «الوجوب عليه».

(٣) انظر الوسائل ٣ : ١٥ ـ ١٩ ، الباب ٦ و ٧ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها.

(٤) شرح الوافية (مخطوط) : ٢٩٩.

(٥) العبارة في (ظ) هكذا : «فإنّ العقل إمّا أن يستقلّ بترجيح جانب الحرمة وإمّا أن يستقلّ بالتخيير».

١٨٨

إلاّ أن يقال : إنّ احتمال أن يرد من الشارع حكم توقيفيّ في ترجيح جانب الحرمة ـ ولو لاحتمال شمول أخبار التوقّف لما نحن فيه ـ كاف في الاحتياط والأخذ بالحرمة.

هل التخيير على القول به ، ابتدائي أو استمراري؟

ثمّ لو قلنا بالتخيير ، فهل هو في ابتداء الأمر فلا يجوز له العدول عمّا اختار ، أو مستمرّ فله العدول مطلقا ، أو بشرط البناء على الاستمرار (١)؟ وجوه.

ما استدلّ به للتخيير الابتدائي

يستدلّ للأوّل : بقاعدة الاحتياط ، واستصحاب الحكم المختار ، واستلزام العدول للمخالفة القطعيّة المانعة عن الرجوع إلى الإباحة من أوّل الأمر (٢).

المناقشة فيما استدلّ

ويضعّف الأخير : بأنّ المخالفة القطعيّة في مثل ذلك لا دليل على حرمتها ، كما لو بدا للمجتهد في رأيه ، أو عدل المقلّد عن مجتهده لعذر ـ من موت ، أو جنون ، أو فسق ـ أو اختيارا (٣) على القول بجوازه.

ويضعّف الاستصحاب : بمعارضة استصحاب التخيير الحاكم عليه.

ويضعّف قاعدة الاحتياط : بما تقدّم ، من أنّ حكم العقل بالتخيير عقليّ لا احتمال فيه حتّى يجري فيه الاحتياط.

ومن ذلك يظهر : عدم جريان استصحاب التخيير ؛ إذ لا إهمال في حكم العقل حتّى يشكّ في بقائه في الزمان الثاني.

الأقوى هو التخيير الاستمراري

فالأقوى : هو التخيير الاستمراريّ ، لا للاستصحاب بل لحكم العقل في الزمان الثاني كما حكم به في الزمان الأوّل.

__________________

(١) العبارة في (ظ) هكذا : «أو بشرط العزم حين الاختيار على الاستمرار».

(٢) كذا في (ر) ومصحّحة (ص) ، ووردت العبارة في باقي النسخ مضطربة.

(٣) في (ر) ، (ص) و (ه): «اختيار».

١٨٩

المسألة الثانية

إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدليل

إمّا حكما ، كالأمر المردّد بين الايجاب والتهديد ، أو موضوعا ، لو أمر بالتحرّز عن أمر مردّد بين فعل الشيء وتركه.

فالحكم فيه كما في المسألة السابقة.

١٩٠

المسألة الثالثة

الدوران بين المحذورين من جهة تعارض النصّين

لو دار الأمر بين الوجوب والتحريم من جهة تعارض الأدلّة

الحكم هو التخيير والاستدلال عليه

فالحكم هنا : التخيير ؛ لإطلاق ادلّته (١) ، وخصوص بعض منها الوارد في خبرين أحدهما أمر والآخر نهي (٢).

خلافا للعلاّمة رحمه‌الله في النهاية (٣) وشارح المختصر (٤) والآمدي (٥) ، فرجّحوا (٦) ما دلّ على النهي ؛ لما ذكرنا سابقا (٧) ، ولما هو أضعف منه.

هل التخيير ابتدائيّ أو استمراريّ؟ وجوه

وفي كون التخيير هنا بدويّا ، أو استمراريّا مطلقا أو مع البناء من أوّل الأمر على الاستمرار ، وجوه تقدّمت (٨) ، إلاّ أنّه قد يتمسّك هنا

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٩ و ٤٠.

(٢) الوسائل ١٨ : ٨٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٤.

(٣) نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٦٠.

(٤) شرح مختصر الاصول : ٤٨٩.

(٥) الإحكام للآمدي ٤ : ٢٥٩.

(٦) كذا في مصححة (ص) ، وفي النسخ : «مرجّحا».

(٧) راجع الصفحة ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٨) تقدّمت في الصفحة ١٨٩.

١٩١

للاستمرار بإطلاق الأخبار.

ويشكل : بأنّها مسوقة لبيان حكم المتحيّر في أوّل الأمر ، فلا تعرّض لها لحكمه بعد الأخذ بأحدهما.

نعم ، يمكن هنا استصحاب التخيير ؛ حيث إنّه ثبت (١) بحكم الشارع القابل للاستمرار.

اللازم الاستمرار على ما اختار

إلاّ أن يدّعى : أنّ موضوع المستصحب أو المتيقّن من موضوعه هو المتحيّر ، وبعد الأخذ بأحدهما لا تحيّر ، فتأمّل ، وسيتّضح هذا في بحث الاستصحاب (٢) ، وعليه : فاللازم الاستمرار على ما اختار ؛ لعدم ثبوت التخيير في الزمان الثاني.

__________________

(١) في (ر) و (ظ): «يثبت».

(٢) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ٣٩٢.

١٩٢

المسألة الرابعة

الدوران بين المحذورين من جهة اشتباه الموضوع

لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة اشتباه الموضوع

وقد مثّل بعضهم (١) له باشتباه الحليلة الواجب وطؤها ـ بالأصالة ، أو لعارض من نذر أو غيره ـ بالأجنبيّة (٢) ، وبالخلّ المحلوف على شربه المشتبه بالخمر.

ما مثّل به للمسألة

ويرد على الأوّل : أنّ الحكم في ذلك هو تحريم الوطء ؛ لأصالة عدم الزوجيّة بينهما ، وأصالة عدم وجوب الوطء.

المناقشة في الأمثلة

وعلى الثاني : أنّ الحكم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته ؛ جمعا بين أصالتي الإباحة وعدم الحلف على شربه.

والأولى : فرض المثال فيما إذا وجب إكرام العدول وحرم إكرام الفسّاق واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة.

والحكم فيه كما في المسألة الاولى : من عدم وجوب الأخذ بأحدهما في الظاهر ، بل هنا أولى ؛ إذ ليس فيه اطّراح لقول الإمام عليه‌السلام ؛ إذ ليس الاشتباه في الحكم الشرعيّ الكلّي الذي بيّنه الإمام عليه‌السلام ،

__________________

(١) هو صاحب الفصول في الفصول : ٣٦٣.

(٢) في (ت) و (ظ): «والأجنبيّة».

١٩٣

وليس فيه أيضا مخالفة عمليّة معلومة ولو إجمالا ، مع أنّ مخالفة المعلوم إجمالا في العمل فوق حدّ الإحصاء في الشبهات الموضوعيّة.

هذا تمام الكلام في المقامات الثلاثة ، أعني دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة ، وعكسه ، ودوران الأمر بينهما.

دوران الأمر بين ما عدا الوجوب والحرمة من الأحكام

وأمّا دوران الأمر بين ما عدا الوجوب والحرمة من الأحكام ، فيعلم بملاحظة ما ذكرنا.

وملخّصه : أنّ دوران الأمر بين طلب الفعل أو الترك وبين الإباحة نظير المقامين الأوّلين ، ودوران الأمر بين الاستحباب والكراهة نظير المقام الثالث. ولا إشكال في أصل هذا الحكم ، إلاّ أنّ إجراء أدلّة البراءة في صورة الشكّ في الطلب الغير الإلزاميّ ـ فعلا أو تركا ـ قد يستشكل فيه ؛ لأنّ ظاهر تلك الأدلّة نفي المؤاخذة والعقاب ، والمفروض انتفاؤهما في غير الواجب والحرام ، فتدبّر.

١٩٤

الموضع الثاني

في الشكّ في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف

بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ويشتبه الحرام أو الواجب.

ومطالبه ـ أيضا ـ ثلاثة :

١٩٥
١٩٦

المطلب الأوّل

في (١) دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب

ومسائله أربع :

__________________

(١) لم ترد «في» في (ر) ، (ص) و (ظ).

١٩٧

الاولى

لو علم التحريم وشكّ في الحرام من جهة اشتباه الموضوع الخارجي

وإنّما قدّمنا الشبهة الموضوعيّة هنا ؛ لاشتهار عنوانها في كلام العلماء ، بخلاف عنوان الشبهة الحكميّة.

ثمّ الحرام المشتبه بغيره إمّا مشتبه في امور محصورة ، كما لو دار بين أمرين أو امور محصورة ، ويسمّى بالشبهة المحصورة ، وإمّا مشتبه في امور غير محصورة.

١٩٨

أمّا [المقام](١) الأوّل

[في الشبهة المحصورة](٢)

فالكلام فيه يقع في مقامين :

أحدهما : جواز ارتكاب كلا الأمرين أو الامور وطرح العلم الإجمالي وعدمه ، وبعبارة اخرى : حرمة المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم وعدمها.

الثاني : وجوب اجتناب الكلّ وعدمه ، وبعبارة اخرى : وجوب الموافقة القطعيّة للتكليف المعلوم وعدمه.

__________________

(١) الزيادة والعنوان منّا.

(٢) الزيادة والعنوان منّا.

١٩٩

أمّا المقام الأوّل :

هل يجوز ارتكاب جميع المشتبهات؟

فالحقّ فيه : عدم الجواز وحرمة المخالفة القطعيّة ، وحكي عن ظاهر بعض (١) جوازها (٢).

الحقّ حرمة المخالفة القطعيّة والاستدلال عليه

لنا على ذلك : وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها.

أمّا ثبوت المقتضي : فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه ؛ فإنّ قول الشارع : «اجتنب عن الخمر» ، يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الإناءين أو أزيد ، ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلا.

مع أنّه لو اختصّ الدليل بالمعلوم تفصيلا خرج الفرد المعلوم إجمالا عن كونه حراما واقعيّا وكان حلالا واقعيّا (٣) ، ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك ، حتّى من يقول بكون الألفاظ أسامي للامور المعلومة ؛ فإنّ الظاهر إرادتهم الأعمّ من المعلوم إجمالا.

وأمّا عدم المانع : فلأنّ العقل لا يمنع من التكليف ـ عموما أو خصوصا ـ بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه في أمرين أو امور ، والعقاب على مخالفة هذا التكليف.

وأمّا الشرع فلم يرد فيه ما يصلح للمنع عدا ما ورد ، من قولهم عليهم‌السلام : «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» (٤) ، و «كلّ

__________________

(١) هو العلاّمة المجلسي في أربعينه : ٥٨٢ ، على ما حكاه عنه في القوانين ٢ : ٢٧.

(٢) في (ظ) و (ه): «جوازه».

(٣) لم ترد «وكان حلالا واقعيّا» في (ر) ، وفي (ص) بدل «وكان» : «فكان».

(٤) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

٢٠٠