البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤

غير تنوين ، وعنه عن الأحمر بالضم والتنوين وافقه أبو السماك في الأول وخالفه في الثاني. وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسرهما من غير تنوين ، وروي هذا عن عيسى وهي في تميم وأسد وعنه أيضا ، وعن خالد بن إلياس بكسرهما والتنوين. وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضا بإسكانهما ، وهذه الكلمة تلاعبت بها العرب تلاعبا كبيرا بالحذف والإبدال والتنوين وغيره ، وقد ذكرنا في التكميل لشرح التسهيل ما ينيف على أربعين لغة ، فالذي اختاره أنها إذا نونت وكسرت أو كسرت ولم تنون لا تكون جمعا لهيهات ، ومذهب سيبويه أنها جمع لهيهات وكان حقها عنده أن تكون (هَيْهاتَ) إلّا أن ضعفها لم يقتض إظهار الباء قال سيبويه ، هي مثل بيضات يعني في أنها جمع ، فظن بعض النحاة أنه أراد في اتفاق المفرد ، فقال واحد : هيهات هيهة ، وتحرير هذا كله مذكور في علم النحو ولا تستعمل هذه الكلمة غالبا إلّا مكررة ، وجاءت غير مكررة في قول جرير :

وهيهات خل بالعقيق نواصله

وقول رؤبة :

هيهات من متحرق هيهاؤه

و (هَيْهاتَ) اسم فعل لا يتعدى برفع الفاعل ظاهرا أو مضمرا ، وهنا جاء التركيب (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) لم يظهر الفاعل فوجب ن يعتقد إضمار تقديره هو أي إخراجكم ، وجاءت اللام للبيان أي أعني لما توعدون كهي بعد بعد سقيا لك فتتعلق بمحذوف وبنيت المستبعد ما هو بعد اسم الفعل الدال على البعد كما جاءت في (هَيْتَ لَكَ) (١) لبيان المهيت به. وقال الزجاج : البعد (لِما تُوعَدُونَ) أو بعد (لِما تُوعَدُونَ) وينبغي أن يجعل كلامه تفسير معنى لا تفسير إعراب لأنه لم تثبت مصدرية (هَيْهاتَ) وقول الزمخشري : فمن نونه نزله منزلة المصدر ليس بواضح لأنهم قد نونوا أسماء الأفعال ، ولا نقول إنها إذا نونت تنزلت منزلة المصدر. وقال ابن عطية : طورا تلي الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد أي بعد ، وأحيانا يكون الفاعل محذوفا وذلك عند اللام كهذه الآية التقدير بعد الوجود (لِما تُوعَدُونَ) انتهى. وهذا ليس بجيد لأن فيه حذف الفاعل ، وفيه أنه مصدر حذف وأبقى معموله ولا يجيز البصريون شيئا من هذا. وقال ابن عطية أيضا في قراءة من ضم ونون أنه اسم معرب مستقل ، وخبره (لِما تُوعَدُونَ) أي البعد لوعدكم كما تقول : النجح

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢٣.

٥٦١

لسعيك. وقال صاحب اللوامح : فأما من قال (هَيْهاتَ) فرفع ونون احتمل أن يكونا اسمين متمكنين مرتفعين بالابتداء وما بعدهما خبرهما من حروف الجر بمعنى البعد (لِما تُوعَدُونَ) والتكرار للتأكيد ، ويجوز أن يكونا اسمين للفعل والضم للبناء مثل حوب في زجر الإبل لكنه نون لكونه نكرة انتهى. وقرأ ابن أبي عبلة (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) ما (تُوعَدُونَ) بغير لام وتكون ما فاعلة بهيهات. وهي قراءة واضحة.

وقالوا (إِنْ هِيَ) هذا الضمير يفسره سياق الكلام لأنهم قبل أنكروا المعاد فقالوا (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ) الآية فاستفهموا استفهام استبعاد وتوقيف واستهزاء ، فتضمن أن لا حياة إلّا حياتهم. وقال الزمخشري : هذا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من بيانه ، وأصله أن الحياة (إِلَّا حَياتُنَا) الدنيا ثم وضع (هِيَ) موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها ، ومنه هي النفس تتحمل ما حملت وهي العرب تقول : ما شاءت ، والمعنى لا حياة إلّا هذه الحياة الدنيا لأن (إِنْ) الثانية دخلت على (هِيَ) التي هي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس.

(نَمُوتُ وَنَحْيا) أي يموت بعض ويولد بعض ينقرض قرن ويأتي قرن انتهى ، ثم أكدوا ما حصروه من أن لا حياة إلّا حياتهم وحرموا بانتفاء بعثهم من قبورهم للجزاء وهذا هو كفر الدهرية ، ثم نسبوه إلى افتراء الكذب على الله في أنه نبأه وأرسله إلينا وأخبره أنا نبعث (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) أي بمصدّقين ، ولما أيس من إيمانهم ورأى إصرارهم على الكفر دعا عليهم وطلب عقوبتهم على تكذيبهم (قالَ : عَمَّا قَلِيلٍ) أي عن زمن قليل ، وما توكيد للقلة وقليل صفة لزمن محذوف وفي معناه قريب. قيل : أي بعد الموت تصيرون نادمين. وقيل (عَمَّا قَلِيلٍ) أي وقت نزول العذاب في الدنيا ظهور علاماته والندامة على ترك قبول ما جاءهم به رسولهم حيث لا ينفع الرجوع ، واللام في (لَيُصْبِحُنَ) لام القسم و (عَمَّا قَلِيلٍ) متعلق بما بعد اللام إما بيصبحن وإما بنادمين ، وجاز ذلك لأنه جار ومجرور ويتسامح في المجرورات والظروف ما لا يتسامح في غيرها ، ألا ترى أنه لو كان مفعولا به لم يجز تقديمه لو قلت : لأضربن زيدا لم يجز زيدا لأضربن ، وهذا الذي قررناه من أن (عَمَّا قَلِيلٍ) يتعلق بما بعد لام القسم هو قول بعض أصحابنا وجمهورهم على أن لام القسم لا يتقدم شيء من معمولات ما بعدها عليها سواء كان ظرفا أو مجرورا أو غيرهما ، فعلى قول هو لا يكون (عَمَّا قَلِيلٍ) يتعلق بمحذوف يدل عليه ما قبله تقديره (عَمَّا قَلِيلٍ) تنصر لأن قبله قال (رَبِّ انْصُرْنِي). وذهب الفراء وأبو عبيدة إلى جواز تقديم معمول ما بعد هذه

٥٦٢

اللام عليها مطلقا. وفي اللوامح عن بعضهم لتصبحن بتاء على المخاطبة ، فلو ذهب ذاهب إلى أن يصير القول من الرسول إلى الكفار بعد ما أجيب دعاؤه لكان جائزا والله أعلم انتهى.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) قال الزمخشري : صيحة جبريل عليه‌السلام صاح عليهم فدمرهم (بِالْحَقِ) بالوجوب لأنهم قد استوجبوا الهلاك أو بالعدل من الله من قولك : فلان يقضي بالحق إذا كان عادلا في قضاياه شبههم بالغثاء في دمارهم وهو حميل السيل مما بلي واسودّ من الورق والعيدان انتهى. وعن ابن عباس (الصَّيْحَةُ) الرجفة. وقيل : هي نفس العذاب والموت. وقيل : العذاب المصطلم. قال الشاعر :

صاح الزمان بآل زيد صيحة

خروا لشنتها على الأذقان

وقال المفضل : (بِالْحَقِ) بما لا مدفع له كقولك : وجاءت سكرة الموت بالحق. وانتصب بعدا بفعل متروك إظهاره أي بعدوا بعدا. أي هلكوا ، يقال بعد بعدا وبعدا نحو رشد رشدا ورشدا. وقال الحوفي (لِلْقَوْمِ) متعلق ببعدا. وقال الزمخشري : و (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بيان لمن دعى عليه بالبعد نحو (هَيْتَ لَكَ) (١) و (لِما تُوعَدُونَ) انتهى فلا تتعلق ببعدا بل بمحذوف.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ، وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ).

(قُرُوناً) قال ابن عباس : هم بنو إسرائيل. وقيل : قصة لوط وشعيب وأيوب ويونس صلوات الله عليهم (ما تَسْبِقُ) إلى آخر الآية تقدم الكلام عليها في الحجر (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) أي لأمم آخرين أنشأناهم بعد أولئك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢٣.

٥٦٣

جعفر وشيبه وابن محيصن والشافعي (تَتْرا) منونا وباقي السبعة بغير تنوين ، وانتصب على الحال أي متواترين واحدا بعد واحد ، وأضاف الرسل إليه تعالى وأضاف رسولا إلى ضمير الأمة المرسل إليها لأن الإضافة تكون بالملابسة ، والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه ، فالأول كانت الإضافة لتشريف الرسل ، والثاني كانت الإضافة إلى الأمة حيث كذبته ولم ينجح فيهم إرساله إليهم فناسب الإضافة إليهم.

(فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي بعض القرون أو بعض الأمم بعضا في الإهلاك الناشئ عن التكذيب. و (أَحادِيثَ) جمع حديث وهو جمع شاذ ، وجمع أحدوثة وهو جمع قياسي. والظاهر أن المراد الثاني أي صاروا يتحدث بهم وبحالهم في الإهلاك على سبيل التعجب والاعتبار وضرب المثل بهم. وقال الأخفش : لا يقال هذا إلّا في الشر ولا يقال في الخير. وقيل : ويجوز أن يكون جمع حديث ، والمعنى أنه لم يبق منهم عين ولا أثر إلّا الحديث عنهم. وقال الزمخشري : الأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى. وأفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع ، وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من الجموع كقطيع وأقاطيع ، وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير وهو لم يلفظ له بواحد فأحرى (أَحادِيثَ) وقد لفظ له وهو حديث ، فالصحيح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرناه.

(بِآياتِنا) قال ابن عباس هي التسع وهي العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والبحر ، والسنون ، ونقص من الثمرات (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) قيل : هي العصا واليد ، وهما اللتان اقترن بهما التحدي ويدخل في عموم اللفظ سائر آياتهما كالبحر والمرسلات الست ، وأما غير ذلك مما جرى بعد الخروج من البحر فليست تلك لفرعون بل هي خاصة ببني إسرائيل. وقال الحسن : (بِآياتِنا) أي بديننا. (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) هو المعجز ، ويجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات ، وبسلطان مبين كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء فقد فارقتها في قوة دلالتها على قول موسى عليه‌السلام. قيل : ويجوز أن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها كانت أمّ آيات موسى وأولاها ، وقد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة ، وانفلاق البحر ، وانفجار العيون من الحجر بالضرب بها ، وكونها حارسا وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلوا ورشاء ، جعلت كأنها ليست بعض الآيات لما استبدت به من الفضل فلذلك عطفت عليها كقوله

٥٦٤

(وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (١) ويجوز أن يراد بسلطان مبين الآيات أنفسها أي هي آيات وحجة بينة (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان بموسى وأخيه نفة.

(قَوْماً عالِينَ) أي رفيعي الحال في الدنيا أي متطاولين على الناس قاهرين بالظلم ، أو متكبرين كقوله (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) (٢) أي وكان من شأنهم التكبر. والبشر يطلق على المفرد والجمع كقوله (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) (٣) ولما أطلق على الواحد جازت تثنيته فلذلك جاء (لِبَشَرَيْنِ) ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ولا يؤنث ، وقد يطابق تثنية وجمعا و (قَوْمُهُما) أي بنو إسرائيل (لَنا عابِدُونَ) أي خاضعون فتذللون ، أو لأنه كان يدّعي الإلهية فادّعى الناس العبادة ، وإن طاعتهم له عبادة على الحقيقة. وقال أبو عبيد : العرب تسمي كل من دان للملك عابدا ، ولما كان ذلك الإهلاك كالمعلول للتكذيب أعقبه بالفاء أي فكانوا ممن حكم عليهم بالغرق إذ لم يحصل الغرق عقيب التكذيب.

(مُوسَى الْكِتابَ) أي قوم موسى و (الْكِتابَ) التوراة ، ولذلك عاد الضمير على ذلك المحذوف في قوله (لَعَلَّهُمْ) ولا يصح عود هذا الضمير في (لَعَلَّهُمْ) على فرعون وقومه لأن (الْكِتابَ) لم يؤته موسى إلا بعد هلاك فرعون لقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) (٤) (لَعَلَّهُمْ) ترج بالنسبة إليهم (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) لشرائعها ومواعظها.

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) أي قصتهما وهي (آيَةً) عظمى بمجموعها وهي آيات مع التفصيل ، ويحتمل أن يكون حذف من الأول آية لدلالة الثاني أي وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية. والربوة هنا. قال ابن عباس وابن المسيب : الغوطة بدمشق ، وصفتها أنها (ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) على الكمال. وقال أبو هريرة : رملة فلسطين. وقال قتادة وكعب : بيت المقدس ، وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء ، وأنه يزيد على أعلى الأرض ثمانية عشر ميلا. وقال ابن زيد ووهب : الربوة بأرض مصر ، وسبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرها المفسرون. وقرأ الجمهور (رَبْوَةٍ) بضم الراء وهي لغة قريش ، والحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم وابن عامر بفتحها ، وأبو إسحاق السبيعي بكسرها وابن أبي إسحاق رباوة بضم الراء

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٩٨.

(٢) سورة القصص : ٤٨ / ٤.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٢٦.

(٤) سورة القصص : ٢٨ / ٤٣.

٥٦٥

بالألف ، وزيد بن عليّ والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف. وقرىء بكسرها وبالألف (ذاتِ قَرارٍ) أي مستوية يمكن القرار فيها للحرث والغراسة ، والمعنى أنها من البقاع الطيبة. وعن قتادة : ذات ثمار وماء ، يعني أنها لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها.

ونداء (الرُّسُلُ) وخطابهم بمعنى نداء كل واحد وخطابه في زمانه إذ لم يجتمعوا في زمان واحد فينادون ويخاطبون فيه ، وإنما أتى بصورة الجمع ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يوحد به ويعمل عليه. وقيل : الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاء بلفظ الجمع لقيامه مقام (الرُّسُلُ) وقيل : ليفهم بذلك أن هذه طريقة كل رسول كما تقول تخاطب تاجرا : يا تجار اتقوا الربا. وقال الطبري : الخطاب لعيسى ، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه والمشهور من بقل البرية. وقال الزمخشري : ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي (آوَيْناهُما) وقلنا لهما هذا الذي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا وكلا مما رزقنا كما واعملا صالحا اقتداء بالرسل والطيبات الحلال لذيذا كان أو غير لذيذ. وقيل : ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه ويشهد له (ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) وقدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح دلالة على أنه لا يكون صالحا إلّا مسبوقا بأكل الحلال.

(إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تحذير في الظاهر والمراد اتباعهم (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) الآية تقدم تفسير مثلها في أواخر الأنبياء. وقرأ الكوفيون (وَإِنَ) بكسر الهمزة والتشديد على الاستئناف ، والحرميان وأبو عمرو بالفتح والتشديد أي ولأن ، وابن عامر بالفتح والتخفيف وهي المخففة من الثقيلة ، ويدل على أن النداء للرسل نودي كل واحد منهم في زمانه قوله (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ).

وقوله (فَتَقَطَّعُوا) وجاء هنا (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) وهو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء (فَاعْبُدُونِ) (١) لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين من قوم نوح ، والأمم الذين من بعدهم وفي الأنبياء وإن تقدمت أيضا قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم ، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته تعالى وجاء هنا (فَتَقَطَّعُوا) بالفاء إيذانا بأن التقطيع اعتقب

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٥٦.

٥٦٦

الأمر بالتقوى ، وذلك مبالغة في عدم قبولهم وفي نفارهم عن توحيد الله وعبادته. وجاء في الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء ، واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة ، وفرح كل حزب بما لديه دليل على نعمته في ضلاله ، وأنه هو الذي ينبغي أن يعتقد وكأنه لا ريبة عنده في أنه الحق.

ولما ذكر تعالى من ذكر من الأمم ومآل أمرهم من الإهلاك حين كذبوا الرسل كان ذلك مثالا لقريش ، فخاطب رسوله في شأنهم بقوله (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) وهذا وعيد لهم حيث تقطعوا في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقائل هو شاعر ، وقائل ساحر ، وقائل به جنة كما تقطع من قبلهم من الأمم كما قال (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (١). قال الكلبي (فِي غَمْرَتِهِمْ) في جهالتهم. وقال ابن بحر : في حيرتهم. وقال ابن سلام : في غفلتهم. وقيل : في ضلالتهم (حَتَّى حِينٍ) حتى ينزل بهم الموت. وقيل : حتى يأتي ما وعدوا به من العذاب. وقيل : هو يوم بدر. وقيل : هي منسوخة بآية السيف. وقرأ الجمهور (فِي غَمْرَتِهِمْ) وعليّ بن أبي طالب وأبو حيوة والسلمي في غمراتهم على الجمع لأن لكل واحد غمرة ، وعلى قراءة الجمهور فغمرة تعم إذا أضيفت إلى عام. وقال الزمخشري : الغمرة الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم ، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل ، قال الشاعر :

كأني ضارب في غمرة لعب

سلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخره انتهى. ثم وقفهم تعالى على خطأ رأيهم في أن نعمة الله عليهم بالمال ونحوه إنما هي لرضاه عن حالهم ، وبيّن تعالى أن ذلك إنما هو إملاء واستدراج إلى المعاصي واستجرار إلى زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعاجلة بالإحسان.

وقرأ ابن وثاب إنما نمدهم بكسر الهمزة. وقرأ ابن كثير في رواية يمدهم بالياء ، وما في (أَنَّما) إما بمعنى الذي أو مصدرية أو كافة مهيئة إن كانت بمعنى الذي فصلتها ما بعدها ، وخبر إن هي الجملة من قوله (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) والرابط لهذه الجملة ضمير محذوف لفهم المعنى تقديره : نسارع لهم به في الخيرات ، وحسن حذفه استطالة الكلام مع أمن اللبس. وتقدم نظيره في قوله (أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) وقال هشام بن معونة :

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٣.

٥٦٧

الضرر الرابط هو الظاهر وهو (فِي الْخَيْراتِ) وكان المعنى (نُسارِعُ لَهُمْ) فيه ثم أظهر فقال (فِي الْخَيْراتِ) فلا حذف على هذا التقدير ، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد ، فالخيرات من حيث المعنى هي الذي مدّوا به من المال والبنين وإن كانت ما مصدرية فالمسبوك منها ومما بعدها هو مصدر اسم إن وخبر إن هو (نُسارِعُ) على تقدير مسارعة فيكون الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفع الفعل ، والتقدير أيحسبون أن إمدادنا لهم بالمال والبنين مسارعة لهم في الخيرات. وإن كانت ما كافة مهيئة فهو مذهب الكسائي فيها هنا فلا تحتاج إلى ضمير ولا حذف ، ويجوز الوقف على (وَبَنِينَ) كما تقول حسبت إنما يقوم زيد ، وحسبت أنك منطلق ، وجاز ذلك لأن ما بعد حسبت قد انتظم مسندا ومسندا إليه من حيث المعنى ، وإن كان في ما يقدر مفردا لأنه ينسبك من أن وما بعدها مصدر.

وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة يسارع بالياء وكسر الراء فإن كان فاعل (نُسارِعُ) ضمير يعود على ما بمعنى الذي ، أو على المصدر المنسبك من ما نمد فنسارع خبر لأن ولا ضمير ولا حذف أي يسارع هو أي الذي يمد ويسارع ، هو أي إمدادنا. وعن ابن أبي بكرة المذكور بالياء وفتح الراء مبنيا للمفعول. وقرأ الحر النحوي نسرع بالنون مضارع أسرع (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) إضراب عن قوله (أَيَحْسَبُونَ) أي بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور فيتأملوا ويتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخير وفيه تهديد ووعيد.

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ).

لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين ووعدهم وذكرهم بأبلغ صفاتهم ، والإشفاق أبلغ التوقع والخوف ومنهم من حمل الخشية على العذاب والمعنى والذين هم من عذاب (رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) وهو قول الكلبي ومقاتل و (مِنْ خَشْيَةِ) متعلق

٥٦٨

بمشفقون قاله الحوفي. وقال ابن عطية : و (مِنْ) في (مِنْ خَشْيَةِ) هي لبيان جنس الإشفاق ، والإشفاق إنما هو من عذاب الله ، والآيات نعم القرآن والعبر والمصنوعات التي لله وغير ذلك مما فيه نظر. وفي كل شيء له آية.

ثم ذكر نفي الإشراك وهو عبادتهم آلهتهم التي هي الأصنام ، إذ لكفار قريش أن تقول : نحن نؤمن بآيات ربنا ونصدق بأنه المخترع الخالق. وقيل : ليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشرك لله لأن ذلك داخل في قوله (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) المراد نفي الشرك للحق وهو أن يخلصوا في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه. وقرأ الجمهور (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أي خائفة أن لا يقبل منهم لتقصيرهم أنهم أي وجلة لأجل رجوعهم إلى الله أي خائفة لأجل ما يتوقعون من لقاء الجزاء. قال ابن عباس وابن جبير : هو عام في جميع أعمال البر كأنه قال : والذين يفعلون من أنفسهم في طاعة الله ما بلغه جهدهم. وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي يأتون ما أتوا من الإتيان أي يفعلون ما فعلوا قالت عائشة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر ، وهو على ذلك يخاف الله قال : «لا يا ابنة الصدّيق ولكنه هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل». قيل : وجل العارف من طاعته أكثر من مخالفته لأن المخالفة تمحوها التوبة والطاعة تطلب التصحيح. وقال الحسن : المؤمن يجمع إحسانا وشفقة ، والمنافق يجمع إساءة وأمنا. وقرأ الأعمش إنهم بالكسر. وقال أبو عبد الله الرازي ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن لأن الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز ، والثانية على تحصيل الإيمان بالله ، والثالثة على ترك الرياء في الطاعة ، والرابعة على أن المستجمع لهذه الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع خوف من التقصير وهو نهاية مقامات الصديقين انتهى.

(أُولئِكَ يُسارِعُونَ) جملة في موضع خبر أن. قال ابن زيد (الْخَيْراتِ) المخافتة والإيمان والكف عن الشرك. قال الزمخشري : (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يحتمل معنيين أحدهما أن يراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها ، والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا المنافع ، ووجوه الإكرام كما قال (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) (١) (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢) لأنهم إذا سورع بها لهم فقد

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٤٨.

(٢) سورة العنكبوت ٢٩ / ٢٧.

٥٦٩

سارعوا في نيلها وتعجلوها ، وهذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين انتهى. وقرأ الحر النحوي : يسرعون مضارع أسرع ، يقال أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد ، وأما المسارعة فالمسابقة أي يسارعون غيرهم. قال الزجّاج (يُسارِعُونَ) أبلغ من يسرعون انتهى. وجهة المبالغة أن المفاعلة تكون من اثنين فتقتضي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه.

(وَهُمْ لَها سابِقُونَ) الظاهر أن الضمير في (لَها) عائد على (الْخَيْراتِ) أي سابقون إليها تقول : سبقت لكذا وسبقت إلى كذا ، ومفعول (سابِقُونَ) محذوف أي سابقون الناس ، وتكون الجملة تأكيدا للتي قبلها مفيدة تجدد الفعل بقوله (يُسارِعُونَ) وثبوته بقوله (سابِقُونَ) وقيل اللام للتعليل أي لأجلها سابقون الناس إلى رضا الله. وقال الزمخشري (لَها سابِقُونَ) أي فاعلون السبق لأجلها ، أو سابقون الناس لأجلها انتهى. وهذان القولان عندي واحد. قال أيضا أو إياها سابقون أي ينالوها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا انتهى. ولا يدل لفظ (لَها سابِقُونَ) على هذا التفسير لأن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق ، فكيف يقال لهم وهم يسبقون الخيرات هذا لا يصح. وقال أيضا : ويجوز أن كون (لَها سابِقُونَ) خبرا بعد خبر ومعنى وهم لها كمعنى قوله أنت لها انتهى. وهذا مروي عن ابن عباس. قال : المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها ، ورجحه الطبري بأن اللام متمكنة في المعنى انتهى. والظاهر القول الأول وباقيها متعسف وتحميل للفظ غير ظاهره. وقيل : الضمير في (لَها) عائد على الجنة. وقيل : على الأمم.

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في آخر البقرة (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) أي كتاب فيه إحصاء أعمال الخلق يشير إلى الصحف التي يقرؤون فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ. وقيل : القرآن.

(بَلْ قُلُوبُهُمْ) أي قلوب الكفار في ضلال قد غمرها كما يغمر الماء (مِنْ هذا) أي من هذا العمل الذي وصف به المؤمنون أو من الكتاب الذي لدينا أو من القرآن ، والمعنى من اطراح هذا وتركه أو يشير إلى الدين بجملته أو إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوال خمسة (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي من دون الغمرة والضلال المحيط بهم ، فالمعنى أنهم ضالون معرضون عن الحق ، وهم مع ذلك لهم سعايات فساد وصفهم تعالى بحالتي شر قال هذا المعنى قتادة وأبو العالية ، وعلى هذا التأويل الإخبار عما سلف من أعمالهم وعماهم فيه.

٥٧٠

وقيل : الإشارة بذلك إلى قوله (مِنْ هذا) وكأنه قال لهم أعمال من دون الحق ، أو القرآن ونحوه. وقال الحسن ومجاهد : إنما أخبر بقوله (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) عما يستأنف من أعمالهم أي إنهم لهم أعمال من الفساد. وعن ابن عباس (أَعْمالٌ) سيئة دون الشرك. وقال الزمخشري (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) متجاوزة متخطئة لذلك أي لما وصف به المؤمنون هم لها معتادون وبها ضارون ولا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب و (حَتَّى) هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام الجملة الشرطية انتهى. وقيل الضمير في قوله (بَلْ قُلُوبُهُمْ) يعود إلى المؤمنين المشفقين (فِي غَمْرَةٍ) من هذا وصف لهم بالحيرة كأنه قال وهم مع ذلك الخوف والوجل كالمتحيرين في أعمالهم أهي مقبولة أم مردودة (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) من دون ذلك أي من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه ، ويريد بالأعمال الأول الفرائض ، وبالثاني النوافل.

(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) رجوع إلى وصف الكفار قاله أبو مسلم. قال أبو عبد الله الرازي : وهو أولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما اتصل به كان أولى من رده إلى ما بعده خصوصا وقد رغب المرء في الخير بأن يذكر أن أعمالهم محفوظة كما يحذر بذلك من الشر ، وأن يوصف بشدة فكرة في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ، ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبوله أو رده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر فإن قيل : فما المراد بقوله (مِنْ هذا)؟ قلنا : إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم بين استيلاء ذلك على قلوبهم انتهى. وتقدم قول الزمخشري في (حَتَّى) إنها التي يبتدأ بعدها الكلام ، وأنها غاية لما قبلها ، وقد ردّ ذلك أنهم معتادون لها حتى يأخذهم الله بالعذاب. وقال الحوفي (حَتَّى) غاية وهي عاطفة ، (إِذا) ظرف يضاف إلى ما بعده فيه معنى الشرط (إِذا) الثانية في موضع جواب الأولى ، ومعنى الكلام عامل في (إِذا) والتقدير جأروا ، فيكون جأروا العامل في (إِذا) الأولى ، والعامل في الثانية (أَخَذْنا) انتهى وهو كلام مخبط ليس أهلا أن يرد.

وقال ابن عطية و (حَتَّى) حرف ابتداء لا غير ، و (إِذا) الثانية التي هي جواب يمنعان من أن تكون حتى غاية لعاملون انتهى. وقال مكي : أي لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل البر (لَها عامِلُونَ) إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم (بِالْعَذابِ إِذا هُمْ) يضجون ويستغيثون ، والمترفون المنعمون والرؤساء. والعذاب القحط سبع سنين والجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام

٥٧١

المحترقة والقد والأولاد. وقيل : العذاب قتلهم يوم بدر. وقيل : عذاب الآخرة ، والظاهر أن الضمير في (إِذا هُمْ) عائد على (مُتْرَفِيهِمْ) إذ هم المحدث عنهم صاحوا حين نزل بهم العذاب. وقيل : يعود على الباقين بعد المعذبين. قال ابن جريج : المعذبون قتلى بدر ، والذين (يَجْأَرُونَ) أهل مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا.

(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) أي يقال لهم إما حقيقة تقول لهم الملائكة ذلك وإما مجازا أي لسان الحال يقول ذلك هذا إن كان الذين يجأرون هم المعذبون وعلى قول ابن جريج ليس القائل الملائكة. وقال قتادة (يَجْأَرُونَ) يصرخون بالتوبة فلا يقبل منهم. وقال الربيع بن أنس : تجأرون تجزعون ، عبر بالصراخ بالجزع إذ الجزع سببه (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) أي لا تمنعون من عذابنا أو لا يكون لكم نصر من جهتنا ، فالجوار غير نافع لكم ولا مجد.

(قَدْ كانَتْ آياتِي) هي آيات القرآن (تَنْكِصُونَ) ترجعون استعارة للإعراض عن الحق. وقرأ علي بن أبي طالب (تَنْكِصُونَ) بضم الكاف والضمير في (بِهِ) عائد على المصدر الدال عليه (تَنْكِصُونَ) أي بالنكوص والتباعد من سماع الآيات أو على الآيات لأنها في معنى الكتاب ، وضمن (مُسْتَكْبِرِينَ) معنى مكذبين فعدّي بالباء أو تكون الباء للسبب ، أي يحدث لكم بسبب سماعه استكبار وعتو. والجمهور على أن الضمير في (بِهِ) عائد على الحرم والمسجد وإن لم يجر له ذكر ، وسوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت وأنه لم تكن لهم معجزة إلّا أنهم ولاته والقائمون به ، وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحسنه أن في قوله (تُتْلى عَلَيْكُمْ) دلالة على التالي وهو الرسول عليه‌السلام ، وهذه أقوال تتعلق فيها بمستكبرين. وقيل تتعلق بسامرا أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه ، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون ، وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا وسب من أتى به.

وقرأ الجمهور (سامِراً) وابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمر وسمرا بضم السين وشد الميم مفتوحة جمع سامر ، وابن عباس أيضا وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك كذلك ، وبزيادة ألف بين الميم والراء جمع سامر أيضا وهما جمعان مقيسان في مثل سامر.

وقرأ الجمهور (تَهْجُرُونَ) بفتح التاء وضم الجيم. وروى ابن أبي عاصم بالياء على سبيل الالتفات. قال ابن عباس (تَهْجُرُونَ) الحق وذكر الله وتقطعونه من الهجر. وقال ابن

٥٧٢

زيد وأبو حاتم : من هجر المريض إذا هذى أي يقولون اللغو من القول. وقرأ ابن عباس وابن محيصن ونافع وحميد بضم التاء وكسر الجيم مضارع اهجر أي يقولون الهجر بضم الهاء وهو الفحش. قال ابن عباس : إشارة إلى السب للصحابة وغيرهم. وقرأ ابن مسعود وابن عباس أيضا وزيد بن عليّ وعكرمة وأبو نهيك وابن محيصن أيضا وأبو حيوة كذلك إلّا أنهم فتحوا الهاء وشددوا الجيم وهو تضعيف من هجر ماضي الهجر بالفتح بمعنى مقابل الوصل أو الهذيان أو ماضي الهجر وهو الفحش. وقال ابن جني : لو قيل إن المعنى أنكم مبالغون في المجاهرة حتى إنكم إن كنتم سمرا بالليل فكأنكم تهجرون في الهاجرة على الافتضاح لكان وجها.

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ).

ذكر تعالى توبيخهم على إعراضهم عن اتباع الحق والقول القرآن الذي أتى به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي أفلم يتفكروا فيما جاء به عن الله فيعلموا أنه المعجز الذي لا يمكن معارضته فيصدقوا به وبمن جاء به ، وبخهم ووقفهم على تدبره وأنهم بمكابرتهم ونظرهم الفاسد قال بعضهم سحر وقال بعضهم شعر ، وهو أعظم الدلائل الباقية على غابر الدهر قرعهم أولا بترك الانتفاع بالقرآن ثم ثانيا بأن ما جاءهم جاء آباءهم الأولين ، أي إرسال الرسل ليس بدعا ولا مستغربا بل جاءت الرسل الأمم قبلهم ، وعرفوا ذلك بالتواتر ونجاة من آمن واستئصال من كذب وآباؤهم إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان ، وروي : لا تسبوا مضر ، ولا ربيعة ، ولا الحارث بن كعب ، ولا أسد بن خزيمة ، ولا تميم بن مرة ولا قسا وذكر أنهم كانوا مسلمين وأن تبعا كان مسلما وكان على شرطه سليمان بن داود وبخهم ثالثا بأنهم يعرفون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة نسبه وحلوله في سطة هاشم وأمانته وصدقه وشهامته وعقله واتسامه بأنه خير فتيان قريش ، وكفى بخطبة أبي طالب حين تزوج خديجة وأنها احتوت

٥٧٣

على صفات له صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرقت آذان قريش فلم تنكر منها شيئا أي قد سبقت معرفتهم له جملة وتفصيلا ، فلا يمكن إنكار شيء من أوصافه.

ثم وبخهم رابعا بأنهم نسبوه إلى الجن وقد علموا أنه أرجحهم عقلا وأثقبهم ذهنا ، وأن الفرق بين الحكمة وفصل الخطاب الذي جاء به وبين كلام ذي الجنة غير خاف على من له مسكة من عقل ، وهذه التوبيخات الأربع كان يقتضي ما وبخوا به منها أن يكون سببا لانقيادهم إلى الحق لأن التدبير لما جاء به والنظر في سير الماضين وإرسال الرسل إليهم ومعرفة الرسول ذاتا وأوصافا وبراءته من الجنون هاد لمن وفقه الله للهداية ، ولكنه جاءهم بما حال بينهم وبين أهوائهم ولم يوافق ما نشؤوا عليه من اتباع الباطل ، ولما لم يجدوا له مدفعا لأنه الحق عاملوا بالبهت وعولوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر.

(بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي بالقرآن المشتمل على التوحيد وما به النجاة في الآخرة والسؤدد في الدنيا.

(وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) يدل على أن فيهم من لا يكره الحق وذلك من يترك الإيمان أنفة واستكبارا من توبيخ قومه أن يقولوا : صبأ وترك دين آبائه (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) قرأ ابن وثاب (وَلَوِ اتَّبَعَ) بضم الواو والظاهر أنه (الْحَقُ) الذي ذكر قبل في قولهم (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي لو كان ما جاء به الرسول من الإسلام والتوحيد متبعا أهواءهم لا نقلب شرا وجاء الله بالقيامة وأهلك العالم ولم يؤخر قال معناه الزمخشري وبعضه بلفظه. وقال أيضا : دل بهذا على عظم شأن الحق ، فلو (اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) لانقلب باطلا ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى له بعده قوام. وقيل : لو كان ما جاء به الرسول بحكم هوى هؤلاء من اتخاذ شريك لله وولد وكان ذلك حقا لم يكن لله الصفات العلية ولم تكن له القدرة كما هي ، وكان في ذلك فساد السموات والأرض. وقيل : كانوا يرون الحق في اتخاذ الآلهة مع الله لكنه لو صح ذلك لوقع الفساد في السموات والأرض على ما قرر في دليل التمانع في قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١) وقيل : كانت آراؤهم متناقصة فلو اتبع الحق أهواءهم لوقع التناقض واختل نظام العالم. وقال قتادة (الْحَقُ) هنا الله تعالى.

فقال الزمخشري : معناه ولو كان الله يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي لما كان إلها ولما قدر على أن يمسك السموات والأرض. وقال ابن عطية : ومن قال إن (الْحَقُ)

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢٢ / ٢١.

٥٧٤

في الآية هو الله تعالى وكان قد حكاه عن ابن جريج وأبي صالح تشعب له لفظة (اتَّبَعَ) وصعب عليه ترتيب الفساد المذكور في الآية لأن لفظة الاتباع إنما هي استعارة بمعنى أن يكون أهواؤهم يقررها الحق ، فنحن نجد الله تعالى قد قرر كفر أمم وأهواءهم وليس في ذلك فساد سموات ، وأما نفسه الذي هو الصواب فلو كان طبق أهوائهم لفسد كل شيء فتأمله انتهى.

وقرأ الجمهور : بنون العظمة وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمرو ويونس عن أبي عمرو بياء المتكلم ، وابن أبي إسحاق وعيسى أيضا وأبو البر هثيم وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء بتاء الخطاب للرسول عليه‌السلام ، وأبو عمرو في رواية آتيناهم بالمد أي أعطيناهم ، والجمهور (بِذِكْرِهِمْ) أي بوعظهم والبيان لهم قاله ابن عباس. وقرأ عيسى بذكراهم بألف التأنيث ، وقتادة نذكرهم بالنون مضارع ذكر ونسبة الإتيان الحقيقي إلى الله لا تصح ، وإنما هو مجاز أي بل آتاهم كتابنا أو رسولنا.

وقال الزمخشري : (بِذِكْرِهِمْ) أي بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أوصيتهم ، وفخرهم أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين.

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) هذا استفهام توبيخ أيضا المعنى بل أتسألهم مالا فغلبوا لذلك واستثقلوك من أجله ، قاله ابن عطية وخطب الزمخشري بأحسن كلام فقال (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق والكثير من عطاء الخالق خير فقد ألزمهم الحجة في هذه الآيات ، وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره علنه ، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم ، وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ، ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ، ولم يدعهم إلّا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان ، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر انتهى.

وتقدم الكلام في قوله (خَرْجاً فَخَراجُ) في قوله تعالى (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) (١)

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٩٤.

٥٧٥

في الكهف قراءة ومدلولا. وقرأ الحسن وعيسى خراجا فخرج فكلمت بهذه القراءة أربع قراءات ، وفي الحرفين (فَخَراجُ رَبِّكَ) أي ثوابه لأنه الباقي وما يؤخذ من غيره فان. وقال الكلبي : فعطاؤه لأنه يعطي لا لحاجة وغيره يعطي لحاجة. وقيل : فرزقه ويؤيده (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) قال الجبائي : (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) دل على أنه لا يساويه أحد في الإفضال على عباده ، ودل على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضا انتهى. وهذا مدلول (خَيْرٌ) الذي هو أفعل التفضيل ومدلول (الرَّازِقِينَ) الذي هو جمع أضيف إليه أفعل التفضيل.

ولما زيف طريقة الكفار أتبع ذلك ببيان صحة ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو دين الإسلام ، ثم أخبر أن من أنكر المعاد ناكب عن هذا الصراط لأنه لا يسلكه إلّا من كان راجيا للثواب خائفا من العقاب وهؤلاء غير مصدقين بالجزاء فهم مائلون عنه ، وأبعد من زعم أن الصراط الذي هم ناكبون عنه هو طريق الجنة في الآخرة ، ومن زعم أن الصراط هو في الآخرة ناكبون عنه بأخذهم يمنة ويسرة إلى النار. قال ابن عباس : (لَناكِبُونَ) لعادلون. وقال الحسن : تاركون له. وقال قتادة : حائرون. وقال الكلبي : معرضون ، وهذه أقوال متقاربة المعنى.

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) قيل : هو الجوع. وقيل : القتل والسبي. وقيل : عذاب الآخرة أي بلغوا من التمرد والعناد أنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لشدة لجاجهم فيما هم عليه من البعد وهذا القول بعيد بل الظاهر أن هذا التعليق كان يكون في الدنيا ويدل على ذلك قوله (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) إلى آخر الآية استشهد على شدة شكيمتهم في الكفر ولجاجهم على تقدير رحمته لهم بأنه أخذهم بالسيوف أولا ، وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل فأبلسوا وخضعت رقابهم. والظاهر من هذا أن الضمير هو القحط والجوع الذي أصابهم بدعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا مروي عن بن عباس وابن جريج.

وسبب نزول الآية دليل على ذلك روي أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة منع الميرة من أهل مكة ، فأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز ، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت الرحمة للعالمين؟ فقال : «بلى» فقال : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية. والمعنى لو كشف الله عنهم هذا الضر وهو الهزل والقحط الذي أصابهم ووجدوا الخصب لارتدوا إلى ما كانوا

٥٧٦

عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله والمؤمنين وإفراطهم فيها. وقيل : المعنى ولو امتحناهم بكل محنة من القتل والجوع فما ريء فيهم استكانة ولا انقياد حتى إذا عذبوا بنار جهنم أبلسوا ، كقوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) (١) (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (٢) فعلى هذا القول يكون الفتح لباب العذاب الشديد في الآخرة ، وعلى الأول كان في الدنيا.

ووزن استكان استفعل أي انتقل من كون إلى كون كما تقول : استحال انتقل من حال إلى حال ، وقول من زعم أن استكان افتعل من السكون وأن الألف إشباع ضعيف لأن الإشباع بابه لشعر كقوله :

أعوذ بالله من العقراب

الشائلات عقد الأذناب

ولأن الإشباع لا يكون في تصاريف الكلمة ، ألا ترى أن من أشبع في قوله :

ومن ذم الزمان بمنتزاح

لا تقول انتزاح ينتزيح فهو منتزيح ، وأنت تقول : استكان يستكين فهو مستكين ومستكان ومجيء مصدره استكانة يدل على أن الفعل وزنه استفعل كاستقام استقامة ، وتخالف (اسْتَكانُوا) و (يَتَضَرَّعُونَ) في الصيغة فلم يكونا ماضيين ولا مضارعين. قال الزمخشري : لأن المعنى محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة ، وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد.

والملبس : الآيس من الشر الذي ناله. وقرأ السلمي (مُبْلِسُونَ) بفتح اللام.

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ١٢.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٧٥.

٥٧٧

تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ

٥٧٨

يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)

الهمز : النخس والدفع بيد وغيرها ، ومنه مهماز الرائض وهمز الناس باللسان. البرزخ : الحاجز بين المسافتين. وقيل : الحجاب بين الشيئين يمنع أحدهما أن يصلى إلى الآخر. النسب : القرابة من جهة الولادة. اللفح : إصابة النار الشيء بوهجها وإحراقها. وقال الزجّاج : اللفح أشد من اللقيح تأثيرا. الكلوح : تشمر الشفتين عن الأسنان ومنه كلوح كلوح الكلب والأسد. وقيل : الكلوح بسور الوجه وهو تقطيبه ، وكلح الرجل كلوحا وكلاحا ودهر كالح وبرد كالح شديد. العبث : اللعب الخالي عن فائدة.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) :

مناسبة (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ) لما قبله أنه لما بيّن إعراض الكفار عن سماع الأدلة ورؤية العبر والتأمل في الحقائق خاطب قيل المؤمنين ، والظاهر العالم بأسرهم تنبيها على أن من لم يعمل هذه الأعضاء في ما خلقه الله تعالى وتدبر ما أودعه فيها من الدلائل على وحدانيته وباهر قدرته فهو كعادم هذه الأعضاء ، وممن قال تعالى فيهم (فَما أَغْنى عَنْهُمْ

٥٧٩

سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) (١) فمن أنشأ هذه الحواس وأنشئت هي له وأحيا وأمات وتصرف في اختلاف الليل والنهار هو قادر على البعث. وخص هذه الأعضاء بالذكر لأنه يتعلق بها منافع الدين والدنيا من أعمال السمع والبصر في آيات الله والاستدلال بفكر القلب على وحدانية الله وصفاته ، ولما كان خلقها من أتم النعم على العبد قال (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي تشكرون قليلا و (ما) زائدة للتأكيد. ومن شكر النعمة الإقرار بالمنعم بها ونفي الند والشريك له.

و (ذَرَأَكُمْ) خلقكم وبثكم فيها. (وَإِلَيْهِ) أي وإلى حكمه وقضائه وجزائه (تُحْشَرُونَ) يريد البعث والجمع في الآخرة بعد التفرق في الدنيا والاضمحلال. (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي. هو مختص به ومتوليه وله القدرة التي ذلك الاختلاف عنها. والاختلاف هنا التعاقب أي يخلف هذا هذا. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) من هذه تصرفات قدرته وآثار قهره فتوحدونه وتنفون عنه الشركاء والأنداد ، إذ هم ليسوا بقادرين على شيء من ذلك. وقرأ أبو عمرو في رواية : يعقلون بياء الغيبة على الالتفات.

(بَلْ قالُوا بَلْ) إضراب أي ليس لهم عقل ولا نظر في هذه الآيات (بَلْ قالُوا) والضمير لأهل مكة ومن جرى مجراهم في إنكار البعث مثل ما قال آباؤهم عاد وثمود ومن يرجعون إليهم من الكفار. ولما اتخذوا من دون الله تعالى آلهة ونسبوا إليه الولد نبههم على فرط جهلهم بكونهم يقرون بأنه تعالى له الأرض ومن فيها ملك وأنه رب العالم العلوي وأنه مالك كل شيء وهم مع ذلك ينسبون له الولد ويتخذون له شركاء.

وقرأ عبد الله والحسن والجحدري ونصر بن عاصم وابن وثاب وأبو الأشهب وأبو عمرو من السبعة سيقولون الله الثاني والثالث بلفظ الجلالة مرفوعا وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام. وقرأ باقي السبعة (لِلَّهِ) فيها بلام الجر فالقراءة الأولى فيها المطابقة لفظا ومعنى ، والثانية جاءت على المعنى لأن قولك : من رب هذا؟ ولمن هذا؟ في معنى واحد ، ولم يختلف في الأول أنه باللام. وقرأ ابن محيصن (الْعَظِيمِ) برفع الميم نعتا للرب ، وتقول أجرت فلانا على فلان إذا منعته منه أي وهو يمنع من يشاء ممن يشاء ولا يمنع أحد منه أحدا. ولا تعارض بين قوله (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لا ينفي عنهم وبين ما حكي عنهم من قولهم. (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) لأن قوله (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لا ينفي

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٢٦.

٥٨٠