البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤

أشد الساعة وأهوال يوم القيامة و (شَيْءٌ) هنا يدل على إطلاقه على المعدوم لأن الزلزلة لم تقع بعد ، ومن منع إيقاعه على المعدوم قال : جعل الزلزلة شيئا لتيقن وقوعها وصيرورتها إلى الوجود.

وذكر تعالى أهول الصفات في قوله (تَرَوْنَها) الآية لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوروها بعقولهم ليكون ذلك حاملا على تقواه تعالى إذ لا نجاة من تلك الشدائد إلّا بالتقوى. وروي أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق فقرأهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدرا ، وكانوا من بين حزين باك ومفكر. والناصب ليوم (تَذْهَلُ) والظاهر أن الضمير المنصوب في (تَرَوْنَها) عائدا على الزلزلة لأنها المحدث عنها ، ويدل على ذلك وجود ذهول المرضعة ووضع الحمل هذا إذا أريد الحقيقة وهي الأصل ، ويكون ذلك في الدنيا. وعن الحسن (تَذْهَلُ) المرضعة عن ولدها لغير فطام (وَتَضَعُ) الحامل ما في بطنها لغير تمام. وقالت فرقة : الضمير يعود على (السَّاعَةِ) فيكون الذهول والوضع عبارة عن شدة الهول في ذلك اليوم ، ولا ذهول ولا وضع هناك كقولهم : يوم يشيب فيه الوليد. وجاء لفظ (مُرْضِعَةٍ) دون مرضع لأنه أريد به الفعل لا النسب ، بمعنى ذات رضاع. وكما قال الشاعر :

كمرضعة أولاد أخرى وضيعت

بني بطنها هذا الضلال عن القصد ، والظاهر أن ما في قوله (عَمَّا أَرْضَعَتْ) بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي أرضعته ، ويقويه تعدي وضع إلى المفعول به في قوله (حَمْلَها) لا إلى المصدر. وقيل : ما مصدرية أي عن إرضاعها. وقال الزمخشري : المرضعة هي التي في حال الإرضاع تلقم ثديها الصبي ، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به. فقيل (مُرْضِعَةٍ) ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة ، وخص بعض نحاة الكوفة أم الصبيّ بمرضعة والمستأجرة بمرضع وهذا باطل بقول الشاعر :

كمرضعة أولاد أخرى وضيعت

البيت فهذه (مُرْضِعَةٍ) بالتاء وليست أمّا للذي ترضع. وقول الكوفيين إن الوصف الذي يختص بالمؤنث لا يحتاج فيه إلى التاء لأنها إنما جيء بها للفرق مردود بقول العرب مرضعة وحائضة وطالقة.

٤٨١

وقرأ الجمهور (تَذْهَلُ كُلُ) بفتح التاء والهاء ورفع كل ، وابن أبي عبلة واليماني بضم التاء وكسر الهاء أي (تَذْهَلُ) الزلزلة أو الساعة كل بالنصب ، والحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة. وقرأ الجمهور (وَتَرَى) بالتاء مفتوحة خطاب المفرد وزيد بن علي بضم التاء وكسر الراء أي وترى الزلزلة أو الساعة. وقرأ الزعفراني وعباس في اختياره بضم التاء وفتح الراء ، ورفع الناس وأنث على تأويل الجماعة. وقرأ أبو هريرة وأبو زرعة بن عمرو بن جرير وأبو نهيك كذلك إلا أنهم نصبوا (النَّاسَ) عدّى (تَرَى) إلى مفاعيل ثلاثة أحدها الضمير المستكن في (تَرَى) وهو ضمير المخاطب مفعول لم يسم فاعله ، والثاني والثالث (النَّاسَ سُكارى) أثبت أنهم (سُكارى) على طريق التشبيه ثم نفى عنهم الحقيقة وهي السكر من الخمر ، وذلك لما هم فيه من الحيرة وتخليط العقل.

وقرأ الجمهور (سُكارى) فيهما على وزن فعالى وتقدم ذكر الخلاف في فعالى بضم الفاء أهو جمع أو اسم جمع. وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما وهو جمع تكسير واحده سكران. وقال أبو حاتم : هي لغة تميم. وقرأ الأخوان وابن سعدان ومسعود بن صالح سكرى فيهما ، ورويت عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رواها عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وهي قراءة عبد الله وأصحابه وحذيفة. وقال سيبويه : وقوم يقولون سكرى جعلوه مثل مرضى لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان ، ثم جعلوا روبى مثل سكرى وهم المستثقلون نوما من شرب الرائب. قال أبو علي الفارسي : ويصح أن يكون جمع سكر كزمنى وزمن ، وقد حكى سيبويه : رجل سكر بمعنى سكران فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع. وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة وابن جبير والأعمش سكرى بضم السين فيهما. قال أبو الفتح : هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أفتاني أبو عليّ انتهى. وقال الزمخشري : هو غريب. وقال أبو الفضل الرازي : فعلى بضم الفاء من صفة الواحدة من الإناث لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد انتهى. وعن أبي زرعة أيضا سكرى بفتح السين بسكرى بضمها. وعن ابن جبير أيضا سكرى بالفتح من غير ألف (بِسُكارى) بالضم والألف. وعن الحسن أيضا (سُكارى) بسكرى. وقال أو لا ترونها على خطاب الجمع جعلوا جميعا رائيين لها. ثم قال (وَتَرَى) على خطاب الواحد لأن الرؤية معلقة بكون الناس على حال السكر ، فجعل كل واحد رائيا لسائرهم غشيهم من خوف عذاب الله ما أذهب عقولهم وردهم في حال من يذهب السكر عقله وتمييزه ، وجاء هذا الاستدراك بالإخبار عن (عَذابَ اللهِ) أنه (شَدِيدٌ) لما تقدم ما هو

٤٨٢

بالنسبة إلى العذاب كالحالة اللينة وهو الذهول والوضع ورؤية الناس أشباه السكارى ، وكأنه قيل : وهذه أحوال هينة (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) وليس بهين ولا لين لأن لكن لا بد أن تقع بين متنافيين بوجه وتقدم الكلام فيها.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) أي في قدرته وصفاته. قيل : نزلت في أبي جهل. وقيل : في أبيّ بن خلف والنضر بن الحارث. وقيل : في النضر وكان جدلا يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين ، ولا يقدر الله على إحياء من بلي وصار ترابا والآية في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز من الصفات والأفعال ، ولا يرفع إلى علم ولا برهان ولا نصفة. والظاهر أن قوله (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) هو من الجن كقوله (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) (١). وقيل : يحتمل أن يكون من الإنس كقوله (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) (٢).

لما ذكر تعالى أهوال يوم القيامة ذكر من غفل عن الجزاء في ذلك اليوم وكذب به. وقرأ زيد بن عليّ (وَيَتَّبِعُ) خفيفا ، والظاهر أن الضمير في (عَلَيْهِ) عائد على (مَنْ) لأنه المحدث عنه ، وفي (أَنَّهُ) و (تَوَلَّاهُ) وفي (فَأَنَّهُ) عائد عليه أيضا ، والفاعل يتولى ضمير (مَنْ) وكذلك الهاء في (يُضِلُّهُ) ويجوز أن تكون الهاء في هذا الوجه أنه ضمير الشأن ، والمعنى أن هذا المجادل لكثرة جداله بالباطل واتباعه الشيطان صار إماما في الضلال لمن يتولاه ، فشأنه أن يضل من يتولاه. وقيل : الضمير في (عَلَيْهِ) عائد على (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) قاله قتادة ولم يذكر الزمخشري غيره ، وأورد ابن عطية القول الأول احتمالا. وقال ابن عطية : ويظهر لي أن الضمير في (أَنَّهُ) الأولى للشيطان والثانية لمن الذي هو للمتولي. قال الزمخشري : والكتبة عليه مثل أي إنما (كُتِبَ) إضلال من يتولاه (عَلَيْهِ) ورقم به لظهور ذلك في حاله.

وقرأ الجمهور (كُتِبَ) مبنيا للمفعول. وقرىء (كُتِبَ) مبنيا للفاعل أي كتب الله. وقرأ الجمهور : (أَنَّهُ) بفتح الهمزة في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، (فَأَنَّهُ) بفتحها أيضا ، والفاء جواب (مَنْ) الشرطية أو الداخلة في خبر (مَنْ) إن كانت موصولة. و (فَأَنَّهُ) على تقدير فشأنه أنه (يُضِلُّهُ) أي إضلاله أو فله أن يضله.

وقال الزمخشري : فمن فتح فلأن الأول فاعل (كُتِبَ) بعني به مفعولا لم يسم

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١١٧.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١١٢.

٤٨٣

فاعله ، قال : والثاني عطف عليه انتهى. وهذا لا يجوز لأنك إذا جعلت (فَأَنَّهُ) عطفا على (أَنَّهُ) بقيت بلا استيفاء خبر لأن (مَنْ تَوَلَّاهُ مَنْ) فيه مبتدأة ، فإن قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى يستقل خبرا لأنه وإن جعلتها شرطية فلا جواب لها إذ جعلت (فَأَنَّهُ) عطفا على (أَنَّهُ) ومثل قول الزمخشري قال ابن عطية قال و (أَنَّهُ) في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأنه الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها ، وخطا خطأ لما بيناه. وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمرو إنه فإنه بكسر الهمزتين. وقال ابن عطية : وقرأ أبو عمرو (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) بالكسر فيهما انتهى. وليس مشهورا عن أبي عمرو. والظاهر أن ذلك من إسناد (كُتِبَ) إلى الجملة إسنادا لفظيا أي (كُتِبَ) عليه هذا الكلام كما تقول : كتب أن الله يأمر بالعدل. وقال الزمخشري : أو عن تقدير قيل أو على المفعول الذي لم يسم فاعله الكتب ، والجملة من (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله لقيل المقدرة ، وهذا لا يجوز عند البصريين لأن الفاعل عندهم لا يكون جملة فلا يكون ذلك مفعولا لم يسم فاعله ، وأما الثاني فلا يجوز أيضا على مذهب البصريين لأنه لا تكسر أن بعد ما هو بمعنى القول ، بل بعد القول صريحة ، ومعنى (وَيَهْدِيهِ) ويسوقه وعبر بلفظ الهداية على سبيل التهكم.

ولما ذكر تعالى من يجادل في قدرة الله بغير علم وكان جدالهم في الحشر والمعاد ذكر دليلين واضحين على ذلك أحدهما في نفس الإنسان وابتداء خلقه ، وتطوره في مراتب سبع وهي التراب ، والنطفة ، والعلقة ، والمضغة ، والإخراج طفلا ، وبلوغ الأشدّ ، والتوفي أو الرد إلى الهرم. والثاني في الأرض التي تشاهدون تنقلها من حال إلى حال فإذا اعتبر العاقل ذلك ثبت عنده جوازه عقلا فإذا ورد خبر الشرع بوقوعه وجب التصديق به وأنه واقع لا محالة.

وقرأ الحسن (مِنَ الْبَعْثِ) بفتح العين وهي لغة فيه كالحلب والطرد في الحلب والطرد ، والكوفيون إسكان العين عندهم تخفيف يقيسونه فيما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر والشعر والشعر ، والبصريون لا يقيسونه وما ورد من ذلك هو عندهم مما جاء فيه لغتان. والمعنى إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم (مِنْ تُرابٍ) أي أصلكم آدم وسلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته ، أو باعتبار وسائط التولد لأن المني ودم الطمث يتولدان من الأغذية والأغذية حيوان ونبات ، والحيوان يعود إلى النبات ، والنبات من الأرض والماء والنطفة المني. وقيل (نُطْفَةٍ) آدم قاله النقاش. والعلقة قطعة

٤٨٤

الدم الجامدة ومعنى (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي ليست كاملة ولا ملساء فالمضغ متفاوتة لذلك تفاوتوا طولا وقصرا وتماما ونقصانا. وقال مجاهد (غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) هي التي تستسقط وقاله قتادة والشعبي وأبو العالية. ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن تضعيف الفعل لأن فيه خلقا كثيرة.

وقرأ ابن أبي عبلة (مُخَلَّقَةٍ) بالنصب وغير بالنصب أيضا نصبا على الحال من النكرة المتقدمة ، وهو قليل وقاسه سيبويه. قال الزمخشري : و (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) بهذا التدريج قدرتنا وإن من قدر على خلق البشر (مِنْ تُرابٍ) أولا (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) ثانيا ولا تناسب بين التراب والماء ، وقدر على أن يجعل النطفة (عَلَقَةٍ) وبينهما تباين ظاهر ثم يجعل العلقة (مُضْغَةٍ) والمضغة عظاما قدر على إعادة ما أبداه ، بل هذا أدخل في القدرة وأهون في القياس وورود الفعل غير معدي إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه الفكر ولا يحيط به الوصف انتهى.

و (لِنُبَيِّنَ) متعلق بخلقناكم. وقيل (لِنُبَيِّنَ) لكم أمر البعث. قال ابن عطية : وهو اعتراض بين الكلامين. وقال الكرماني : يعني رشدكم وضلالكم. وقيل (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أن التخليق هو اختيار من الفاعل المختار ، ولولاه ما صار بعضه غير مخلق. وقرأ ابن أبي عبلة ليبين لكم ويقر بالياء. وقرأ يعقوب وعاصم في رواية (وَنُقِرُّ) بالنصب عطفا على (لِنُبَيِّنَ).

وعن عاصم أيضا ثم يخرجكم بنصب الجيم عطفا على (وَنُقِرُّ) إذا نصب. وعن يعقوب (وَنُقِرُّ) بفتح النون وضم القاف والراء من قر الماء صبه. وقرأ أبو زيد النحوي ويقر بفتح الياء والراء وكسر القاف وفي الكلام لابن حبار (لِنُبَيِّنَ وَنُقِرُّ) و (نُخْرِجُكُمْ) بالنصب فيهن. المفضل وبالياء فيهما مع النصب ، أبو حاتم وبالياء والرفع عمر بن شبة انتهى.

قال الزمخشري : والقراءة بالرفع إخبار بأنه تعالى يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره من ذلك (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو وقت الوضع وما لم يشأ إقراره مجته الأرحام أو أسقطته. والقراءة بالنصب تعليل معطوف على تعليل والمعنى (خَلَقْناكُمْ) مدرجين هذا التدريج لغرضين أحدهما : أن نبين قدرتنا والثاني أن (نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ) من نقر حتى يولدوا

٤٨٥

وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف فأكلفهم. ويعضد هذه القراءة قوله (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) انتهى.

وقرأ يحيى بن وثاب (ما نَشاءُ) بكسر النون والأجل المسمى مختلف فيه بحسب جنين جنين فساقط وكامل أمره خارج حيا ووحد (طِفْلاً) لأنه مصدر في الأصل قاله المبرد والطبري ، أو لأن الغرض الدلالة على الجنس ، أو لأن معنى يخرجكم كل واحد كقولك : الرجال يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد. وقال الزمخشري : الأشد كمال القوة والعقل والتمييز ، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأشدة والقيود وغير ذلك وكأنها مشدة في غير شيء واحد فبنيت لذلك على لفظ الجمع انتهى.

وتقدم الكلام في الأشد ومقداره من الزمان. وإن من الناس من قال إنه جمع شدة كأنعم جمع نعمة وأما القيود : فعن أبي عمرو الشيباني إن واحدة قيد (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) وقرىء يتوفى بفتح الياء أي يستوفى أجله ، والجمهور بالضم أي بعد الأشد وقبل الهرم ، وهو (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) والخرف ، فيصير إلى حالة الطفولية ضعيف البنية سخيف العقل ، ولا زمان لذلك محدود بل ذلك بحسب ما يقع في الناس وقد نرى من علت سنه وقارب المائة أو بلغها في غاية جودة الذهن والإدراك مع قوة ونشاط ، ونرى من هو في سن الاكتهال وقد ضعفت بنيته أوضح تعالى أنه قادر على إنهائه إلى حالة الخرف كما أنه كان قادرا على تدريجه إلى حالة التمام ، فكذلك هو قادر على إعادة الأجساد التي درجها في هذه المناقل وإنشائها النشأة الثانية.

و (لِكَيْلا) يتعلق بقوله (يُرَدُّ) قال الكلبي (لِكَيْلا) يعقل من بعد عقله الأول شيئا. وقيل (لِكَيْلا) يستفيد علما وينسى ما علمه. وقال الزمخشري : أي ليصير نسّاء بحيث إذا كسب علما في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه حتى يسأل عنه من ساعته ، يقول لك من هذا؟ فتقول : فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه. وروى عن أبي عمرو ونافع تسكين ميم (الْعُمُرِ).

(وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) هذا هو الدليل الثاني الذي تضمنته ، والدليل الأول الآية ، ولما كان الدليل الأول بعض مراتب الخلقة فيه غير مرتبين قال (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) فلم يحل في جميع رتبه على الرؤية ، ولما كان هذا الدليل الثاني مشاهدا للأبصار أحال ذلك على الرؤية فقال (وَتَرَى) أيها السامع أو المجادل (الْأَرْضَ هامِدَةً)

٤٨٦

ولظهوره تكرر هذا الدليل في القرآن و (الْماءَ) ماء المطر والأنهار والعيون والسواني واهتزازها تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج النبات (وَرَبَتْ) أي زادت وانتفخت. وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر وخالد بن إلياس وأبو عمرو في رواية وربأت بالهمز هنا وفي فصلت أي ارتفعت وأشرفت ، يقال : فلان يربأ بنفسه عن كذا : أي يرتفع بها عنه. قال ابن عطية : ووجهها أن يكون من ربأت القوم إذا علوت شرفا من الأرض طليعة فكان الأرض بالماء تتطاول وتعلو انتهى. ويقال ربيء وربيئة. وقال الشاعر :

بعثنا ربيئا قبل ذلك مخملا

كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقى

ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وتطورهم في تلك المراتب ، ومن إحياء الأرض حاصل بهذا وهو حقيقته تعالى فه الثابت الموجود القادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وقد وعد بالبعث وهو قادر عليه فلا بد من كيانه. وقوله (وَأَنَّ السَّاعَةَ) إلى آخره توكيد لقوله (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) والظاهر أن قوله (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) ليس داخلا في سبب ما تقدم ذكره ، فليس معطوفا على أنه الذي يليه ، فيكون على تقدير. والأمر (أَنَّ السَّاعَةَ) وذلك مبتدأ وبأن الخبر. وقيل ذلك منصوب بمضمر أي فعلنا ذلك.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ).

الظاهر أن المجادل في هذه الآية غير المجادل في الآية قبلها ، فعن محمد بن كعب أنها نزلت في الأخنس بن شريق. وعن ابن عباس في أبي جهل. وقيل : الأولى في المقلدين وهذه في المقلدين ، والجمهور على أنها والتي قبلها في النضر كررت مبالغة في الذم ، ولكون كل واحدة اشتملت على زيادة ليست في الأخرى. وقد قيل فيه : إنه نزلت فيه

٤٨٧

بضع عشرة آية. وقال ابن عطية : وكرر هذه على وجه التوبيخ ، فكأنه يقول : هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان (وَمِنَ النَّاسِ) مع ذلك (مَنْ يُجادِلُ) فكان الواو واو الحال ، والآية المتقدمة الواو فيها واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها ، والآية على معنى الإخبار وهي هاهنا مكررة للتوبيخ انتهى. ولا يتخيل أن الواو في (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ) واو حال ، وعلى تقدير الجملة التي قدّرها قبله لو كان مصرحا بها لم يتقدّر بإذ فلا تكون للحال ، وإنما هي للعطف قسم المخذولين إلى مجادل (فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) متبع لشيطان مريد ، ومجادل (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) إلى آخره ، وعابد ربه على حرف والمراد بالعلم العلم الضروري ، وبالهدى الاستدلال والنظر لأنه يهدي إلى المعرفة ، وبالكتاب المنير الوحي أي (يُجادِلُ) بغير واحد من هذه الثلاثة.

وانتصب (ثانِيَ عِطْفِهِ) على الحال من الضمير المستكن في (يُجادِلُ) قال ابن عباس : متكبرا ، ومجاهد : لاويا عنقه بقبح ، والضحاك : شامخا بأنفه وابن جريج : مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية (لِيُضِلَ) بفتح الياء أي (لِيُضِلَ) في نفسه والجمهور بضمها أي (لِيُضِلَ) غيره ، وهو يترتب على إضلاله كثرة العذاب ، إذ عليه وزر من عمل به. ولما كان مآل جداله إلى الإضلال كان كأنه علة له ، وكذلك لما كان معرضا عن الهدى مقبلا على الجدال بالباطل كان كالخارج من الهدى إلى الضلال.

والخزي في الدنيا ما لحقه يوم بدر من الأسر والقتل والهزيمة ، وقد أسر النضر. وقيل : يوم بدر بالصفراء. و (الْحَرِيقِ) قيل طبقة من طباق جهنم ، وقد يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي العذاب الحريق أي المحرق كالسميع بمعنى المسمع.

وقرأ زيد بن عليّ فأذيقه بهمزة المتكلم ذلك إشارة إلى الخزي والإذاقة ، وجوزوا في إعراب ذلك هذا ما جوزوا في إعراب ذلك بأن الله هو الحق. وتقدم المراد في (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي باجترامك وبعدل الله فيك إذ عصيته ، ويحتمل أن يكون وأن الله مقتطعا ليس ذلك في السبب والتقدير والأمر أن الله. قال ابن عطية : والعبيد هنا ذكروا في معنى مسكنتهم وقلة قدرتهم ، فلذلك جاءت هذه الصيغة انتهى. وهو يفرق بين العبيد والعباد وقد رددنا عليه تفرقته في أواخر آل عمران في قوله (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١) وشرحنا هناك قوله (بِظَلَّامٍ).

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٨٣.

٤٨٨

من (يَعْبُدُ اللهَ) نزلت في أعراب من أسلم وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا : نخاف أن لا ينصر محمد فينقطع ما بيننا وبين حلفائنا من يهود فلا يقرونا ولا يؤونا. وقيل : في أعراب لا يقين لهم يسلم أحدهم فيتفق تثمير ماله وولادة ذكر وغير ذلك من الخير ، فيقول : هذا دين جيد أو ينعكس حاله فيتشاءم ويرتد كما جرى للعرنيين قال معناه ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم. وعن ابن عباس : في شيبة بن ربيعة أسلم قبل ظهور الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أوحى إليه ارتد. وقيل : في يهودي أسلم فأصيب فتشاءم بالإسلام ، وسأل الرسول إلا قاله فقال : «إن الإسلام لا يقال» فنزلت. وعن الحسن : هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه.

وقال ابن عيسى : على ضعف يقين. وقال أبو عبيد (عَلى حَرْفٍ) على شك. وقال ابن عطية (حَرْفٍ) على انحراف منه عن العقيدة البيضاء ، أو على شفا منها معدا للزهوق.

وقال الزمخشري (عَلى حَرْفٍ) على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه ، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة كالذي يكون على طرف من العسكر ، فإن أحس بظفر وغنيمة قرّ واطمأنّ وإلّا فرّ وطار على وجهه انتهى. وخسرانه الدنيا إصابته فيها بما يسوؤه من ذهاب ماله وفقد أحبائه فلم يسلم للقضاء. وخسران الآخرة حيث حرم ثواب من صبر فارتد عن الإسلام.

وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وابن مقسم خاسر الدنيا اسم فاعل نصبا على الحال. وقرىء خاسر اسم فاعل مرفوعا على تقدير وهو خاسر. وقال الزمخشري : والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير وهو وجه حسن انتهى. وقرأ الجمهور : (خَسِرَ) فعلا ماضيا وهو استئناف إخبار ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ولا يحتاج إلى إضمار قد لأنه كثر وقوع الماضي حالا في لسان العرب بغير قد فساغ القياس عليه ، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون بدلا من قوله (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) كما كان يضاعف بدلا من يلق. وتقدم تفسير (الضَّلالُ الْبَعِيدُ) في قوله (ضَلالاً بَعِيداً) (١) ونفى هنا الضر والنفع وأثبتهما في قوله (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) وذلك لاختلاف المتعلق ، وذلك أن قوله (ما لا يَنْفَعُهُ) هو الأصنام والأوثان ، ولذلك أتى التعبير عنها بما التي لا تكون لآحاد من يعقل. وقوله (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ) هو من عبد باقتضاء ، وطلب من عابديه من المدعين الإلهية كفرعون وغيره من ملوك بني عبيد الذين

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٦٠ وغيرها.

٤٨٩

كانوا بالمغرب ثم ملكوا مصر ، فإنهم كانوا يدعون الإلهية ويطاف بقصرهم في مصر وينادون بما ينادي به رب العالمين من التسبيح والتقديس ، فهؤلاء وإن كان منهم نفع ما لعابديهم في دار الدنيا فضررهم أعظم وأقرب من نفعهم ، إذ هم في الدنيا مملوكون للكفار وعابدون لغير الله ، وفي الآخرة معذبون العذاب الدائم ولهذا كان التعبير هنا بمن التي هي لمن يعقل ، وعلى هذا فتكون الجملتان من إخبار الله تعالى عمن يدعو إلها غير الله.

وقال الزمخشري : فإن قلت : الضر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين وهذا تناقض قلت : إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم ، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرا ولا نفعا وهو يعتقد فيه بجهله وضلالته أنه سينتفع به ، ثم قال يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها ، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ، لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) وكرر يدعو كأنه قال (يَدْعُوا يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) ثم قال (لَمَنْ ضَرُّهُ) بكونه معبودا (أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) بكونه شفيعا (لَبِئْسَ الْمَوْلى) انتهى. فجعل الزمخشري المدعو في الآيتين الأصنام وأزال التعارض باختلاف القائلين بالجملة الأولى من قول الله تعالى إخبارا عن حال الأصنام. والجملة الثانية من كلام عباد الأصنام يقولون ذلك في الآخرة ، وحكى الله عنهم ذلك وأنهم أثبتوا ضرا بكونهم عبدوه ، وأثبتوا نفعا بكونهم اعتقدوه شفيعا. فالنافي هناك غير المثبت هنا ، فزال التعارض على زعمه والذي أقول إن الصنم ليس له نفع البتة حتى يقال (ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ).

وأجاب بعضهم عن زعم من زعم أن ظاهر الآيتين يقتضي التعارض بأنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها نسب الضرر إليها كقوله (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (١) أضاف الإضلال إليهم إذ كانوا سبب الضلال ، فكذا هنا نفي الضرر عنهم لكونها ليست فاعلة ثم أضافه إليها لكونها سبب الضرر. وقال آخرون : هي في الحقيقة لا تضر ولا تنفع بين ذلك في الآية الأولى ثم أثبت لها الضر والنفع في الثانية على طريق التسليم ، أي ولو سلمنا كونها ضارة نافعة لكان ضرها أكثر من نفعها ، وتكلف المعربون وجوها فقالوا (يَدْعُوا) إما أن يكون لها تعلق بقوله (لَمَنْ ضَرُّهُ) أولا إن لم يكن لها تعلق فوجوه.

أحدها : أن يكون توكيدا لفظيا ليدعو الأولى ، فلا يكون لها معمول.

الثاني : أن تكون عاملة في ذلك من قوله (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ) وقدم المفعول الذي

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٦.

٤٩٠

هو (ذلِكَ) وجعل موصولا بمعنى الذي قاله أبو علي الفارسي ، وهذا لا يصح إلا على قول الكوفيين إذ يجيزون في اسم الإشارة أن يكون موصولا ، والبصريون لا يجيزون ذلك إلّا في ذا بشرط أن يتقدمها الاستفهام بما أو من.

الثالث : أن يكون (يَدْعُوا) في موضع الحال ، و (ذلِكَ) مبتدأ وهو فصل أو مبتدأ وحذف الضمير من (يَدْعُوا) أي يدعوه وقدره مدعوا وهذا ضعيف ، لأن يدعوه لا يقدر مدعوا إنما يقدر داعيا ، فلو كان يدعى مبنيا للمفعول لكان تقديره مدعوا جاريا على القياس. وقال نحوه الزجاج وإن كان له تعلق بقوله (لَمَنْ ضَرُّهُ) فوجوه.

أحدها : ما قاله الأخفش وهو أن (يَدْعُوا) بمعنى يقول و (لَمَنْ) مبتدأ موصول صلته الجملة بعده. وهي (ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) وخبر المبتدأ محذوف ، تقديره إله وإلهي. والجملة في موضع نصب محكية بيدعو التي هي بمعنى يقول ، قيل : هو فاسد المعنى لأن الكافر لم يعتقد قط أن الأوثان ضرها أقرب من نفعها. وقيل : في هذا القول يكون (لَبِئْسَ) مستأنفا لأنه لا يصح دخوله في الحكاية لأن الكفار لا يقولون عن أصنامهم (لَبِئْسَ الْمَوْلى).

الثاني : أن (يَدْعُوا) بمعنى يسمي ، والمحذوف آخرا هو المفعول الثاني ليسمى تقديره إلها وهذا لا يتم إلّا بتقدير زيادة اللام أي يدعو من ضره.

الثالث : أن يدعو شبه بأفعال القلوب لأن الدعاء لا يصدر إلّا عن اعتقاد ، والأحسن أن يضمن معنى يزعم ويقدر لمن خبره ، والجملة في موضع نصب ليدعو أشار إلى هذا الوجه الفارسي.

الرابع : ما قاله الفراء وهو أن اللام دخلت في غير موضعها والتقدير يدعوا من لضره أقرب من نفعه ، وهذا بعيد لأن ما كان في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول.

الخامس : أن تكون اللام زائدة للتوكيد ، ومن مفعول بيدعو وهو ضعيف لأنه ليس من مواضع زيادة اللام ، لكن يقويه قراءة عبد الله يدعو من ضره بإسقاط اللام ، وأقرب التوجيهات أن يكون (يَدْعُوا) توكيدا ليدعو الأول ؛ واللام في (لَمَنْ) لام الابتداء ، والخبر الجملة التي هي قسم محذوف ، وجوابه (لَبِئْسَ الْمَوْلى) والظاهر أن (يَدْعُوا) يراد به النداء والاستغاثة. وقيل : معناه بعيد ، و (الْمَوْلى) هنا الناصر والعشير الصاحب المخالط.

ولما ذكر تعالى حالة من يعبده على حرف وسفه رأيه وتوعده بخسرانه في الآخرة عقبة

٤٩١

بذكر حال مخالفيهم من أهل الإيمان وما وعدهم به من الوعد الحسن ، ثم أخذ في توبيخ أولئك الأولين كأنه يقول هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق وظنوا أن الله لن ينصر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه ، ونحن إنما أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا ، فمن ظن غير ذلك فليمدد بسبب ويختلق وينظر هل يذهب بذلك غيظه ، قال هذا المعنى قتادة ، وهذا على جهة المثل السائر قولهم : دونك الحبل فاختنق ، يقال ذلك للذي يريد من الأمر ما لا يمكنه ، فعلى هذا تكون الهاء في (يَنْصُرَهُ) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدّي ، واختاره الفراء والزجاج فالمعنى إن لن ينصر الله محمدا في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه ، وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه ، والرسول وإن لم يجر له ذكر في الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) وظانّ ذلك قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين ، يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر أو أعراب استبطؤوا ظهور الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتباطؤوا عن الإسلام. والظاهر أن الضمير في (يَنْصُرَهُ) عائد على (مَنْ) لأنه المذكور ، وحق الضمير أن يعود على المذكور وهو قول مجاهد. وحمل بعض قائلي هذا القول النصر هنا على الرزق كما قالوا : أرض منصورة أي ممطورة. وقال الشاعر :

وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه

ولا تملك الشق الذي أنت ناصره

أي معطيه. وقال : وقف علينا سائل من بني بكر فقال : من ينصرني نصره الله ، فالمعنى من كان يظن أن لن يرزقه الله فيعدل عن دين محمد لهذا الظن كما وصف في قوله (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق ، فإن ذلك لا يبلغه إلّا ما قدر له ولا يجعله مرزوقا أكثر مما قسم له ، ويحتمل على هذا القول أن يكون النصر على بابه أي من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فيغتاظ لانتفاء نصره فليمدد ، ويدل على قوله فيغتاظ قوله (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) ويكون معنى قوله (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) فليتحيل بأعظم الحيل في نصرة الله إياه ثم ليقطع الحبل (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) وتحيله في إيصال النصر إليه الشيء الذي يغيظه من انتفاء نصره بتسلط أعدائه عليه.

وقال الزمخشري : هذا كلام دخله اختصار والمعنى : أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة ، فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه ويغيظه أنه لا يظفر بمطلوبه فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل

٤٩٢

من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مدّ حبلا إلى سماء بيته فاختنق ، (فَلْيَنْظُرْ) وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه ، وسمي الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه ، ومنه قيل للبهر القطع وسمى فعله كيدا لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده ، إنما كاد به نفسه ، والمراد ليس في يده إلّا ما ليس بمذهب لما يغيظه.

وقيل (فَلْيَمْدُدْ) بحبل (إِلَى السَّماءِ) المظلة وليصعد عليه فليقطع الوحي أن ينزل عليه وهذا قول ابن زيد. وقيل : الضمير في (يَنْصُرَهُ) عائد على الدين والإسلام. قال ابن عطية : وأبين وجوه هذه الآية أن يكون مثلا ويكون النصر المعروف والقطع الاختناق والسماء الارتفاع في الهواء سقف أو شجرة أو نحوه فتأمله ، وما في (ما يَغِيظُ) بمعنى الذي ، والعائد محذوف أو مصدرية. وكذلك أي ومثل ذلك الإنزال (أَنْزَلْناهُ) القرآن كله (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي لا تفاوت في إنزال بعضه ولا إنزال كله والهاء في (أَنْزَلْناهُ) للقرآن أضمر للدّلالة عليه كقوله (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (١) والتقدير والأمر (أَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أي يخلق الهداية في قلبك يريد هدايته لا خالق للهداية إلّا هو.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ).

لما ذكر قبل (أَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) (٢) عقب ببيان من يهديه ومن لا يهديه ، لأن ما قبله يقتضي أن من لا يريد هدايته لا يهديه يدل إثبات الهداية لمن يريد على نفيها عمن لا يريد ، والذين أشركوا هم عبدة الأوثان والأصنام ، ومن عبد غير الله. قال الزمخشري : ودخلت (إِنَ) على كل واحد جزأي الجملة لزيادة التأكيد ، ونحوه قول جرير :

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٣٢.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ١٦.

٤٩٣

إنّ الخليفة إن الله سربله

سربال ملك به ترجى الخواتيم

وظاهر هذا أنه شبه البيت بالآية ، وكذلك قرنه الزجاج بالآية ولا يتعين أن يكون البيت كالآية لأن البيت يحتمل أن يكون خبر إن الخليفة قوله : به ترجى الخواتيم ، ويكون إن الله سربله سربال ملك جملة اعتراضية بين اسم إن وخبرها بخلاف الآية فإنه يتعين قوله (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ) وحسن دخول (إِنَ) على الجملة الواقعة خبرا طول الفصل بينهما بالمعاطيف ، والظاهر أن الفصل بينهم يوم القيامة هو بصيرورة المؤمنين إلى الجنة والكافرين إلى النار ، وناسب الختم بقوله (شَهِيدٌ) الفصل بين الفرق.

وقال الزمخشري : الفصل مطلق يحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعا فلا يجازيهم جزاء واحدا بغير تفاوت ، ولا يجمعهم في موطن واحد. وقيل (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) يقضي بين المؤمنين والكافرين ، والظاهر أن السجود هنا عبارة عن طواعية ما ذكر تعالى والانقياد لما يريده تعالى ، وهذا معنى شمل من يعقل وما لا يعقل ، ومن (يَسْجُدُ) سجود التكليف ومن لا يسجده ، وعطف على ما من عبد من دون الله ففي (السَّماواتِ) الملائكة كانت تعبدها (١) و (الشَّمْسُ) عبدتها حمير. وعبد (الْقَمَرُ) كنانة قاله ابن عباس. والدبران تميم. والشعرى لخم وقريش. والثريا طيىء وعطاردا أسد. والمرزم ربيعة. و (فِي الْأَرْضِ) من عبد من البشر والأصنام المنحوتة من (الْجِبالُ وَالشَّجَرُ) والبقر وما عبد من الحيوان. وقرأ الزهري (وَالدَّوَابُ) بتخفيف الباء. قال أبو الفضل الرازي ولا وجه لذلك إلّا أن يكون فرارا من التضعيف مثل ظلت وقرن ولا تعارض بين قوله (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) لعمومه وبين قوله (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) لخصوصه لأنه لا يتعين عطف (وَكَثِيرٌ) على ما قبله من المفردات المعطوفة الداخلة تحت يسجد إذ يجوز إضمار (يَسْجُدُ لَهُ) كثير من الناس سجود عبادة دل عليه المعنى لا أنه يفسره (يَسْجُدُ) الأول لاختلاف الاستعمالين ، ومن يرى الجمع بين المشركين وبين الحقيقة والمجاز يجيز عطف (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) على المفردات قبله ، وإن اختلف السجود عنده بنسبته لما لا يعقل ولمن يعقل ويجوز أن يرتفع على الابتداء ، والخبر محذوف يدل على مقابلة الذين في الجملة بعده أي (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) مثاب.

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون (مِنَ النَّاسِ) خبرا له أي (مِنَ النَّاسِ) الذين

__________________

(١) بياض بجميع الأصول.

٤٩٤

هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون والمتقون ، ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فعطفت كثير على كثير ثم ، عبر عنهم بحق عليهم العذاب كأنه قال وكثير من الناس حق عليهم العذاب انتهى. وهذان التخريجان ضعيفان.

وقرأ جناح بن حبيش وكبير حق بالباء. وقال ابن عطية (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) يحتمل أن يكون معطوفا على ما تقدم أي (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره ، ونحو ذلك قاله مجاهد وقال سجوده بظله. وقرىء (وَكَثِيرٌ) حقا أي حق عليهم العذاب حقا. وقرىء حق بضم الحاء ومن مفعول مقدم بيهن. وقرأ الجمهور (مِنْ مُكْرِمٍ) اسم فاعل. وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على المصدر أي من إكرام. قال الزمخشري : ومن أهانه الله كتب عليه الشقاوة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه ، فقد بقي مهانا لمن يجد له مكرما أنه يفعل ما يشاء من الإكرام والإهانة ، ولا يشاء من ذلك إلّا ما يقتضيه عمل العاملين واعتقاد المعتقدين انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال.

ولما ذكر تعالى أهل السعادة وأهل الشقاوة ذكر ما دار بينهم من الخصومة في دينه ، فقال (هذانِ) قال قيس بن عباد وهلال بن يساف ، نزلت في المتبارزين يوم بدر حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث برز والعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. وعن عليّ : أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يديّ الله تعالى ، وأقسم أبو ذر على هذا ووقع في صحيح البخاري أن الآية فيهم. وقال ابن عباس : الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وقع بينهم تخاصم ، قالت اليهود : نحن أقدم دينا منكم فنزلت. وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن وعاصم والكلبي الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ، وخصم مصدر وأريد به هنا الفريق ، فلذلك جاء (اخْتَصَمُوا) مراعاة للمعنى إذ تحت كل خصم أفراد ، وفي رواية عن الكسائي (خَصْمانِ) بكسر الخاء ومعنى (فِي رَبِّهِمْ) في دين ربهم. وقرأ ابن أبي عبلة اختصما ، راعى لفظ التثنية ثم ذكر تعالى ما أعدّ للكفار.

وقرأ الزعفراني في اختياره : (قُطِّعَتْ) بتخفيف الطاء كأنه تعالى يقدر لهم نيرانا على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة ، والظاهر أن هذا المقطع لهم يكون من النار. وقال سعيد بن جبير (ثِيابٌ) من نحاس مذاب وليس شيء إذا حمي أشد حرارة منه ، فالتقدير من نحاس محمى بالنار. وقيل : الثياب من النار استعارة عن إحاطة النار بهم

٤٩٥

كما يحيط الثوب بلابسه. وقال وهب : يكسى أهل النار والعري خير لهم ، ويحيون والموت خير لهم.

ولما ذكر ما يصب على رؤوسهم إذ يظهر في المعروف أن الثوب إنما يغطى به الجسد دون الرأس فذكر ما يصيب الرأس من العذاب. وعن ابن عباس : لو سقطت من الحميم نقطة على جبال الدنيا لأذابتها ولما ذكر ما يعذب به الجسد ظاهره وما يصب على الرأس ذكر ما يصل إلى باطن المعذب وهو الحميم الذي يذيب ما في البطن من الحشا ويصل ذلك الذوب إلى الظاهر وهو الجلد فيؤثر في الظاهر تأثيره في الباطن كما قال تعالى (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (١) وقرأ الحسن وفرقة (يُصْهَرُ) بفتح الصاد وتشديد الهاء. وفي الحديث : «إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان». والظاهر عطف (وَالْجُلُودُ) على (ما) من قوله (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) وأن (الْجُلُودُ) تذاب كما تذاب الأحشاء. وقيل : التقدير وتخرق (الْجُلُودُ) لأن الجلود لا تذاب إنما تجتمع على النار وتنكمش وهذا كقوله :

علفتها تبنا وماء باردا

أي وسقيتها ماء. والظاهر أن الضمير في (وَلَهُمْ) عائد على الكفار ، واللام للاستحقاق. وقيل : بمعنى على أي وعليهم كقوله (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) (٢) أي وعليهم. وقيل : الضمير يعود على ما يفسره المعنى وهو الزبانية. وقال قوم منهم الضحاك : المقامع المطارق. وقيل : سياط من نار وفي الحديث : «لو وضع مقمع منها في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض» (مِنْ غَمٍ) بدل من منها بدل اشتمال ، أعيد معه الجار وحذف الضمير لفهم المعنى أي من غمها ، ويحتمل أن تكون من للسبب أي لأجل الغم الذي يلحقهم ، والظاهر تعليق الإعادة على الإرادة للخروج فلا بد من محذوف يصح به المعنى ، أي من أماكنهم المعدة لتعذيبهم (أُعِيدُوا فِيها) أي في تلك الأماكن. وقيل (أُعِيدُوا فِيها) بضرب الزبانية إياهم بالمقامع (وَذُوقُوا) أي ويقال لهم ذوقوا.

ولما ذكر تعالى ما أعد لأحد الخصمين من العذاب ذكر ما أعد من الثواب للخصم الآخر. وقرأ الجمهور (يُحَلَّوْنَ) بضم الياء وفتح الحاء وتشديد اللام. وقرىء بضم الياء

__________________

(١) سورة محمد : ٤٧ / ١٥.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٢٥.

٤٩٦

والتخفيف. وهو بمعنى المشدد. وقرأ ابن عباس (يُحَلَّوْنَ) بفتح الياء واللام وسكون الحاء من قولهم : حلى الرجل وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي والمرأة ذات حلي والمرأة حال. وقال أبو الفضل الرازي : يجوز أن يكون من حلي بعيني يحلى إذا استحسنته ، قال فتكون (مِنْ) زائدة فيكون المعنى يستحسنون فيها الأساورة الملبوسة انتهى. وهذا ليس بجيد لأنه جعل حلى فعلا متعديا ولذلك حكم بزيادة (مِنْ) في الواجب وليس مذهب البصريين ، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز لأنه لا يحفظ لازما فإن كان بهذا المعنى كانت (مِنْ) للسبب أي بلباس أساور الذهب يحلون بعين من يراهم أي يحلى بعضهم بعين بعض. قال أبو الفضل الرازي : ويجوز أن تكون (مِنْ) حليت به إذا ظفرت به ، فيكون المعنى (يُحَلَّوْنَ فِيها) بأساور فتكون (مِنْ) بدلا من الباء ، والحلية من ذلك فإما إذا أخذته من حليت به فإنه من الحلية ، وهو من الياء وإن أخذته من حلي بعيني فإنه من الحلاوة من الواو انتهى. ومن معنى الظفر قولهم : لم يحل فلان بطائل ، أي لم يظفر. والظاهر أن (مِنْ) في (مِنْ أَساوِرَ) للتبعيض وفي (مِنْ ذَهَبٍ) لابتداء الغاية أي أنشئت من ذهب.

وقال ابن عطية : (مِنْ) في (مِنْ أَساوِرَ) لبيان الجنس ، ويحتمل أن تكون للتبعيض. وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في الكهف. وقرأ ابن عباس من أسور بفتح الراء من غير ألف ولا هاء ، وكان قياسه أن يصرفه لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجودا فمنعه الصرف. وقرأ عاصم ونافع والحسن والجحدري والأعرج وأبو جعفر وعيسى بن عمر وسلام ويعقوب (وَلُؤْلُؤاً) هنا وفي فاطر بالنصب وحمله أبو الفتح على إضمار فعل وقدره الزمخشري ويؤتون (لُؤْلُؤاً) ومن جعل (مِنْ) في (مِنْ أَساوِرَ) زائدة جاز أن يعطف (وَلُؤْلُؤاً) على موضع (أَساوِرَ) وقيل يعطف على موضع (مِنْ أَساوِرَ) لأنه يقدر و (يُحَلَّوْنَ) حليا (مِنْ أَساوِرَ). وقرأ باقي السبعة والحسن أيضا وطلحة وابن وثاب والأعمش. وأهل مكة ولؤلؤ بالخفض عطفا على (أَساوِرَ) أو على (ذَهَبٍ) لأن السوار يكون من ذهب ولؤلؤ ، يجمع بعضه إلى بعض.

قال الجحدري : الألف ثابتة بعد الواو في الإمام. وقال الأصمعي : ليس فيها ألف ، وروى يحيى عن أبي بكر همز الأخير وإبدال الأولى. وروى المعلى بن منصور عنه ضد ذلك. وقرأ الفياض : ولوليا قلب الهمزتين واوا صارت الثانية واوا قبلها ضمة ، عمل فيها ما عمل في أدل من قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة. وقرأ ابن عباس وليليا أبدل الهمزتين

٤٩٧

واوين ثم قلبهما ياءين اتبع الأولى للثانية. وقرأ طلحة ولول مجرورا عطفا على ما عطف عليه المهموز.

و (الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) إن كانت الهداية في الدنيا فهو قول لا إله إلّا الله ، والأقوال الطيبة من الأذكار وغيرها ، ويكون الصراط طريق الإسلام وإن كان إخبارا عما يقع منهم في الآخرة فهو قولهم : الحمد لله الذي صدقنا وعده وما أشبه ذلك من محاورة أهل الجنة ، ويكون الصراط الطريق إلى الجنة. وعن ابن عباس : هو لا إله إلا الله والحمد لله زاد ابن زيد والله أكبر. وعن السدّي القرآن. وحكى الماوردي : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعن ابن عباس : هو الحمد لله الذي صدقنا وعده ، والظاهر أن (الْحَمِيدِ) وصف لله تعالى. قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالحميد نفس الطريق ، فأضاف إليه على حد إضافته في قوله : دار الآخرة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) : المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار ، ومنه (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) كقوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) (١) وقيل : هو مضارع أريد به الماضي عطفا على (كَفَرُوا) وقيل : هو على إضمار مبتدأ أي وهم (يَصُدُّونَ) وخبر إن محذوف قدره ابن عطية بعد (وَالْبادِ) خسروا أو هلكوا وقدره الزمخشري بعد قوله (الْحَرامِ) نذيقهم (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ولا يصح تقديره بعده لأن الذي صفة (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فموضع التقدير هو بعد (وَالْبادِ) لكن مقدر الزمخشري

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ٢٨.

٤٩٨

أحسن من مقدر ابن عطية لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ ، وابن عطية لحظ من جهة المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك. وقيل : الواو في (وَيَصُدُّونَ) زائدة وهو خبر إن تقديره إن الذين كفروا يصدون. قال ابن عطية : وهذا مفسد للمعنى المقصود انتهى. ولا يجيز البصريون زيادة الواو وإنما هو قول كوفي مرغوب عنه.

وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صدّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المسجد الحرام وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك بجمع إلّا أن يراد صدهم لأفراد من الناس فقد وقع ذلك في صدر المبعث ، والظاهر أنه نفس المسجد ومن صد عن الوصول إليه فقد صد عنه. وقيل : الحرم كله لأنهم صدوه وأهله عليه‌السلام فنزلوا خارجا عنه لكنه قصد بالذكر المهم المقصود من الحرم.

وقرأ الجمهور سواء بالرفع على أن الجملة من مبتدأ وخبر في موضع المفعول الثاني ، والأحسن أن يكون (الْعاكِفُ) و (الْبادِ) هو المبتدأ و (سَواءً) الخبر ، وقد أجيز العكس. وقال ابن عطية : والمعنى (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ) قبلة أو متعبدا انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلّا إن كان أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني ، فلا يحتاج إلى هذا التقدير. وقرأ حفص والأعمش (سَواءً) بالنصب وارتفع به (الْعاكِفُ) لأنه مصدر في معنى مستو اسم الفاعل. ومن كلامهم : مررت برجل سواء هو والعدم ، فإن كانت جعل تتعدى إلى اثنين فسواء الثاني أو إلى واحد فسواء حال من الهاء. وقرأت فرقة منهم الأعمش في رواية القطعي سواء بالنصب العاكف فيه بالجر. قال ابن عطية : عطفا على الناس انتهى. وكأنه يريد عطف البيان والأولى أن يكون بدل تفصيل.

وقرىء والبادي وصلا ووقفا وبتركها فيهما ، وبإثباتها وصلا وحذفها وقفا (الْعاكِفُ) المقيم فيه والبادي الطارئ عليه ، وأجمعوا على الاستواء في نفس المسجد الحرام واختلفوا في مكة ، فذهب عمر وابن عباس ومجاهد وجماعة إلى أن الأمر كذلك في دوس مكة ، وأن القادم له النزول حيث وجد وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى ، وقال به الثوري وكذلك كان الأمر في الصدر الأول. قال ابن سابط : وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة ، فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال : أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله؟ فقال : إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة فتركه ، فاتخذ الناس الأبواب

٤٩٩

وهذا الخلاف مترتب على الخلاف في فتح مكة أكان عنوة أو صلحا؟ وهي مسألة يبحث عنها في الفقه.

والإلحاد الميل عن القصد. ومفعول (بَرَدٍ) قال أبو عبيدة هو (بِإِلْحادٍ) والباء زائدة في المفعول. قال الأعشى :

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا

أي رزق وكذا قراءة الحسن منصوبا قرأ (وَمَنْ يُرِدْ) إلحاده بظلم أي إلحادا فيه فتوسع. وقال ابن عطية : يجوز أن يكون التقدير (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ) الناس (بِإِلْحادٍ). وقال الزمخشري : (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) حالان مترادفتان ومفعول (يُرِدْ) متروك ليتناول كل متناول ، كأنه قال (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ) مراد إمّا عادلا عن القصد ظالما (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) وقيل : الإلحاد في الحرم منع الناس عن عمارته. وعن سعيد بن جبير : الاحتكار. وعن عطاء : قول الرجل في المبايعة لا والله وبلى والله انتهى. والأولى أن تضمن (يُرِدْ) معنى يتلبس فيتعدى بالباء. وعلق الجزاء وهو (نُذِقْهُ) على الإرادة ، فلو نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بها إلّا في مكة وهذا قول ابن مسعود وجماعة. وقال ابن عباس : الإلحاد هنا الشرك. وقال أيضا : هو استحلال الحرام. وقال مجاهد : هو العمل السيّء فيه. وقال ابن عمر : لا والله وبلى والله من الإلحاد. وقال حبيب بن أبي ثابت : الحكر بمكة من الإلحاد بالظلم ، والأولى حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على الحصر إذ الكلام يدل على العموم. وقرأت فرقة ومن يرد بفتح الياء من الورود وحكاها الكسائي والفراء ، ومعناه ومن أتى به (بِإِلْحادٍ) ظالما.

ولما ذكر تعالى حال الكفار وصدهم عن المسجد الحرام وتوعد فيه من أراد فيه بإلحاد ذكر حال أبيهم إبراهيم وتوبيخهم على سلوكهم غير طريقه من كفرهم باتخاذ الأصنام وامتنانه عليهم بإنفاد العالم إليهم (وَإِذْ بَوَّأْنا) أي واذكر (إِذْ بَوَّأْنا) أي جعلنا (لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) مباءة أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة. قيل : واللام زائدة أي بوّأنا إبراهيم مكان البيت أي جعلنا يبوء إليه كقوله (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) (١) وقال الشاعر :

كم صاحب لي صالح

بوّأته بيدي لحدا

وقيل : مفعول (بَوَّأْنا) محذوف تقديره بوّأنا الناس ، واللام في (لِإِبْراهِيمَ) لام العلة أي

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٥٨.

٥٠٠