فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-03-6
الصفحات: ٥٠٤

المطلب الثاني

في دوران حكم الفعل بين الوجوب وغير الحرمة من الأحكام وفيه ـ أيضا ـ مسائل :

١٤١

الاولى

الشبهة الوجوبيّة من جهة فقدان النصّ

فيما اشتبه حكمه الشرعيّ الكلّي من جهة عدم النصّ المعتبر

كما إذا ورد خبر ضعيف أو فتوى جماعة بوجوب فعل ، كالدعاء عند رؤية الهلال ، وكالاستهلال في رمضان ، وغير ذلك.

المعروف من الأخباريّين عدم وجوب الاحتياط

كلام المحدّث العاملي

والمعروف من الأخباريّين هنا موافقة المجتهدين في العمل بأصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط ، قال المحدّث الحرّ العامليّ ـ في باب القضاء من الوسائل ـ : إنّه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشكّ في الوجوب ، إلاّ إذا علمنا اشتغال الذمّة بعبادة معيّنة وحصل الشكّ بين فردين ، كالقصر والتمام والظهر والجمعة وجزاء واحد للصيد أو اثنين ونحو ذلك ، فإنّه يجب الجمع بين العبادتين ؛ لتحريم تركهما معا ؛ للنصّ ، وتحريم الجزم بوجوب أحدهما بعينه ؛ عملا بأحاديث الاحتياط (١) ، انتهى موضع الحاجة.

كلام المحدّث البحراني في الحدائق في عدم وجوب الاحتياط

وقال المحدّث البحراني ـ في مقدّمات كتابه ، بعد تقسيم أصل البراءة إلى قسمين : أحدهما : أنّها عبارة عن نفي وجوب فعل وجوديّ ،

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٩ ـ ١٢٠ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ذيل الحديث ٢٨.

١٤٢

بمعنى : أنّ الأصل عدم الوجوب حتّى يقوم دليل على الوجوب :

وهذا القسم لا خلاف في صحّة الاستدلال به ؛ إذ لم يقل أحد : إنّ الأصل الوجوب (١).

كلام قدس‌سره في الدرر النجفيّة في عدم وجوب الاحتياط أيضاً

وقال في محكيّ كتابه ـ المسمّى بالدرر النجفيّة ـ : إن كان الحكم المشكوك دليله هو الوجوب ، فلا خلاف ولا إشكال في انتفائه حتّى يظهر دليله ؛ لاستلزام التكليف (٢) بدون الدليل الحرج والتكليف بما لا يطاق (٣) ، انتهى.

لكنّه قدس‌سره في مسألة وجوب الاحتياط ، قال بعد القطع برجحان الاحتياط :

كلام قدس‌سره في وجوب الاحتياط

إنّ منه ما يكون واجبا ، ومنه ما يكون مستحبّا :

فالأوّل : كما إذا تردّد المكلّف في الحكم ، إمّا لتعارض الأدلّة ، أو لتشابهها وعدم وضوح دلالتها ، أو لعدم الدليل بالكلّية بناء على نفي البراءة الأصليّة ، أو لكون ذلك الفرد مشكوكا في اندراجه تحت بعض الكلّيات المعلومة الحكم ، أو نحو ذلك.

والثاني : كما إذا حصل الشكّ باحتمال وجود النقيض لما قام عليه الدليل الشرعيّ احتمالا مستندا إلى بعض الأسباب المجوّزة ، كما إذا كان مقتضى الدليل الشرعيّ إباحة شيء وحلّيته لكن يحتمل قريبا بسبب

__________________

(١) الحدائق ١ : ٤٣.

(٢) في (ت) ، (ص) و (ه) زيادة : «به».

(٣) انظر الدرر النجفيّة : ٢٥ ، والحاكي هو الشيخ محمّد تقي في هداية المسترشدين : ٤٤٤.

١٤٣

بعض تلك الأسباب أنّه ممّا حرّمه الشارع وإن لم يعلم به المكلّف. ومنه جوائز الجائر ، ونكاح امرأة بلغك أنّها ارتضعت (١) معك الرضاع المحرّم إلاّ أنّه لم يثبت ذلك شرعا ، ومنه أيضا الدليل المرجوح في نظر الفقيه.

أمّا إذا لم يحصل ما يوجب الشكّ والريبة ، فإنّه يعمل على ما طهر له من الأدلّة وإن احتمل النقيض باعتبار الواقع ، ولا يستحبّ له الاحتياط هنا ، بل ربما كان مرجوحا ؛ لاستفاضة الأخبار بالنهي عن السؤال عند الشراء من سوق المسلمين.

ثمّ ذكر الأمثلة للأقسام الثلاثة لوجوب الاحتياط ، أعني اشتباه الدليل وتردّده بين الوجوب والاستحباب ، وتعارض الدليلين ، وعدم النصّ ، قال :

ومن هذا القسم : ما لم يرد فيه نصّ من الأحكام التي لا يعمّ بها البلوى عند من لم يعتمد على البراءة الأصليّة ، فإنّ الحكم فيه ما ذكر ، كما سلف (٢) ، انتهى.

وممّن يظهر منه وجوب الاحتياط هنا : المحدّث الأستراباديّ ، حيث حكي عنه في الفوائد المدنيّة ، أنّه قال :

إنّ التمسّك بالبراءة الأصليّة من حيث هي هي إنّما يجوز قبل إكمال الدين ، وأمّا بعد تواتر الأخبار بأنّ كلّ واقعة محتاج إليها فيها خطاب قطعيّ من قبل الله تعالى ، فلا يجوز قطعا ؛ وكيف يجوز؟

__________________

(١) في (ر) والمصدر : «أرضعت».

(٢) الحدائق ١ : ٦٨ ـ ٧٠.

١٤٤

وقد تواتر عنهم عليهم‌السلام وجوب التوقّف في ما لم يعلم حكمها ، معلّلين : بأنّه بعد أن كملت الشريعة لا تخلو واقعة عن حكم قطعيّ وارد من الله تعالى ، وبأنّ من حكم بغير ما أنزل الله تعالى فاولئك هم الكافرون.

ثمّ أقول : هذا المقام ممّا زلّت فيه أقدام أقوام من فحول العلماء ، فحريّ بنا أن نحقّق المقام ونوضّحه بتوفيق الملك العلاّم ودلالة أهل الذكر عليهم‌السلام ، فنقول : التمسّك بالبراءة الأصليّة إنّما يتمّ عند الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح الذاتيّين ، وكذلك عند من يقول بهما ولا يقول بالحرمة والوجوب الذاتيّين ، كما هو المستفاد من كلامهم عليهم‌السلام ، وهو الحقّ عندي.

ثمّ على هذين المذهبين إنّما يتمّ قبل إكمال الدين لا بعده ، إلاّ على مذهب من جوّز من العامّة خلوّ الواقعة عن حكم وارد من الله تعالى.

لا يقال : بقي هنا أصل آخر ، وهو أن يكون الخطاب الذي ورد من الله تعالى موافقا للبراءة الأصليّة.

لأنّا نقول : هذا الكلام ممّا لا يرضى به لبيب ؛ لأنّ خطابه تعالى تابع للحكم والمصالح ، ومقتضيات الحكم والمصالح مختلفة.

إلى أن قال :

هذا الكلام ممّا لا يرتاب في قبحه ، نظير أن يقال : الأصل في الأجسام تساوي نسبة طبائعها إلى جهة السفل والعلوّ ، ومن المعلوم بطلان هذا المقال.

ثمّ أقول : الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الامور

١٤٥

في ثلاثة (١) ، وحديث : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٢) ونظائرهما ، أخرج كلّ واقعة لم يكن حكمها بيّنا عن البراءة الأصليّة ، وأوجب التوقّف فيها.

ثمّ قال ـ بعد أنّ الاحتياط قد يكون في محتمل الوجوب ، وقد يكون في محتمل الحرمة ـ :

إنّ عادة العامّة والمتأخّرين من الخاصّة جرت بالتمسّك بالبراءة الأصليّة ، ولمّا أبطلنا جواز التمسّك بها في المقامين ـ لعلمنا بأنّ الله تعالى أكمل لنا ديننا ، ولعلمنا بأنّ كلّ واقعة يحتاج إليها ورد فيها خطاب قطعيّ من الله تعالى خال عن المعارض ، ولعلمنا بأنّ كلّ ما جاء به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله مخزون عند العترة الطاهرة عليهم‌السلام ، ولم يرخّصوا لنا في التمسّك بالبراءة الأصليّة فيما لم نعلم الحكم الذي ورد فيه بعينه ، بل أوجبوا التوقّف في كلّ ما لم يعلم حكمه ، وأوجبوا الاحتياط في بعض صوره ـ فعلينا : أنّ نبيّن ما يجب أن يفعل في المقامين ، وسنحقّقه فيما يأتي إن شاء الله تعالى (٣).

وذكر هناك ما حاصله : وجوب الاحتياط عند تساوي احتمالي (٤)

__________________

(١) انظر الوسائل ١٨ : ١١٨ ، الباب ٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٣. وكنز العمّال ١٥ : ٨٥٥ ، الحديث ٤٣٤٠٣.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٢٤ و ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٧١ و ٥٦.

(٣) الفوائد المدنيّة : ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٤) في (ظ): «احتمال».

١٤٦

الأمر الوارد بين الوجوب والاستحباب ، ولو كان ظاهرا في الندب بني على جواز الترك. وكذا لو وردت (١) رواية ضعيفة بوجوب شيء ، وتمسّك في ذلك بحديث : «ما حجب الله علمه» ، وحديث : «رفع التسعة» ، ـ قال ـ : وخرج عن تحتهما كلّ فعل وجوديّ لم يقطع بجوازه ؛ لحديث التثليث (٢).

المناقشة فيما أفاده المحدّث الأسترابادي

أقول : قد عرفت فيما تقدّم في نقل كلام المحقّق قدس‌سره (٣) : أنّ التمسّك بأصل البراءة منوط بدليل عقليّ هو قبح التكليف بما لا طريق إلى العلم به ، ولا دخل لإكمال الدين وعدمه ولا لكون الحسن والقبح أو الوجوب والتحريم عقليّين أو شرعيّين ، في ذلك.

والعمدة في ما ذكره هذا المحدّث من أوّله إلى آخره : تخيّله أنّ مذهب المجتهدين التمسّك بالبراءة الأصليّة لنفي الحكم الواقعيّ ، ولم أجد أحدا يستدلّ بها على ذلك. نعم ، قد عرفت سابقا أنّ ظاهر جماعة من الإماميّة جعل أصل البراءة من الأدلّة الظنّية ، كما تقدّم في المطلب الأوّل استظهار ذلك من صاحبي المعالم والزبدة (٤).

لكنّ ما ذكره من إكمال الدين لا ينفي حصول الظنّ ؛ لجواز دعوى أنّ المظنون بالاستصحاب أو غيره موافقة ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للبراءة. وما ذكره من تبعيّة خطاب الله تعالى للحكم والمصالح لا ينافي ذلك.

__________________

(١) في النسخ : «ورد».

(٢) انظر الفوائد المدنيّة : ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٣) راجع الصفحة ٩٤.

(٤) راجع الصفحة ٩٩.

١٤٧

لكنّ الإنصاف : أنّ الاستصحاب لا يفيد الظنّ ، خصوصا في المقام ـ كما سيجيء في محلّه (١) ـ ، ولا أمارة غيره يفيد الظنّ.

فالاعتراض على مثل هؤلاء إنّما هو منع حصول الظنّ ، ومنع اعتباره على تقدير الحصول ، ولا دخل لإكمال الدين وعدمه ولا للحسن والقبح العقليّين في هذا المنع.

وكيف كان : فيظهر من المعارج القول بالاحتياط في المقام عن جماعة ، حيث قال : العمل بالاحتياط غير لازم ، وصار آخرون إلى لزومه ، وفصّل آخرون (٢) ، انتهى. وحكي عن المعالم نسبته إلى جماعة (٣).

المسألة خلافيّة والأقوى البراءة

فالظاهر أنّ المسألة خلافيّة ، لكن لم يعرف القائل به بعينه ، وإن كان يظهر من الشيخ (٤) والسيّدين (٥) التمسّك به أحيانا ، لكن يعلم مذهبهم من أكثر المسائل.

والأقوى فيه : جريان أصالة البراءة للأدلّة الأربعة المتقدّمة ، مضافا إلى الإجماع المركّب.

__________________

(١) انظر مبحث الاستصحاب ٣ : ٨٧.

(٢) المعارج : ٢١٦.

(٣) لم نعثر عليه في المعالم ، ولا على الحاكي.

(٤) انظر المبسوط ١ : ١٥ و ٥٩.

(٥) انظر الانتصار : ١٠٣ ، ١٤٣ ، ١٤٦ و ١٤٨ ، والغنية : ٥٥ ، ٥٨ ، ٥٩ و ٦٣.

١٤٨

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل

محلّ الكلام في المسألة

أنّ محلّ الكلام في هذه المسألة هو احتمال الوجوب النفسيّ المستقلّ ، وأمّا إذا احتمل كون شيء واجبا لكونه جزءا أو شرطا لواجب آخر ، فهو داخل في الشكّ في المكلّف به ، وإن كان المختار جريان أصل البراءة فيه أيضا ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى (١) ، لكنّه خارج عن هذه المسألة الاتّفاقيّة.

__________________

(١) انظر الصفحة ٣١٨.

١٤٩

الثاني

رجحان الاحتياط وترتّب الثواب عليه

الإشكال في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب

أنّه لا إشكال في رجحان الاحتياط بالفعل حتّى في ما احتمل كراهته. والظاهر ترتّب الثواب عليه إذا اتي به لداعي احتمال المحبوبيّة ؛ لأنّه انقياد وإطاعة حكميّة ، والحكم بالثواب هنا أولى من الحكم بالعقاب على تارك الاحتياط اللازم ، بناء على أنّه (١) في حكم المعصية وإن لم يفعل محرّما واقعيّا.

وفي جريان ذلك في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب وجهان (٢) :

__________________

(١) في (ص) ، (ظ) و (ه): «أنّها».

(٢) في غير (ظ) زيادة : «أقواهما» ، ونقل المحقّق الهمداني قدس‌سره عن سيّد مشايخه رحمه‌الله : أنّها لم تثبت في النسخة المرقومة بخطّ المصنّف رحمه‌الله ، وإليك نصّ عبارته : «حكى سيّد مشايخنا أدام الله بقاءه عدم ذكر لفظ" أقواهما" في النسخة المرقومة بخطّ المصنّف رحمه‌الله ، فهو بحسب الظاهر من تحريفات النسّاخ ؛ وكيف لا؟ ومن المعلوم من مذهب المصنّف رحمه‌الله جريان الاحتياط في العبادات ، والاكتفاء في صحّة العبادة بحصولها بداعي الأمر المحتمل على تقدير مصادفة الاحتمال للواقع» ، انظر حاشية الهمداني على الرسائل : ٦٨.

١٥٠

العدم ؛ لأنّ العبادة لا بدّ فيها من نيّة التقرّب المتوقّفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا (١) كما في كلّ من الصلوات الأربع عند اشتباه القبلة. وما ذكرنا من ترتّب الثواب على هذا الفعل لا يوجب تعلّق الأمر به ، بل هو لأجل كونه انقيادا للشارع والعبد معه في حكم المطيع ، بل لا يسمّى ذلك ثوابا.

ودعوى : أنّ العقل إذا استقلّ بحسن هذا الإتيان ثبت «بحكم الملازمة» الأمر به شرعا.

مدفوعة ؛ لما تقدّم في المطلب الأوّل (٢) : من أنّ الأمر الشرعيّ بهذا النحو من الانقياد ـ كأمره بالانقياد الحقيقيّ والإطاعة الواقعيّة في معلوم التكليف ـ إرشاديّ محض ، لا يترتّب على موافقته ومخالفته أزيد ممّا يترتّب على نفس وجود المأمور به أو عدمه ، كما هو شأن الأوامر الإرشاديّة ، فلا إطاعة لهذا الأمر الإرشاديّ ، ولا ينفع في جعل الشيء عبادة ، كما أنّ إطاعة الأوامر المتحقّقة لم تصر عبادة بسبب الأمر الوارد بها في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ)(٣).

احتمال الجريان

ويحتمل الجريان ؛ بناء على أنّ هذا المقدار من الحسن العقليّ يكفي في العبادة ومنع توقّفها على ورود أمر بها ، بل يكفي الإتيان به لاحتمال كونه مطلوبا أو كون تركه مبغوضا ؛ ولذا استقرّت سيرة العلماء والصلحاء ـ فتوى وعملا ـ على إعادة العبادات لمجرّد الخروج من مخالفة النصوص

__________________

(١) في (ت) و (ه) زيادة : «أو الظنّ المعتبر».

(٢) راجع الصفحة ٦٩.

(٣) الأنفال : ٢٠.

١٥١

الغير المعتبرة والفتاوى النادرة.

واستدلّ في الذكرى (١) ـ في خاتمة قضاء الفوائت ـ على شرعيّة قضاء الصلوات لمجرّد احتمال خلل فيها موهوم ، بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(٢) ، و (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(٣) ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ)(٤).

التحقيق في المسألة

والتحقيق : أنّه إن قلنا بكفاية احتمال المطلوبيّة في صحّة العبادة فيما لا يعلم المطلوبيّة ولو إجمالا ، فهو ، وإلاّ فما أورده قدس‌سره في الذكرى ـ كأوامر الاحتياط ـ لا يجدي في صحّتها ؛ لأنّ موضوع التقوى والاحتياط ـ الذي يتوقّف عليه هذه الأوامر ـ لا يتحقّق إلاّ بعد إتيان محتمل العبادة على وجه يجتمع فيه جميع ما يعتبر في العبادة حتّى نيّة التقرّب ؛ وإلاّ لم يكن احتياطا ؛ فلا يجوز أن تكون تلك الأوامر منشأ للقربة المنويّة فيها.

اللهمّ إلاّ أن يقال ـ بعد النقض بورود هذا الإيراد في الأوامر الواقعيّة بالعبادات مثل قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(٥) ؛ حيث إنّ قصد القربة ممّا يعتبر في موضوع العبادة شطرا أو شرطا ، والمفروض ثبوت مشروعيّتها بهذا الأمر الوارد فيها ـ :

__________________

(١) الذكرى ٢ : ٤٤٤.

(٢) التغابن : ١٦.

(٣) آل عمران : ١٠٢.

(٤) المؤمنون : ٦٠.

(٥) البقرة : ٤٣.

١٥٢

إنّ المراد من الاحتياط والاتّقاء في هذه الأوامر هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة ، فمعنى الاحتياط بالصلاة الإتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة ، فأوامر الاحتياط يتعلّق بهذا الفعل ، وحينئذ : فيقصد المكلّف فيه التقرّب بإطاعة هذا الأمر.

ومن هنا يتّجه الفتوى باستحباب هذا الفعل وإن لم يعلم المقلّد كون هذا (١) الفعل ممّا شكّ في كونها عبادة ولم يأت به بداعي احتمال المطلوبيّة ؛ ولو اريد بالاحتياط في هذه الأوامر معناه الحقيقيّ وهو إتيان الفعل لداعي احتمال المطلوبيّة ، لم يجز للمجتهد أن يفتي باستحبابه إلاّ مع التقييد (٢) بإتيانه بداعي الاحتمال حتّى يصدق عليه عنوان الاحتياط ، مع استقرار سيرة أهل الفتوى على خلافه.

فعلم : أنّ المقصود إتيان الفعل بجميع ما يعتبر فيه عدا نيّة الداعي.

[قاعدة التسامح في أدلّة السنن](٣)

ثمّ إنّ منشأ احتمال الوجوب إذا كان خبرا ضعيفا ، فلا حاجة إلى أخبار الاحتياط وكلفة إثبات أنّ الأمر فيها للاستحباب الشرعيّ دون الإرشاد العقليّ ؛ لورود بعض الأخبار باستحباب فعل كلّ ما يحتمل فيه الثواب :

__________________

(١) كذا في (ت) ، (ظ) ونسخة بدل (ه) ، وفي غيرها : «ذلك».

(٢) في (ت) و (ه): «تقييده».

(٣) العنوان منّا.

١٥٣

الاستدلال على القاعدة ب «أخبار من بلغ»

كصحيحة هشام بن سالم ـ المحكيّة عن المحاسن ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «من بلغه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله ، كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله» (١).

وعن البحار بعد ذكرها : أنّ هذا الخبر من المشهورات ، رواه العامّة والخاصّة بأسانيد (٢).

والظاهر : أنّ المراد من «شيء من الثواب» ـ بقرينة ضمير «فعمله» ، وإضافة الأجر إليه ـ هو الفعل المشتمل على الثواب.

وفي عدّة الداعي عن الكليني قدس‌سره : أنّه روى بطرقه عن الأئمّة عليهم‌السلام أنّه : «من بلغه شيء من الخير فعمل به ، كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما بلغه (٣)» (٤).

وأرسل نحوه السيّد في الإقبال عن الصادق عليه‌السلام ، إلاّ أنّ فيه : «كان له ذلك» (٥).

والأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة (٦) ، إلاّ أنّ ما ذكرناها

__________________

(١) المحاسن ١ : ٩٣ ، الحديث ٢ ، والوسائل ١ : ٦٠ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٣.

(٢) البحار ٢ : ٢٥٦ ، ذيل الحديث ٣ ، وحكاه عنه في هداية المسترشدين : ٤٢٣.

(٣) في النسخ : «فعله» ، وما أثبتناه موافق للمصدر.

(٤) عدّة الداعي : ١٢ ، والكافي ٢ : ٨٧ ، باب من بلغه ثواب على عمل ، الحديث الأوّل ، والوسائل ١ : ٦١ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٨.

(٥) إقبال الأعمال ٣ : ١٧١ ، والوسائل ١ : ٦١ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٩.

(٦) راجع الوسائل ١ : ٥٩ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات.

١٥٤

أوضح دلالة على ما نحن فيه ، وإن كان يورد عليه أيضا (١) :

ما يورد على الاستدلال

تارة : بأنّ ثبوت الأجر لا يدلّ على الاستحباب الشرعيّ.

واخرى : بما تقدّم في أوامر الاحتياط : من أنّ قصد القربة مأخوذ في الفعل المأمور به بهذه الأخبار ، فلا يجوز أن تكون هي المصحّحة لفعله ، فيختصّ موردها بصورة تحقّق الاستحباب ، وكون البالغ هو الثواب الخاصّ ، فهو المتسامح فيه دون أصل شرعيّة الفعل.

وثالثة : بظهورها فيما بلغ فيه الثواب المحض ، لا العقاب محضا أو مع الثواب.

لكن يردّ هذا : منع الظهور مع إطلاق الخبر.

ويردّ ما قبله ما تقدّم في أوامر الاحتياط (٢).

عدم دلالة ثبوت الأجر على الاستحباب الشرعي

وأمّا الإيراد الأوّل ، فالإنصاف أنّه لا يخلو عن وجه ؛ لأنّ الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرّعا على البلوغ وكونه الداعي على العمل ـ ويؤيّده : تقييد العمل في غير واحد من تلك الأخبار (٣) بطلب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والتماس الثواب الموعود ـ ، ومن المعلوم أنّ العقل مستقلّ باستحقاق هذا العامل المدح والثواب ، وحينئذ :

فإن كان الثابت بهذه (٤) الأخبار أصل الثواب ، كانت مؤكّدة لحكم

__________________

(١) راجع لتفصيل الأقوال والايرادات وأجوبتها رسالة «التسامح في أدلّة السنن» للمصنّف قدس‌سره.

(٢) راجع الصفحة ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٣) الوسائل ١ : ٥٩ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٤ و ٧.

(٤) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «في هذه».

١٥٥

العقل بالاستحقاق ، وأمّا طلب الشارع لهذا الفعل :

دلالة «أخبار من بلغ» على الأمر الإرشادي

فإن كان على وجه الإرشاد لأجل تحصيل هذا الثواب الموعود فهو لازم للاستحقاق المذكور ، وهو عين الأمر بالاحتياط.

وإن كان على وجه الطلب الشرعيّ المعبّر عنه بالاستحباب ، فهو غير لازم للحكم بتنجّز الثواب ؛ لأنّ هذا الحكم تصديق لحكم العقل بتنجّزه فيشبه قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي)(١). إلاّ أنّ هذا وعد على الإطاعة الحقيقيّة ، وما نحن فيه وعد على الإطاعة الحكميّة ، وهو الفعل الذي يعدّ معه العبد في حكم المطيع ، فهو من باب وعد الثواب على نيّة الخير التي يعدّ معها العبد في حكم المطيع من حيث الانقياد.

وأمّا ما يتوهّم : من أنّ استفادة الاستحباب الشرعيّ فيما نحن فيه نظير استفادة الاستحباب الشرعيّ من الأخبار الواردة في الموارد الكثيرة المقتصر فيها على ذكر الثواب للعمل ، مثل قوله عليه‌السلام : «من سرّح لحيته فله كذا» (٢).

فمدفوع (٣) : بأنّ الاستفادة هناك باعتبار أنّ ترتّب الثواب لا يكون إلاّ مع الإطاعة حقيقة أو حكما ، فمرجع تلك الأخبار إلى بيان الثواب على إطاعة الله سبحانه بهذا الفعل ، فهي تكشف عن تعلّق الأمر بها من الشارع ، فالثواب هناك لازم للأمر يستدلّ به عليه استدلالا إنيّا.

__________________

(١) النساء : ١٣.

(٢) انظر الوسائل ١ : ٤٢٩ ، الباب ٧٦ من أبواب آداب الحمّام ، الحديث الأوّل.

(٣) كذا في (ت) ، وفي غيرها : «مدفوع».

١٥٦

ومثل ذلك استفادة الوجوب والتحريم ممّا اقتصر فيه على ذكر العقاب على الترك أو الفعل.

وأمّا الثواب الموعود في هذه الأخبار فهو باعتبار الإطاعة الحكميّة ، فهو لازم لنفس عمله المتفرّع على السماع واحتمال الصدق ولو لم يرد به أمر. آخر أصلا ، فلا يدلّ على طلب شرعيّ آخر له. نعم ، يلزم من الوعد على الثواب طلب إرشاديّ لتحصيل ذلك الموعود.

فالغرض (١) من هذه الأوامر ـ كأوامر الاحتياط ـ تأييد حكم العقل ، والترغيب في تحصيل ما وعد الله عباده المنقادين المعدودين بمنزلة المطيعين.

وإن كان الثابت بهذه الأخبار خصوص الثواب البالغ كما هو ظاهر بعضها ، فهو وإن كان مغايرا لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب على هذا العمل ـ بناء على أنّ العقل لا يحكم باستحقاق ذلك الثواب المسموع الداعي إلى الفعل ، بل قد يناقش في تسمية ما يستحقّه هذا العامل لمجرّد احتمال الأمر ثوابا وإن كان نوعا من الجزاء والعوض ـ ، إلاّ أنّ مدلول هذه الأخبار إخبار عن تفضّل الله سبحانه على العامل بالثواب المسموع ، وهو أيضا ليس لازما لأمر شرعي هو الموجب لهذا (٢) الثواب ، بل هو نظير قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)(٣) ملزوم لأمر إرشاديّ ـ يستقلّ به العقل ـ بتحصيل ذلك

__________________

(١) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «والغرض».

(٢) في (ت) ، (ه) ومحتمل (ص) و (ظ): «بهذا».

(٣) الأنعام : ١٦٠.

١٥٧

الثواب المضاعف.

والحاصل : أنّه كان ينبغي للمتوهّم أن يقيس ما نحن فيه بما ورد من الثواب على نيّة الخير ، لا على ما ورد من الثواب في بيان المستحبّات.

الثمرة بين الأمر الإرشادي والاستحباب الشرعي

ثمّ إنّ الثمرة بين ما ذكرنا وبين الاستحباب الشرعيّ تظهر (١) في ترتّب الآثار الشرعيّة (٢) المترتّبة على المستحبّات الشرعيّة ، مثل ارتفاع الحدث المترتّب على الوضوء المأمور به شرعا ؛ فإنّ مجرّد ورود خبر غير معتبر بالأمر به لا يوجب إلاّ استحقاق الثواب عليه ، ولا يترتّب عليه رفع الحدث ، فتأمّل. وكذا الحكم باستحباب غسل المسترسل من اللحية في الوضوء من باب مجرّد الاحتياط ، لا يسوّغ جواز المسح ببلله ، بل يحتمل قويّا أن يمنع من المسح ببلله وإن قلنا بصيرورته مستحبّا شرعيّا ، فافهم.

__________________

(١) في النسخ : «يظهر».

(٢) لم ترد «الشرعيّة» في (ر) و (ظ).

١٥٨

الثالث

اختصاص أدلّة البراءة بالشكّ في الوجوب التعييني

أنّ الظاهر : اختصاص أدلّة البراءة بصورة الشكّ في الوجوب التعيينيّ ، سواء كان أصليّا أو عرضيّا كالواجب المخيّر المتعيّن لأجل الانحصار ، أمّا لو شكّ في الوجوب التخييريّ والإباحة فلا تجري فيه أدلّة البراءة ؛ لظهورها في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلّف بحيث يلتزم به (١) ويعاقب عليه.

لو شكّ في الوجوب التخييري والإباحة

وفي جريان أصالة عدم الوجوب تفصيل :

لأنّه إن كان الشكّ في وجوبه في ضمن كلّيّ مشترك بينه وبين غيره أو وجوب ذلك الغير بالخصوص ، فيشكل جريان أصالة عدم الوجوب ؛ إذ ليس هنا إلاّ وجوب واحد مردّد بين الكلّي والفرد ، فتعيّن هنا إجراء أصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتيقّن الوجوب بفعل هذا المشكوك.

وأمّا إذا كان الشكّ في وجوبه (٢) بالخصوص ، جرى أصالة عدم

__________________

(١) كذا في النسخ ، والمناسب : «يلزم به».

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «إيجابه».

١٥٩

الوجوب وأصالة عدم لازمه الوضعيّ ، وهو سقوط الواجب المعلوم به (١) إذا شكّ في إسقاطه له ، أمّا إذا قطع بكونه مسقطا للواجب المعلوم ، وشكّ في كونه واجبا مسقطا للواجب الآخر أو مباحا (٢) مسقطا لوجوبه ـ نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم ـ فلا مجرى للأصل إلاّ بالنسبة إلى طلبه ، وتجري أصالة البراءة عن وجوبه التعيينيّ (٣) بالعرض إذا فرض تعذّر ذلك الواجب الآخر.

هل يجب الائتمام على من عجز عن القراءة وتعلّمها؟

وربما يتخيّل من هذا القبيل : ما لو شكّ في وجوب الائتمام على من عجز عن القراءة وتعلّمها ، بناء على رجوع المسألة إلى الشكّ في كون الائتمام مستحبّا مسقطا أو واجبا مخيّرا بينه وبين الصلاة مع القراءة ، فيدفع وجوبه التخييريّ بالأصل.

لكنّ الظاهر أنّ المسألة ليست من هذا القبيل ؛ لأنّ صلاة الجماعة فرد من الصلاة الواجبة ، فتتّصف (٤) بالوجوب لا محالة ، واتّصافها بالاستحباب من باب أفضل فردي الواجب ، فيختصّ بما إذا تمكّن المكلّف من غيره ، فإذا عجز تعيّن وخرج عن الاستحباب ، كما إذا منعه مانع آخر عن الصلاة منفردا.

لكن يمكن منع تحقّق العجز فيما نحن فيه ؛ فإنّه يتمكّن من الصلاة منفردا بلا قراءة ؛ لسقوطها عنه بالتعذّر كسقوطها بالائتمام ، فتعيّن (٥) أحد

__________________

(١) «به» من (ظ).

(٢) لم ترد «مسقطا للواجب الآخر أو مباحا» في (ه).

(٣) في (ر) و (ه): «التعيّني».

(٤) في (ه): «فمتّصف».

(٥) كذا في (ه) ، وفي غيرها : «فتعيين».

١٦٠