فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

المسقطين يحتاج إلى دليل.

كلام فخر المحقّقين في أنّ قراءة الإمام بدل أو مسقط

قال فخر المحقّقين في الإيضاح في شرح قول والده قدس سرهما : والأقرب وجوب الائتمام على الامّيّ العاجز :

وجه القرب تمكّنه من صلاة صحيحة القراءة. ويحتمل عدمه ؛ لعموم نصّين : أحدهما : الاكتفاء بما يحسن مع عدم التمكّن من التعلّم. والثاني : ندبيّة الجماعة.

والأوّل أقوى ؛ لأنّه يقوم مقام القراءة اختيارا فيتعيّن عند الضرورة ؛ لأنّ كلّ بدل اختياريّ يجب عينا عند تعذّر مبدله ، وقد بيّن ذلك في الاصول.

ويحتمل العدم ؛ لأنّ قراءة الإمام مسقطة لوجوب القراءة على المأموم ، والتعذّر أيضا مسقط ، فإذا وجد أحد المسقطين للوجوب لم يجب الآخر ؛ إذ التقدير أنّ كلا منهما سبب تامّ. والمنشأ : أنّ قراءة الإمام بدل أو مسقط (١)؟ انتهى.

والمسألة محتاجة إلى التأمّل.

الشكّ في الوجوب الكفائي

ثمّ إنّ الكلام في الشكّ في الوجوب الكفائي ـ كوجوب ردّ السلام على المصلّي إذا سلّم على جماعة وهو منهم ـ يظهر ممّا ذكرنا ، فافهم.

__________________

(١) إيضاح الفوائد ١ : ١٥٤.

١٦١

المسألة الثانية

الشيهة الوجوبيّة مسن جهة إجمال النصّ

فيما اشتبه حكمه الشرعيّ من جهة إجمال اللفظ

كما إذا قلنا باشتراك لفظ «الأمر» بين الوجوب والاستحباب أو الإباحة.

المعروف عدم وجوب الاحتياط

والمعروف هنا عدم وجوب الاحتياط ، وقد تقدّم عن المحدّث العامليّ في الوسائل (١) : أنّه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشكّ في الوجوب ، ويشمله أيضا معقد إجماع المعارج (٢).

تصريح المحدّثين الأسترابادي والبحراني بوجوب التوقّف والاحتياط

لكن تقدّم من المعارج ـ أيضا ـ عند ذكر الخلاف في وجوب الاحتياط وجود القائل بوجوبه هنا (٣) ، وقد صرّح صاحب الحدائق ـ تبعا للمحدّث الأسترابادي (٤) ـ بوجوب التوقّف والاحتياط هنا ، قال في الحدائق بعد ذكر وجوب التّوقف :

كلام صاحب الحدائق

إنّ من يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجّحة للاستحباب.

__________________

(١) راجع الصفحة ١٤٢.

(٢) المعارج : ٢٠٨.

(٣) راجع الصفحة ١٤٨.

(٤) انظر الفوائد المدنيّة : ١٦٣.

١٦٢

المناقشة فيما ذكره صاحب الحدائق

وفيه : أوّلا : منع جواز الاعتماد على البراءة الأصليّة في الأحكام الشرعيّة.

وثانيا : أنّ مرجع ذلك إلى أنّ الله تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة ، ومن المعلوم أنّ أحكام الله تعالى تابعة للمصالح والحكم الخفيّة. ولا يمكن أن يقال : إنّ مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصليّة ؛ فإنّه رجم بالغيب وجرأة بلا ريب (١) ، انتهى.

وفيه ما لا يخفى ؛ فإنّ القائل بالبراءة الأصليّة إن رجع إليها من باب حكم العقل بقبح العقاب من دون البيان فلا يرجع ذلك إلى دعوى كون حكم الله هو الاستحباب ، فضلا عن تعليل ذلك بالبراءة الأصليّة.

وإن رجع إليها بدعوى حصول الظنّ فحديث تبعيّة الأحكام للمصالح وعدم تبعيّتها ـ كما عليه الأشاعرة ـ ، أجنبيّ عن ذلك ؛ إذ الواجب عليه إقامة الدليل على اعتبار هذا الظنّ المتعلّق بحكم الله الواقعيّ ، الصادر عن المصلحة أو لا عنها على الخلاف.

وبالجملة : فلا أدري وجها للفرق بين ما لا نصّ فيه وبين ما اجمل فيه النصّ ، سواء قلنا باعتبار هذا الأصل من باب حكم العقل أو من باب الظنّ ، حتّى لو جعل مناط الظنّ عموم البلوى ؛ فإنّ عموم البلوى فيما نحن فيه يوجب الظنّ بعدم قرينة الوجوب مع الكلام المجمل المذكور ؛ وإلاّ لنقل مع توفّر الدواعي ، بخلاف الاستحباب ؛ لعدم توفّر الدواعي على نقله.

__________________

(١) الحدائق ١ : ٦٩ و ٧٠.

١٦٣

ثمّ إنّ ما ذكرنا من حسن الاحتياط جار هنا ، والكلام في استحبابه شرعا كما تقدّم (١). نعم ، الأخبار المتقدّمة (٢) في من بلغه الثواب لا يجري هنا ؛ لأنّ الأمر لو دار بين الوجوب والإباحة لم يدخل في مواردها ؛ لأنّ المفروض احتمال الإباحة فلا يعلم بلوغ الثواب. وكذا لو دار بين الوجوب والكراهة.

ولو دار بين الوجوب والاستحباب لم يحتج إليها ، والله العالم.

__________________

(١) راجع الصفحة ١٠١.

(٢) المتقدّمة في الصفحة ١٥٤.

١٦٤

المسألة الثالثة

فيما اشتبه حكمه الشرعيّ من جهة تعارض النصّين

الشبهة جوبية من جهة تعارض النصّين

وهنا مقامات ، لكنّ المقصود هنا إثبات عدم وجوب التوقّف والاحتياط. والمعروف عدم وجوبه هنا ، وما تقدّم في المسألة الثانية (١) : من نقل الوفاق والخلاف ، آت هنا.

المعروف عدم وجوب الاحتياط خلافا للأسترآبادي والبحراني

وقد صرّح المحدّثان المتقدّمان (٢) بوجوب التوقّف والاحتياط هنا (٣) ، ولا مدرك له سوى أخبار التوقّف ، التي قد عرفت ما فيها : من قصور الدلالة (٤) على الوجوب في ما نحن فيه. مع أنّها أعمّ ممّا دلّ على التوسعة والتخيير.

وما دلّ على التوقّف في خصوص المتعارضين وعدم العمل بواحد منهما ، مختصّ ـ أيضا ـ بصورة التمكّن من إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام (٥).

__________________

(١) راجع الصفحة ١٦٢.

(٢) يعني الأسترابادي والبحراني المتقدّمين في الصفحة ١٦٢.

(٣) انظر الفوائد المدنيّة : ١٦٣ ، والحدائق ١ : ٧٠.

(٤) راجع الصفحة ٦٧ ـ ٧١.

(٥) كمقبولة عمر بن حنظلة المرويّة في الوسائل ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

١٦٥

الجواب عن مرفوعة زرارة الآمرة بالاحتياط

وأمّا رواية عوالي اللآلي المتقدّمة (١) الآمرة بالاحتياط وإن كانت أخصّ منها ، إلاّ أنّك قد عرفت ما فيها (٢) ، مع إمكان حملها على صورة التمكّن من الاستعلام.

ومنه يظهر : عدم جواز التمسّك هنا بصحيحة ابن الحجّاج المتقدّمة (٣) الواردة في جزاء الصيد ، بناء على استظهار شمولها ـ باعتبار المناط ـ لما نحن فيه.

ممّا يدلّ على التخيير في المسألة

وممّا يدلّ على الأمر بالتخيير في خصوص ما نحن فيه من اشتباه الوجوب بغير الحرمة : التوقيع المرويّ في الاحتجاج عن الحميريّ ، حيث كتب إلى الصاحب عجّل الله فرجه :

«يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة ، هل يجب عليه أن يكبّر؟ فإنّ بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه تكبيرة ، ويجوز أن يقول بحول الله وقوّته أقوم وأقعد.

الجواب : في ذلك حديثان ، أمّا أحدهما ، فإنّه إذا انتقل عن حالة إلى اخرى فعليه التكبير ، وأمّا الحديث الآخر ، فإنّه روي : أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام ، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، والتشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا ... الخبر» (٤).

__________________

(١) المتقدّمة في الصفحة ١١٥.

(٢) راجع الصفحة ١١٦.

(٣) تقدّمت في الصفحة ٧٦.

(٤) الاحتجاج ٢ : ٣٠٤ ، والوسائل ٤ : ٩٦٧ ، الباب ١٣ من أبواب السجود ، الحديث ٨.

١٦٦

فإنّ الحديث الثاني وإن كان أخصّ من الأوّل ، وكان اللازم تخصيص الأوّل به والحكم بعدم وجوب التكبير ، إلاّ أنّ جوابه صلوات الله وسلامه عليه بالأخذ بأحد الحديثين من باب التسليم يدلّ على أنّ الحديث الأوّل نقله الإمام عليه‌السلام بالمعنى ، وأراد شموله لحالة الانتقال من القعود إلى القيام بحيث لا يمكن (١) إرادة ما عدا هذا الفرد منه ، فأجاب عليه‌السلام بالتخيير.

ثمّ إنّ وظيفة الإمام عليه‌السلام وإن كانت إزالة الشبهة عن الحكم الواقعيّ ، إلاّ أنّ هذا الجواب لعلّه تعليم طريق العمل عند التعارض مع عدم وجوب التكبير عنده في الواقع ، وليس فيه الإغراء بالجهل من حيث قصد الوجوب في ما ليس بواجب ؛ من جهة (٢) كفاية قصد القربة في العمل.

وكيف كان : فإذا ثبت التخيير بين دليلي وجوب الشيء على وجه الجزئيّة وعدمه ، ثبت في ما نحن فيه ـ من تعارض الخبرين في ثبوت التكليف المستقلّ ـ بالإجماع والأولويّة القطعيّة.

ما ذكره الاصوليّون في باب التراجيح

ثمّ إنّ جماعة من الاصوليّين ذكروا في باب التراجيح الخلاف في ترجيح الناقل أو المقرّر (٣) ، وحكي عن الأكثر ترجيح الناقل (٤). وذكروا تعارض الخبر المفيد للوجوب والمفيد للإباحة ، وذهب جماعة إلى ترجيح

__________________

(١) كذا في (ت) و (ظ) ، وفي غيرهما : «لا يتمكّن».

(٢) في (ت) ونسخة بدل (ص) بدل «من جهة» : «لأجل».

(٣) انظر المعارج : ١٥٦ ، ونهاية الوصول (مخطوط) : ٤٥٨ ، والمعالم : ٢٥٣.

(٤) حكاه في نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٥٨ ، وانظر مفاتيح الاصول : ٧٠٥.

١٦٧

الأوّل (١). وذكروا تعارض الخبر المفيد للإباحة والمفيد للحظر (٢) ، وحكي عن الأكثر ـ بل الكلّ ـ تقديم الحاظر (٣) ، ولعلّ هذا كلّه مع قطع النظر عن الأخبار.

__________________

(١) انظر نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٦٠ ، ومفاتيح الاصول : ٧١٠.

(٢) انظر المعارج : ١٥٧ ، ونهاية الوصول (مخطوط) : ٤٥٩.

(٣) انظر مفاتيح الاصول : ٧٠٨.

١٦٨

المسألة الرابعة

الشبهة الوجوبيّة من جهة اشتباه الموضوع

دوران الأمر بين الوجوب وغيره ، من جهة الاشتباه في موضوع الحكم

جريان أدلّة البراءة

والحكم فيه البراءة (١) ؛ ويدلّ عليه جميع ما تقدّم في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة (٢) : من أدلّة البراءة عند الشكّ في التكليف.

وتقدّم فيها (٣) ـ أيضا ـ : اندفاع توهّم أنّ التكليف إذا تعلّق بمفهوم وجب ـ مقدّمة لامتثال التكليف في جميع أفراده ـ موافقته في كلّ ما يحتمل أن يكون فردا له.

لو تردّدت الفائتة بين الأقلّ والاكثر

ومن ذلك يعلم : أنّه لا وجه للاستناد إلى قاعدة الاشتغال في ما إذا تردّدت الفائتة بين الأقلّ والأكثر ـ كصلاتين وصلاة واحدة ـ بناء على أنّ الأمر بقضاء جميع ما فات واقعا يقتضي لزوم الاتيان بالأكثر من باب المقدّمة.

توضيح ذلك ـ مضافا إلى ما تقدّم في الشبهة التحريميّة ـ : أنّ قوله : «اقض ما فات» يوجب العلم التفصيليّ بوجوب قضاء ما علم

__________________

(١) لم ترد في (ر) و (ظ): «والحكم فيه البراءة».

(٢) راجع الصفحة ١١٩.

(٣) راجع الصفحة ١٢١.

١٦٩

فوته وهو الأقلّ ، ولا يدلّ أصلا على وجوب ما شكّ في فوته وليس فعله مقدّمة لواجب حتّى يجب من باب المقدّمة ، فالأمر بقضاء ما فات واقعا لا يقتضي إلاّ وجوب المعلوم فواته ، لا من جهة دلالة اللفظ على المعلوم ـ حتّى يقال : إنّ اللفظ ناظر إلى الواقع من غير تقييد بالعلم ـ ، بل من جهة : أنّ الأمر بقضاء الفائت الواقعيّ لا يعدّ دليلا إلاّ على ما علم صدق الفائت عليه ، وهذا لا يحتاج إلى مقدّمة ، ولا يعلم منه وجوب شيء آخر يحتاج إلى المقدّمة العلميّة.

والحاصل : أنّ المقدّمة العلميّة المتّصفة بالوجوب لا تكون إلاّ مع العلم الإجماليّ.

نعم ، لو اجري في المقام أصالة عدم الإتيان بالفعل في الوقت فيجب قضاؤه ، فله وجه ، وسيجيء الكلام عليه (١).

المشهور وجوب القضاء حتّى يظنّ الفراغ

هذا ، ولكنّ المشهور بين الأصحاب (٢) رضوان الله عليهم ، بل المقطوع به من المفيد (٣) قدس‌سره إلى الشهيد الثاني (٤) : أنّه لو لم يعلم كميّة ما فات قضى حتّى يظنّ الفراغ منها.

وظاهر ذلك ـ خصوصا بملاحظة ما يظهر من استدلال بعضهم ، من كون الاكتفاء بالظنّ رخصة ، وأنّ القاعدة تقتضي وجوب العلم بالفراغ ـ : كون الحكم على القاعدة.

__________________

(١) انظر الصفحة ١٧٣ ـ ١٧٦.

(٢) انظر مفتاح الكرامة ٣ : ٤٠٦.

(٣) انظر المقنعة : ١٤٨ و ١٤٩.

(٤) انظر الروضة البهيّة ١ : ٧٥٠.

١٧٠

كلام العلّامة في التذكرة

قال في التذكرة : لو فاتته صلوات معلومة العين غير معلومة العدد ، صلّى من تلك الصلوات إلى أن يغلب في ظنّه الوفاء ؛ لاشتغال الذمّة بالفائت ، فلا يحصل البراءة قطعا إلاّ بذلك. ولو كانت واحدة ولم يعلم العدد ، صلّى تلك الصلاة مكرّرا حتّى يظنّ الوفاء.

ثمّ احتمل في المسألة احتمالين آخرين : أحدهما : تحصيل العلم ؛ لعدم البراءة إلاّ باليقين ، والثاني : الأخذ بالقدر المعلوم ؛ لأنّ الظاهر أنّ المسلم لا يفوّت الصلاة. ثمّ نسب كلا الوجهين إلى الشافعيّة (١) ، انتهى.

وحكي هذا الكلام ـ بعينه ـ عن النهاية (٢) ، وصرّح الشهيدان (٣) بوجوب تحصيل العلم مع الإمكان ، وصرّح في الرياض (٤) بأنّ مقتضى الأصل القضاء حتّى يحصل العلم بالوفاء ؛ تحصيلا للبراءة اليقينيّة. وقد سبقهم في هذا الاستدلال الشيخ قدس‌سره في التهذيب ، حيث قال :

كلام الشيخ في التهذيب

أمّا ما يدلّ على أنّه يجب أن يكثر منها ، فهو ما ثبت أنّ قضاء الفرائض واجب ، وإذا ثبت وجوبها ولا يمكنه أن يتخلّص من ذلك إلاّ بأن يستكثر منها ، وجب (٥) ، انتهى.

المورد من موارد جريان أصالة البراءة

وقد عرفت (٦) : أنّ المورد من موارد جريان أصالة البراءة والأخذ

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٣٦١.

(٢) نهاية الإحكام ١ : ٣٢٥.

(٣) انظر الذكرى ٢ : ٤٣٧ ـ ٤٣٨ ، والمقاصد العليّة : ٢١٧.

(٤) الرياض ٤ : ٢٨٩.

(٥) التهذيب ٢ : ١٩٨.

(٦) راجع الصفحة ١٦٩ ـ ١٧٠.

١٧١

بالأقلّ عند دوران الأمر بينه وبين الأكثر ، كما لو شكّ في مقدار الدين الذي يجب قضاؤه ، أو في أنّ الفائت منه صلاة العصر فقط أو هي مع الظهر ، فإنّ الظاهر عدم إفتائهم بلزوم قضاء الظهر ، وكذا لو تردّد في ما فات عن أبويه أو في ما تحمّله بالإجارة بين الأقلّ والأكثر.

وربما يظهر عن بعض المحقّقين (١) : الفرق بين هذه الأمثلة وبين ما نحن فيه ؛ حيث حكي عنه (٢) ـ في ردّ صاحب الذخيرة القائل بأنّ مقتضى القاعدة في المقام الرجوع إلى البراءة (٣) ـ أنّه (٤) قال :

كلام السيّد بحر العلوم في عدم جريان أصالة البراءة في المسألة

إنّ المكلّف حين علم بالفوائت صار مكلّفا بقضاء هذه الفائتة قطعا ، وكذلك الحال في الفائتة الثانية والثالثة وهكذا ، ومجرّد عروض النسيان كيف يرفع الحكم الثابت من الإطلاقات والاستصحاب ، بل الإجماع أيضا؟ وأيّ شخص يحصل منه التأمّل في أنّه إلى ما قبل صدور النسيان كان مكلّفا ، وبمجرّد عروض النسيان يرتفع التكليف الثابت؟ وإن أنكر حجّية الاستصحاب فهو يسلّم أنّ الشغل اليقينيّ يستدعي البراءة اليقينيّة.

إلى أن قال :

نعم ، في الصورة التي يحصل للمكلّف علم إجماليّ باشتغال ذمّته بفوائت متعدّدة يعلم قطعا تعدّدها لكن لا يعلم مقدارها ، فإنّه يمكن

__________________

(١) هو السيّد بحر العلوم في المصابيح ، كما سيأتي.

(٢) الحاكي عنه هو السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٣ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

(٣) انظر الذخيرة : ٣٨٤.

(٤) «أنّه» من (ت) و (ه).

١٧٢

حينئذ أن يقال : لا نسلّم تحقّق الشغل بأزيد من المقدار الذي تيقّنه.

إلى أن قال :

والحاصل : أنّ المكلّف إذا حصّل القطع باشتغال ذمّته بمتعدّد والتبس عليه ذلك كمّا ، وأمكنه الخروج عن عهدته ، فالأمر كما أفتى به الأصحاب ، وإن لم يحصّل ذلك ، بأن يكون ما علم به خصوص اثنتين أو ثلاث وأمّا أزيد من ذلك فلا ، بل احتمال احتمله ، فالأمر كما ذكره في الذخيرة. ومن هنا : لو لم يعلم أصلا بمتعدّد في فائتة وعلم أنّ صلاة صبح يومه فاتت ، وأمّا غيرها فلا يعلم ولا يظنّ فوته أصلا ، فليس عليه إلاّ الفريضة الواحدة دون المحتمل ؛ لكونه شكّا بعد خروج الوقت ، والمنصوص أنّه ليس عليه قضاؤها (١) ، بل لعلّه المفتى به (٢) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

مناقشة كلام السيّد بحر العلوم قدس‌سره

ويظهر النظر فيه ممّا ذكرناه سابقا (٣) ، ولا يحضرني الآن حكم لأصحابنا بوجوب الاحتياط في نظير المقام ، بل الظاهر منهم إجراء أصل (٤) البراءة في أمثال ما نحن فيه ممّا لا يحصى.

توجيه فتوى المشهور

وربما يوجّه الحكم فيما نحن فيه : بأنّ الأصل عدم الإتيان بالصلاة الواجبة ، فيترتّب عليه وجوب القضاء إلاّ في صلاة علم الإتيان بها في وقتها.

__________________

(١) انظر الكافي ٣ : ٢٩٤ ، الحديث ١٠.

(٢) لم نعثر عليه في كتاب الصلاة من المصابيح (مخطوط).

(٣) راجع الصفحة ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٤) «أصل» من (ت) و (ه).

١٧٣

ودعوى : ترتّب وجوب القضاء على صدق الفوت الغير الثابت بالأصل ، لا مجرّد عدم الاتيان الثابت بالأصل ، ممنوعة ؛ لما يظهر من الأخبار (١) وكلمات الأصحاب (٢) : من أنّ المراد بالفوت مجرّد الترك كما بيّناه في الفقه (٣).

وأمّا ما دلّ على أنّ الشكّ في إتيان الصلاة بعد وقتها لا يعتدّ به ، فلا يشمل ما نحن فيه.

وإن شئت تطبيق ذلك على قاعدة الاحتياط اللازم ، فتوضيحه : أنّ القضاء وإن كان بأمر جديد ، إلاّ أنّ ذلك الأمر كاشف عن استمرار مطلوبيّة الصلاة من عند دخول وقتها إلى آخر زمان التمكّن من المكلّف ، غاية الأمر كون هذا على سبيل تعدّد المطلوب ، بأن يكون الكلّي المشترك بين ما في الوقت وخارجه مطلوبا وكون إتيانه في الوقت مطلوبا آخر ، كما أنّ أداء الدين وردّ السلام واجب في أوّل أوقات الإمكان ، ولو لم يفعل ففي الآن الثاني ، وهكذا.

وحينئذ : فإذا دخل الوقت وجب إبراء الذمّة عن ذلك الكلّي ، فإذا شكّ في براءة ذمّته بعد الوقت ، فمقتضى حكم العقل باقتضاء الشغل اليقينيّ للبراءة اليقينيّة وجوب الإتيان ، كما لو شكّ في البراءة قبل خروج الوقت ، وكما لو شكّ في أداء الدين الفوريّ ، فلا يقال : إنّ

__________________

(١) انظر الوسائل ٥ : ٣٤٧ ، الباب الأوّل من أبواب قضاء الصلوات ، باب وجوب قضاء الفريضة الفائتة بعمد أو نسيان أو نوم أو ترك طهارة.

(٢) انظر إرشاد الأذهان ١ : ٢٧٠ ، ومفتاح الكرامة ٣ : ٣٧٧.

(٣) انظر الوسائل الفقهيّة للمصنّف : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

١٧٤

الطلب في الزمان الأوّل قد ارتفع بالعصيان ، ووجوده في الزمان الثاني مشكوك فيه ، وكذلك جواب السلام.

والحاصل : أنّ التكليف المتعدّد بالمطلق والمقيّد لا ينافي جريان الاستصحاب وقاعدة الاشتغال بالنسبة إلى المطلق ، فلا يكون المقام مجرى البراءة.

ضعف التوجيه المذكور

هذا ، ولكنّ الإنصاف : ضعف هذا التوجيه لو سلّم استناد الأصحاب إليه في المقام.

أمّا أوّلا : فلأنّ من المحتمل ـ بل الظاهر ـ على القول بكون القضاء بأمر جديد ، كون كلّ من الأداء والقضاء تكليفا مغايرا للآخر ، فهو من قبيل وجوب الشيء ووجوب تداركه بعد فوته ـ كما يكشف عن ذلك تعلّق أمر الأداء بنفس الفعل (١) وأمر القضاء به بوصف الفوت (٢) ، ويؤيّده : بعض ما دلّ على أنّ لكلّ من الفرائض بدلا وهو قضاؤه ، عدا الولاية (٣) ـ لا من باب الأمر بالكلّي والأمر بفرد خاصّ منه ، كقوله : صم ، وصم يوم الخميس ، أو الأمر بالكلّي والأمر بتعجيله ، كردّ السلام وقضاء الدين ، فلا مجرى لقاعدة الاشتغال واستصحابه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ منع عموم ما دلّ على أنّ الشكّ في الإتيان بعد خروج الوقت (٤) لا يعتدّ به للمقام ، خال عن السند. خصوصا مع

__________________

(١) كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ، الإسراء : ٧٨.

(٢) انظر الوسائل ٥ : ٣٥٠ ، الباب ٢ من أبواب قضاء الصلوات ، الحديث الأوّل.

(٣) لم نقف عليه في المجاميع الحديثيّة.

(٤) الوسائل ٣ : ٢٠٥ ، الباب ٦٠ من أبواب المواقيت ، الحديث الأوّل.

١٧٥

اعتضاده بما دلّ على أنّ الشكّ في الشيء لا يعتنى به بعد تجاوزه ، مثل قوله عليه‌السلام : «إنّما الشكّ في شيء لم تجزه» (١) ، ومع اعتضاده في بعض المقامات بظاهر حال المسلم في عدم ترك الصلاة.

وأمّا ثالثا : فلأنّه لو تمّ ذلك جرى فيما يقضيه عن أبويه إذا شكّ في مقدار ما فات منهما ، ولا أظنّهم يلتزمون بذلك ، وإن التزموا بأنّه إذا وجب على الميّت ـ لجهله بما فاته ـ مقدار معيّن يعلم أو يظنّ معه البراءة ، وجب على الوليّ قضاء ذلك المقدار ؛ لوجوبه ظاهرا على الميّت ، بخلاف ما لم يعلم بوجوبه عليه.

وكيف كان : فالتوجيه المذكور ضعيف.

التوجيه الأضعف

وأضعف منه : التمسّك في ما نحن فيه بالنصّ الوارد في : «أنّ من عليه من النافلة ما لا يحصيه من كثرته ، قضى حتّى لا يدري كم صلّى من كثرته» (٢) ، بناء على أنّ ذلك طريق لتدارك ما فات ولم يحص ، لا أنّه مختصّ بالنافلة. مع أنّ الاهتمام في النافلة بمراعاة الاحتياط يوجب ذلك في الفريضة بطريق أولى ، فتأمّل.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٣٠ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل ٣ : ٥٥ ، الباب ١٨ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث ٢.

١٧٦

المطلب الثالث

فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والحرمة

وفيه مسائل :

١٧٧

المسألة الاولى

في حكم دوران الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة عدم الدليل

الدوران بين المحذورين من جهة فقدان النصّ

على تعيين أحدهما بعد قيام الدليل على أحدهما

كما إذا اختلفت (١) الامّة على القولين بحيث علم عدم الثالث.

ولا ينبغي الإشكال في إجراء أصالة عدم كلّ من الوجوب والحرمة ـ بمعنى نفي الآثار المتعلّقة بكلّ واحد منهما بالخصوص ـ إذا لم يلزم مخالفة علم تفصيليّ ، بل ولو استلزم ذلك على وجه تقدّم في أوّل الكتاب في فروع اعتبار العلم الإجماليّ (٢).

هل الحكم في المسألة ، الإباحة أو التوقّف أو التخيير؟

وإنّما الكلام هنا في حكم الواقعة من حيث جريان أصالة البراءة وعدمه ، فإنّ في المسألة وجوها ثلاثة :

الحكم بالإباحة ظاهرا ، نظير ما يحتمل التحريم وغير الوجوب ، ومرجعه إلى إلغاء الشارع لكلا الاحتمالين ، فلا حرج في الفعل ولا في الترك بحكم العقل ؛ وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح (٣).

__________________

(١) في غير (ت): «اختلف».

(٢) راجع مبحث القطع ١ : ٨٧.

(٣) وردت عبارة «ومرجعه ـ إلى ـ بلا مرجّح» في (ت) ، (ر) و (ه) بعد قوله : «ولا واقعا» ، ووردت في (ظ) في الهامش.

١٧٨

والتوقّف بمعنى عدم الحكم بشيء لا ظاهرا ولا واقعا.

ووجوب الأخذ بأحدهما بعينه أو لا بعينه (١).

ومحلّ هذه الوجوه ما لو كان كلّ من الوجوب والتحريم توصليّا بحيث يسقط بمجرّد الموافقة ؛ إذ لو كانا تعبّديّين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف أو كان أحدهما المعيّن كذلك ، لم يكن إشكال (٢) في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة ؛ لأنّه مخالفة قطعيّة عمليّة.

الحكم بالإباحة ظاهرا ودليله

وكيف كان : فقد يقال في محلّ الكلام بالإباحة ظاهرا ؛ لعموم أدلّة الإباحة الظاهريّة ، مثل قولهم : «كلّ شيء لك حلال» (٣) ، وقولهم : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٤) ؛ فإنّ كلا من الوجوب والحرمة قد حجب عن العباد علمه ، وغير ذلك من أدلّته ، حتّى قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي أو أمر» على رواية الشيخ (٥) ؛ إذ الظاهر ورود أحدهما بحيث يعلم تفصيلا ، فيصدق هنا أنّه لم يرد أمر ولا نهي.

هذا كلّه ، مضافا إلى حكم العقل بقبح المؤاخذة على كلّ من الفعل والترك ؛ فإنّ الجهل بأصل الوجوب علّة تامّة عقلا لقبح العقاب على الترك من غير مدخليّة لانتفاء احتمال الحرمة فيه ، وكذا الجهل بأصل

__________________

(١) لم ترد «ووجوب ـ إلى ـ لا بعينه» في (ظ) ، نعم وردت بدلها : «والتخيير».

(٢) وردت العبارة في (ظ) هكذا : «أو أحدهما المعيّن لم يكن إشكال».

(٣) الوسائل ١٧ : ٩١ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٢.

(٤) الوسائل ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٨.

(٥) أمالي الطوسي : ٦٦٩ ، الحديث ١٤٠٥ / ١٢.

١٧٩

الحرمة. وليس العلم بجنس التكليف المردّد بين نوعي الوجوب والحرمة كالعلم بنوع التكليف المتعلّق بأمر مردّد ، حتّى يقال : إنّ التكليف في المقام معلوم إجمالا.

دعوى وجوب الالتزام بحكم الله تعالى والجواب عنها

وأمّا دعوى وجوب الالتزام بحكم الله تعالى ؛ لعموم دليل وجوب الانقياد للشرع ، ففيها :

أنّ المراد بوجوب الالتزام : إن اريد وجوب موافقة حكم الله فهو حاصل فيما نحن فيه ؛ فإنّ في الفعل موافقة للوجوب وفي الترك موافقة للحرمة ؛ إذ المفروض عدم توقّف الموافقة في المقام على قصد الامتثال.

وإن اريد وجوب الانقياد والتديّن بحكم الله فهو تابع للعلم بالحكم ، فإن علم تفصيلا وجب التديّن به كذلك ، وإن علم إجمالا وجب التديّن بثبوته في الواقع ، ولا ينافي ذلك التديّن حينئذ (١) بإباحته ظاهرا ؛ إذ الحكم الظاهريّ لا يجوز أن يكون معلوم المخالفة تفصيلا للحكم الواقعيّ من حيث العمل ، لا من حيث التديّن به (٢).

دعوى أن الحكم بالإباحة طرح لحكم الله الواقعي والجواب عنها

ومنه يظهر اندفاع ما يقال : من أنّ الالتزام وإن لم يكن واجبا بأحدهما ، إلاّ أنّ طرحهما والحكم بالإباحة طرح لحكم الله الواقعيّ ، وهو محرّم. وعليه يبنى (٣) عدم جواز إحداث القول الثالث إذا اختلفت الامّة على قولين يعلم دخول الإمام عليه‌السلام في أحدهما.

__________________

(١) في (ر) ونسخة بدل (ص) بدل «حينئذ» : «الحكم».

(٢) لم ترد «به» في (ظ).

(٣) في (ت): «يبتنى».

١٨٠