البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤

الآجل انتهى. وهو جار على مذهب المعتزلة في أنه لا تغفر الذنوب بدون التوبة ، وبأنه لا شفاعة في الكبائر ، وبأنه لا يخرج من النار أبدا من دخلها من فاسق مؤمن. وانتصب (غُرُوراً) وهو مصدر على أنه وصف لمصدر محذوف أي وعدا غرورا على الوجوه التي في رجل صوم ، ويحتمل أن يكون مفعولا من أجله أي وما يعدكم ويمنيكم ما لا يتم ولا يقع إلّا لأن يغركم ، والإضافة إليه تعالى في (إِنَّ عِبادِي) إضافة تشريف ، والمعنى المختصين بكونهم (عِبادِي) لا يضافون إلى غيري كما قال في مقابلهم أولياؤهم الطاغوت وأولياء الشيطان.

وقيل : ثم صفة محذوفة أي (إِنَّ عِبادِي) الصالحين ، ونفى السلطان وهو الحجة والاقتدار على إغوائهم عن الإيمان ويدل على لحظ الصفة قوله (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) (١). وقال الجبائي : (عِبادِي) عام في المكلفين ، ولذلك استثنى منه في أي من اتبعه في قوله (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٢) واستدل بهذا على أنه لا سبيل له ولا قدرة على تخليط العقل وإنما قدرته على الوسوسة ، ولو كان له قدرة على ذلك لخبط العلماء ليكون ضرره أتم ، ومعنى (وَكِيلاً) حافظا لعباده الذين ليس له عليهم سلطان من إغواء الشيطان أو (وَكِيلاً) يكلون أمورهم إليه فهو حافظهم بتوكلهم عليه.

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً* وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً* أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً* أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً).

لما ذكر تعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم وأنها تضر وتنفع ، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم ، وتمكينه من وسوسة ذريته وتسويله ذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته ، وأنه هو النافع الضار المتصرف في خلقه بما يشاء ، فذكر إحسانه إليهم بحرا وبرا ، وأنه تعالى متمكن بقدرته مما يريده. وإزجاء الفلك سوقها من مكان إلى مكان بالريح اللينة والمجاديف ، وذلك من رحمته بعباده وابتغاء الفضل طلب التجارة أو الحج فيه أو الغزو. والضر في البحر الخوف من الغرق باضطرابه وعصف الريح ، ومعنى (ضَلَ) ذهب

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ١٠٠.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٤٢.

٨١

عن أوهامكم من تدعونه إلها فيشفع أو ينفع ، أو (ضَلَ) من تعبدونه إلّا الله وحده فتفردونه إذ ذاك بالالتجاء إليه والاعتقاد أنه لا يكشف الضر إلّا هو ولا يرجون لكشف الضر غيره. ثم ذكر حالهم إذ كشف عنهم من إعراضهم عنه وكفرانهم نعمة إنجائهم من الغرق ، وجاءت صفة (كَفُوراً) دلالة على المبالغة ، ثم لم يخاطبهم بذلك بل أسند ذلك إلى الإنسان لطفا بهم وإحالة على الجنس إذ كل أحد لا يكاد يؤدّي شكر نعم الله.

وقال الزجاج : المراد بالإنسان الكفار ، والظاهر أن (إِلَّا إِيَّاهُ) استثناء منقطع لأنه لم يندرج في قوله (مَنْ تَدْعُونَ) إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون الله. وقيل : هو استثناء متصل وهذا على معنى ضل من يلجؤون إليه وهم كانوا يلجؤون في بعض أمورهم إلى معبوداتهم ، وفي هذه الحالة لا يلجؤون إلّا إلى الله والهمزة في (أَفَأَمِنْتُمْ) للإنكار. قال الزمخشري : والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم انتهى. وتقدم لنا الكلام معه في دعواه أن الفاء والواو في مثل هذا التركيب للعطف على محذوف بين الهمزة وحرف العطف ، وأن مذهب الجماعة أن لا محذوف هناك ، وأن الفاء والواو للعطف على ما قبلها وأنه اعتنى بهمزة الاستفهام لكونها لها صدر الكلام فقدمت والنية التأخير ، وأن التقدير فأمنتم. وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة والخطاب للسابق ذكرهم أي (أَفَأَمِنْتُمْ) أيها الناجون المعرضون عن صنع الله الذي نجاكم ، وانتصب (جانِبَ) على المفعول به بنخسف كقوله (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) (١) والمعنى أن نغيره بكم فتهلكون بذلك. وقال الزمخشري : أن نقلبه وأنتم عليه.

وقال الحوفي : (جانِبَ الْبَرِّ) منصوب على الظرف ، ولما كان الخسف تغييبا في التراب قال : (جانِبَ الْبَرِّ) و (بِكُمْ) حال أي نخسف (جانِبَ الْبَرِّ) مصحوبا بكم. وقيل : الباء للسبب أي بسببكم ، ويكون المعنى (جانِبَ الْبَرِّ) الذي أنتم فيه ، فيحصل بخسفه إهلاكهم وإلّا فلا يلزم من خسف (جانِبَ الْبَرِّ) بسببهم إهلاكهم.

قال قتادة : الحاصب الحجارة. وقال السدّي : رام يرميكم بحجارة من سجيل ، والمعنى أن قدرته تعالى بالغة فإن كان نجاكم من الغرق وكفرتم نعمته فلا تأمنوا إهلاكه إياكم وأنتم في البر ، إما بأمر يكون من تحتكم وهو تغوير الأرض بكم ، أو من فوقكم بإرسال حاصب عليكم ، وهذه الغاية في تمكن القدرة ثم (لا تَجِدُوا) عند حلول أحد

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٨١.

٨٢

هذين بكم من تكلون أموركم إليه فيتوكل في صرف ذلك عنكم. و (أَمْ) في (أَمْ أَمِنْتُمْ) منقطعة تقدر ببل ، والهمزة أي بل (أَمِنْتُمْ) والضمير في (فِيهِ) عائد على البحر ، وانتصب تارة على الظرف أي وقتا غير الوقت الأول ، والباء في (بِما كَفَرْتُمْ) سببية وما مصدرية ، أي بسبب كفركم السابق منكم ، والوقت الأول الذي نجاكم فيه أو بسبب كفركم الذي هو دأبكم دائما. والضمير في (بِهِ) عائد على المصدر الدال عليه فنغرقكم ، إذ هو أقرب مذكور وهو نتيجة الإرسال. وقيل عائد على الإرسال. وقيل : عليهما فيكون كاسم الإشارة والمعنى بما وقع من الإرسال والإغراق. والتبيع قال ابن عباس : النصير ، وقال الفراء : طالب الثأر. وقال أبو عبيدة : المطالب. وقال الزجّاج : من يتبع بالإنكار ما نزل بكم ، ونظيره قوله تعالى (فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها) (١) وفي الحديث : «إذا اتّبع أحدكم على ملىء فليتبع». وقال الشماخ :

كما لاذ الغريم من التبيع

ويقال : فلان على فلان تبيع ، أي مسيطر بحقه مطالب به. وأنشد ابن عطية :

غدوا وغدت غزلانهم فكأنها

ضوامن غرم لدهن تبيع

أي مطالب بحقه. وقرأ ابن كثير وأبو عمر : ونخسف وأو نرسل وأن نعيدكم وفنرسل وفنغرقكم خمستها بالنون ، وباقي القراء بياء الغيبة ومجاهد وأبو جعفر فتغرقكم بناء الخطاب مسندا إلى الريح والحسن وأبو رجاء (فَيُغْرِقَكُمْ) بياء الغيبة وفتح الغين وشد الراء ، عدّاه بالتضعيف ، والمقري لأبي جعفر كذلك إلّا أنه بتاء الخطاب ، وحميد بالنون وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف ، ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن. وقرأ الجمهور : (مِنَ الرِّيحِ) بالإفراد وأبو جعفر من الرياح جمعا.

وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ

__________________

(١) سورة الشمس : ٩١ / ١٥.

٨٣

عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢)

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً).

لما ذكر تعالى ما امتنّ به عليهم من إزجاء الفلك في البحر ومن تنجيتهم من الغرق ، تمم ذكر المنة بذكر تكرمتهم ورزقهم وتفضيلهم ، أو لما هددهم بما هدد من الخسف والغرق وأنهم كافرو نعمته ذكر ما أنعم به عليهم ليتذكروا فيشكروا نعمه ويقلعوا عن ما كانوا فيه من الكفر ويطيعوه تعالى ، وفي ذكر النعم وتعدادها هز لشكرها وكرم معدى بالتضعيف من كرم أي جعلناهم ذوي كرم بمعنى الشرف والمحاسن الجمة ، كما تقول : ثوب كريم وفرس كريم أي جامع للمحاسن. وليس من كرم المال. وما جاء عن أهل التفسير من تكريمهم وتفضيلهم بأشياء ذكرها هو على سبيل التمثيل لا على الحصر في ذلك كما روي عن ابن عباس أن التفضيل بالعقل وعن الضحاك بالنطق. وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها ، وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات ، وعن يمان بحسن الصورة ، وعن

٨٤

محمد بن كعب بجعل محمد عليه الصلاة والسلام منهم. وعن ابن جرير بالتسليط على غيره من الخلق وتسخيره له. وقيل : بالخط. وقيل : باللحية للرجل والذؤابة للمرأة. وعن ابن عباس : بأكله بيده وغيره بفمه. وقيل : بتدبير المعاش والمعاد. وقيل : بخلق الله آدم بيده. قال ابن عطية : وقد ذكر أن من الحيوان ما يفضل بنوع ما ابن آدم كجري الفرس وسمعه وإبصاره ، وقوة الفيل ، وشجاعة الأسد ، وكرم الديك. قال : وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله وبه يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه انتهى.

(وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) وهذا أيضا من تكريمهم. قال ابن عباس : في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل ، وفي البحر على السفن. وقال غيره : على أكباد رطبة وأعواد يابسة. و (الطَّيِّباتِ) كما تقدم الحلال أو المستلذ ولا يتسع غيره من الحيوان في الرزق اتساعه لأنه يكتسب المال ويلبس الثياب ويأكل المركب من الأطعمة بخلاف الحيوان ، فإنه لا يكتسب ولا يلبس ولا يأكل غالبا إلا لحما نيئا وطعاما غير مركب ، والظاهر أن كثيرا باق على حقيقته ، فقالت طائفة : فضلوا على الخلائق كلهم غير جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأشباههم وهذا عن ابن عباس. وعنه إن الإنسان ليس أفضل من الملك وهو اختيار الزجّاج. وقال ابن عطية : والحيوان والجن هو الكثير المفضول والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول. وقالت فرقة : الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس من حيث هم المستثنون ، وقد قال تعالى (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (١) وهذا غير لازم من الآية ، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن له الآية بل يحتمل أن الملائكة أفضل ويحتمل التساوي ، وإنما يصح تفضيل الملائكة من مواضع أخر من الشرع انتهى.

وقال الزمخشري : (عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) هو ما سوى الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، وحسب بني آدم (تَفْضِيلاً) أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم ، والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا حتى جسرتهم المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك ، ثم ذكر تشنيعا أقذع فيه يوقف عليه من كتابه. وقيل : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ) بالغلبة والاستيلاء. وقيل : بالثواب والجزاء يوم القيامة ، وعلى هذين القولين لم تتعرض الآية للتفضيل المختلف فيه بين الإنس والملائكة.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٧٢.

٨٥

وقيل : المراد بكثير مجازه وهو إطلاقه على الجميع ، والعرب تفعل ذلك وهذا القول لا ينبغي أن يقال هنا لأنك لو جعلت جميعا كان بكثير ، فقلت على جميع ممن خلقنا لكان نائيا عن الفصاحة ، ولا يليق أن يحمل كلام الله تعالى الذي هو أفصح الكلام عليه ، ولأبي عبد الله الرازي كلام في تكريم ابن آدم وتفضيله مستمد من كلام الذين يسمونهم حكماء يوقف عليه في تفسيره إذ هو جار على غير طريقة العرب في كلامها.

ولما ذكر تعالى أنواعا من كرامات الإنسان في الدنيا ذكر شيئا من أحوال الآخرة فقال : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) واختلفوا في العامل في (يَوْمَ). فقيل : العامل فيه ما دل عليه قوله متى هو. وقيل : فتستجيبون. وقيل : هو بدل من يوم يدعوكم وهذه أقوال في غاية الضعف ، ولو لا أنهم ذكروها لضربت عن ذكرها صفحا وهو في هذه الأقوال ظرف. وقال الحوفي وابن عطية انتصب على الظرف والعامل فيه اذكر وعلى تقدير اذكر لا يكون ظرفا بل هو مفعول. وقال ابن عطية أيضا بعد قوله هو ظرف : والعامل فيه أذكر أو فعل يدل عليه قوله (وَلا يُظْلَمُونَ) ، وحكاه أبو البقاء وقدره (وَلا يُظْلَمُونَ) يوم ندعو. وقال ابن عطية أيضا : ويصح أن يعمل فيه (وَفَضَّلْناهُمْ) وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيّن لأنهم المنعمون المكلفون المحاسبون الذين لهم القدر إلّا أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان ، إذ يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا. وقال ابن عطية أيضا : ويصح أن يكون (يَوْمَ) منصوبا على البناء لما أضيف إلى غير متمكن ، ويكون موضعه رفعا بالابتداء ، والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) إلى قوله (وَمَنْ كانَ) انتهى. وقوله منصوبا على البناء كان ينبغي أن يقول مبنيا على الفتح ، وقوله : لما أضيف إلى غير متمكن ليس بجيد لأن الذي ينقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل ، وهذا أضيف إلى فعل مضارع ومذهب البصريين أنه إذا أضيف إلى فعل مضارع معرب لا يجوز بناؤه ، وهذا الوجه الذي ذكره هو على رأي الكوفيين. وأما قوله : والخبر في التقسيم فالتقسيم عار من رابط لهذه الجملة التقسيمية بالمبتدأ لا أن قدر محذوفا ، فقد يمكن أي ممن (أُوتِيَ كِتابَهُ) فيه (بِيَمِينِهِ) وهو بعد ذلك التخريج تخريج متكلف.

وقال بعض النحاة : العامل فيه (وَفَضَّلْناهُمْ) على تقدير (وَفَضَّلْناهُمْ) بالثواب ، وهذا القول قريب من قول ابن عطية الذي ذكرناه عنه قبل. وقال الزجاج : هو ظرف لقوله ثم لا تجد. وقال الفراء : هو معمول لقوله نعيدكم مضمرة أي نعيدكم (يَوْمَ نَدْعُوا) والأقرب

٨٦

من هذه الأقوال أن يكون منصوبا على المفعول به بأذكر مضمرة. وقرأ الجمهور : (نَدْعُوا) بنون العظمة ، ومجاهد يدعو بياء الغيبة أي يدعو الله ، والحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني يدعى مبنيا للمفعول (كُلَ) مرفوع به ، وفيما ذكر غيره يدعو بالواو وخرج على إبدال الألف واوا على لغة من يقول : أفعو في الوقف على أفعى ، وإجراء الوصل مجرى الوقف وكل مرفوع به ، وعلى أن تكون الواو ضميرا مفعولا لم يسم فاعله ، وأصله يدعون فحذفت النون كما حذفت في قوله :

أبيت أسري وتبيتي تدلكي

وجهك بالعنبر والمسك الزكي

أي تبيتين تدلكين وكل بدل من واو الضمير. و (أُناسٍ) اسم جمع لا واحد له من لفظه ، والباء في (بِإِمامِهِمْ) الظاهر أنها تتعلق بندعو ، أي باسم إمامهم. وقيل : هي باء الحال أي مصحوبين (بِإِمامِهِمْ). والإمام هنا قال ابن عباس والحسن وأبو العالية والربيع كتابهم الذي فيه أعمالهم. وقال الضحاك وابن زيد : كتابهم الذي نزل عليهم. وقال مجاهد وقتادة : نبيهم. قال ابن عطية : والإمام يعم هذا كله لأنه مما يؤتم به. وقال الزمخشري : إمامهم من ائتموا به من نبيّ أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين ، فيقال : يا أهل دين كذا وكتاب كذا. وقيل : بكتاب أعمالهم يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر. وفي قراءة الحسن بكتابهم ومن بدع التفسير أن الإمام جمع أم وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم ، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وشرف الحسن والحسين. وأن لا يفتضح أولاد الزنا وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بهاء حكمته انتهى. وإيتاء الكتاب دليل على ما تقرر في الشريعة من الصحف التي يؤتاها المؤمن والكافر ، وإيتاؤه باليمين دليل على نجاة الطائع وخلاص الفاسق من النار إن دخلها وبشارته أنه لا يخلد فيها (فَأُولئِكَ) جاء جمعا على معنى من إذ قد حمل على اللفظ أولا فأفرد في قوله (أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) وقراءتهم كتبهم هو على سبيل التلذذ بالاطّلاع على ما تضمنتها من البشارة ، وإلّا فقد علموا من حيث إيتاؤهم إياها باليمين أنهم من أهل السعادة ومن فرحهم بذلك يقول الباري لأهل المحشر : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (١) ولم يأت هنا قسيم من (أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) وهو من يؤتى كتابه بشماله ، وإن كان قد أتى في غير هذه الآية بل جاء قسيمه قوله.

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) وذلك من حيث المعنى مقابله لأن من (أُوتِيَ كِتابَهُ

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ١٩.

٨٧

بِيَمِينِهِ) هم أهل السعادة (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) هم أهل الشقاوة (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي لا ينقصون أدنى شيء وتقدم شرح الفتيل في سورة النساء. والظاهر أن الإشارة بقوله : (فِي هذِهِ) إلى الدنيا وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد أي : من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه ، فهو في الآخرة أعمى إما أن يكون على حذف مضاف أي في شأن الآخرة ، وإما أن يكون فهو يوم القيامة أعمى معنى أنه خبر إن لا يتوجه له صواب ولا يلوح له نجح. وقال مجاهد : هو أعمى في الآخرة عن حججه. وقال ابن عباس أيضا : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) النعم يشير إلى نعم التكريم والتفضيل فهو في الآخرة التي لم تر ولم تعاين (أَعْمى). وقيل : ومن كان في الدنيا ضالا كافرا فهو في الآخرة أعمى (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) لأنه في الدنيا تقبل توبته ، وفي الآخرة لا تقبل وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من الآفات ، وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة. وقيل : فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة. وقيل : أعمى البصر كما قال (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً) (١) وقوله : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) (٢). وقيل : من كان في الدنيا أعمى عن إبصار الحق والاعتبار فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار.

وقال ابن عطية : والظاهر عندي أن الإشارة بهذه إلى الدنيا أي من كان في دنياه (هذِهِ) وقت إدراكه وفهمه (أَعْمى) عن النظر في آيات الله فهو في يوم القيامة أشدّ حيرة وعمى لأنه قد باشر الخيبة ورأى مخائل العذاب ، وبهذا التأويل تكون معادلة التي قبلها من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه. وإذا جعلنا قوله (فِي الْآخِرَةِ) بمعنى في شأن الآخرة لم تطرد المعادلة بين الآيتين. وقال الزمخشري : والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة ، أما في الدنيا فلفقد النظر ، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه وقد جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل. ومن ثم قرأ أبو عمر الأول مما لا والثاني مفخما لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام كقوله (أَعْمالُكُمْ) (٣) وأما الأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة انتهى. وتعليله ترك إمالة أعمى الثاني أخذه الزمخشري من أبي عليّ قال أبو عليّ : لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر ، و (أَعْمى) ليس كذلك لأن تقديره (أَعْمى) من كذا

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٧.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ١٢٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٣٩ وغيرها.

٨٨

فليس يتم إلا في قولنا من كذا فهو إذن ليس بآخر ، ويقوي هذا التأويل عطف (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) لأن الإنسان في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو وهو في الآخرة لا يمكنه ذلك فهو (أَضَلُّ سَبِيلاً) وأشدّ حيرة وأقرب إلى العذاب ، و (أَعْمى) هنا من عمى القلب لا من عمى البصر لأن ذلك يقع فيه التفاضل لا هذا.

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً).

الضمير في (وَإِنْ كادُوا) قيل لقريش. وقيل لثقيف ، وذكروا أسباب نزول مختلفة وفي بعضها ما لا يصح نسبته إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويوقف على ذلك في تفسير ابن عطية والزمخشري والتحرير وغير ذلك ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما عدد نعمه على بني آدم ثم ذكر حالهم في الآخرة من إيتاء الكتاب باليمين لأهل السعادة ، ومن عمى أهل الشقاوة أتبع ذلك بما يهم به الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على سيد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة ، ومعنى (لَيَفْتِنُونَكَ) ليخدعونك وذلك في ظنهم لا أنهم قاربوا ذلك إذ هو معصوم عليه‌السلام أن يقاربوا فتنته عما أوحى الله إليه ، وتلك المقاربة في زعمهم سببها رجاؤهم أن يفتري على الله غير ما أوحى الله إليه من تبديل الوعد وعيدا أو الوعيد وعدا ، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزل عليه و (إِنْ) هذه هي المخففة من الثقيلة ، وليتها الجملة الفعلية وهي (كادُوا) لأنها من أفعال المقاربة وإنما تدخل على مذهب البصريين من الأفعال على النواسخ التي للإثبات على ما تقرر في علم النحو ، واللام في (لَيَفْتِنُونَكَ) هي الفارقة بين أن هذه وأن النافية (وَإِذاً) حرف جواب وجزاء ، ويقدر قسم هنا تكون (لَاتَّخَذُوكَ) جوابا له ، والتقدير والله (إِذاً) أي إن افتتنت وافتريت (لَاتَّخَذُوكَ) ولا اتخذوك في معنى ليتخذونك كقوله (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا) (١) أي ليظلنّ لأن (إِذاً) تقتضي الاستقبال لأنها من حيث المعنى جزءا فيقدر موضعها بأداة الشرط.

وقال الزمخشري : (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ) أي ولو اتبعت مرادهم (لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً)

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٥١.

٨٩

ولكنت لهم وليا ، ولخرجت من ولايتي انتهى. وهو تفسير معنى لا إن (لَاتَّخَذُوكَ) جواب لو محذوفة. قال الزمخشري : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) ولو تثبيتنا لك وعصمتنا لقد كدت تركن إليهم لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم ، وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت ، وفي ذلك لطف للمؤمنين إذن لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة (لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي (لَأَذَقْناكَ) عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين. فإن قلت : كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت : أصله (لَأَذَقْناكَ) عذاب الحياة وعذاب الممات لأن العذاب عذابان ، عذاب في الممات وهو عذاب القبر ، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار ، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى : (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) (١) يعني مضاعفا ، فكان أصل الكلام (لَأَذَقْناكَ) عذابا ضعفا في الحياة ، وعذابا ضعفا في الممات ، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف ، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف ، فقيل (ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) كما لو قيل (لَأَذَقْناكَ) أليم الحياة وأليم الممات ، ويجوز أن يراد بضعف الحياة عذاب الحياة الدنيا ، وبضعف الممات ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار والمعنى لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا. وما نؤخره لما بعد الموت انتهى.

وجواب (لَوْ لا) يقتضي إذا كان مثبتا امتناعه لوجود ما قبله ، فمقاربة الركون لم تقع منه فضلا عن الركون والمانع من ذلك هو وجود تثبيت الله. وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق وابن مصرف : (تَرْكَنُ) بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وانتصب (شَيْئاً) على المصدر. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : يريد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات على معنى أن ما يستحقه من أذنب من عقوبتنا في الدنيا والآخرة كنا نضعفه. وذهب ابن الأنباري إلى أن المعنى لقد كاد أن يخبروا عنك أنك ركنت إلى قولهم بسبب فعلهم إليه مجازا واتساعا كما تقول للرّجل : كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت.

وقال ابن عباس : كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوما ، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه انتهى. واللام في (لَأَذَقْناكَ) جواب قسم محذوف قبل (إِذاً) أي والله إن حصل ركون ليكونن كذا ، والقول في (لَأَذَقْناكَ) كالقول في (لَاتَّخَذُوكَ) من وقوع الماضي موضع المضارع الداخل عليه

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٣٨.

٩٠

اللام والنون ، وممن نص على أن اللام في (لَاتَّخَذُوكَ) و (لَأَذَقْناكَ) هي لام القسم الحوفي. وقال الزمخشري : وفي ذكر الكيدودة وتعليلها مع اتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين دليل بيّن على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته انتهى. ومن ذلك (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) (١) الآية. قال الزمخشري : وفيه أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته ، وسبب موجب لغضبه ونكاله انتهى.

وروي أنه لما نزلت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين». قال حضرمي : الضمير في (وَإِنْ كادُوا) ليهود المدينة وناحيتها كحيي بن أخطب وغيره ، وذلك أنهم ذهبوا إلى المكر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء ، وإنما أرض الأنبياء الشام ، ولكنك تخاف الروم فإن كنت نبيا فاخرج إليها فإن الله سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء فنزلت ، وأخبر تعالى أنه لو خرج لم يلبثهم بعد (إِلَّا قَلِيلاً). وحكى النقاش أنه خرج بسبب قولهم وعسكر بذي الحليفة وأقام ينتظر أصحابه فنزلت ورجع. قال ابن عطية : وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه ، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة انتهى.

وقالت فرقة : الضمير لقريش قاله ابن عباس وقتادة ، واستفزازهم هو ما ذهبوا إليه من إخراجه من مكة كما ذهبوا إلى حصره في الشعب ، ووقع استفزازهم هذا بعد نزول الآية وضيقوا عليه حتى خرج واتبعوه إلى الغار ونفذ عليهم الوعيد في أن لم يلبثوا خلفه (إِلَّا قَلِيلاً) يوم بدر. وقال الزجّاج حاكيا أن استفزازهم ما أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله والأرض على هذا الدنيا. وقال مجاهد : ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها لأنه لما أراد تعالى استبقاء قريش وأن لا يستأصلهما أذن لرسوله في الهجرة فخرج بإذنه لا بقهر قريش ، واستبقيت قريش ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم قال : ولو أخرجته قريش لعذبوا. ذهب مجاهد إلى أن الضمير في (يَلْبَثُونَ) لجميعهم. وقال الحسن : (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ليفتنونك عن رأيك. وقال ابن عيسى : ليزعجونك ويستخفونك. وأنشد :

يطيع سفيه القوم إذ يستفزه

ويعصي حليما شيبته الهزاهز

والظاهر أن الآية تدل على مقاربة استفزازه لأن يخرجوه ، فما وقع الاستفزاز ولا إخراجهم

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٠.

٩١

إياه المعلل به الاستفزاز ، ثم جاء في القرآن (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) (١) أي أخرجك أهلها. وفي الحديث : «يا ليتني كنت فيها جذعا إذ يخرجك قومك قال : أو مخرجي هم»؟ الحديث فدل ذلك على أنهم أخرجوه. لكن الإخراج الذي هو علة للاستفزاز لم يقع فلا تعارض بين الآيتين والحديث. وقال أبو عبد الله الرازي : ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله فزال التناقض انتهى.

و (لا يَلْبَثُونَ) جواب قسم محذوف أي والله إن استفزوك فخرجت (لا يَلْبَثُونَ) ولذلك لم تعمل (إِذاً) لأنها توسطت بين قسم مقدر ، والفعل فلا يلبثون ليست منصبة عليه من جهة الإعراب ، ويحتمل أن تكون (لا يَلْبَثُونَ) خبرا لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره ، وهم (إِذاً لا يَلْبَثُونَ) فوقعت إذا بين المبتدأ وخبره فألغيت. وقرأ أبيّ وإذا لا يلبثوا بحذف النون أعمل إذا فنصب بها على قول الجمهور ، وبأن مضمرة بعدها على قول بعضهم وكذا هي في مصحف عبد الله محذوفة النون.

قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه القراءتين؟ قلت : أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد ، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم. وأما قراءة أبيّ ففيها الجملة برأسها التي هي وإذا لا يلبثوا عطف على جملة قوله (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) انتهى. وقرأ عطاء (لا يَلْبَثُونَ) بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة. وقرأ يعقوب كذلك إلّا أنه كسر الباء. وقرأ الإخوان وابن عامر وحفص (خِلافَكَ) وباقي السبعة خلفك والمعنى واحد. قال الشاعر :

عفت الديار خلافهم فكأنما

بسط الشواطب بينهن حصيرا

وهذا كقوله (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ) (٢) خلاف رسول الله أي خلف رسول الله في أحد التأويلات. وقرأ عطاء بن أبي رباح : بعدك مكان خلفك ، والأحسن أن يجعل تفسيرا لخلفك لا قراءة لأنها لا تخالف سواد المصحف ، فأراد أن يبين أن خلفك هنا ليست ظرف مكان وإنما تجوز فيها فاستعملت ظرف زمان بمعنى بعدك. وهذه الظروف التي هي قبل وبعد ونحوهما اطّرد إضافتها إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله ، في نحو خلفك أي خلف إخراجك ، وجاء زيد قبل عمرو أي قبل مجيء عمرو ، وضحك بكر بعد خالد أي بعد ضحك خالد. وانتصب (سُنَّةَ) على المصدر المؤكد أي سنّ الله سنة ،

__________________

(١) سورة محمد : ٤٧ / ١٣.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٨١.

٩٢

والمعنى أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة الله أن يهلكهم بعد إخراجه ويستأصلهم ولا يقيمون بعده إلّا قليلا. وقال الفراء : انتصب (سُنَّةَ) على إسقاط الخافض لأن المعنى كسنة فنصب بعد حذف الكاف ، وعلى هذا لا يقف على قوله : (إِلَّا قَلِيلاً).

وقال أبو البقاء : (سُنَّةَ) منصوب على المصدر أي سننا بك سنة من تقدم من الأنبياء ، ويجوز أن يكون مفعولا به أي اتبع (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا) كما قال تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (١) انتهى. وهذا معنى غير الأول والمفسرون على الأول وهو المناسب لمعنى الآية قبلها (وَلا تَجِدُ) لما أجرينا به العادة (تَحْوِيلاً) منه إلى غيره إذا كل حادث له وقت معين وصفة معينة ونفي الوجدان هنا وفيما أشبهه معناه نفي الوجود.

وإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٩٠.

٩٣

يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)

٩٤

الدلوك الغروب قاله الفراء وابن قتيبة ، واستدل الفراء بقول الشاعر :

هذا مقام قدمي رباح

غدوة حتى دلكت براح

أي حتى غابت الشمس ، وبراح اسم الشمس وأنشد ابن قتيبة لذي الرمة :

مصابيح ليست باللواتي يقودها

نجوم ولا بالآفلات الدوالك

وقيل : الدلوك زوال الشمس نصف النهار. قيل واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان تدلك عينه عند النظر إليها. وقيل الدلوك من وقت الزوال إلى الغروب. الغسق سواد الليل وظلمته. قال الكسائي غسق الليل غسوقا والغسق الاسم بفتح السين. وقال النضر بن شميل : غسق الليل دخول أوله. قال الشاعر :

إن هذا الليل قد غسقا

واشتكيت الهم والأرقا

وأصله من السيلان غسقت العين تغسق هملت بالماء والغاسق السائل ، وذلك أن الظلمة تنصب على العالم. قال الشاعر :

ظلت تجود يداها وهي لاهية

حتى إذا جنح الإظلام والغسق

وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق؟ قال : الليل بظلمته ، ويقال غسقت العين امتلأت دما. وحكى الفراء غسق الليل واغتسق وظلم وأظلم ودجى وأدجى وغبش وأغبش ، أبو عبيدة الهاجد النائم والمصلي. وقال ابن الأعرابي : هجد الرجل صلى من الليل ، وهجد نام بالليل. وقال الليث تهجد استيقظ للصلاة. وقال ابن برزح هجدته أيقظته ، فعلى ما ذكروا يكون من الأضداد ، والمعروف في كلام العرب أن الهاجد النائم وقد هجد هجودا نام. قال الشاعر :

ألا زارت وأهل منى هجود

وليت خيالنا منا يعود

وقال آخر :

ألا طرقتنا والرفاق هجود

وقال آخر :

وبرك هجود قد أثارت مخافتي

زهقت نفسه تزهق زهوقا ذهبت ، وزهق الباطل زال واضمحل ، ولم يثبت. قال الشاعر :

٩٥

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

إقدامه مزالة لم تزهق

ناء ينوء : نهض. الشاكلة الطريقة والمذهب الذي جبل عليه قاله الفراء ، وهو مأخوذ من الشكل يقال لست على شكلي ولا شاكلتي ، والشكل المثل والنظير ، والشكل بكسر الشين الهيئة يقال جارية حسنة الشكل. الينبوع مفعول من النبع وهو عين تفور بالماء. الكسف القطع واحدها كسفة ، تقول العرب : كسفت الثوب ونحوه قطعته ، وما زعم الزجاج من أن كسف بمعنى غطى ليس بمعروف في دواوين اللغة. الرقّي والرقى الصعود يقال : رقيت في السلم أرقى قال الشاعر :

أنت الذي كلفتني رقي الدرج

على الكلال والمشيب والعرج

خبت النار تخبو : سكن لهبها وخمدت سكن جمرها وضعف وهمدت طفئت جملة. قال الشاعر :

أمن زينب ذي النار قبيل الصبح

ما تخبو إذا ما أخمدت ألقى عليها المندل الرطب

وقال آخر :

وسطه كالبراع أو سرج المجدل

طورا يخبو وطورا ينير

الثبور : الهلاك يقال : ثبر الله العدوّ ثبورا أهلكه. وقال ابن الزبعرى :

إذا جارى الشيطان في سنن الغي

ومن مال مثله مثبور

اللفيف الجماعات من قبائل شتى مختلطة قد لف بعضها ببعض. وقال بعض اللغويين : هو من أسماء الجموع لا واحد له من لفظه. وقال الطبري : هو بمعنى المصدر كقول القائل لففته لفا ولفيفا. المكث : التطاول في المدّة ، يقال : مكث ومكث أطال الإقامة. الذقن مجتمع اللحيين. قال الشاعر :

فخروّا لأذقان الوجوه تنوشهم

سباع من الطير العوادي وتنتف

خافت بالكلام أسره بحيث لا يكاد يسمعه المتكلم وضربه حتى خفت أي لا يسمع له حس.

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي

٩٦

مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً. وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً).

ومناسبة (أَقِمِ الصَّلاةَ) لما قبلها أنه تعالى لما ذكر كيدهم للرسول وما كانوا يرومون به ، أمره تعالى أن يقبل على شأنه من عبادة ربه وأن لا يشغل قلبه بهم ، وكان قد تقدّم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات ، فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإيمان وهي الصلاة وتقدّم الكلام في إقامة الصلاة والمواجه بالأمر الرسول عليه الصلاة والسلام. واللام في (لِدُلُوكِ) قالوا : بمعنى بعد أي بعد دلوك (الشَّمْسِ) كما قالوا ذلك في قول متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكا :

فلما تفرّقنا كأني ومالكا

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

أي بعد طول اجتماع ومنه كتبته لثلاث خلون من شهر كذا. وقال الواحدي : اللام للسبب لأنها إنما تجب بزوال الشمس ، فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس. قال ابن عطية : (أَقِمِ الصَّلاةَ) الآية هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة. فقال ابن عمر وابن عباس وأبو بردة والحسن والجمهور : دلوك الشمس زوالها ، والإشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليل إشارة إلى المغرب والعشاء (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أريد به صلاة الصبح ، فالآية على هذا تعم جميع الصلوات. وروى ابن مسعود أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتاني جبريل عليه‌السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر». وروى جابر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس ، فقال : «اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس». وقال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن أسلم : دلوك الشمس غروبها والإشارة بذلك إلى المغرب و (غَسَقِ اللَّيْلِ) ظلمته فالإشارة إلى العتمة (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) صلاة الصبح ، ولم تقع إشارة على هذا التأويل إلى الظهر والعصر انتهى. وعن عليّ أنه الغروب ، وتتعلق اللام وإلى بأقم ، فتكون إلى غاية للإقامة. وأجاز أبو البقاء أن تكون حالا من الصلاة قال : أي ممدودة ويعني بقرآن الفجر صلاة الصبح ، وخصت بالقرآن وهو القراءة لأنه عظمها إذ قراءتها طويلة مجهور بها ، وانتصب (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) عطفا على (الصَّلاةَ).

وقال الأخفش : انتصب بإضمار فعل تقديره وآثر (قُرْآنَ الْفَجْرِ) أو عليك (قُرْآنَ الْفَجْرِ) انتهى. وسميت صلاة الصبح ببعض ما يقع فيها. وقال الزمخشري : سميت صلاة

٩٧

الفجر قرآنا وهي القراءة لأنها ركن كما سميت ركوعا وسجودا وقنوتا وهي حجة عليّ بن أبي علية. والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن انتهى. وقيل : إذا فسرنا الدلوك بزوال الشمس كان الوقت مشتركا بين الظهر والعصر إذا غييت الإقامة بغسق الليل ، ويكون الغسق وقتا مشتركا بين المغرب والعشاء ، ويكون المذكور ثلاثة أوقات : أول وقت الزوال ، وأول وقت المغرب ، وأول وقت الفجر انتهى ، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أنه أمر بإقامة الصلاة إما من أول الزوال إلى الغسق ، وبقرآن الفجر ، وإما من الغروب إلى الغسق وبقرآن الفجر ، فيكون المأمور به الصلاة في وقتين ولا تؤخذ أوقات الصلوات الخمس من هذا اللفظ بوجه.

وقال أبو عبد الله الرازي في قوله (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) دلالة على أن الصلاة لا تتم إلّا بالقراءة لأن الأمر على الوجوب ، ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة ومن قال معنى (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) صلاة الفجر غلط لأنه صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز بغير دليل ، ولأن في نسق التلاوة (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) ويستحيل التهجد بصلاة الفجر ليلا. والهاء في (بِهِ) كناية عن (قُرْآنَ الْفَجْرِ) المذكور قبله ، فثبت أن المراد حقيقة القرآن لا مكان التهجد بالقرآن المقروء في صلاة الفجر واستحالة التهجد في الليل بصلاة الفجر ، وعلى أنه لو صح أن يكون المراد ما ذكروا لكانت دلالته قائمة على وجوب القراءة في الصلاة لأنه لم تجعل القراءة عبارة عن الصلاة إلا وهي من أركانها انتهى. وفيه بعض تلخيص والظاهر ندبية إيقاع صلاة الصبح في أول الوقت لأنه مأمور بإيقاع قرآن الفجر ، فكان يقتضي الوجوب أول طلوع الفجر ، لكن الإجماع منع من ذلك فبقي الندب لوجود المطلوبية ، فإذا انتفى وجوبها بقي ندبها وأعاد (قُرْآنَ الْفَجْرِ) في قوله (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ) ولم يأت مضمرا فيكون أنه على سبيل التعظيم والتنويه بقرآن الفجر ومعنى (مَشْهُوداً) تشهده الملائكة حفظة الليل وحفظة النهار كما جاء في الحديث : «إنهم يتعاقبون ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر». وهذا قول الجمهور. وقيل يشهده الكثير من المصلين في العادة. وقيل : من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) حثا على طول القراءة في صلاة الفجر لكونها مكثورا عليها ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب ، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة انتهى. ويعني بقوله حثا أن يكون التقدير وعليك (قُرْآنَ الْفَجْرِ) أو والزم.

وقال محمد بن سهل بن عسكر : (مَشْهُوداً) يشهده الله وملائكته ، وذكر حديث أبي

٩٨

الدرداء أنه تعالى ينزل في آخر الليل ولأبي عبد الله الرازي كلام في قوله (مَشْهُوداً) على عادته في تفسير كتاب الله على ما لا تفهمه العرب ، والذي ينبغي بل لا يعدل عنه ما فسره به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله فيه : «يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار». وقال فيه الترمذي حديث حسن صحيح.

ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة للوقت المذكور ولم يدل أمره تعالى إياه على اختصاصه بذلك دون أمته ذكر ما اختصه به تعالى وأوجبه عليه من قيام الليل وهو في أمته تطوع. فقال : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) أي بالقرآن في الصلاة (نافِلَةً) زيادة مخصوصا بها أنت وتهجد هنا تفعل بمعنى الإزالة والترك ، كقولهم : تأثم وتحنث ترك التأثم والتحنث ، ومنه تحنثت بغار حراء أي بترك التحنث ، وشرح بلازمه وهو التعبد (وَمِنَ) للتبعيض. وقال الحوفي : (مِنَ) متعلقة بفعل دل عليه معنى الكلام تقديره واسهر من الليل بالقرآن ، قال : ويجوز أن يكون التقدير وقم بعد نومة من الليل. وقال ابن عطية (وَمِنَ) للتبعيض التقدير وقتا من الليل أي وقم وقتا من الليل. وقال الزمخشري : (وَمِنَ اللَّيْلِ) وعليك بعض الليل (فَتَهَجَّدْ بِهِ) والتهجد ترك الهجود للصلاة انتهى. فإن كان تفسيره وعليك بعض الليل تفسير معنى فيقرب ، وإن كان أراد صناعة النحو والإعراب فلا يصح لأن المغري به لا يكون حرفا ، وتقدير من ببعض فيه مسامحة لأنه ليس بمرادفه البتة ، إذ لو كان مرادفه للزم أن يكون اسما ولا قائل بذلك ، ألا ترى إجماع النحويين على أن واو مع حرف وإن قدّرت بمع ، والظاهر أن الضمير في (بِهِ) يعود على القرآن لتقدّمه في الذكر ، ولا تلحظ الإضافة فيه والتقدير (فَتَهَجَّدْ) بالقرآن في الصلاة. وقال ابن عطية : والضمير في (بِهِ) عائد على وقت المقدر في وقم وقتا من الليل انتهى. فتكون الباء ظرفية أي (فَتَهَجَّدْ) فيه وانتصب (نافِلَةً). قال الحوفي : على المصدر أي نفلناك نافلة قال : ويجوز أن ينتصب (نافِلَةً) بتهجد إذا ذهبت بذلك إلى معنى صل به نافلة أي صل نافلة لك.

وقال أبو البقاء : فيه وجهان أحدهما : هو مصدر بمعنى تهجد أي تنفل نفلا و (نافِلَةً) هنا مصدر كالعاقبة والثاني هو حال أي صلاة نافلة انتهى. وهو حال من الضمير في (بِهِ) ويكون عائدا على القرآن لا على وقت الذي قدره ابن عطية. وقال الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود والحجاج بن عمرو : التهجد بعد نومة. وقال الحسن : ما كان بعد العشاء الآخرة. وقال ابن عباس : (نافِلَةً) زيادة لك في الفرض وكان قيام الليل فرضا عليه. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون على جهة الندب في التنفل والخطاب له والمراد

٩٩

هو وأمته كخطابه في (أَقِمِ الصَّلاةَ). وقال مجاهد والسدّي : إنما هي نافلة له قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عام الحديبية ، فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل وقربا أشرف من نوافل أمته لأن هذه أعني نوافل أمته إما أن يجبر بها فرائضهم ، وإما أن يحط بها خطيئاتهم. وضعف الطبري قول مجاهد واستحسنه أبو عبد الله الرازي. وقال مقاتل فله كرامة وعطاء لك. وقيل : كانت فرضا ثم رخص في تركها. ومن حديث زيد بن خالد الجهني : رمق صلاته عليه الصلاة والسلام ليلة فصلى بالوتر ثلاث عشرة ركعة. وعن عائشة : أنه ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.

و (عَسى) مدلولها في المحبوبات الترجي. فقيل : هي على بابها في الترجي تقديره لتكن على رجاء من (أَنْ يَبْعَثَكَ). وقيل هي بمعنى كي ، وينبغي أن يكون هذا تفسير معنى ، والأجود أن أن هذه الترجية والإطماع بمعنى الوجوب من الله تعالى وهو متعلق من حيث المعنى بقوله : (فَتَهَجَّدْ) و (عَسى) هنا تامة وفاعلها (أَنْ يَبْعَثَكَ) ، و (رَبُّكَ) فاعل بيبعثك و (مَقاماً) الظاهر أنه معمول ليبعثك هو مصدر من غير لفظ الفعل لأن يبعثك بمعنى يقيمك تقول أقيم من قبره وبعث من قبره. وقال ابن عطية : منصوب على الظرف أي في مقام محمود. وقيل : منصوب على الحال أي ذا مقام. وقيل : هو مصدر لفعل محذوف التقدير فتقوم (مَقاماً) ولا يجوز أن تكون (عَسى) هنا ناقصة ، وتقدّم الخبر على الاسم فيكون (رَبُّكَ) مرفوعا اسم (عَسى) و (أَنْ يَبْعَثَكَ) الخبر في موضع نصب بها إلا في هذا الإعراب الأخير. وأما في قبله فلا يجوز لأن (مَقاماً) منصوب بيبعثك و (رَبُّكَ) مرفوع بعسى فيلزم الفصل بأجنبي بين ما هو موصول وبين معموله. وهو لا يجوز.

وفي تفسير المقام المحمود أقوال :

أحدها : أنه في أمر الشفاعة التي يتدافعها الأنبياء حتى تنتهي إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والحديث في الصحيح وهي عدة من الله تعالى له عليه الصلاة والسلام ، وفي هذه الشفاعة يحمده أهل الجمع كلهم وفي دعائه المشهور : «وابعثه المقام المحمود الذي وعدته» واتفقوا على أن المراد منه الشفاعة.

الثاني : أنه في أمر شفاعته لأمته في إخراجه لمذنبهم من النار ، وهذه الشفاعة لا تكون إلّا بعد الحساب ودخول الجنة ودخول النار ، وهذه لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء. وقد روي حديث هذه الشفاعة وفي آخره : «حتى لا يبقى في النار إلّا من

١٠٠