البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤

وقال الزمخشري : وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر أو بدل انتهى. وهذا الذي ذكر لا يكون إلّا على المجاز في قول وهو أن يراد به كلمة الله لأن اللفظ لا يكون الذات. وقرأ طلحة والأعمش في رواية زائدة قال : بألف جعله فعلا ماضيا (الْحَقِ) برفع القاف على الفاعلية ، والمعنى قال الحق وهو الله (ذلِكَ) الناطق الموصوف بتلك الأوصاف هو (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) و (الَّذِي) على هذا خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي. وقرأ عليّ كرم الله وجهه والسلمي وداود بن أبي هند ونافع في رواية والكسائي في رواية تمترون بتاء الخطاب والجمهور بياء الغيبة ، وامترى افتعل إما من المرية وهي الشك ، وإما من المراء وهو المجادلة والملاحاة ، وكلاهما مقول هنا قالت اليهود ساحر كذاب ، وقالت النصارى ابن الله وثالث ثلاثة وهو الله (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) هذا تكذيب للنصارى في دعواهم أنه ابن الله ، وإذا استحالت البنوة فاستحالة الإلهية مستقلة أو بالتثليث أبلغ في الاستحالة ، وهذا التركيب معناه الانتفاء فتارة يدل من جهة المعنى على الزجر (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) (١) وتارة على التعجيز (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) (٢) وتارة على التنزيه كهذه الآية ، ولذلك أعقب هذا النفي بقوله (سُبْحانَهُ) أي تنزه عن الولد إذ هو مما لا يتأتى ولا يتصور في المعقول ولا تتعلق به القدرة لاستحالته ، إذ هو تعالى متى تعلقت إرادته بإيجاد شيء أو جده فهو منزه عن التوالد. وتقدم الكلام على الجملة من قوله (إِذا قَضى أَمْراً).

وقرأ الجمهور (وَإِنَّ اللهَ) بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ أبي بالكسر دون واو. وقرأ الحرميان وأبو عمرو (وَإِنَ) بالواو وفتح الهمزة ، وخرجه ابن عطية على أن يكون معطوفا على قوله هذا (قَوْلَ الْحَقِ وَإِنَّ اللهَ رَبِّي) كذلك. وخرجه الزمخشري على أن معناه ولأنه ربي وربكم فاعبدوه كقوله (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (٣) انتهى. وهذا قول الخليل وسيبويه وفي حرف أبي أيضا ، وبأن (اللهَ) بالواو وباء الجر أي بسبب ذلك فاعبدوه. وأجاز الفراء في (وَإِنَ) يكون في موضع خفض معطوفا على والزكاة ، أي (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) (٤) وبأن الله ربي وربكم انتهى. وهذا في غاية البعد للفصل الكثير ، وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى الأمر (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ).

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٢٠.

(٢) سورة النمل : ٢٧ / ٦٠.

(٣) سورة الجن : ٧٣ / ١٨.

(٤) سورة مريم : ١٩ / ٣١.

٢٦١

وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أن يكون المعنى ، وقضى (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) فهي معطوفة على قوله (أَمْراً) من قوله (إِذا قَضى أَمْراً) والمعنى (إِذا قَضى أَمْراً) وقضى (إِنَّ اللهَ) انتهى. وهذا تخبيط في الإعراب لأنه إذا كان معطوفا على (أَمْراً) كان في حيز الشرط ، وكونه تعالى ربنا لا يتقيد بالشرط وهذا يبعد أن يكون قاله أبو عمرو بن العلاء فإنه من الجلالة في علم النحو بالمكان الذي قل أن يوازنه أحد مع كونه عربيا ، ولعل ذلك من فهم أبي عبيدة فإنه يضعف في النحو والخطاب في قول (وَرَبُّكُمْ) قيل لمعاصري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود والنصارى أمر الله تعالى أن يقول لهم (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي قل لهم يا محمد هذا الكلام. وقيل : الخطاب للذين خاطبهم عيسى بقوله (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) (١) الآية وإن الله معطوف على الكتاب ، وقد قال وهب عهد عيسى إليهم (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ومن كسر الهمزة عطف على قوله (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) فيكون محكيا. يقال : وعلى هذا القول يكون قوله (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) ـ إلى ـ (وَإِنَّ اللهَ) حمل اعتراض أخبر الله تعالى بها رسوله عليه‌السلام.

والإشارة بقوله (هذا) أي القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة ، هو الطريق المستقيم الذي يفضي بقائله ومعتقده إلى النجاة (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) هذا إخبار من الله للرسول بتفرق بني إسرائيل فرقا ، ومعنى (مِنْ بَيْنِهِمْ) أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين لم يقع الاختلاف سببه غيرهم. و (الْأَحْزابُ) قال الكلبي : اليهود والنصارى. وقال الحسن : الذين تحزبوا على الأنبياء لما قص عليهم قصة عيسى اختلفوا فيه من بين الناس انتهى. فالضمير في (بَيْنِهِمْ) على هذا ليس عائدا على (الْأَحْزابُ). وقيل : (الْأَحْزابُ) هنا المسلمون واليهود والنصارى. وقيل : هم النصارى فقط.

وعن قتادة إن بني إسرائيل جمعوا أربعة من أحبارهم. فقال أحدهم : عيسى هو الله نزل إلى الأرض وأحيا من أحيا وأمات من أمات ، فكذبه الثلاثة واتبعته اليعقوبية. ثم قال أحد الثلاثة : عيسى ابن الله فكذبه الاثنان واتبعته النسطورية ، وقال أحد الاثنين : عيسى أحد ثلاثة الله إله ، ومريم إله ، وعيسى إله فكذبه الرابع وأتبعته الإسرائيلية. وقال الرابع : عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فاتبعته فرقة من بني إسرائيل ثم اقتتل الأربعة ، فغلب المؤمنون وظهرت اليعقوبية على الجميع فروي أن في ذلك نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) (٢) آية آل عمران ، والأربعة يعقوب ونسطور وملكا وإسرائيل.

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٣٠.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٢١.

٢٦٢

وبين هنا أصله ظرف استعمل اسما بدخول (مِنْ) عليه. وقيل : (مِنْ) زائدة. وقيل البين هنا البعد أي اختلفوا فيه لبعدهم عن الحق. و (مَشْهَدِ) مفعل من الشهود وهو الحضور أو من الشهادة ويكون مصدرا ومكانا وزمانا ، فمن الشهود يجوز أن يكون المعنى من شهود هول الحساب والجزاء في يوم القيامة ، وإن يكون من مكان الشهود فيه وهو الموقف ، وأن يكون من وقت الشهود ومن الشهادة ، يجوز أن يكون المعنى من شهادة ذلك اليوم وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر ، وأن يكون من مكان الشهادة ، وأن يكون من وقت الشهادة واليوم العظيم على هذه الاحتمالات يوم القيامة. وعن قتادة : هو يوم قتل المؤمنين حين اختلف الأحزاب وقيل ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه يوم اختلافهم ، وتقدم الكلام على التعجب الوارد من الله في قوله تعالى (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (١) وأنه لا يوصف بالتعجب.

قال الحسن وقتادة : لئن كانوا صما وبكما عن الحق فما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة ، ولكنهم يسمعون ويبصرون حيث لا ينفعهم السمع ولا البصر. وعن ابن عباس أنهم أسمع شيء وأبصره. وقال علي بن عيسى : هو وعيد وتهديد أي سوف يسمعون ما يخلع قلوبهم ، ويبصرون ما يسود وجوههم. وعن أبي العالية : إنه أمر حقيقة للرسول أي (أَسْمِعْ) الناس اليوم وأبصرهم (بِهِمْ) وبحديثهم ماذا يصنع بهم من العذاب إذا أتوا محشورين مغلولين (لكِنِ الظَّالِمُونَ) عموم يندرج فيه هؤلاء الأحزاب الكفارة وغيرهم من الظالمين ، و (الْيَوْمَ) أي في دار الدنيا. وقال الزمخشري : أوقع الظاهر أعني الظالمين موقع الضمير إشعارا بأن لا ظلم أشد من ظلمهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين يجدي عليهم ويسعدهم ، والمراد بالضلال المبين إغفال النظر والاستماع انتهى.

(وَأَنْذِرْهُمْ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والضمير لجميع الناس. وقيل : يعود على الظالمين. و (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يوم ذبح الموت وفيه حديث. وعن ابن زيد : يوم القيامة. وقيل : حين يصدر الفريقان إلى الجنة والنار وعن ابن مسعود : حين يرى الكفار مقاعدهم التي فاتتهم من الجنة لو كانوا مؤمنين. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) اسم جنس لأن هذه حسرات كثيرة في مواطن عدة ، ومنها يوم الموت ، ومنها وقت أخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك انتهى.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٥.

٢٦٣

و (إِذْ) بد من (يَوْمَ الْحَسْرَةِ). قال السدّي وابن جريج : (قُضِيَ الْأَمْرُ) ذبح الموت. وقال مقاتل : قضى العذاب. وقال ابن الأنباري المعنى (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) الذي فيه هلاككم. وقال الضحاك : يكون ذلك إذا برزت جهنم ورمت بالشرر. وعن ابن جريج أيضا : إذا فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وقيل إذا (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١). وقيل : إذا يقال (امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (٢) وقيل : إذا قضى سد باب التوبة وذلك حين تطلع الشمس من مغربها.

(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ). قال الزمخشري : متعلق بقوله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) عن الحسن (وَأَنْذِرْهُمْ) إعراض وهو متعلق بأنذرهم أي (وَأَنْذِرْهُمْ) على هذه الحال غافلين غير مؤمنين. وقال ابن عطية : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) يريد في الدنيا الآن (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) كذلك انتهى. وعلى هذا يكون حالا والعامل فيه (وَأَنْذِرْهُمْ) والمعنى أنهم مشتغلون بأمور دنياهم معرضون عما يراد منهم ، والظاهر أن يكون المراد بقوله و (قُضِيَ الْأَمْرُ) أمر يوم القيامة.

(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) تجوز وعبارة عن فناء المخلوقات وبقاء الخالق فكأنها وراثة. وقرأ الجمهور (يُرْجَعُونَ) بالياء من تحت مبنيا للمفعول ، والأعرج بالتاء من فوق. وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق وعيسى بالياء من تحت مبنيا للفاعل وحكى عنهم الداني بالتاء.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما

٢٦٤

يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ

٢٦٥

آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٨.

(٢) سورة يس : ٣٦ / ٥٩.

٢٦٦

لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا).

(وَاذْكُرْ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد اتل عليهم نبأ (إِبْراهِيمَ) وذاكره ومورده في التنزيل هو الله تعالى ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة مريم وابنها عيسى واختلاف الأحزاب فيهما وعبادتهما من دون الله ، وكانا من قبيل من قامت بهما الحياة ذكر الفريق الضال الذي عبد جمادا والفريقان وإن اشتركا في الضلال ، والفريق العابد الجماد أضل ثم ذكر قصة إبراهيم مع أبيه عليه‌السلام تذكيرا للعرب بما كان إبراهيم عليه من توحيد الله وتبيين أنهم سالكو غير طريقه ، وفيه صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر به وأن ذلك متلقى بالوحي والصديق من أبنية المبالغة وهو مبني من الثلاثي للمبالغة أي كثير الصدق ، والصدق عرفه في اللسان ويقابله الكذب ، وقد يستعمل في الأفعال والخلق وفيما لا يعقل يقال : صدقني الطعام كذا وكذا قفيزا ، وعود صدق للصلب الجيد فوصف إبراهيم بالصدق على العموم في أقواله وأفعاله ، والصديقية مراتب ألا ترى إلى وصف المؤمنين بها في قوله (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) (١) ومن غريب النقل ما ذهب إليه بعض النحويين من أن فعيلا إذا كان من متعد جاز أن يعمل فتقول هذا شريب مسكر كما أعملوا عند البصريين فعولا وفعالا ومفعالا.

وقال الزمخشري : والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسوله ، وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي كان مصدقا لجميع الأنبياء وكتبهم وكان (نَبِيًّا) في نفسه لقوله تعالى (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) (٢) وكان بليغا في الصدق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ومصدق الله بآياته ومعجزاته حري أن يكون كذلك ، وهذه الجملة وقعت اعتراضا بين المبدل منه وبدله أعني (إِبْراهِيمَ).

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٦٩.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ٣٧.

٢٦٧

و (إِذْ قالَ) نحو قولك : رأيت زيدا ونعم الرجل أخاك ، ويجوز أن تتعلق (إِذْ) بكان أو ب (صِدِّيقاً نَبِيًّا) أي كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات انتهى. فالتخريج الأول يقتضي تصرف (إِذْ) وقد تقدم لنا أنها لا تتصرف ، والتخريج الثاني مبني على أن كان الناقصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلاف. والتخريج الثالث لا يصح لأن العمل لا ينسب إلّا إلى لفظ واحد ، أما أن ينسب إلى مركب من مجموع لفظين فلا ، وجائز أن يكون معمولا لصديقا لأنه نعت إلّا على رأي الكوفيين ، ويحتمل أن يكون معمولا لنبيا أي منبأ في وقت قوله لأبيه ما قال ، وأن التنبئة كانت في ذلك الوقت وهو بعيد.

وقرأ أبو البر هثيم إنه كان صادقا. وفي قوله (يا أَبَتِ) تلطف واستدعاء بالنسب. وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر (يا أَبَتِ) بفتح التاء وقد لحن هارون هذه القراءة ، وتقدم الكلام على (يا أَبَتِ) في سورة يوسف عليه‌السلام ، وفي مصحف عبد الله وا أبت بواو بدل ياء ، واستفهم إبراهيم عليه‌السلام عن السبب الحامل لأبيه على عبادة الضم وهو منتف عنه السمع والبصر والإغناء عنه شيئا تنبيها على شنعة الرأي وقبحه وفساده في عبادة من انتفت عنه هذه الأوصاف.

وخطب الزمخشري فقال : انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقل وانسلخ عن قضية التمييز كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحا في ذلك نصيحة ربه جل وعلا. حدث أبو هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوحى الله إلى إبراهيم عليه لسلام إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار ، تدخل مداخل الأبرار» ، كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس ، وأدنيه من جواري. وسرد الزمخشري بعد هذا كلاما كثيرا من نوع الخطابة تركناه.

و (ما لا يَسْمَعُ) الظاهر أنها موصولة ، وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة ومعمول (يَسْمَعُ) و (يُبْصِرُ) منسي ولا ينوي أي ما ليس به استماع ولا إبصار لأن المقصود نفي هاتين الصفتين دون تقييد بمتعلق. و (شَيْئاً). إما مصدر أو مفعول به ، ولما سأله عن العلة في عبادة الصنم ولا يمكن أن يجد جوابا ، انتقل معه إلى إخباره بأنه قد جاءه من العلم ما

٢٦٨

لم يأته ولم يصف أباه بالجهل إذ يغني عنه السؤال السابق. وقال (مِنَ الْعِلْمِ) على سبيل التبعيض أي شيء من العلم ليس معك ، وهذه المحاورة تدل على أن ذلك كان بعد ما نبىء ، إذ في لفظ (جاءَنِي) تجدد العلم ، والذي جاءه الوحي الذي أتى به الملك أو العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها أو توحيد الله وإفراده بالالوهية والعبادة أقوال ثلاثة (فَاتَّبِعْنِي) على توحيد الله بالعبادة وارفض الأصنام (يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة. وانتقل من أمره باتباعه إلى نهيه عن عبادة الشيطان وعبادته كونه يطيعه في عبادة الأصنام ثم نفره عن عبادة الشيطان بأنه كان عصيا للرحمن ، حيث استعصى حين أمره بالسجود لآدم فأبى ، فهو عدوّ لك ولأبيك آدم من قبل. وكان لفظ الرحمن هنا تنبيها على سعة رحمته ، وأن من هذا وصفه هو الذي ينبغي أن يعبد ولا يعصى ، وإعلاما بشقاوة الشيطان حيث عصى من هذه صفته وارتكب من ذلك ما طرده من هذه الرحمة ، وإن كان مختارا لنفسه عصيان ربه لا يختار لذريته من عصى لأجله إلّا ما اختار لنفسه من عصيانهم.

(يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ) قال الفرّاء والطبري (أَخافُ) أعلم كما قال (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما) (١) أي تيقنا ، والأولى حمل (أَخافُ) على موضوعه الأصلي لأنه لم يكن آيسا من إيمانه بل كان راجيا له وخائفا أن لا يؤمن وأن يتمادى على الكفر فيمسه العذاب ، وخوّفه إبراهيم سوء العاقبة وتأدّب معه إذ لم يصرّح بلحوق العذاب به بل أخرج ذلك مخرج الخائف ، وأتى بلفظ المس الذي هو ألطف من المعاقبة ونكر العذاب ، ورتب على مس العذاب ما هو أكبر منه وهو ولاية الشيطان كما قال في مقابل ذلك (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (٢) أي من النعيم السابق ذكره ، وصدر كل نصيحة بقوله (يا أَبَتِ) توسلا إليه واستعطافا.

وقيل : الولاية هنا كونه مقرونا معه في الآخرة وإن تباغضا وتبرأ بعضهما من بعض. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير إني أخاف أن تكون وليا في الدنيا للشيطان فيمسك في الآخرة عذاب من الرحمن. وقوله (أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) لا يعين أن العذاب يكون في الآخرة ، بل يحتمل أن يحمل العذاب على الخذلان من الله فيصير مواليا للشيطان ، ويحتمل أن يكون مس العذاب في الدنيا بأن يبتلى على كفره بعذاب في الدنيا فيكون ذلك العذاب سببا لتماديه على الكفر وصيرورته إلى ولاية الشيطان إلى أن يوافي على الكفر كما قال (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣) وهذه المناصحات

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٨٠.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٧٢.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٦٨.

٢٦٩

تدل على شدة تعلق قلبه بمعالجة أبيه ، والطماعية في هدايته قضاء لحق الأبوة وإرشادا إلى الهدى «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم».

(قالَ) أي أبوه (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) استفهم استفهام إنكار ، والرغبة عن الشيء تركه عمدا وآلهته أصنامه ، وأغلظ له في هذا الإنكار وناداه باسمه ولم يقابل (يا أَبَتِ) بيا بني. قال الزمخشري : وقدم الخبر على المبتدأ في قوله (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) لأنه كان أهم عنده وهو عنده أعني وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته ، وإن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد. وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه انتهى. والمختار في إعراب (أَراغِبٌ أَنْتَ) أن يكون راغب مبتدأ لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام ، و (أَنْتَ) فاعل سد مسد الخبر ، ويترجح هذا الإعراب على ما أعربه الزمخشري من كون (أَراغِبٌ) خبرا و (أَنْتَ) مبتدأ بوجهين :

أحدهما : أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير إذ رتبة الخبر أن يتأخر عن المبتدأ.

والثاني : أن لا يكون فصل بين العامل الذي هو (أَراغِبٌ) وبين معموله الذي هو (عَنْ آلِهَتِي) بما ليس بمعمول للعامل ، لأن الخبر ليس هو عاملا في المبتدأ بخلاف كون (أَنْتَ) فاعلا فإن معمول (أَراغِبٌ) فلم يفصل بين (أَراغِبٌ) وبين (عَنْ آلِهَتِي) بأجنبي إنما فصل بمعمول له.

ولما أنكر عليه رغبته عن آلهته توعده مقسما على إنفاذ ما توعده به إن لم ينته ومتعلق (تَنْتَهِ) محذوف واحتمل أن يكون عن مخاطبتي بما خاطبتني به ودعوتني إليه ، وأن يكون (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن الرغبة عن آلهتي (لَأَرْجُمَنَّكَ) جواب القسم المحذوف قبل (لَئِنْ). قال الحسن : بالحجارة. وقيل : لأقتلنك. وقال السدي والضحاك وابن جريج : لأشتمنك.

قال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف (وَاهْجُرْنِي)؟ قلت : على معطوف عليه محذوف يدل عليه (لَأَرْجُمَنَّكَ) أي فاحذرني (وَاهْجُرْنِي) لأن (لَأَرْجُمَنَّكَ) تهديد وتقريع انتهى. وإنما احتاج إلى حذف ليناسب بين جملتي العطف والمعطوف عليه ، وليس ذلك بلازم عند سيبويه بل يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة الإنشائية. فقوله (وَاهْجُرْنِي) معطوف على قوله (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) وكلاهما معمول للقول. وانتصب (مَلِيًّا) على الظرف أي دهرا طويلا قاله الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما ،

٢٧٠

ومنه الملوان وهما الليل والنهار والملاوة بتثليث حركة الميم الدهر الطويل من قولهم : أمليت لفلان في الأمر إذا أطلت له. وقال الشاعر :

فعسنا بها من الشباب ملاوة

فالحج آيات الرسول المحبب

وقال سيبويه : سير عليه مليّ من الدهر أي زمان طويل. وقال ابن عباس وغيره : (مَلِيًّا) معناه سالما سوّيا فهو حال من فاعل (وَاهْجُرْنِي). قال ابن عطية : وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستندا بحالك غنيا عني (مَلِيًّا) بالاكتفاء. وقال السدي : معناه أبدا. ومنه قول مهلهل :

فتصدعت صم الجبال لموته

وبكت عليه المرملات مليا

وقال ابن جبير : دهرا ، وأصل الحرف المكث يقال : تمليت حينا. وقال الزمخشري : أو (مَلِيًّا) بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرخ فلان ملي بكذا إذا كان مطيقا له مضطلعا به انتهى.

(قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ). قرأ أبو البر هثيم : سلاما بالنصب. قال الجمهور : هذا بمعنى المسالمة لا بمعنى التحية ، أي أمنة مني لك وهؤلاء لا يرون ابتداء الكافر بالسلام. وقال النقاش حليم : خاطب سفيها كقوله (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (١). وقيل : هي تحية مفارق ، وجوز قائل هذا تحية الكافر وإن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلا بقوله تعالى (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ) (٢) الآية وبقوله (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) (٣) الآية.

و (قالَ) إبراهيم لأبيه (سَلامٌ عَلَيْكَ) وما استدل به متأول ، ومذهبهم محجوج بما ثبت في صحيح مسلم : «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام» ورفع (سَلامٌ) على الابتداء ونصبه على المصدر ، أي سلمت سلاما دعاء له بالسلامة على سبيل الاستمالة ، ثم وعده بالاستغفار وذلك يكون بشرط حصول ما يمكن معه الاستغفار وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة ، وهذا كما يرد الأمر والنهي على الكافر ولا يصح الامتثال إلّا بشرط الإيمان. ومعنى (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ) أدعو الله في هدايتك فيغفر لك بالإيمان ولا يتأول على إبراهيم عليه‌السلام أنه لم يعلم أن الله لا يغفر لكافر. قال ابن عطية : ويجوز أن يكون إبراهيم عليه

__________________

(١) سورة الفرقان : ٣٥ / ٦٣.

(٢) سورة الممتحنة : ٦٠ / ٨.

(٣) سورة الممتحنة : ٦٠ / ٤.

٢٧١

السلام أول نبيّ أوحي إليه أن الله لا يغفر لكافر لأن هذه الطريقة إنما طريقها السمع ، وكانت هذه المقالة منه لأبيه قبل أن يوحى إليه ، وذلك أنه إنما تبين له في أبيه أنه عدو لله بأحد وجهين : إما بموته على الكفر كما روي ، وإما أن يوحي إليه الحتم عليه.

وقال الزمخشري : ولقائل أن يقول الذي يمنع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع ، فأما القضية العقلية فلا تأباه ، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع بناء على قضية العقل ، والذي يدل على صحته قوله تعالى (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) (١) فلو كان شارطا للإيمان لم يكن مستنكرا ومستثنى عما وجب فيه. وقول من قال إنما استغفر له لأنه وعده أن يؤمن مستدلا بقوله (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) (٢) فجعل الواعد آزر والموعود إبراهيم عليه‌السلام ليس بجيد لاعتقابه في هذه الآية الوعد بالاستغفار بعد ذلك القول الجافي في قوله (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) الآية. فكيف يكون وعده بالإيمان؟ ولأن الواعد هو إبراهيم ويدل عليه قراءة حماد الراوية وعدها إياه.

والحفي المكرم المحتفل الكثير البر والألطاف ، وتقدم شرحه لغة في قوله (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) (٣). وقال ابن عباس : رحيما. وقال الكلبي : حليما. وقال القتبي : بارا. وقال السدي : حفيك من يهمه أمرك ، ولما كان في قوله (لَأَرْجُمَنَّكَ) فظاظة وقساوة قلب قابله بالدعاء له بالسلام والأمن ووعده بالاستغفار قضاء لحق الأبوة ، وإن كان قد صدر منه إغلاظ. ولما أمره بهجره الزمان الطويل أخبره بأنه يتمثل أمره ويعتزله وقومه ومعبوداتهم ، فهاجر إلى الشام قيل أو إلى حران وكانوا بأرض كوثاء ، وفي هجرته هذه تزوج سارة ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر ، والأظهر أن قوله (وَأَدْعُوا رَبِّي) معناه وأعبد ربي كما جاء في الحديث : «الدعاء العبادة» لقوله (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ويجوز أن يراد الدعاء الذي حكاه الله في سورة الشعراء (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) (٤) إلى آخره ، وعرض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) مع التواضع لله في كلمة (عَسى) وما فيه من هضم النفس. وفي (عَسى) ترج في ضمنه خوف شديد ، ولما فارق الكفار وأرضهم أبدله منهم أولادا أنبياء ، والأرض المقدّسة فكان فيها ويتردد إلى مكة فولد له إسحاق وابنه يعقوب تسلية له وشدّا لعضده ، وإسحاق أصغر من إسماعيل ، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت سارة ثم حملت بإسحاق.

__________________

(١) سورة الممتحنة : ٦٠ / ٤.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ١١٤.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٧.

(٤) سورة الشعراء : ٢٦ / ٨٣.

٢٧٢

وقوله (مِنْ رَحْمَتِنا) قال الحسن : هي النبوة. وقال الكلبي : المال والولد ، والأحسن أن يكون الخير الديني والدنيوي من العلم والمنزلة والشرف في الدنيا والنعيم في الآخرة. ولسان الصدق : الثناء الحسن الباقي عليهم آخر الأبد قاله ابن عباس ، وعبر باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية. واللسان في كلام العرب الرسالة الرائعة كانت في خير أو شر. قال الشاعر :

إني أتتني لسان لا أسر بها

وقال آخر :

ندمت على لسان كان مني

ولسان العرب لغتهم وكلامهم. استجاب الله دعوته (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ) في الآخرين فصيره قدوة حتى عظمه أهل الأديان كلهم وادعوه. وقال تعالى (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) (١) و (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (٢) (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (٣) وأعطى ذلك ذريته فأعلى ذكرهم وأثنى عليهم ، كما أعلى ذكرهم وأثنى عليهم كما أعلى ذكره وأثنى عليه.

جثا : قعد على ركبتيه ، وهي قعدة الخائف الذليل يجثو ويجثي جثوا وجثاية. حتم الأمر : أوجبه. الندى والنادي : المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة. وقيل : مجلس أهل الندى وهو الكرم. وقيل : المجلس فيه الجماعة. قال حاتم :

فدعيت في أولى الندى

ولم ينظر إليّ بأعين خزر

الري : مصدر رويت من الماء ، واسم مفعول أي مروي قاله أبو علي. الزي : محاسن مجموعة من الزي وهو الجمع. كلا : حرف ردع وزجر عند الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد وعامة البصريين ، وذهب الكسائي ونصر بن يوسف وابن واصل وابن الأنباري إلى أنها بمعنى حقا ، وذهب النضر بن شميل إلى أنها حرف تصديق بمعنى نعم ، وقد تستعمل مع القسم. وذهب عبد الله بن محمد الباهلي إلى أن كلا رد لما قبلها فيجوز الوقف عليها وما بعدها استئناف ، وتكون أيضا صلة للكلام بمنزلة إي والكلام على هذه المذاهب مذكور في النحو. الضد : العون يقال : من أضدادكم أي أعوانكم ، وكان العون سمي ضدا لأنه يضاد

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٢٥.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٦١.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ١٢٣.

٢٧٣

عدوك وينافيه بإعانته لك عليه : الأز والهز والاستفزاز أخوات ، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج ، ومنه أزيز المرجل وهو غليانه وحركته. وفد يفد وفدا ووفودا ووفادة : قدم على سبيل التكرمة ، الأدّ والإدّ : بفتح الهمزة وكسرها العجب. وقيل : العظيم المنكر والإدّة الشدة ، وأدني الأمر وآدني أثقلني وعظم علي أدّا. الهد : قال الجوهري هدّا البناء هدا كسره. وقال المبرد : هو سقوط بصوت شديد ، والهدة صوت وقع الحائط ونحوه يقال : هديهد بالكسر هديدا. وقال الليث : الهد الهدم الشديد. الركز : الصوت الخفي ، ومنه ركز الرمح غيب طرفه في الأرض ، والركاز المال المدفون. وقيل : الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم. قال الشاعر :

فتوجست ركز الأنيس فراعها

عن ظهر غيب والأنيس سقامها

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا).

قرأ الكوفيون (مُخْلَصاً) بفتح اللام وهي قراءة أبي رزين ويحيى وقتادة ، أي أخلصه الله للعبادة والنبوة. كما قال تعالى (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) (١). وقرأ باقي السبعة والجمهور بكسر اللام أي أخلص العبادة عن الشرك والرياء ، أو أخلص نفسه وأسلم وجهه لله. ونداؤه إياه هو تكليمه تعالى إياه. و (الطُّورِ) الجبل المشهور بالشام ، والظاهر أن (الْأَيْمَنِ) صفة للجانب لقوله في آية أخرى (جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) (٢) بنصب الأيمن نعتا لجانب الطور ، والجبل نفسه لا يمنة له ولا يسرة ولكن كان على يمين موسى بحسب وقوفه فيه ، وإن كان من اليمن احتمل أن يكون صفة للجانب وهو الراجح ليوافق ذلك في الآيتين ، واحتمل أن يكون صفة للطور إذ معناه الأسعد المبارك.

قال ابن القشيري : في الكلام حذف وتقديره (وَنادَيْناهُ) حين أقبل من مدين ورأى النار من الشجرة وهو يريد من يهديه إلى طريق مصر (مِنْ جانِبِ الطُّورِ) أي من ناحية

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٤٦.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٥٢ وسورة طه : ٢٠ / ٨٠.

٢٧٤

الجبل. (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) قال الجمهور : تقريب التشريف والكلام واليوم. وقال ابن عباس : أدنى موسى من الملكوت ورفعت له الحجب حتى سمع صريف الأقلام ، وقاله أبو العالية وميسرة. وقال سعيد : أردفه جبريل على السلام. قال الزمخشري : شبهه بمن قربه بعض العظماء للمناجاة حيث كلمه بغير واسطة ملك انتهى. ونجى فعيل من المناجاة بمعنى مناج كالجليس ، وهو المنفرد بالمناجاة وهي المسارة بالقول. وقال قتادة : معنى نجاه صدقه ومن في من رحمتنا للسبب أي من أجل رحمتنا له أو للتبعيض أي بعض رحمتنا.

قال الزمخشري : و (أَخاهُ) على هذا الوجه بدل و (هارُونَ) عطف بيان كقولك رأيت رجلا أخاك زيدا انتهى. والذي يظهر أن أخاه مفعول بقوله (وَوَهَبْنا) ولا ترادف من بعضا فتبدل منها ، وكان هارون أسن من موسى طلب من الله أن يشد أزره بنبوته ومعونته فأجابه و (إِسْماعِيلَ) هو ابن إبراهيم أبو العرب يمنيّها ومضريها وهو قول الجمهور. وقيل : إنه إسماعيل بن حزقيل ، بعثه الله إلى قومه فشجوا جلدة رأسه فخيره الله فيما شاء من عذابهم فاستعفاه ورضي بثوابه وفوض أمرهم إليه في عفوه وعقوبته ، وصدق وعده أنه كانت منه مواعيد لله وللناس فوفي بالجميع ، فلذلك خص بصدق الوعد. قال ابن جريج : لم يعد ربه موعدة إلّا أنجزها ، فمن مواعيده الصبر وتسليم نفسه للذبح ، ووعد رجلا أن يقيم له بمكان فغاب عنه مدة. قيل : سنة. وقيل : اثني عشر يوما فجاءه ، فقال : برحت من مكانك؟ فقال : لا والله ، ما كنت لأخلف موعدي.

(وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ). قال الحسن : قومه وأمته ، وفي مصحف عبد الله وكان يأمر قومه. وقال الزمخشري : كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم ، ولأنهم أولى من سائر الناس (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١) و (أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) (٢) (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) (٣) أي ترى أنهم أحق فتصدق عليهم بالإحسان الديني أولى. وقيل : (أَهْلَهُ) أمته كلهم من القرابة وغيرهم ، لأن أمم النبيين في عداد أهاليهم ، وفيه أن حق الصالح أن لا يألو نصحا للأجانب فضلا عن الأقارب والمتصلين ، وأن يخطيهم بالفوائد الدينية ولا يفرط في ذلك انتهى. وقال أيضا ذكر إسماعيل عليه‌السلام بصدق الوعد وإن كان موجودا في غيره من الأنبياء تشريفا له وإكراما كالتلقيب نحو الحليم الأواه والصديق ، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله.

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١٤.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ١٣٢.

(٣) سورة التحريم : ٦٦ / ٦.

٢٧٥

وقرأ الجمهور (مَرْضِيًّا) وهو اسم مفعول أي مرضو وفاعل بقلب واوه ياء لأنها طرف بعد واو ساكنة ، والساكن ليس بحاجز حصين فكأنها وليت حركة ، ولو بنيت من ذوات الواو مفعلا لصار مفعلا لأن الواو لا تكون طرفا وقبلها متحرك في الأسماء المتمكنة غير المتقيدة بالإضافة ، ألا ترى أنهم حين سموا بيغزو الغازي من الضمير قالوا : بغز حين صار اسما ، وهذا الإعلال أرجح من التصحيح ، ولأنه اعتل في رضي وفي رضيان تثنية رضي. وقرأ ابن أبي عبلة : مرضوا مصححا. وقالت العرب : أرض مسنية ومسنوة ، وهي التي تسقى بالسواني.

و (إِدْرِيسَ) هو جد أبي نوح وهو أخنوخ ، وهو أول من نظر في النجوم والحساب ، وجعله الله من معجزاته وأول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط ، وكان خياطا وكانوا قبل يلبسون الجلود ، وأول مرسل بعد آدم وأول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل. وقال ابن مسعود : هو إلياس بعث إلى قومه بأن يقولوا لا إله إلّا الله ويعملوا ما شاؤوا فأبوا وأهلكوا. و (إِدْرِيسَ) اسم أعجمي منع من الصرف للعلمية والعجمة ، ولا جائز أن يكون إفعيلا من الدرس كما قال بعضهم لأنه كان يجب صرفه إذ ليس فيه إلّا واحد وهو العلمية.

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون معنى (إِدْرِيسَ) في تلك اللغة قريبا من ذلك أي من معنى الدرس ، فحسبه القائل مشتقا من الدرس. والمكان العلي شرف النبوة والزلفى عند الله ، وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة انتهى. وقاله جماعة وهو رفع النبوة والتشريف والمنزلة في السماء كسائر الأنبياء. وقيل : بل رفع إلى السماء. قال ابن عباس : كان ذلك بأمر الله كما رفع عيسى كان له خليل من الملائكة فحمله على جناحه وصعد به حتى بلغ السماء الرابعة ، فلقي هنالك ملك الموت فقال له : إنه قيل لي اهبط إلى السماء الرابعة فاقبض فيها روح إدريس وإني لأعجب كيف يكون هذا ، فقال له الملك الصاعد : هذا إدريس معي فقبض روحه. وروي أن هذا كله كان في السماء السادسة قاله ابن عباس. وكذلك هي رتبته في حديث الإسراء في بعض الروايات من حديث أبي هريرة وأنس يقتضي أنه في السماء الرابعة. وعن الحسن : إلى الجنة لا شيء أعلى من الجنة. وقال قتادة : يعبد الله مع الملائكة في السماء السابعة ، وتارة يرفع في الجنة حيث شاء. وقال مقاتل : هو ميت في السماء.

(أُولئِكَ) إشارة إلى من تقدم ذكره في هذه السورة من الأنبياء و (مِنَ) في (مِنَ

٢٧٦

النَّبِيِّينَ) للبيان ، لأن جميع الأنبياء منعم عليهم و (مِنَ) الثانية للتبعيض ، وكان إدريس (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) لقربه منه لأنه جد أبي نوح وإبراهيم من ذرية من حمل مع نوح ، لأنه من ولد سام بن نوح (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ) إسحاق وإسماعيل ويعقوب وإسرائيل معطوف على إبراهيم ، وزكريا ويحيى وموسى وهارون من ذرية إسرائيل ، وكذلك عيسى لأن مريم من ذريته.

(وَمِمَّنْ هَدَيْنا) يحتمل العطف على (مِنَ) الأولى أو الثانية ، والظاهر أن (الَّذِينَ) خبر لأولئك. و (إِذا تُتْلى) كلام مستأنف ، ويجوز أن يكون (الَّذِينَ) صفة لأولئك والجملة الشرطية خبر. وقرأ الجمهور (تُتْلى) بتاء التأنيث. وقرأ عبد الله وأبو جعفر وشيبة وشبل بن عباد وأبو حيوة وعبد الله بن أحمد العجلي عن حمزة وقتيبة في رواية وورش في رواية النحاس ، وابن ذكوان في روايد التغلبي بالياء. وانتصب (سُجَّداً) على الحال المقدرة قاله الزجّاج لأنه حال خروره لا يكون ساجدا ، والبكي جمع باك كشاهد وشهود ، ولا يحفظ فيه جمعه المقيس وهو فعلة كرام ورماة والقياس يقتضيه.

وقرأ الجمهور (بُكِيًّا) بضم الباء وعبد الله ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي بكسرها اتباعا لحركة الكاف كعصي ودلي ، والذي يظهر أنه جمع لمناسبة الجمع قبله. قيل : ويجوز أن يكون مصدر البكا بمعنى بكاء ، وأصله بكو وكجلس جلوسا. وقال ابن عطية : و (بُكِيًّا) بكسر الباء وهو مصدر لا يحتمل غير ذلك انتهى. وقوله ليس بسديد لأن اتباع حركة الكاف لا تعين المصدرية ، ألا تراهم قرؤوا (جِثِيًّا) بكسر الجيم جمع جاث ، وقالوا عصي فاتبعوا.

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا).

نزل (فَخَلَفَ) في اليهود عن ابن عباس ومقاتل ، وفيهم وفي النصارى عن السدي ، وفي قوم من أمّة الرسول يأتون عند ذهاب صالحيها يتبارزون بالزنا ينزو في الأزقة بعضهم

٢٧٧

على بعض عن مجاهد وقتادة وعطاء ومحمد بن كعب القرظي. وعن وهب : هم شرّابو القهوة ، وتقدم الكلام على (خَلْفٌ) في الأعراف ، وإضاعة الصلاة تأخيرها عن وقتها قاله ابن مسعود والنخعي والقاسم بن مخيمرة ومجاهد وإبراهيم وعمر بن عبد العزيز. وقال القرظي واختاره الزجّاج : إضاعتها الإخلال بشروطها. وقيل : إقامتها في غير الجماعات. وقيل : عدم اعتقاد وجوبها. وقيل : تعطيل المساجد والاشتغال بالصنائع. والأسباب ، و (الشَّهَواتِ) عام في كل مشتهى يشغل عن الصلاة وذكر الله. وعن عليّ من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور.

وقرأ عبد الله والحسن وأبو رزين العقيلي والضحاك وابن مقسم الصلوات جمعا. والغيّ عند العرب كل شر ، والرشاد كل خير. قال الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وقال الزجاج : هو على حذف مضاف أي جزاء غي كقوله (يَلْقَ أَثاماً) (١) أي مجازاة آثام. وقال ابن زيد : الغي الخسران والحصول في الورطات. وقال عبد الله بن عمرو وابن مسعود وكعب : غيّ واد في جهنم. وقال ابن زيد : ضلال. وقال الزمخشري : أو (غَيًّا) عن طريق الجنة. وحكى الكرماني : آبار في جهنم يسيل إليها الصديد والقيح. وقيل : هلاك. وقيل : شر. وقرىء فيما حكى الأخفش (يَلْقَوْنَ) بضم الياء وفتح اللام وشد القاف.

(إِلَّا مَنْ تابَ) استثناء ظاهره الاتصال. وقال الزجاج : منقطع (وَآمَنَ) هذا يدل على أن تلك الإضاعة كفر ، وقرأ الحسن (يَدْخُلُونَ) مبنيا للفاعل ، وكذا كل ما في القرآن من (يَدْخُلُونَ). وقرأ كذلك هنا الزهري وحميد وشيبة والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر وابن سعدان. وقرأ ابن غزوان عن طلحة : سيدخلون بسين الاستقبال مبنيا للفاعل.

وقرأ الجمهور جنات نصبا جمعا بدلا من (الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) اعتراض أو حال. وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر والأعمش وأحمد بن موسى عن أبي عمرو (جَنَّاتِ) رفعا جمعا أي تلك جنات وقال الزمخشري الرفع على الابتداء انتهى يعني والخبر (الَّتِي). وقرأ الحسن بن حي وعليّ بن صالح جنة عدن نصبا مفردا ورويت عن الأعمش وهي كذلك في مصحف عبد الله. وقرأ اليماني والحسن وإسحاق الأزرق عن حمزة جنة رفعا مفردا و (عَدْنٍ) إن كان علما شخصيا كان التي نعتا لما أضيف إلى (عَدْنٍ) وإن كان المعنى إقامة كان (الَّتِي) بدلا.

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦٨.

٢٧٨

وقال الزمخشري : (عَدْنٍ) معرفة علم لمعنى العدن وهو الإقامة ، كما جعلوا فينة وسحر وأمس في من لم يصرفه أعلاما لمعاني الفينة والسحر والأمس ، فجرى العدن كذلك. أو هو علم الأرض الجنة لكونه مكان إقامة ، ولو لا ذلك لما ساغ الإبدال لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلّا موصوفة ، ولما ساغ وصفها بالتي انتهى.

وما ذكره متعقب. أما دعواه أن عدنا علم لمعنى العدن فيحتاج إلى توقيف وسماع من العرب ، وكذا دعوى العلمية الشخصية فيه. وأما قوله ولو لا ذلك إلى قوله موصوفة فليس مذهب البصريين لأن مذهبهم جواز إبدال النكرة من المعرفة وإن لم تكن موصوفة ، وإنما ذلك شيء قاله البغداديون وهم محجوجون بالسماع علم ما بيناه في كتبنا في النحو ، فملازمته فاسدة. وأما قوله : ولما ساغ وصفها بالتي فلا يتعين كون التي صفة ، وقد ذكرنا أنه يجوز إعرابه بدلا و (بِالْغَيْبِ) حال أي وعدها وهي غائبة عنهم أو وهم غائبون عنها لا يشاهدونها ، ويحتمل أن تكون الباء للسبب أي بتصديق الغيب والإيمان به. وقال أبو مسلم : المراد الذين يكونون عبادا بالغيب أي الذين يعبدونه في السر ، والظاهر أن (وَعْدُهُ) مصدر. فقيل : (مَأْتِيًّا) بمعنى آتيا. وقيل : هو على موضوعه من أنه اسم المفعول. وقال الزمخشري : (مَأْتِيًّا) مفعول بمعنى فاعل ، والوجه أن الوعد هو الجنة وهم يأتونها ، أو هو من قولك أتى إليه إحسانا أي كان وعده مفعولا منجزا ، والقول الثاني وهو قوله : والوجه مأخوذ من قول ابن جريج قال : (وَعْدُهُ) هنا موعوده وهو الجنة ، و (مَأْتِيًّا) يأتيه أولياؤه انتهى.

(إِلَّا سَلاماً) استثناء منقطع وهو قول الملائكة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) (١). وقيل : يسلم الله عليهم عند دخولها. ومعنى (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) يأتيهم طعامهم مرتين في مقدار اليوم والليلة من الزمن. وقال مجاهد : لا بكرة ولا عشي ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا. وقد ذكر نحوه قتادة أن تكون مخاطبة بما تعرف العرب في رفاهة العيش. وقال الحسن : خوطبوا على ما كانت العرب تعلم من أفضل العيش ، وذلك أن كثيرا من العرب إنما كان يجد الطعام المرة في اليوم ، وكان عيش أكثرهم من شجر البرية ومن الحيوان. وقال الزمخشري : اللغو فضول الكلام وما لا طائل تحته ، وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. وما أحسن قوله

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ٢٤.

٢٧٩

(وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (١) (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) (٢) الآية أي أن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم (لَغْواً) فلا يسمعون لغوا إلّا ذلك فهو من وادي قوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

أو (لا يَسْمَعُونَ فِيها) إلّا قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة على الاستثناء المنقطع ، أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ، ودار السلام هي دار السلامة وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء. فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لو لا ما فيه من فائدة الكلام. وقال أيضا : ولا يكون ثم ليل ولا نهار ولكن على التقدير. ولأن المتنعم عند العرب من وجد غداء وعشاء. وقيل : أراد دوام الرزق ودروره كما تقول : أنا عند فلان صباحا ومساء وبكرة وعشيا ، ولا يقصد الوقتين المعلومين انتهى.

وقرأ الجمهور (نُورِثُ) مضارع أورث ، والأعمش نورثها بإبراز الضمير العائد على الموصول ، والحسن والأعرج وقتادة ورويس وحميد وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو بفتح الواو وتشديد الراء. والتوريث استعارة أي تبقى عليه الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث ، والأتقياء يلقون ربهم قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة ، فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى. وقيل : أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا.

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) أبطأ جبريل عن الرسول مرة ، فلما جاء قال : «يا جبريل قد اشتقت إليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا»؟ فنزلت. وقال مجاهد والضحاك : سببها أن جبريل عليه‌السلام تأخر في السؤالات المتقدمة في سورة الكهف وهي كالتي في الضحى ، وتنزل تفعل وهي للمطاوعة وهي أحد معاني تفعل ، تقول : نزلته فتنزل فتكون لمواصلة العمل في مهلة ، وقد تكون لا يلحظ فيه ذلك إذا كان بمعنى المجرد كقولهم : تعدى الشيء وعداه ولا يكون مطاوعا فيكون تنزل في معنى نزل. كما قال الشاعر :

فلست لأنسى ولكن لملاك

تنزل من جو السماء يصوب

وقال الزمخشري : التنزل على معنيين : معنى النزول على مهل ، ومعنى النزول على

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٧٢.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٥٥.

٢٨٠