البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤

ولما ذكر تعالى من كذب الرسل من الأمم الخالية وكان عند العرب أشياء من أحوالهم ينقلونها وهم عارفون ببلادهم وكثيرا ما يمرون على كثير منها قال (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) فاحتمل أن يكون حثا على السفر ليشاهدوا مصارع الكفار فيعتبروا ، أو يكونوا قد سافروا وشاهدوا فلم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا. وقرأ مبشر بن عبيد : فيكون بالياء والجمهور بالتاء (فَتَكُونَ) منصوب على جواب الاستفهام قاله ابن عطية ، وعلى جواب التقرير قاله الحوفي. وقيل : على جواب النفي ، ومذهب البصريين أن النصب بإضمار إن وينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم ، ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على (يَسِيرُوا) ، وموردوه إلى أخي الجزم وهو النصب هذا معنى الصرف عندهم ، ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها وإسناد العقل إلى القلب يدل على أنه محله ، ولا ينكر أن للدماغ بالقلب اتصالا يقتضي فساد العقل إذا فسد الدماغ ومتعلق (يَعْقِلُونَ بِها) محذوف أي ما حل بالأمم السابقة حين كذبوا أنبياءهم و (يَعْقِلُونَ) ما يجب من التوحيد ، وكذلك مفعول (يَسْمَعُونَ) أي يسمعون أخبار تلك الأمم أو ما يجب سماعه من الوحي. والضمير في (فَإِنَّها) ضمير القصة وحسن التأنيث هنا ورجحه كون الضمير وليه فعل بعلامة التأنيث وهي التاء في (لا تَعْمَى) ويجوز في الكلام التذكير وقرأ به عبد الله فإنه لا تعمى.

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره (الْأَبْصارُ) وفي (تَعْمَى) راجع إليه انتهى. وما ذكره لا يجوز لأن الذي يفسره ما بعده محصور ، وليس هذا واحدا منها وهو في باب رب وفي باب نعم. وبئس ، وفي باب الأعمال ، وفي باب البدل ، وفي باب المبتدأ والخبر على خلاف في هذه الأربعة على ما قرر ذلك في أبوابه. وهذه الخمسة يفسر الضمير فيها المفرد وفي ضمير الشأن ويفسر بالجملة على خلاف فيه أيضا وهذا الذي ذكره الزمخشري ليس واحدا من هذه الستة فوجب اطّراحه والمعنى أن أبصارهم سالمة لا عمى بها ، وإنما العمى بقلوبهم ، ومعلوم أن الأبصار قد تعمى لكن المنفي فيها ليس العمى الحقيقي وإنما هو ثمرة البصر وهو التأدية إلى الفكرة فيما يشاهد البصر لكن ذلك متوقف على العقل الذي محله القلب ، ووصفت (الْقُلُوبُ) بالتي (فِي الصُّدُورِ). قال ابن عطبة مبالغة كقوله (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) (١) وكما تقول نظرت إليه بعيني.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٦٧.

٥٢١

وقال الزمخشري : الذي قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكان البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها ، واستعماله في القلب استعارة ومثل ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار ، كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك فقولك : الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسانه ، وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهوا مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا انتهى.

وقوله ولكن تعمّدت به إياه بعينه تعمدا فصل الضمير وليس من مواضع فصله ، والصواب ولكن تعمدته به كما تقول السيف ضربتك به ولا تقول : ضربت به إياك ، وفصله في مكان اتصاله عجمة ، وقال أبو عبد الله الرازي : وعندي فيه وجه آخر وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر ، والتدبير كقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) (١) وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر.

والضمير في (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) لقريش ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحذرهم نقمات الله ويوعدهم بذلك دنيا وآخرة وهم لا يصدقون بذلك ويستبعدون وقوعه ، فكان استعجالهم على سبيل الاستهزاء وأن ما توعدتنا به لا يقع وإنه لا بعث وفي قوله (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) أي إن ذلك واقع لا محالة ، لكن لوقوعه أجل لا يتعداه. وأضاف الوعد إليه تعالى لأن رسوله عليه الصلاة والسلام هو المخبر به عن الله تعالى.

وقال الزمخشري : أنكر استعجالهم بالمتوعد به من العذاب العاجل والآجل ، كأنه قال : ولم يستعجلون به كأنهم يجوّزون الفوت وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف والله عز وعلا لا يخلف الميعاد ، وما وعده ليصيبهم ولو بعد حين وهو سبحانه حليم لا يعجل انتهى. وفي قوله وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف دسيسة الاعتزال.

وقيل : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) في النظرة والإمهال واختلفوا في هذا التشبه. فقيل : في العدد أي اليوم عند الله ألف سنة من عددكم. وفي الحديث الصحيح : «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وذلك خمسمائة عام» فالمعنى وإن طال الإمهال

__________________

(١) سورة ق : ٥٠ / ٣٧.

٥٢٢

فإنه في بعض يوم من أيام الله. وقيل : التشبيه وقع في الطول للعذاب فيه ، والشدة أي (وَإِنَّ يَوْماً) من أيام عذاب الله لشدة العذاب فيه وطوله (كَأَلْفِ سَنَةٍ) من عددكم إذ أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة ، وكان ذلك اليوم الواحد كألف سنة من سني العذاب والمعنى أنهم لو عرفوا حال الآخرة ما استعجلوه وهذا القول قريب من قول أبي مسلم. وقيل : التشبيه بالنسبة إلى علمه تعالى وقدرته وإنفاذ ما يريد (كَأَلْفِ سَنَةٍ) واقتصر على ألف سنة وإن كان اليوم عنده كما لا نهاية له من العدد لكون الألف منتهى العدد دون تكرار ، وهذا القول لا يناسب مورد الآية إلّا إن أريد أنه القادر الذي لا يعجزه شيء ، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضا إمهال ألف سنة. وقال ابن عباس : أراد باليوم من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض. وقال ابن عيسى يجمع لهم عذاب ألف سنة في يوم واحد ، ولأهل الجنة سرور ألف سنة في يوم واحد. وقال الفراء : تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة ، وأريد العذاب في الدنيا أي (لَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) في إنزال العذاب بكم في الدنيا ، (وَإِنَّ يَوْماً) من أيام عذابكم في الآخرة (كَأَلْفِ سَنَةٍ) من سني الدنيا فكيف تستعجلون العذاب. وقال الزجاج : تفضل تعالى عليهم بالإمهال والمعنى أن اليوم عند الله والألف سواء في قدرته بين ما استعجلوا به وبين تأخره.

وقرأ الأخوان وابن كثير يعدون بياء الغيبة ، وباقي السبعة بتاء الخطاب وعطفت (فَكَأَيِّنْ) الأولى بالفاء وهذه الثانية بالواو. وقال الزمخشري : الأولى وقعت بدلا عن قوله (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) وما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله (لَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ) وتكرر التكثير بكأين في القرى لإفادة معنى غير ما جاءت له الأولى لأنه ذكر فيها القرى التي أهلكها دون إملاء وتأخير ، بل أعقب الإهلاك التذكير وهذه الآية لما كان تعالى قد أمهل قريشا حتى استعجلت بالعذاب جاءت بالإهلاك بعد الإملاء تنبيها على أن قريشا وإن أملى تعالى لهم وأمهلهم فإنه لا بد من عذابهم فلا يفرحوا بتأخير العذاب عنهم.

ثم أمر نبيه أن يقول لأهل مكة (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ) من عذاب الله موضح لكم ما تحذرون أو موضح النذارة لا تلجلج فيها ، وذكر النذارة دون البشارة وإن كان التقسيم بعد ذلك يقتضيهما لأن الحديث مسوق للمشركين ، و (يا أَيُّهَا النَّاسُ) نداء لهم وهم المقول فيهم (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) والمخبر عنهم باستعجال العذاب وإنما ذكر المؤمنون هنا وما أعد الله لهم من الثواب ليغاظ المشركون بذلك وليحرضهم على نيل هذه الرتبة الجليلة

٥٢٣

التي فيها فوزهم ، وحصر النذارة لأن المعنى ليس لي تعجيل عذابكم ولا تأخيره عنكم وإنما أنا منذركم به.

وقال الكرماني : التقدير بشير و (نَذِيرٌ) فحذف والتقسيم داخل في المقول ، والسعي الطلب والاجتهاد في ذلك ، ويقال : سعى فلان في أمر فلان فيكون بإصلاح وبإفساد وقد يستعمل في الشر ، يقال : فيه سعى بفلان سعاية أي تحيل ، وكاد في إيصال الشر إليه وسعيهم بالفساد في آيات الله حيث طعنوا فيها فسموها سحرا وشعرا وأساطير الأولين ، وثبطوا الناس عن الإيمان بها.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال والزعفراني معجزّين بالتشديد هنا وفي حرفي سبأ زاد الجحدري في جميع القرآن أي مثبطين. وقرأ باقي السبعة بألف. وقرأ ابن الزبير معجّزين بسكون العين وتخفيف الزاي من أعجزني إذا سبقك ففاتك. قال صاحب اللوامح : لكنه هنا بمعنى معاجزين أي ظانين أنهم يعجزوننا ، وذلك لظنهم أنهم لا يبعثون. وقيل : في (مُعاجِزِينَ) معاندين ، وأما معجّزين بالتشديد فإنه بمعنى مثبطين الناس عن الإسلام ، ويقال : مثبطين.

وقال الزمخشري : عاجزه سابقه لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه ، فالمعنى سابقين أو مسابقين في زعمهم وتقديرهم ، طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم انتهى.

وقال أبو علي الفارسي : معجزين معناه ناسبين أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العجز كما تقول : فسقت فلانا إذا نسبته إلى الفسق. وتقدم شرح أخرى هاتين الجملتين الواردتين تقسيما.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا

٥٢٤

لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).

لما ذكر تعالى أنه يدفع عن الذين آمنوا وأنه تعالى أذن للمؤمنين في القتال وأنهم كانوا أخرجوا من ديارهم وذكر مسلاة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتكذيب من تقدم من الأمم لأنبيائهم وما آل إليه أمرهم من الإهلاك إثر التكذيب وبعد الإمهال ، وأمره أن ينادي الناس ويخبرهم أنه نذير لهم بعد أن استعجلوا بالعذاب ، وأنه ليس له تقديم العذاب ولا تأخيره ، ذكر له تعالى مسلاة ثانية باعتبار من مضى من الرسل والأنبياء وهو أنهم كانوا حريصين على إيمان قومهم متمنين لذلك مثابرين عليه ، وأنه ما منهم أحد إلّا وكان الشيطان يراغمه بتزيين الكفر لقومه وبث ذلك إليهم وإلقائه في نفوسهم ، كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من أحرص الناس على هدى قومه وكان فيهم شياطين كالنضر بن الحارث يلقون لقومه وللوافدين عليه شبها يثبطون بها عن الإسلام ، ولذلك جاء قبل هذه الآية (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) (١) وسعيهم بإلقاء الشبه في قلوب من استمالوه ، ونسب ذلك إلى الشيطان لأنه هو المغوي والمحرك شياطين الإنس للإغواء كما قال (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) (٢) وقيل : إن (الشَّيْطانُ) هنا هو جنس يراد به شياطين الإنس. والضمير في (أُمْنِيَّتِهِ) عائد على (الشَّيْطانُ) أي في أمنية نفسه ، أي بسبب أمنية نفسه. ومفعول (أَلْقَى) محذوف لفهم المعنى وهو الشر والكفر ، ومخالفة ذلك الرسول أو النبيّ لأن الشيطان ليس يلقي الخير. ومعنى (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي يزيل تلك الشبه شيئا فشيئا حتى يسلم الناس ، كما قال (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) (٣) و (يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أي معجزاته يظهرها محكمة لا لبس فيها (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) من تلك الشبه وزخارف القول (فِتْنَةً) لمريض القلب ولقاسيه (وَلِيَعْلَمَ) من أوتي العلم أن ما تمنى الرسول والنبيّ من هداية قومه وإيمانهم هو الحق. وهذه الآية ليس فيها إسناد شيء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنما تضمنت حالة من كان قبله من الرسل والأنبياء إذا تمنوا.

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٥١.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٣٩ وسورة ص : ٣٨ / ٨٢.

(٣) سورة النصر : ١٠ / ٢.

٥٢٥

وذكر المفسرون في كتبهم ابن عطية والزمخشري فمن قبلهما ومن بعدهما ما لا يجوز وقوعه من آحاد المؤمنين منسوبا إلى المعصوم صلوات الله عليه ، وأطالوا في ذلك وفي تقريره سؤالا وجوابا وهي قصة سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية ، فقال : هذا من وضع الزنادقة ، وصنف في ذلك كتابا. وقال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، وقال ما معناه : إن رواتها مطعون عليهم وليس في الصحاح ولا في التصانيف الحديثة شيء مما ذكروه فوجب اطّراحه ولذلك نزهت كتابي عن ذكره فيه. والعجب من نقل هذا وهم يتلون في كتاب الله تعالى (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) وقال الله تعالى آمرا لنبيه (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) (٢) وقال تعالى (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) (٣) الآية وقال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) (٤) الآية فالتثبيت واقع والمقاربة منفية. وقال تعالى (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) (٥) وقال تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٦) وهذه نصوص تشهد بعصمته ، وأما من جهة المعقول فلا يمكن ذلك لأن تجويزه يطرق إلى تجويزه في جميع الأحكام والشريعة فلا يؤمن فيها التبديل والتغيير ، واستحالة ذلك معلومة.

ولنرجع إلى تفسير بعض ألفاظ الآية إذ قد قررنا ما لاح لنا فيها من المعنى فقوله (مِنْ قَبْلِكَ مِنْ) فيه لابتداء الغاية و (مِنْ) في (مِنْ رَسُولٍ) زائدة تفيد استغراق الجنس. وعطف (وَلا نَبِيٍ) على (مِنْ رَسُولٍ) دليل على المغايرة. وقد تقدم لنا الكلام على مدلوليهما فأغنى عن إعادته هنا ، وجاء بعد (إِلَّا) جملة ظاهرها الشرط وهو (إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ) وقاله الحوفي ، ونصوا على أنه يليها في النفي مضارع لا يشترط فيه شرط ، فتقول : ما زيد إلّا بفعل كذا ، وما رأيت زيدا إلّا يفعل كذا ، وماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا) (٧) أو يكون الماضي مصحوبا بقد نحو : ما زيد إلّا قد قام ، وما جاء بعد (إِلَّا) في الآية جملة شرطية ولم يلها مرض مصحوب بقد ولا عار منها ، فإن صح ما نصوا عليه تؤول على أن إذا جردت للظرفية ولا شرط فيها وفصل بها بين (إِلَّا) والفعل الذي هو (أَلْقَى) وهو فصل جائز فتكون إلّا قد وليها ماض في التقدير ووجد

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ١ ـ ٤.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ١٥.

(٣) سورة الحاقة : ٦٩ / ٤٤.

(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ٧٤.

(٥) سورة الفرقان : ٢٥ / ٣٢.

(٦) سورة الأعلى : ٨٧ / ٦.

(٧) سورة الحجر : ١ / ١١.

٥٢٦

شرطه وهو تقدم فعل قبل (إِلَّا) وهو (وَما أَرْسَلْنا) وعاد الضمير في (تَمَنَّى) مفردا وذكروا أنه إذا كان العطف بالواو عاد الضمير مطابقا للمتعاطفين ، وهذا عطف بالواو وما جاء غير مطابق أولوه على الحذف فيكون تأويل هذا (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه و (تَمَنَّى) تفعل من المنية.

قال أبو مسلم : التمني نهاية التقدير ، ومنه المنية وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله ، ومنى الله لك أي قدر. وقال رواه اللغة : الأمنية القراءة ، واحتجوا ببيت حسان وذلك راجع إلى الأصل الذي ذكر فإن التالي مقدر للحروف فذكرها شيئا فشيئا انتهى. وبيت حسان :

تمنى كتاب الله أول ليلة

وآخره لاقى حمام المقادر

وقال آخر :

تمنى كتاب الله أول ليلة

تمنى داود الزبور على الرسل

وحمل بعض المفسرين قوله (إِذا تَمَنَّى) على تلا و (فِي أُمْنِيَّتِهِ) على تلاوته. والجملة بعد (إِلَّا) في موضع الحال أي وما أرسلناه إلّا ، وحاله هذه. وقيل : الجملة في موضع الصفة وهو قول الزمخشري في نحو : ما مررت بأحد إلّا زيد خير منه ، والصحيح أن الجملة حالية لا صفة لقبولها واو الحال ، واللام في (لِيَجْعَلَ) متعلقة بيحكم قاله الحوفي. وقال ابن عطية : بينسخ. وقال غيرهما : بألقى ، والظاهر أنها للتعليل. وقيل : هي لام العاقبة و (ما) في (ما يُلْقِي) الظاهر أنها بمعنى الذي ، وجوّز أن تكون مصدرية.

والفتنة : الابتلاء والاختبار. والذين في قلوبهم مرض عامة الكفار. وقال الزمخشري : المنافقون والشاكون (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) خواص من الكفار عتاة كأبي جهل والنضر وعتبة. وقال الزمخشري : المشركون المكذبون (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) يريد وإن هؤلاء المنافقين والمشركين ، وأصله وإنهم فوضع الظاهر موضع المضمر ، قضاء عليهم بالظلم. والشقاق المشاقة أي في شق غير شق الصلاح ، ووصفه بالبعيد مبالغة في انتهائه وأنهم غير مرجو رجعتهم منه.

والضمير في : (أَنَّهُ) قال ابن عطية : عائد على القرآن (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد تقدم من قولنا في الآية ما يعود الضمير إليه (فَتُخْبِتَ) أي تتواضع وتتطامن بخلاف من في قبله مرض وقسا قلبه. وقرأ الجمهور (لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) الإضافة ، وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتنوين الهاد.

٥٢٧

المرية : الشك. والضمير في (مِنْهُ) قيل : عائد على القرآن. وقيل : على الرسول. وقيل : ما ألقى الشيطان ، ولما ذكر حال الكافرين أولا ثم حال المؤمنين ثانيا عاد إلى شرح حال الكافرين ، والظاهر أن (السَّاعَةُ) يوم القيامة. قيل : واليوم العقيم يوم بدر. وقيل : ساعة موتهم أو قتلهم في الدنيا كيوم بدر ، واليوم العقيم يوم القيامة.

وقال الزمخشري : اليوم العقيم يوم بدر ، وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن ، أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقم على سبيل المجاز.

وقيل : هو الذي لا خير فيه يقال : ريح عقيم إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا. وقيل : لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه. وعن الضحاك : إنه يوم القيامة وإن المراد بالساعة مقدماته ويجوز أن يراد بالساعة و (يَوْمٍ عَقِيمٍ) يوم القيامة كأنه قيل (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أو يأتيهم عذابها فوضع (يَوْمٍ عَقِيمٍ) موضع الضمير انتهى. وقال ابن عطية : وسمي يوم القيامة أو يوم الاستئصال عقيما لأنه لا ليلة بعده ولا يوم ، والأيام كلها نتائج يجيء واحد أثر واحد ، وكان آخر يوم قد عقم وهذه استعارة ، وجملة هذه الآية توعد انتهى. و (حَتَّى) غاية لاستمرار مريتهم ، فالمعنى حتى تأتيهم الساعة أو عذاب يوم عقيم فتزول مريتهم ويشاهدون الأمر عيانا.

والتنوين في (يَوْمَئِذٍ) تنوين العوض ، والجملة المعوض منها هذا التنوين هو الذي حذف بعد الغاية أي (الْمُلْكُ) يوم تزول مريتهم وقدره الزمخشري أولا يوم يؤمنون وهو لازم لزوال المرية ، فإنه إذا زالت المرية آمنوا ، وقدر ثانيا كما قدرنا وهو الأولى. والظاهر أن هذا اليوم هو يوم القيامة من حيث أنه لا ملك فيه لأحد من ملوك الدنيا كما قال تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) (١) ويساعد هذا التقسيم بعده ، ومن قال إنه يوم بدر ونحوه فمن حيث ينفذ قضاء الله وحده ويبطل ما سواه ويمضي حكمه فيمن أراد تعذيبه ، ويكون التقسيم إخبارا متركبا على حالهم في ذلك اليوم العقيم من الإيمان والكفر وألفاظ التقسيم ومعانيها واضحة لا تحتاج إلى شرح. وقابل النعيم بالعذاب ووصفه بالمهين مبالغة فيه.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا) الآية هذا ابتداء معنى آخر ، وذلك أنه لما مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس : من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ١٦.

٥٢٨

أنفه ، فنزلت مسوّية بينهم في أن الله يرزقهم (رِزْقاً حَسَناً) وظاهر (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) العموم. وقال مجاهد : نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون وقاتلوهم. وروي أن طوائف من الصحابة قالوا : يا نبيّ الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا ، فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.

وقال الزمخشري : لما جمعتهم المهاجرة في سبيل الله سوّى بينهم في الموعد أن يعطى من مات منهم مثل ما يعطى من قتل فضلا منه وإحسانا والله عليم بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم ، حليم عن تفريط المفرط منهم بفضله وكرمه انتهى. وفي قوله : ومراتب استحقاقهم دسيسة الاعتزال ، والتسوية في الوعد بالرزق لا تدل على تفضيل في قدر المعطى ، ولا تسوية فإن يكن تفضيل فمن دليل آخر وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل. وقيل : المقتول والميت في سبيل الله شهيدان.

والرزق الحسن يحتمل أن يراد به رزق الشهداء في البرزخ ، ويحتمل أنه بعد يوم القيامة في الجنة وهو النعيم فيها. وقال الكلبي : هو الغنيمة. وقال الأصلم : هو العلم والفهم كقول شعيب (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) (١) وضعف هذان القولان لأنه تعالى جعل الرزق الحسن جزاء على قتلهم في سبيل الله أو موتهم بعد هجرتهم ، وبعد ذلك لا يكون الرزق في الدنيا. والظاهر أن (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أفعل تفضيل ، والتفاوت أنه تعالى مختص بأن يرزق بما لا يقدر عليه غيره تعالى ، وبأنه الأصل في الرزق وغيره إنما يرزق بماله من الرزق من جهة الله.

ولما ذكر الرزق ذكر المسكن فقال (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) وهو الجنة يرضونه يختارونه إذ فيه رضاهم كما قال (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) (٢) وتقدم الخلاف في القراءة بضم الميم أو فتحها في النساء ، والأولى أن يكون يراد بالمدخل مكان الدخول أو مكان الإدخال ، ويحتمل أن يكون مصدرا.

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ) الآية قيل : نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم كفار في الأشهر الحرم فأبى المؤمنون من قتالهم وأبى المشركون إلّا القتال ، فلما اقتتلوا جدّ المؤمنون ونصرهم الله. ومناسبتها لما قبلها واضحة وهو أنه تعالى لما ذكر ثواب من هاجر وقتل أو

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٨٨.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ١٠٨.

٥٢٩

مات في سبيل الله أخبر أنه لا يدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم. وقال ابن جريج : الآية في المشركين بغوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخرجوه والتقدير الأمر ذلك. قال الزمخشري : تسمية الابتداء بالجزاء لملابسته له من حيث إنه سبب وذلك مسبب عنه كما يحملون النظير على النظير والنقيض على النقيض للملابسة فإن قلت : كيف طابق ذكر العفو الغفور هذا الموضع؟ قلت : المعاقب مبعوث من جهة الله عزوجل على الإخلال بالعقاب ، والعفو عن الجاني على طريق التنزيه لا التحريم ومندوب إليه ومستوجب عند الله المدح إن آثر ما ندب إليه وسلك سبيل التنزيه ، فحين لم يؤثر ذلك وانتصر وعاقب ولم ينظر في قول (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) (١) (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٢) (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٣) فإن (اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أي لا يلومه على ترك ما بعثه عليه وهو ضامن لنصره في كرته الثانية من إخلاله بالعفو وانتقامه من الباغي عليه ، ويجوز أن يضمن له النصر على الباغي فيعرض مع ذلك بما كان أولى به من العفو ، ويلوح به ذكر هاتين الصفتين أو دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلّا القادر على حده ذلك ، أي ذلك النصر بسبب أنه قادر.

ومن آيات قدرته البالغة أنه (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) و (النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار. وأنه (سَمِيعٌ) لما يقولون (بَصِيرٌ) بما يفعلون وتقدم في أوائل آل عمران شرح هذا الإيلاج.

(ذلِكَ) أي ذلك الوصف بخلق الليل والنهار والإحاطة بما يجري فيهما وإدراك كل قول وفعل بسبب (أَنَّ اللهَ الْحَقُ) الثابت الإلهية وأن كل ما يدعى إلها دونه باطل الدعوة ، وأنه لا شيء أعلى منه شأنا وأكبر سلطانا. وقرأ الجمهور (وَأَنَّ ما) بفتح الهمزة. وقرأ الحسن بكسرها. وقرأ الاخوان وأبو عمرو وحفص (يَدْعُونَ) بياء الغيبة هنا في لقمان. وقرأ باقي السبعة بتاء الخطاب وكلاهما الفعل فيه مبني للفاعل. وقرأ مجاهد واليماني وموسى الأسواري يدعو بالياء مبنيا للمفعول والواو عائدة على ما على معناها و (ما) الظاهر أنها أصنامهم. وقيل : الشياطين والأولى العموم في كل مدعو دون الله تعالى.

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٤٠.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٧.

(٣) سورة الشورى : ٤٢ / ٤٣.

٥٣٠

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

لما ذكر تعالى ما دل على قدرته الباهرة من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وهما أمران مشاهدان مجيء الظلمة والنور ، ذكر أيضا ما هو مشاهد من العالم العلوي والعالم السفلي ، وهو نزول المطر وإنبات الأرض وإنزال المطر واخضرار الأرض مرئيان ، ونسبة الإنزال إلى الله تعالى مدرك بالعقل. وقال أبو عبد الله الرازي : الماء وإن كان مرئيا إلّا أن كون الله منزله من السماء غير مرئي إذا ثبت هذا وجب حمله على العلم ، لأن المقصود من تلك الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل.

وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل فأصبحت ولم صرف إلى لفظ المضارع؟ قلت : لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان. كما تقول أنعم عليّ فلان عام كذا ، فأروح وأغدو شاكرا له. ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع.

فإن قلت : فما باله رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام؟ قلت : لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض ، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه ، وإن رفعته فأنتم مثبت للشكر هذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله.

وقال ابن عطية : وقوله (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ) بمنزلة قوله فتضحى أو تصير عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة ووقع قوله (فَتُصْبِحُ) من حيث الآية خبرا ، والفاء عاطفة وليست بجواب لأن كونها جوابا لقوله (أَلَمْ تَرَ) فاسد المعنى انتهى. ولم يبين هو ولا الزمخشري كيف يكون النصب نافيا للاخضرار ، ولا كون المعنى فاسدا. وقال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) فقال : هذا واجب وهو تنبيه. كأنك قلت : أتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا. قال ابن خروف ، وقوله فقال هذا واجب ، وقوله فكان كذا يريد أنهما

٥٣١

ماضيان ، وفسر الكلام بأتسمع ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام لضعف حكم الاستفهام فيه ، ووقع في الشرقية عوض أتسمع انتبه انتهى. ومعنى في الشرقية في النسخة الشرقية من كتاب سيبويه.

وقال بعض شراح الكتاب (فَتُصْبِحُ) لا يمكن نصبه لأن الكلام واجب ألا ترى أن المعنى (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ) فالأرض هذا حالها. وقال الفراء (أَلَمْ تَرَ) خبر كما تقول في الكلام اعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا انتهى. ويقول إنما امتنع النصب جوابا للاستفهام هنا لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام وإن كان يقتضي تقريرا في بعض الكلام هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ألا ترى إلى قوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (١) وكذلك في الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب ، فإذا قلت : ما تأتينا فتحدثنا بالنصب ، فالمعنى ما تأتينا محدثا إنما يأتي ولا يحدث ، ويجوز أن يكون المعنى إنك لا تأتي فكيف تحدث ، فالحديث منتف في الحالتين والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته الهمزة ، وينتفي الجواب فيلزم من هذا الذي قررناه إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار وهو خلاف المقصود. وأيضا فإن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء فقوله :

ألم تسأل فتخبرك الرسوم

يتقدر أن تسأل فتخبرك الرسوم ، وهنا لا يتقدر أن ترى إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة لأن اخضرارها ليس مترتبا على علمك أو رؤيتك ، إنما هو مترتب على الإنزال ، وإنما عبر بالمضارع لأن فيه تصويرا للهيئة التي الأرض عليها ، والحالة التي لا بست الأرض ، والماضي يفيد انقطاع الشيء وهذا كقول جحدر بن معونة العكلي ، يصف حاله مع أشد نازلة في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف :

يسمو بناظرين تحسب فيهما

لما أجالهما شعاع سراج

لما نزلت بحصن أزبر مهصر

للقرن أرواح العدا محاج

فأكر أحمل وهو يقعي باسته

فإذا يعود فراجع أدراجي

وعلمت أني إن أبيت نزاله

أني من الحجاج لست بناجي

فقوله : فأكر تصوير للحالة التي لابسها. والظاهر تعقب اخضرار الأرض إنزال المطر وذلك

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٧٢.

٥٣٢

موجود بمكة وتهامة فقط قاله عكرمة وأخذ تصبح على حقيقتها أي : تصبح ، من ليلة المطر. وذهب إلى أن الاخضرار في غير مكة وتهامة يتأخر. وقال ابن عطية : وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر ليلا بعد قحط فأصبحت تلك الأرض الرملة التي قد نسفتها الرياح قد اخضرّت بنبات ضعيف انتهى.

وإذا جعلنا (فَتُصْبِحُ) بمعنى فتصير لا يلزم أن يكون ذلك الاخضرار في وقت الصباح ، وإذا كان الاخضرار متأخرا عن إنزال المطر فثم جمل محذوفة التقدير ، فتهتز وتربو فتصبح يبين ذلك قوله تعالى (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ) (١). وقرىء (مُخْضَرَّةً) على وزن مفعلة ومسبعة أي ذات خضر ، وخص تصبح دون سائر أوقات النهار لأن رؤية الأشياء المحبوبة أول النهار أبهج وأسر للرائي.

(إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) أي باستخراج النبات من الأرض بالماء الذي أنزله (خَبِيرٌ) بما يحدث عن ذلك النبت من الحب وغيره. وقيل (خَبِيرٌ) بلطيف التدبير (خَبِيرٌ) بالصنع الكثير. وقيل : (خَبِيرٌ) بمقادير مصالح عباده فيفعل على قدر ذلك من غير زيادة ولا نقصان. وقال ابن عباس (لَطِيفٌ) بأرزاق عباده (خَبِيرٌ) بما في قلوبهم من القنوط. وقال الكلبي (لَطِيفٌ) بأفعاله (خَبِيرٌ) بأعمال خلقه. وقال الزمخشري (لَطِيفٌ) وأصل علمه أو فضله إلى كل شيء (خَبِيرٌ) بمصالح الخلق ومنافعهم. وقال ابن عطية : واللطيف المحكم للأمور برفق. (ما فِي الْأَرْضِ) يشمل الحيوان والمعادن والمرافق.

وقرأ الجمهور (وَالْفُلْكَ) بالنصب وضم اللام ابن مقسم والكسائي عن الحسن ، وانتصب عطفا على (ما) ونبه عليها وإن كانت مندرجة في عموم ما تنبيها على غرابة تسخيرها وكثرة منافعها ، وهذا هو الظاهر. وجوز أن يكون معطوفا على الجلالة بتقدير وأن (الْفُلْكَ) وهو إعراب بعيد عن الفصاحة و (تَجْرِي) حال على الإعراب الظاهر. وفي موضع الجر على الإعراب الثاني. وقرأ السلمي والأعرج وطلحة وأبو حيوة والزعفراني بضم الكاف مبتدأ وخبر ، ومن أجاز العطف على موضع اسم إن أجازه هنا فيكون (تَجْرِي) حالا. والظاهر أن (أَنْ تَقَعَ) في موضع نصب بدل اشتمال ، أي ويمنع وقوع السماء على الأرض. وقيل هو مفعول من أجله يقدره البصريون كراهة (أَنْ تَقَعَ) والكوفيون لأن لا تقع. وقوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي يوم القيامة كأن طي السماء بعض هذه الهيئة لوقوعها ،

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٥ وسورة فصلت : ٤١ / ٣٩.

٥٣٣

ويجوز أن يكون ذلك وعيدا لهم في أنه إن أذن في سقوطها كسفا عليكم سقطت كما في قولهم : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا و (إِلَّا بِإِذْنِهِ) متعلق بأن تقع أي إلّا بإذنه فتقع. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يعود قوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه ، فكأنه أراد إلّا بإذنه فيه يمسكها انتهى. ولو كان على ما قاله ابن عطية لكان التركيب بإذنه دون أداة الاستثناء أي يكون التقدير ويمسك السماء بإذنه.

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) أي بعد أن كنتم جمادا ترابا ونطفة وعلقة ومضغة وهي الموتة الأولى المذكورة في قوله تعالى (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (١) و (الْإِنْسانَ). قال ابن عباس : هو الكافر. وقال أيضا : هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل وأبيّ بن خلف. وهذا على طريق التمثيل. (لَكَفُورٌ) لجحود لنعم الله ، يعبد غير من أنعم عليه بهذه النعم المذكورة وبغيرها.

و (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) روي أنها نزلت بسبب جدال الكفار بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما في الذبائح وقولهم للمؤمنين : تأكلون ما ذبحتم وهو من قتلكم ، ولا تأكلون ما قتل الله فنزلت بسبب هذه المنازعة. وقال ابن عطية (هُمْ ناسِكُوهُ) يعطى أن المنسك المصدر ولو كان الموضع لقال هم ناسكون فيه انتهى. ولا يتعين ما قال إذ قد يتسع في معمول اسم الفاعل كما يتسع في معمول الفعل فهو موضع اتسع فيه فأجرى مجرى المفعول به على السعة ، ومن الاتساع في ظرف المكان قوله :

ومشرب أشربه رسيل

لا آجن الماء ولا وبيل

مشرب مكان الشرب عاد عليه الضمير ، وكان أصله أشرب فيه فاتسع فيه فتعدى الفعل إلى ضميره ومن الاتساع سير بزيد فرسخان. وقرىء (فَلا يُنازِعُنَّكَ) بالنون الخفيفة أي أثبت على دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك ، ومثله (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) (٢) وهذا النهي لهم عن المنازعة من باب لا أرينك هاهنا ، والمعنى فلا بد لهم بمنازعتك فينازعوك. وقرأ أبو مجلز (فَلا يُنازِعُنَّكَ) من النزع بمعنى فلا يقلعنك فيحملونك من دينك إلى أديانهم من نزعته من كذا و (الْأَمْرِ) هنا الدين ، وما جئت به وعلى ما روي في سبب النزول يكون (فِي الْأَمْرِ) بمعنى في الذبح (لَعَلى هُدىً) أي إرشاد. وجاء و (لِكُلِّ أُمَّةٍ) بالواو وهنا (لِكُلِ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٨٧.

٥٣٤

أُمَّةٍ) لأن تلك وقعت مع ما يدانها ويناسبها من الآي الواردة في أمر النسائك فعطفت على أخواتها ، وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا قاله الزمخشري.

(وَإِنْ جادَلُوكَ) آية موادعة نسختها آية السيف أي وإن أبو للجاجهم إلّا المجادلة بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع فادفعهم بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها وبما تستحقون عليها من الجزاء ، وهذا وعيد وإنذار ولكن برفق ولين (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) خطاب من الله للمؤمنين والكافرين أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب ، ومسلاة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما كان يلقى منهم.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

لما تقدم ذكر الفصل بين الكفار والمؤمنين يوم القيامة أعقب تعالى أنه عالم بجميع (ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فلا تخفى عليه أعمالكم و (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) قيل : هو أم الكتاب الذي كتبه الله قبل خلق السموات والأرض ، كتب فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة. وقيل : الكتاب اللوح المحفوظ. والإشارة بقوله (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) قيل : إلى الحكم السابق ، والظاهر أنه إشارة إلى حصر المخلوقات تحت علمه وإحاطته. وقال الزمخشري : ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث في السموات والأرض وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه ، والإحاطة بذلك وإثباته وحفظه عليه يسير لأن العالم الذات لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم انتهى. وفي قوله لأن العالم الذات فيه دسيسة الاعتزال لأن من مذهبهم نفي الصفات فهو عالم لذاته لا يعلم عندهم.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي حجة وبرهانا سماويا من جهة الوحي والسمع (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي دليل عقلي ضروري أو غيره. (وَما لِلظَّالِمِينَ) أي المجاوزين الحد في عبادة ما لا يمكن عبادته (مِنْ نَصِيرٍ) ينصرهم فيما ذهبوا إليه أو إذا حل بهم العذاب.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي يتلوه الرسول أو غيره (آياتُنا) الواضحة في رفض

٥٣٥

آلهتهم ودعائهم إلى توحيد الله وعبادته (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الذين ستروا الحق وغطوه وهو واضح بين والمنكر مصدر بمعنى الإنكار. ونبه على موجب المنكر وهو الكفر وناب الظاهر مناب المضمر كأنه قيل : تعرف في وجوههم لكنه نبه على العلة الموجبة لظهور المنكر في وجوههم ، والمنكر المساءة والتجهم والبسور والبطش الدال ذلك كله على سوء المعتقد وخبث السريرة ، لأن الوجه يظهر فيه الترح والفرح اللذان محلهما القلب.

(يَكادُونَ يَسْطُونَ) أي هم دهرهم بهذه الصفة فهم يقاربون ذلك طول زمانهم ، وإن كان قد وقع منهم سطو ببعض الصحابة في شاذ من الأوقات. قال ابن عباس : (يَسْطُونَ) يبسطون إليهم. وقال محمد بن كعب : يقعون بهم. وقال الضحاك : يأخذونهم أخذا باليد والمعنى واحد. وقرأ عيسى بن عمر يعرف مبنيا للمفعول المنكر ووقع (قُلْ) هل أنبئكم (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) وعيد وتقريع والإشارة إلى غيظهم على التالين وسطوهم عليهم ، أو إلى ما أصابهم من الكراهة والبسور بسبب ما تلي عليهم. وقرأ الجمهور (النَّارُ) رفعا على إضمار مبتدأ كأن قائلا يقول قال : وما هو؟ قال : النار ، أي نار جهنم. وأجاز الزمخشري أن تكون (النَّارُ) مبتدأ و (وَعَدَهَا) الخبر وأن يكون (وَعَدَهَا) حالا على الإعراب الأول ، وأن تكون جملة إخبار مستأنفة وأجيز أن تكون خبرا بعد خبر ، وذلك في الإعراب الأول ، وروي أنهم قالوا : محمد وأصحابه شر خلق فقال الله قل لهم يا محمد (أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ) ممن ذكرتم على زعمكم أهل النار فهم أنتم شر خلق الله. وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن يوسف عن الأعشى وزيد بن علي (النَّارُ) بالنصب. قال الزمخشري : على الاختصاص ومن أجاز في الرفع أن تكون (النَّارُ) مبتدأ ففياسه أن يجيز في النصب أن يكون من باب الاشتغال. وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح عن قتيبة (النَّارُ) بالجر على البدل من شر والظاهر أن الضمير في (وَعَدَهَا) هو المفعول الأول على أنه تعالى وعد النار بالكفار أن يطعمها إياهم ، ألا ترى إلى قولها هل من مريد ، ويجوز أن يكون الضمير هو المفعول الثاني و (الَّذِينَ كَفَرُوا) هو الأول كما قال (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ) (١).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ما

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٦٨.

٥٣٦

قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

لما ذكر تعالى أن الكفار يعبدون ما لا دليل على عبادته لا من سمع ولا من عقل ويتركوا عبادة من خلقهم ، ذكر ما عليه معبوداتهم من انتفاء القدرة على خلق أقل الأشياء بل على ردّ ما أخذه ذلك الأقل منه ، وفي ذلك تجهيل عظيم لهم حيث عبدوا من هذه صفته لقوله (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) بتاء الخطاب. وقيل : خطاب للمؤمنين أراد الله أن يبين لهم خطأ الكافرين فيكون (تَدْعُونَ) خطابا لغيرهم الكفار عابدي غير الله. وقيل : الخطاب عام يشمل من نظر في أمر عبادة غير الله ، فإنه يظهر له قبح ذلك. و (ضُرِبَ) مبني للمفعول ، والظاهر أن ضارب المثل هو الله تعالى ، ضرب مثلا لما يعبد من دونه أي بين شبها لكم ولمعبودكم. وقيل : ضارب المثل هم الكفار ، جعلوا مثلا لله تعالى أصنامهم وأوثانهم أي فاسمعوا أنتم أيها الناس لحال هذا المثل ونحوه ما قال الأخفش قال : ليس هاهنا (مَثَلٌ) وإنما المعنى جعل الكفار لله مثلا. وقيل : هو (مَثَلٌ) من حيث المعنى لأنه (ضُرِبَ مَثَلٌ) من يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق ذبابا.

وقال الزمخشري : فإن قلت : الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلا؟ قلت : قد سميت الصفة أو القصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلا تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة عندهم انتهى.

وقرأ الجمهور (تَدْعُونَ) بالتاء. وقرأ الحسن ويعقوب وهارون والخفاف ومحبوب عن أبي عمرو بالياء وكلاهما مبني للفاعل. وقرأ اليماني وموسى الأسواري بالياء من أسفل مبنيا للمفعول. وقال الزمخشري (لَنْ) أخت لا في نفي المستقبل إلّا أن تنفيه نفيا مؤكدا ، وتأكيده هنا الدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم كأنه قال : محال أن يخلقوا انتهى. وهذا القول الذي قاله في (لَنْ) هو المنقول عنه أن (لَنْ) للنفي على التأييد ، ألا تراه فسر ذلك بالاستحالة وغيره من النحاة يجعل (لَنْ) مثل لا في النفي ألا

٥٣٧

ترى إلى قوله (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) (١) كيف جاء النفي بلا وهو الصحيح ، والاستدلال عليه مذكور في النحو. وبدأ تعالى بنفي اختراعهم وخلقهم أقل المخلوقات من حيث إنّ الاختراع صفة له تعالى ثابتة مختصة لا يشركه فيها أحد ، وثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز وهو أمر سلب (الذُّبابُ) وعدم استنقاذ شيء مما (يَسْلُبْهُمُ) وكان الذباب كثيرا عند العرب ، وكانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك. وعن ابن عباس : كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وموضع (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) قال الزمخشري : نصب على الحال كأنه قال مستحيل : أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم جميعا لخلقه ، وتعاونهم عليه انتهى.

وتقدم لنا الكلام على نظير (وَلَوِ) هذه ، وتقرر أن الواو فيه للعطف على حال محذوفة ، كأنه قيل (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) على كل حال ولو في هذه الحال التي كانت تقتضي أن يخلقوا لأجل اجتماعهم ، ولكنه ليس في مقدورهم ذلك.

(ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) قال ابن عباس : الصنم والذباب ، أي ينبغي أن يكون الصنم طالبا لما سلب من طيبهم على معهود الأنفة في الحيوان. وقيل (الْمَطْلُوبُ) الآلهة و (الطَّالِبُ) الذباب فضعف الآلهة أن لا منعة لهم ، وضعف الذباب في استلابه ما على الآلهة. وقال الضحاك : العابد والمعبود فضعف العابد في طلبهم الخير من غير جهته ، وضعف المعبود في إيصال ذلك لعابده. وقال الزمخشري : وقوله (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ، ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف لأن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب ، وذاك مغلوب والظاهر أنه إخبار بضعف الطالب والمطلوب. وقيل : معناه التعجب أي ما أضعف الطالب والمطلوب.

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عرفوه حق معرفته حيث عبدوا من هو منسلخ عن صفاته وسموه باسمه ، ولم يؤهلوا خالقهم للعبادة ثم ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم من القوة والغلبة (اللهُ يَصْطَفِي) الآية نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) (٢) الآية ، وأنكروا أن يكون الرسول من البشر فرد الله عليهم بأن رسله ملائكة

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ١٧.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ٨.

٥٣٨

وبشر ، ثم ذكر أنه عالم بأحوال المكلفين لا يخفى عليه منهم شيء وإليه مرجع الأمور كلها.

ولما ذكر تعالى أنه اصطفى رسلا من البشر إلى الخلق أمرهم بإقامة ما جاءت به الرسل من التكاليف وهو الصلاة قيل : كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود ، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود واتفقوا على مشروعية السجود في آخر آية (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ) (١) وأما في هذه الآية فمذهب مالك وأبي حنيفة أنه لا يسجد فيها ، ومذهب الشافعي وأحمد أنه يسجد فيها وبه قال عمر وابنه عبد الله وعثمان وأبو الدرداء وأبو موسى وابن عباس (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) أي افردوه بالعبادة (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) قال ابن عباس : صلة الأرحام ومكارم الأخلاق ، ويظهر في هذا الترتيب أنهم أمروا أولا بالصلاة وهي نوع من العبادة ، وثانيا بالعبادة وهي نوع من فعل الخير ، وثالثا بفعل الخير وهو أعم من العبادة فبدأ بخاص ثم بعام ثم بأعم.

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أمر بالجهاد في دين الله وإعزاز كلمته يشمل جهاد الكفار والمبتدعة وجهاد النفس. وقيل : أمر بجهاد الكفار خاصة (حَقَّ جِهادِهِ) أي استفرغوا جهدكم وطاقتكم في ذلك ، وأضاف الجهاد إليه تعالى لما كان مختصا بالله من حيث هو مفعول لوجهه ومن أجله ، فالإضافة تكون بأدنى ملابسة. قال الزمخشري : ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله :

ويوم شهدناه سليما وعامرا

انتهى. يعني بالظرف الجار والمجرور ، كأنه كان الأصل حق جهاد فيه فاتسع بأن حذف حرف الجر وأضيف جهاد إلى الضمير. و (حَقَّ جِهادِهِ) من باب هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقا وعالم جدا. وعن مجاهد والكلبي أنه منسوخ بقوله (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٢).

(هُوَ اجْتَباكُمْ) أي اختاركم لتحمل تكليفاته وفي قوله (هُوَ) تفخيم واختصاص ، أي هو لا غيره. (مِنْ حَرَجٍ) من تضييق بل هي حنيفية سمحة ليس فيها تشديد بني إسرائيل بل شرع فيها التوبة والكفارات والرخص. وانتصب (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) بفعل محذوف ،

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ١٨.

(٢) سورة التغابن : ٦٤ / ١٦.

٥٣٩

وقدره ابن عطية جعلها (مِلَّةَ) وقال الزمخشري : نصب الملة بمضمون ما تقدّمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه أو على الاختصاص أي أعني بالدين (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) كقوله : الحمد لله الحميد ، وقال الحوفي وأبو البقاء : اتبعوا ملة إبراهيم. وقال الفراء : هو نصب على تقدير حذف الكاف ، كأنه قيل كلمة (أَبِيكُمْ) بالإضافة إلى أبيه الرسول ، وأمة الرسول في حكم أولاده فصار أبا لأمته بهذه الوساطة. وقيل : لما كان أكثرهم من ولده كالرسول ورهطه وجميع العرب طلب الأكثر فأضيف إليهم. وجاء قوله (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) باعتبار عبادة الله وترك الأوثان وهو المسوق له الآيات المتقدمة ، فلا يدل ذلك على الاتباع في تفاصيل الشرائع.

والظاهر أن الضمير في (هُوَ سَمَّاكُمُ) عائد على (إِبْراهِيمَ) وهو أقرب مذكور ولكل نبيّ دعوة مستجابة ودعا إبراهيم فقال (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (١) فاستجاب الله له فجعلها أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، وقاله ابن زيد والحسن. وقيل : يعود (هُوَ) إلى الله وهو قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك. وعن ابن عباس : إن الله (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) أي في كل الكتب (وَفِي هذا) أي القرآن ، ويدل على أن الضمير لله قراءة أبيّ الله سماكم. قال ابن عطية : وهذه اللفظة يعني قوله (وَفِي هذا) تضعيف قول من قال الضمير لإبراهيم ، ولا يتوجه إلّا على تقدير محذوف من الكلام مستأنف انتهى. وتقدير المحذوف وسميتم في هذا القرآن المسلمين ، والمعنى أنه فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم.

(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) أنه قد بلغكم (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بأن الرسل قد بلغتهم ، وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به ولا تطلبوا النصرة والولاية إلّا منه فهو خير مولى وناصر. وعن قتادة أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلّا نبي. قيل للنبي : أنت شهيد على أمتك. وقيل له : ليس عليك حرج. وقيل له : سل تعط. وقيل : لهذه الأمة : (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) وقيل لهم (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وقيل لهم (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٢) (وَاعْتَصِمُوا) قال ابن عباس سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره. وقال الحسن تمسكوا بدين الله.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٢٨.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ٦٠.

٥٤٠