البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤

وقيل : كان النسيان من أحدهما وهو فتى موسى نسي أن يعلم موسى أمر الحوت إذ كان نائما ، وقد أحس يوشع بخروجه من المكتل إلى البحر ورآه قد اتخذ السرب فأشفق أن يوقظ موسى. وقال أؤخر إلى أن يستيقظ ثم نسي أن يعلمه حتى ارتحلا و (جاوَزا) وقد يسند الشيء إلى الجماعة وإن كان الذي فعله واحد منهم. وقيل : هو على حذف مضاف أي نسي أحدهما. وقال الزمخشري : أي (نَسِيا) تفقد أمره وما يكون منه مما جعل إمارة على الظفر بالطلبة. وقيل : نسي يوشع أن يقدمه ، ونسي موسى أن يأمر فيه بشيء انتهى. وشبه بالسرب مسلك الحوت في الماء حين لم ينطبق الماء بعده بل بقي كالطاق ، هذا الذي ورد في الحديث. وقال الجمهور : بقي موضع سلوكه فارغا. وقال قتادة : ماء جامدا وعن ابن عباس : حجرا صلدا. وقال ابن زيد : إنما اتخذ سبيله سربا في البر حتى وصل إلى البحر ثم عام على العادة كأنه يعني بقوله (سَرَباً) تصرفا وجولانا من قولهم : فحل سارب أي مهمل يرعى حيث شاء. ومنه قوله تعالى (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (١) أي متصرف. وقال قوم : اتخذ (سَرَباً) في التراب من المكتمل ، وصادف في طريقه حجرا فنقبه. والظاهر أن السرب كان في الماء ولا يفسر إلّا بما ورد في الحديث الصحيح أن الماء صار عليه كالطاق وهو معجزة لموسى عليه‌السلام أو الخضر إن قلنا أنه نبي وإلّا تكن كرامة.

وقيل : عاد موضع سلوك الحوت حجرا طريقا وأن موسى مشى عليه متبعا للحوت حتى أفضى به ذلك إلى جزيرة في البحر وفيها وجد الخضر (فَلَمَّا جاوَزا) أي مجمع البحرين. وقال الزمخشري : الموعد وهو الصخرة. قيل : سارا بعد مجاوزة الصخرة الليلة والغد إلى الظهر وألقى على موسى النصب والجوع حين جاوز الموعد ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك فتذكر الحوت وطلبه. وقوله (مِنْ سَفَرِنا) هذا إشارة إلى مسيرهما وراء الصخرة. وقرأ الجمهور (نَصَباً) بفتحتين وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمتين. قال صاحب اللوامح وهي إحدى اللغات الأربع التي فيها.

وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف نسي يوشع ذلك ومثله لا ينسى لكونه إمارة لهما على الطلبة التي تناهضا من أجلها ولكونه معجزتين بينتين وهما حياة السمكة المملوحة المأكول منها وقيل : ما كانت إلّا شق سمكة وقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب ، ثم كيف استمر به النسيان حتى خلفا الموعد وسارا مسيرة ليلة إلى ظهر الغد ، وحتى طلب موسى عليه‌السلام الحوت قلت : قد شغله الشيطان بوساوسه فذهب بفكره كل

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ١٠.

٢٠١

مذهب حتى اعتراه النسيان ، وانضم إلى ذلك أنه ضري بمشاهدة أمثاله عند موسى من العجائب ، واستأنس بأخواته فأعان الإلف على قلة الاهتمام انتهى. قال أبو بكر غالب بن عطية والداني عبد الحق المفسر : سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظة : مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام ، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم.

وقال الزمخشري : (أَرَأَيْتَ) بمعنى أخبرني فإن قلت : فما وجه التئام هذا الكلام فإن كل واحد من (أَرَأَيْتَ) و (إِذْ أَوَيْنا) و (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) لا متعلق له؟ قلت : لما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية فدهش فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك ، كأنه قال : (أَرَأَيْتَ) ما دهاني (إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) فحذف ذلك انتهى. وكون أرأيتك بمعنى أخبرني ذكره سيبويه : وقد أمعنّا الكلام في ذلك في سورة الأنعام وفي شرحنا لكتاب التسهيل.

وأما ما يختص بأرأيت في هذا الموضع فقال أبو الحسن الأخفش : إن العرب أخرجتها عن معناها بالكلية فقالوا : أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة إذا كانت بمعنى أخبرني ، وإذا كانت بمعنى أبصرت لم تحذف همزتها قال : وشذت أيضا فألزمتها الخطاب على هذا المعنى ، ولا تقول فيها أبدا أراني زيد عمرا ما صنع ، وتقول هذا على معنى أعلم. وشذت أيضا فأخرجتها عن موضعها بالكلية بدليل دخول الفاء ألا ترى قوله (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) فما دخلت الفاء إلّا وقد أخرجت لمعنى إما أو تنبه ، والمعنى أما (إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) فالأمر كذا ، وقد أخرجتها أيضا إلى معنى أخبرني كما قدمنا ، وإذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام ، وقد يخرج لمعنى أما ويكون أبدا بعدها الشرط وظرف الزمان فقوله (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) معناه أما (إِذْ أَوَيْنا فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) أو تنبه (إِذْ أَوَيْنا) وليست الفاء إلّا جوابا لأرأيت ، لأن إذ لا يصح أن يجازى بها إلّا مقرونة بما بلا خلاف انتهى كلام الأخفش. وفيه إن (أَرَأَيْتَ) إذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه ، وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام وهذان مفقودان في تقدير الزمخشري (أَرَأَيْتَ) هنا بمعنى أخبرني ، ومعنى (نَسِيتُ الْحُوتَ) نسيت ذكر ما جرى فيه لك.

وفي قوله (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) حسن أدب سبب النسيان إلى المتسبب فيه بوسوسته و (أَنْ أَذْكُرَهُ) بدل اشتمال من الضمير العائد على الحوت ، والظاهر أن الضمير

٢٠٢

في (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) عائد على الحوت كما عاد في قوله (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) وهو من كلام يوشع. وقيل : الضمير عائد على موسى أي اتخذ موسى. ومعنى (عَجَباً) أي تعجب من ذلك أو اتخاذا (عَجَباً) وهو أن أثره بقي إلى حيث سار. وقدره الزمخشري (سَبِيلَهُ عَجَباً) وهو كونه شبيه السرب قال : أو قال (عَجَباً) في آخر كلام تعجبا من حاله في رؤية تلك العجيبة ونسيانه لها ، أو مما رأى من المعجزتين وقوله : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه. وقيل : إن (عَجَباً) حكاية لتعجب موسى وليس بذلك انتهى.

وقال ابن عطية : (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى أي اتخذ الحوت سبيلا عجبا للناس ، ويحتمل أن يكون قوله (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ) تمام الخبر ثم استأنف التعجب فقال من قبل نفسه (عَجَباً) لهذا الأمر ، وموضع العجب أن يكون حوت قد مات وأكل شقه ثم حيي بعد ذلك.

قال أبو شجاع في كتاب الطبري رأيته أتيت به فإذا هو شق حوت وعين واحدة وشق آخر ليس فيه شيّ. قال ابن عطية : وأنا رأيته والشق الذي فيه شيّ عليه قشرة رقيقة ليست تحتها شوكة ، ويحتمل أن يكون (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ) الآية إخبارا من الله تعالى وذلك على وجهين : إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر (عَجَباً) أي تعجب منه ، وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله (عَجَباً) للناس انتهى. وقرأ حفص : (وَما أَنْسانِيهُ) بضم الهاء وفي الفتح عليه الله وذلك في الوصل وأمال الكسائي فتحة السين ، وفي مصحف عبد الله وقراءته (أَنْ أَذْكُرَهُ إِلَّا الشَّيْطانُ). وقرأ أبو حيوة : واتخاذ سبيله عطف على المصدر على ضمير المفعول في (أَذْكُرَهُ) والإشارة بقوله ذلك إلى أمر الحوت وفقده واتخاذه سبيلا في البحر لأنه إمارة الظفر بالطلبة من لقاء ذلك العبد الصالح و (ما) موصولة والعائد محذوف أي نبغيه. وقرئ نبغ بغير ياء في الوصل وإثباتها أحسن وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ونافع ، وأما الوقف فالأكثر فيه طرح الياء اتباعا لرسم المصحف ، وأثبتها في الحالين ابن كثير.

(فَارْتَدَّا) رجعا على أدراجهما من حيث جاءا. (قَصَصاً) أي يقصان الأثر (قَصَصاً) فانتصب على المصدرية بإضمار يقصان ، أو يكون في موضع الحال أي مقتصين فينصب بقوله (فَارْتَدَّا فَوَجَدا) أي موسى والفتى (عَبْداً مِنْ عِبادِنا) هذه إضافة تشريف واختصاص ، وجداه عند الصخرة التي فقد الحوت عندها وهو مسجى في

٢٠٣

ثوبه مستلقيا على الأرض فقال : السلام عليك فرفع رأسه ، وقال : أنى بأرضك السلام ثم قال له ، من أنت؟ قال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم ، قال له : ألم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا؟ قال : بلى ، ولكن أحببت لقاءك وأن أتعلم منك ، قال له : إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا. والجمهور على أنه الخضر وخالف من لا يعتد بخلافه فزعم أنه عالم آخر. وقيل : اليسع. وقيل : الياس. وقيل : خضرون بن قابيل بن آدم عليه‌السلام. قيل : واسم الخضر بليا بن ملكان ، والجمهور على أن الخضر نبي وكان علمه معرفة بواطن قد أوحيت إليه ، وعلم موسى الأحكام والفتيا بالظاهر. وروي أنه وجد قاعدا على ثبج البحر. وفي الحديث سمي خضرا لأنه جلس على فروة بالية فاهتزت تحته خضراء. وقيل : كان إذا صلى اخضرّ ما حوله. وقيل : جلس على فروة بيضاء وهي الأرض المرتفعة. وقيل : الصلبة واهتزت تحته خضراء. وقيل : كانت أمه رومية وأبوه فارسي. وقيل : كان ابن ملك من الملوك أراد أبوه أن يستخلفه من بعده فلم يقبل منه ولحق بجزائر البحر فطلبه أبوه فلم يقدر عليه. والجمهور على أنه مات.

وقال شرف الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي : أما خضر موسى بن عمران فليس بحي لأنه لو كان حيا للزمه المجيء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان به واتّباعه. وقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو كان موسى وعيسى حيين لم يسعهما إلّا اتباعي». انتهى هكذا أوراد لحديث ومذهب المسلمين أن عيسى حي وأنه ينزل من السماء ، ولعل الحديث : «لو كان موسى حيا لم يسعه إلّا اتباعي».

والرحمة التي آتاه الله إياها هي الوحي والنبوة. وقيل : الرزق. (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) أي من عندنا أي مما يختص بنا من العلم وهو الإخبار عن الغيوب. وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو (مِنْ لَدُنَّا) بتخفيف النون وهي لغة في لدن وهي الأصل.

قيل : وقد أولع كثير ممن ينتمي إلى الصلاح بادعاء هذا العلم ويسمونه العلم اللدني ، وأنه يلقى في روع الصالح منهم شيء من ذلك حتى يخبر بأن من كان من أصحابه هو من أهل الجنة على سبيل القطع ، وأن بعضهم يرى الخضر. وكان قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن عليّ بن مطيع القشيري المعروف بابن دقيق العيد يخبر عن شيخ له أنه رأى الخضر وحدثه ، فقيل له : من أعلمه أنه الخضر؟ ومن أين عرف ذلك؟ فسكت. وبعضهم يزعم أن الخضرية رتبة يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر ، وسمعنا الحديث عن

٢٠٤

شيخ يقال له عبد الواحد العباسي الحنبلي وكان أصحابه الحنابلة يعتقدون فيه أنه يجتمع بالخضر.

(قالَ لَهُ مُوسى) في الكلام محذوف تقديره فلما التقيا وتراجعا الكلام وهو الذي ورد في الحديث الصحيح (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ) وفي هذا دليل على التواضع للعالم ، وفي هذه القصة دليل على الحث على الرحلة في طلب العلم وعلى حسن التلطف والاستنزال والأدب في طلب العلم. بقوله (هَلْ أَتَّبِعُكَ) وفيه المسافرة مع العالم لاقتباس فوائده ، والمعنى هل يخف عليك ويتفق لك وانتصب (رُشْداً) على أنه مفعول ثان لقوله (تُعَلِّمَنِ) أو على أنه مصدر في موضع الحال ، وذو الحال الضمير في (أَتَّبِعُكَ).

وقال الزمخشري : (عِلْماً) ذا رشد أرشد به في ديني ، قال : فإن قلت : أما دلت حاجته إلى التعلم من آخر في عهده أنه كما قيل موسى بن ميشا لا موسى بن عمران لأن النبيّ يجب أن يكون أعلم أهل زمانه وإمامهم المرجوع إليه في أبواب الدين؟ قلت : لا غضاضة بالنبيّ في أخذ العلم من نبيّ قبله ، وإنما يغض منه أن يأخذ ممن دونه.

وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس : إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى ، وأن موسى هو موسى بن ميشا فقال : كذب عدو الله انتهى.

وقرأ الحسن والزهري وأبو بحرية وابن محيصن وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد واليزيدي (رُشْداً) بفتحتين وهي قراءة أبي عمرو من السبعة. وقرأ باقي السبعة بضم الراء وإسكان الشين ، ونفى الخضر استطاعة الصبر معه على سبيل التأكيد كأنها مما لا يصح ولا يستقيم ، وعلل ذلك بأنه يتولى أمورا هي في ظاهرها ينكرها الرجل الصالح فكيف النبيّ فلا يتمالك أن يشمئز لذلك ، ويبادر بالإنكار (وَكَيْفَ تَصْبِرُ) أي إن صبرك على ما لا خبرة لك به مستبعد ، وفيه إبداء عذر له حيث لا يمكنه الصبر لما يرى من منافاة ما هو عليه من شريعته. وانتصب (خُبْراً) على التمييز أي مما لم يحط به خبرك فهو منقول من الفاعل أو على أنه مصدر على غير الصدر لأن معنى (بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) لم تخبره. وقرأ الحسن وابن هرمز (خُبْراً) بضم الباء.

(قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) وعده بوجدانه (صابِراً) وقرن ذلك بمشيئة الله علما منه بشدة الأمر وصعوبته ، إذ لا يصبر إلّا على ما ينافي ما هو عليه إذ رآه (وَلا أَعْصِي) يحتمل أن يكون معطوفا على (صابِراً) أي (صابِراً) وغير عاص فيكون في

٢٠٥

موضع نصب عطف الفعل على الاسم إذا كان في معناه كقوله (صَافَّاتٍ) و (يَقْبِضُ) (١) أي وقابضات ، ويجوز أن يكون معطوفا على (سَتَجِدُنِي) فلا محل له من الإعراب ولا يكون مقيدا بالمشيئة لفظا.

وقال القشيري : وعد موسى من نفسه بشيئين : بالصبر وقرنه بالاستثناء بالمشيئة فصبر حين وجد على يدي الخضر فيما كان منه من الفعل ، وبأن لا يعصيه فأطلق ولم يقرنه بالاستثناء فعصاه حيث قال له (فَلا تَسْئَلْنِي) فكان يسأله فما قرن بالاستثناء لم يخالف فيه وما أطلقه وقع فيه الخلف انتهى. وهذا منه على تقدير أن يكون (وَلا أَعْصِي) معطوفا على (سَتَجِدُنِي) فلم يندرج تحت المشيئة.

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي) أي إذا رأيت مني شيئا خفي عليك وجه صحته فأنكرت في نفسك فلا تفاتحني بالسؤال حتى أكون أنا الفاتح عليك ، وهذا من أدب المتعلم مع العالم المتبوع. وقرأ نافع وابن عامر (فَلا تَسْئَلْنِي) وعن أبي جعفر بفتح السين واللام من غير همز مشددة النون وباقي السبعة بالهمز وسكون اللام وتخفيف النون. قال أبو علي. كلهم بياء في الحالين انتهى. وعن ابن عامر في حذف الياء خلاف غريب.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).

(فَانْطَلَقا) أي موسى والخضر وكان معهم يوشع ولم يضمر لأنه في حكم التبع. وقيل : كان موسى قد صرفه وردّه إلى بني إسرائيل. والألف واللام في (السَّفِينَةِ) لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة. وروي في كيفية ركوبهما السفينة وخرقها وسدها أقوال ، والمعتمد ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما قالا : «فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلّا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له

__________________

(١) سورة الملك : ٦٧ / ١٩.

٢٠٦

موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها (لِتُغْرِقَ أَهْلَها) إلى قوله (عُسْراً)» قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وكان الأول من موسى نسيانا قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر فقال له الخضر : ما علمي وعلمك من علم الله إلّا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر».

واللام في (لِتُغْرِقَ أَهْلَها). قيل : لام العاقبة. وقيل : لام العلة. وقرأ زيد بن عليّ والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وحمزة والكسائي وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني ليغرق بفتح الياء والراء وسكون الغين (أَهْلَها) بالرفع. وقرأ باقي السبعة بضم تاء الخطاب وإسكان الغين وكسر الراء ونصب لام (أَهْلَها). وقرأ الحسن وأبو رجاء كذلك إلّا أنهما فتحا الغين وشددا الراء.

ثم ذكره الخضر بما سبق له من نفي استطاعته الصبر لما يرى فقال (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) والظاهر حمل النسيان على وضعه. وقد قال عليه‌السلام : «كانت الأولى من موسى نسيانا» والمعنى أنه نسي العهد الذي كان بينهما من عدم سؤاله حتى يكون هو المخبر له أولا وهذا قول الجمهور. وعن أبيّ ابن كعب أنه ما نسي ولكن قوله هذا من معاريض الكلام. قال الزمخشري : أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي ، أو أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان توهمه أنه نسي ليبسط عذره في الإنكار وهو من معاريض الكلام التي ينفي بها الكذب مع التوصل إلى الغرض كقول إبراهيم عليه‌السلام. هذه أختي وإني سقيم : أو أراد بالنسيان الترك أي (لا تُؤاخِذْنِي) بما تركت من وصيتك أول مرة انتهى.

وقد بيّن ابن عطية كلام أبيّ بكلام طويل يوقف عليه في كتابه ، ولا يعتمد إلّا قول الرسول : «كانت الأولى من موسى نسيانا».

(وَلا تُرْهِقْنِي) لا تغشني وتكلفني (مِنْ أَمْرِي) وهو اتباعك (عُسْراً) أي شيئا صعبا ، بل سهّل عليّ في متابعتك بترك المناقشة. وقرأ أبو جعفر (عُسْراً) بضم السين حيث وقع فانطلقا في الكلام حذف تقديره فخرجا من السفينة ولم يقع غرق بأهلها ، فانطلقا فبينما هما يمشيان على الساحل إذا بصر الخضر (غُلاماً) يلعب مع الصبيان وفي بعض الروايات فمر بغلمان يلعبون فعمد الخضر إلى غلام حسن الهيئة وضيء الوجه فاقتلع رأسه. وقيل : رضه بحجر. وقيل : ذبحه. وقيل : فتل عنقه. وقيل : ضرب برأسه الحائط.

٢٠٧

قيل : وكان هذا الغلام لم يبلغ الحلم ولهذا قال : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً). وقيل : كان الغلام بالغا شابا ، والعرب تبقي على الشاب اسم الغلام. ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج :

شفاها من الداء الذي قد أصابها

غلام إذا هز القناة سقاها

وقال آخر :

تلق ذباب السيف عني فإنني

غلام إذا هو جيت لست بشاعر

وقيل : أصله من الاغتلام وهو شدّة الشبق ، وذلك إنما يكون في الشباب الذين قد بلغوا الحلم ويتناول الصبي الصغير تجوّزا تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه. (واختلف في اسم هذا الغلام واسم أبيه واسم أمه) ولم يرد شيء من ذلك في الحديث. وفي الخبر أن هذا الغلام كان يفسد ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه.

وحكى القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى عليه‌السلام لما قال للخضر (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه ، وإذا في عظم كتفه مكتوب كافر لا يؤمن بالله أبدا.

وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل (خَرَقَها) بغير فاء و (فَقَتَلَهُ) بالفاء؟ قلت : جعل خرقها جزاء للشرط ، وجعل قتله من جملة الشرط معطوفا عليه والجزاء قال (أَقَتَلْتَ) : فإن قلت : فلم خولف بينهما؟ قلت : لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام انتهى.

ومعنى (زَكِيَّةً) طاهرة من الذنوب ، ووصفها بهذا الوصف لأنه لم يرها أذنبت ، قيل أو لأنها صغيره لم تبلغ الحنث. وقوله (بِغَيْرِ نَفْسٍ) يرده ويدل على كبر الغلام وإلّا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ولا بغير نفس. وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم وزيد وابن بكير عن يعقوب والتمار عن رويس عنه وأبو عبيد وابن جبير الأنطاكي وابن كثير وأبو عمرو زاكية بالألف. وقرأ زيد بن عليّ والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون (زَكِيَّةً) بغير ألف وبتشديد الياء وهي أبلغ من زاكية لأن فعيلا المحول من فاعل يدل على المبالغة.

وقرأ الجمهور (نُكْراً) بإسكان الكاف. وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حاتم برفع الكاف حيث كان منصوبا. والنكر قيل : أقل من الأمر لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة. وقيل : معناه شيئا أنكر من الأول ، لأن

٢٠٨

الخرق يمكن سده والقتل لا سبيل إلى تدارك الحياة معه. وفي قوله (لَكَ) زجر وإغلاظ ليس في الأول لأن موقعه التساؤل بأنه بعد التقدم إلى ترك السؤال واستعذار موسى بالنسيان أفظع وأفظع في المخالفة لما كان أخذ على نفسه من الصبر وانتفاء العصيان.

(قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أي بعد هذه القصة أو بعد هذه المسألة (فَلا تُصاحِبْنِي) أي فأوقع الفراق بيني وبينك. وقرأ الجمهور (فَلا تُصاحِبْنِي) من باب المفاعلة. وقرأ عيسى ويعقوب فلا تصحبني مضارع صحب وعيسى أيضا بضم التاء وكسر الحاء مضارع أصحب ، ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني علمك وقدره بعضهم فلا تصحبني إياك وبعضهم نفسك. وقرأ الأعرج بفتح التاء والباء وشد النون. ومعنى (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي قد اعتذرت إليّ وبلغت إلى العذر. وقرأ الجمهور (مِنْ لَدُنِّي) بإدغام نون لدن في نون الوقاية التي اتصلت بياء المتكلم. وقرأ نافع وعاصم بتخفيف النون وهي نون لدن اتصلت بياء المتكلم وهو القياس ، لأن أصل الأسماء إذا أضيفت إلى ياء المتكلم لم تلحق نون الوقاية نحو غلامي وفرسي ، وأشم شعبة الضم في الدال ، وروي عن عاصم سكون الدال. قال ابن مجاهد : وهو غلط وكأنه يعني من جهة الرواية ، وأما من حيث اللغة فليست بغلط لأن من لغاتها لد بفتح اللام وسكون الدال. وقرأ عيسى (عُذْراً) بضم الذال ورويت عن أبي عمرو وعن أبي عذري بكسر الراء مضافا إلى ياء المتكلم. وفي البخاري قال : «يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما» وأسند الطبري قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه فقال : «رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب» ولكنه قال (فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً).

والقرية التي أتيا أهلها أنطاكية أو الأبلة أو بجزيرة الأندلس وهي الجزيرة الخضراء ، أو برقة أو أبو حوران بناحية أذربيجان ، أو ناصرة من أرض الروم أو قرية بأرمينية أقوال مضطربة بحسب اختلافهم في أي ناحية من الأرض كانت قصة والله أعلم بحقيقة ذلك. وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله تعالى. وتكرر لفظ (أَهْلَ) على سبيل التوكيد ، وقد يظهر له فائدة عن التوكيد وهو أنهما حين أتيا أهل القرية لم يأتيا جميع أهل القرية إنما أتيا بعضهم ، فلما قال (اسْتَطْعَما) احتمل أنهما لم يستطعما إلّا ذلك البعض الذي أتياه فجيء بلفظ أهلها ليعم جميعهم وأنهم يتبعونهم واحدا واحدا بالاستطعام ، ولو كان التركيب استطعماهم لكان عائدا على البعض المأتي.

٢٠٩

وقرأ الجمهور (يُضَيِّفُوهُما) بالتشديد من ضيف. وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان بكسر الضاد وإسكان الياء من أضاف ، كما تقول ميّل وأمال ، وإسناد الإرادة إلى الجدار من المجاز البليغ والاستعارة البارعة وكثيرا ما يوجد في كلام العرب إسناد أشياء تكون من أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل من الحيوان وإلى الجماد ، أو الحيوان الذي لا يعقل مكان العاقل لكان صادرا منه ذلك الفعل. وقد أكثر الزمخشري وغيره من إيراد الشواهد على ذلك ومن له أدنى مطالعة لكلام العرب لا يحتاج إلى شاهد في ذلك.

قال الزمخشري : ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله ممن لا يعلم كان يجعل الضمير للخضر لأن ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة ، فتمحل ليرده إلى ما هو عنده أصح وأفصح ، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز أدخل في الإعجاز انتهى. وما ذكره أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني من أنه ينكر المجاز في القرآن لعله لا يصح عنه ، وكيف يكون ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدين في النظم والنثر.

وقرأ الجمهور (يَنْقَضَ) أي يسقط من انقضاض الطائر ، ووزنه انفعل نحو انجر. قال صاحب اللوامح : من القضة وهي الحصى الصغار ، ومنه طعام قضض إذا كان فيه حصى ، فعلى هذا (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) أي يتفتت فيصير حصاة انتهى. وقيل : وزنه افعلّ من النقض كاحمر. وقرأ أبي (يَنْقَضَ) بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنيا للمفعول من نقضته وهي مروية عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش يريد لينقض كذلك إلّا أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام. وقرأ علي وعكرمة وأبو شيخ خيوان بن خالد الهنائي وخليد بن سعد ويحيى بن يعمر ينقاص بالصاد غير معجمة مع الألف ، ووزنه ينفعل اللازم من قاص يقيص إذا كسرته تقول : قصيته فانقاص. قال ابن خالويه : وتقول العرب انقاصت السنّ إذا انشقت طولا. قال ذو الرمة : منقاص ومنكثب. وقيل : إذا تصدعت كيف كان. ومنه قول أبي ذؤيب :

فراق كقص السن فالصبر إنه

لكل أناس عشرة وحبور

وقرأ الزهري : ينقاض بألف وضاد معجمة وهو من قولهم : قضته معجمة فانقاض أي هدمته فانهدم. قال أبو عليّ : والمشهور عن الزهري بصاد غير معجمة.

٢١٠

(فَأَقامَهُ) الظاهر أنه لم يهدمه وبناه كما ذهب إليه بعضهم من أنه هدمه وقعد يبنيه. ووقع هذا في مصحف عبد الله وأيد بقوله (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) لأن بناءه بعد هدمه يستحق عليه أجرا. وقال ابن جبير : مسحه بيده وأقامه فقام. وقيل : أقامه بعمود عمده به. وقال مقاتل : سوّاه بالشيد أي لبسه به وهو الجيار. وعن ابن عباس : دفعه بيده فاستقام وهذا أليق بحال الأنبياء. قال الزمخشري : كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة فلم يجدا مواسيا ، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن (قالَ : لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) وطلبت على عملك جعلا حتى تنتعش به وتستدفع الضرورة انتهى. قال ابن عطية : وقوله (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) وإن لم يكن سؤالا ففي ضمنه الإنكار لفعله ، والقول بتصويب أخذ الأجر وفي ذلك تخطئة ترك الأجر انتهى. وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وابن بحرية ولتخذت بتاء مفتوحة وخاء مكسورة ، يقال تخذ واتخذ نحو تبع واتبع ، افتعل من تخذ وأدغم التاء في التاء. قال الشاعر :

وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها

نسيفا كأفحوص القطاة المطرق

والتاء أصل عند البصريين وليس من الأخذ ، وزعم بعضهم أن الاتخاذ افتعال من الأخذ وأنهم ظنوا التاء أصلية فقالوا في الثلاثي تخذ كما قالوا تقي من اتقى. والظاهر أن هذا إشارة إلى قوله (لَوْ شِئْتَ) أي هذا الإعراض سبب الفراق (بَيْنِي وَبَيْنِكَ) على حسب ما سبق من ميعاده. أنه قال (إِنْ سَأَلْتُكَ) وهذه الجملة وإن لم تكن سؤالا فإنها تتضمنه ، إذ المعنى ألم تكن تتخذ عليه أجرا لاحتياجنا إليه.

وقال الزمخشري : قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال موسى عليه‌السلام (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه كما تقول : هذا أخوك فلا يكون هذا إشارة إلى غير الأخ انتهى. وفيما قاله نظر.

وقرأ ابن أبي عبلة (فِراقُ بَيْنِي) بالتنوين والجمهور على الإضافة. والبين قال ابن عطية : الصلاح الذي يكون بين المصطحبين ونحوهما ، وذلك مستعار فيه من الظرفية ومستعمل استعمال الأسماء ، وتكريره (بَيْنِي وَبَيْنِكَ) وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد. (سَأُنَبِّئُكَ) أي سأخبرك (بِتَأْوِيلِ) ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار ، أي بما آل إليه الأمر فيما كان ظاهره أن لا يكون. وقرأ ابن وثاب سأنبيك بإخلاص الياء من

٢١١

غير همز. وعن ابن عباس : كان قول موسى في السفينة وفي الغلام لله ، وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شيء من الدنيا فكان سبب الفراق. وقال أرباب المعاني : هذه الأمثلة التي وقعت لموسى مع الخضر حجة على موسى وإعجاله ، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم؟ فلما أنكر قتل الغلام قيل له : أين إنكارك هذا من وكز القبطي وقضائك عليه؟ فلما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجرة؟ (سَأُنَبِّئُكَ) في معاني هذا معك ولا أفارقك حتى أوضح لك ما استبهم عليك.

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)

روي أن موسى عليه‌السلام لما عزم الخضر على مفارقته أخذ بثيابه ، وقال : لا أفارقك حتى تخبرني بم أباح لك فعل ما فعلت ، فلما التمس ذلك منه أخذ في البيان والتفصيل ، فقال : (أَمَّا السَّفِينَةُ) فبدأ بقصة ما وقع له أولا. قيل : كانت لعشرة إخوة ، خمسة زمني وخمسة يعملون في البحر. وقيل : كانوا أجراء فنسبت إليهم للاختصاص. وقرأ الجمهور : مساكين بتخفيف السين جمع مسكين. وقرأ عليّ كرم الله وجهه بتشديد السين جمع مساك جمع تصحيح. فقيل : المعنى ملاحين ، والمساك الذي يمسك رجل السفينة وكل منهم يصلح لذلك. وقيل : المساكون دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك ، والقراءة الأولى تدل على أن السفينة كانت لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم ، واحتج بهذه الآية على أن المسكين هو الذي له بلغة من العيش كالسفينة لهؤلاء ، وأنه أصلح حالا من الفقير. وقوله (فَأَرَدْتُ) فيه إسناد إرادة العيب إليه. وفي قوله : فأراد ربك أن يبلغا لما في ذكر العيب ما فيه فلم يسنده إلى الله ، ولما في ذلك من فعل الخير أسنده إلى الله تعالى.

٢١٢

قال الزمخشري : فإن قلت : قوله (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب فلم قدم عليه؟ قلت : النية به التأخير ، وإنما قدم للعناية ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كونها (لِمَساكِينَ) فكان بمنزلة قولك : زيد ظني مقيم.

وقيل في قراءة أبيّ وعبد الله كل سفينة صالحة انتهى. ومعنى (أَنْ أَعِيبَها) بخرقها. وقرأ الجمهور (وَراءَهُمْ) وهو لفظ يطلق على الخلف وعلى الأمام ، ومعناه هنا أمامهم. وكذا قرأ ابن عباس وابن جبير. وكون (وَراءَهُمْ) بمعنى أمامهم قول قتادة وأبي عبيد وابن السكيت والزجاج ، ولا خلاف عند أهل اللغة أن وراء يجوز بمعنى قدام ، وجاء في التنزيل والشعر قال تعالى (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) (١) وقال (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) (٢) وقال (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) (٣). وقال لبيد :

أليس ورائي إن تراخت منيتي

لزوم العصا يحني عليها الأصابع

وقال سوار بن المضرب السعدي :

أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم والفلاة ورائيا

وقال آخر :

أليس ورائي أن أدب على العصا

فتأمن أعداء وتسأمني أهلي

وقال ابن عطية : وقوله (وَراءَهُمْ) عندي هو على بابه ، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء يراعى بها الزمن ، والذي يأتي بعد هو الوراء وهو ما خلف ، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي ، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد ، فهذه الآية معناها أن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمن غصب هذا الملك ، ومن قرأ أمامهم أراد في المكان أي إنهم كانوا يسيرون إلى بلده وقوله تعالى في التوراة والإنجيل. إنها بين يدي القرآن ، مطرد على ما قلناه في الزمن. وقوله (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) (٤) مطرد كما قلنا من مراعاة الزمن. وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلاة أمامك» يريد في المكان ، وإلّا فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمن. وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ ووقع لقتادة في كتب الطبري (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ). قال قتادة : أمامهم ألا ترى أنه يقول (مِنْ

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ١٦.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ١٧.

(٣) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٠.

(٤) سورة الجاثية : ٤٥ / ١٠.

٢١٣

وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) وهي من بين أيديهم ، وهذا القول غير مستقيم وهذه هي العجة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها قاله الزجّاج. ويجوز أن كان رجوعهم في طريقهم على الغاصب فكان وراءهم حقيقة انتهى. وهو كلام فيه تكثير وكأنه ينظر إلى ما قاله الفراء. قال الفراء : لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك ، إنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام والدهر تقول : وراءك برد شديد ، وبين يديك برد شديد جاز الوجهان لأن البرد إذا لحقك صار من ورائك ، وكأنك إذا بلغته صار بين يديك. قال : إنما جاز هذا في اللغة لأن ما بين يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك.

وقال أبو علي : إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة ، ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ، وأكثر أهل اللغة على أن وراء من الأضداد انتهى.

قيل : واسم هذا الملك هدد بن بدد وكان كافرا. وقيل : الجلندي ملك غسان ، وقوله (فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) في هذا حذف وهو أن المعنى وكان كافرا وكذا وجد في مصحف أبيّ. وقرأ ابن عباس : (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ) كافرا وكان (أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) ونص في الحديث على أنه كان كافرا مطبوعا على الكفر ، ويراد بأبويه أبوه وأمه ثنى تغليبا من باب القمرين في القمر والشمس ، وهي تثنية لا تنقاس. وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري : فكان أبواه مؤمنان ، فخرجه الزمخشري وابن عطية وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن ، والجملة في موضع خبر لكان ، وأجاز أبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن والجملة في موضع خبر لكان ، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون مؤمنان على لغة بني الحارث بن كعب ، فيكون منصوبا ، وأجاز أيضا أن يكون في كان ضمير الغلام والجملة خبر كان.

(فَخَشِينا) أي خفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين (طُغْياناً) عليهما (وَكُفْراً) لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه ، ويلحق بهما شرا وبلاء ، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفرة ، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان ، وطاغ كافر أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه ويطغيا ويكفرا بعد الإيمان. وإنما خشي الخضر منه ذلك لأن الله عز وعلا أعلمه بحاله وأطلعه على سرائر أمره وأمره بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته. وفي قراءة أبيّ فخاف ربك ، والمعنى فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيره. ويجوز أن يكون قوله

٢١٤

(فَخَشِينا) حكاية لقول الله عزوجل بمعنى فكرهنا كقوله (لِأَهَبَ لَكِ) (١) قاله الزمخشري. وفي قوله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته مذهب المعتزلة في قولهم بالأجلين ، والظاهر إسناد فعل الخشية في خشينا إلى ضمير الخضر وأصحابه الصالحين الذين أهمهم الأمر وتكلموا. وقيل : هو في جهة الله وعنه عبر الخضر وهو الذي قال فيه الزمخشري ، ويجوز أن يكون إلى آخر كلامه. قال الطبري : ومعناه وقال : معناه فكر هنا. قال ابن عطية : والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة أي على ظن المخلوقين ، والمخاطب لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للوالدين.

وقرأ ابن مسعود فخاف ربك ، وهذا بين الاستعارة في القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى فإن جميع ما في هذا كله من ترج وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم أيها المخاطبون. و (يُرْهِقَهُما) معناه يجشمهما ويكلفهما بشدة ، والمعنى أن يلقيهما حبه في اتّباعه. وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة وحميد والأعمش وابن جرير (أَنْ يُبْدِلَهُما) بالتشديد هنا وفي التحريم والقلم. وقرأ باقي السبعة والحسن وابن محيصن بالتخفيف ، والزكاة هنا الطهارة والنقاء من الذنوب وما ينطوي عليه من شرف الخلق والسكينة ، والرحم والرحمة العطف مصدران كالكثر والكثرة ، وافعل هنا ليست للتفضيل لأن ذلك الغلام لا زكاة فيه ولا رحمة. والظاهر أن قوله (وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي رحمة والديه وقال ابن جريج : يرحمانه. وقال رؤبة بن العجاج :

يا منزل الرحم على إدريسا

ومنزل اللعن على إبليسا

وقرأ ابن عامر وأبو جعفر في رواية ويعقوب وأبو حاتم (رُحْماً) بضم الحاء. وقرأ ابن عباس (رُحْماً) بفتح الراء وكسر الحاء. وقيل الرحم من الرحم والقرابة أي أو صل للرحم. قيل : ولدت غلاما مسلما. وقيل : جارية تزوجها نبي فولدت نبيا هدى الله على يديه أمة من الأمم. وقيل : ولدت سبعين نبيا. روي ذلك عن ابن عباس. قال ابن عطية : وهذا بعيد ولا تعرف كثرة الأنبياء إلّا في بني إسرائيل ، ولم تكن هذه المرأة منهم انتهى. ووصف الغلامين باليتم يدل على أنهما كانا صغيرين. وفي الحديث : «لا يتم بعد بلوغ» أي كانا (يَتِيمَيْنِ) على معنى الشفقة عليهما. قيل : واسمهما أصرم وصريم ، واسم أبيهما كاشح واسم أمهما دهنا ، والظاهر في الكنز أنه مال مدفون جسيم ذهب وفضة قاله عكرمة وقتادة. وقال ابن عباس وابن جبير : كان علما في مصحف مدفونة : وقيل : لوح من ذهب

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ١٩.

٢١٥

فيه كلمات حكمة وذكر ، وقد ذكرها المفسرون في كتبهم ولا نطول بذكرها ، والظاهر أن أباهما هو الأقرب إليهما الذي ولدهما دنية. وقيل : السابع. وقيل : العاشر وحفظ هذان الغلامان بصلاح أبيهما. وفي الحديث : «إن الله يحفظ الرجل الصالح في ذريته». وانتصب (رَحْمَةً) على المفعول له وأجاز الزمخشري أن ينصب على المصدر بأراد قال : لأنه في معنى رحمهما ، وأجاز أبو البقاء أن ينتصب على الحال وكلاهما متكلف.

(وَما فَعَلْتُهُ) أي وما فعلت ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار عن اجتهاد مني ورأي ، وإنما فعلته بأمر الله وهذا يدل على أنه نبيّ أوحي إليه. و (تَسْطِعْ) مضارع اسطاع بهمزة الوصل. قال ابن السكيت : يقال ما أستطيع وما اسطيع وما استتيع واستيع أربع لغات ، وأصل اسطاع استطاع على وزن استفعل ، فالمحذوف في اسطاع تاء الافتعال لوجود الطاء التي هي أصل ولا حاجة تدعو إلى أن المحذوف هي الطاء التي هي فاء الفعل ، ثم أبدلوا من تاء الافتعال طاء ، وأما استتيع ففيه أنهم أبدلوا من الطاء تاء ، وينبغي في تستيع أن يكون المحذوف تاء الافتعال كما في تسطيع.

وفي كتاب التحرير والتحبير ما نصه : تعلق بعض الجهال بما جرى لموسى مع الخضر عليهما‌السلام على أن الخضر أفضل من موسى وطردوا الحكم ، وقالوا : قد يكون بعض الأولياء أفضل من آحاد الأنبياء ، واستدلوا أيضا بقول أبي يزيد خضت بحرا وقف الأنبياء على ساحله وهذا كله من ثمرات الرعونة والظنة بالنفس انتهى. وهكذا سمعنا من يحكي هذه المقالة عن بعض الضالين المضلين وهو ابن العربي الطائي الحاتمي صاحب الفتوح المكية ، فكان ينبغي أن يسمى بالقبوح الهلكية وأنه كان يزعم أن الوليّ خير من النبيّ قال : لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، والنبيّ يأخذ بواسطة عن الله ، ولأن الولي قاعد في الحضرة الإلهية والنبيّ مرسل إلى قوم ، ومن كان في الحضرة أفضل ممن يرسله صاحب الحضرة إلى أشياء من هذه الكفريات والزندقة ، وقد كثر معظّمو هذا الرجل في هذا الزمان من غلاة الزنادقة القائلة بالوحدة نسأل الله السلام في أدياننا وأبداننا.

وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ

٢١٦

حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)

٢١٧

السد الحاجز والحائل بين الشيئين ، ويقال بالضم وبالفتح. الردم : السد. وقيل : الردم أكبر من السد لأن الردم ما جعل بعضه على بعض ، يقال : ثوب مردّم إذا كان قد رقع رقعة فوق رقعة. وقيل : سد الخلل ، قال عنترة :

هل غادر الشعراء من متردم

أي خلل في المعاني فيسد ردما. الزبرة : القطعة وأصله الاجتماع ، ومنه زبرة الأسد لما اجتمع على كاهله من الشعر ، وزبرت الكتاب جمعت حروفه. الصدفان جانبا الجبل إذا تحاذيا لتقاربهما أو لتلاقيهما قاله الأزهري ، ويقال : صدف بضمهما وبفتحهما وبضم الصاد وسكون الدال وعكسه. قال بعض اللغويين : وفتحهما لغة تميم وضمهما لغة حمير. وقال أبو عبيدة : الصدف كل بناء عظيم مرتفع. القطر النحاس المذاب في قول الأكثرين. وقيل : الحديد المذاب. وقيل : الرصاص المذاب. النقب مصدر نقب أي حفر وقطع. الغطاء معروف وجمعه أغطية ، وهو من غطى إذا ستر. الفردوس قال الفراء : البستان الذي فيه الكرم. وقال ثعلب : كل بستان يحوّط عليه فهو فردوس.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً).

الضمير في (وَيَسْئَلُونَكَ) عائد على قريش أو على اليهود ، والمشهور أن السائلين قريش حين دستها اليهود على سؤاله عن الروح ، والرجل الطواف ، وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك. وذو القرنين هو الإسكندر اليوناني ذكره ابن إسحاق. وقال وهب : هو رومي وهل هو نبيّ أو عبد صالح ليس بنبي قولان. وقيل : كان ملكا من الملائكة وهذا غريب. قيل : ملك الدنيا مؤمنان سليمان وذو القرنين ، وكافران نمروذ وبخت نصر ، وكان بعد نمروذ. وعن عليّ كان عبدا صالحا ليس بملك ولا نبيّ ضرب على قرنه الأيمن فمات في طاعة الله ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات ، فبعثه الله فسمي ذا القرنين. وقيل : طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها. وقيل : كان له قرنان أي ضفيرتان.

٢١٨

وقيل : انقرض في وقته قرنان من الناس. وعن وهب لأنه ملك الروم وفارس وروى الروم والترك وعنه كانت صفيحتا رأسه من نحاس. وقيل : كان لتاجه قرنان. وقيل : كان على رأسه ما يشبه القرنين. قال الزمخشري : ويجوز أن يسمى بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشا كأنه ينطح أقرانه ، وكان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره انتهى. وقيل غير ذلك في تسميته ذا القرنين والمشهور أنه الإسكندر. وقال أبو الريحان البيروتي المنجم صاحب كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية : هو أبو بكر بن سمي بن عمير بن إفريقس الحميري ، بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال :

قد كان ذو القرنين قبلي مسلما

ملكا علا في الأرض غير مبعد

بلغ المشارق والمغارب يبتغي

أسباب ملك من كريم سيد

قال أبو الريحان : ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلو أسماؤهم من ذي كذي المنار ، وذي يواس انتهى. والشعر الذي أنشده نسب أيضا إلى تبع الحميري وهو :

قد كان ذو القرنين جدي مسلما

وعن عليّ وابن عباس أن اسمه عبد الله بن الضحاك. وعن محمد بن عليّ بن الحسين عياش. وعن أبي خيثمة هو الصعب بن جابر بن القلمس. وقيل : مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث. وعن عليّ هو من القرن الأول من ولد يافث بن نوح. وعن الحسن : كان بعد ثمود وكان عمره ألف سنة وستمائة. وعن وهب : كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلّى الله عليهما وسلّم.

والخطاب في (عَلَيْكُمْ) للسائلين إما اليهود وإما قريش على الخلاف الذي سبق في السائلين. وقوله (ذِكْراً) يحتمل أن يريد قرآنا وأن يريد حديثا وخيرا ، والتمكين الذي له (فِي الْأَرْضِ) كونه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلها. قال بعض المفسرين : والدليل على أنه الإسكندر أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب وإلى أقصى المشرق وإلى أقصى الشمال ، بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال ، وهذا الذي بلغه ملك هذا الرجل هو نهاية المعمور من الأرض ، ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن

٢١٩

يبقى ذكره مخلدا على وجه الدهر ، وأن لا يكون مختفيا ، والملك الذي اسمه في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلّا الإسكندر وذلك أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان مع طوائف ثم قصد ملوك العرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ، ثم عاد إلى مصر وبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم عطف إلى أرمينية ودان له العراقيون والقبط والبربر ، ثم نحو دار ابن دارا وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حربه ، واستولى الإسكندر على ممالك الفرس وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور ومات بها.

وورد في الحديث : «إن الذين ملكوا الأرض أربعة مؤمنان : سليمان بن داود ، وذو القرنين». وقد تقدم ذكر ذلك وثبت في علم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلّا الإسكندر فوجب القطع أن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلفوس اليوناني. وقيل تمكينه في الأرض بالنبوة وإجراء المعجزات. وقيل : تمكينه بأن سخر له السحاب وحمله عليها وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء. وقيل : بكثرة أعوانه وجنوده والهيبة والوقار وقذف الرعب في أعدائه وتسهيل السير عليه وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها.

(وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي يحتاج إليه في الوصول إلى أغراضه (سَبَباً) أي طريقا موصلا إليه ، والسبب ما يتوصل به إني المقصود من علم أو قدرة أو آلة ، فأراد بلوغ المغرب (فَأَتْبَعَ سَبَباً) يوصله إليه حتى بلغ ، وكذلك أراد المشرق (فَأَتْبَعَ سَبَباً) وأراد بلوغ السدين (فَأَتْبَعَ سَبَباً) وأصل السبب الحبل ، ثم توسع فيه حتى صار يطلق على ما يتوصل به إلى المقصود. وقال الحسن : بلاغا إلى حيث أراد. وقرأ زيد بن علي والزهري والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى والكوفيون وابن عامر (فَأَتْبَعَ) ثلاثتها بالتخفيف. وقرأ باقي السبعة بالتشديد والظاهر أنهما بمعنى واحد. وعن يونس بن حبيب وأبي زيد أنه بقطع الهمزة عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب ، وبوصلها إنما يتضمن الاقتفاء دون هذه الصفات.

وقرأ عبد الله وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن العاصي وابن عمر وعبد الله بن عمرو ومعاوية والحسن وزيد بن عليّ وابن عامر وحمزة والكسائي حامية بالياء أي حارة. وقرأ ابن عباس وباقي السبعة وشيبة وحميد وابن أبي ليلى ويعقوب وأبو حاتم وابن جبير الأنطاكي (حَمِئَةٍ) بهمزة مفتوحة والزهري يلينها ، يقال حمئت البئر تحمأ حمأ فهي حمئة ، وحمأتها

٢٢٠