البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤

الجملتين صفة ، وإلى أن العدة ثمانية بالكلب ذهب الأكثرون من الصحابة والتابعين وأئمة التفسير.

وقال الزمخشري : فإن قلت : فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة ولم دخلت عليها دون الأولتين؟ قلت : هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في نحو قولك : جاءني رجل ومعه آخر ، ومررت بزيد وفي يده سيف. ومنه قوله عز وعلا (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (١) وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على اتصافه أمر ثابت مستقر ، وهي الواو التي آذنت بأن الذين قالوا (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم انتهى.

وكون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون ، بل قرروا أنه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلّا إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالا على المغايرة ، وأما إذا لم يختلف فلا يجوز العطف هذا في الأسماء المفردة ، وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها ، وقد ردوا على من ذهب إلى أن قول سيبويه ، وأما ما جاء لمعنى وليس باسم ولا فعل هو على أن وليس باسم ولا فعل صفة لقوله لمعنى ، وأن الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام العرب مررت برجل ويأكل على تقدير الصفة. وأما قوله تعالى (إِلَّا وَلَها) فالجملة حالية ويكفي ردا لقول الزمخشري : إنّا لا نعلم أحدا من علماء النحو ذهب إلى ذلك ، ولما أخبر تعالى عن مقالتهم واضطرابهم في عددهم أمره تعالى أن يقول (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) أي لا يخبر بعددهم إلا من يعلمهم حقيقة وهو الله تعالى (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) والمثبت في حق الله تعالى هو الأعلمية وفي حق القليل العالمية فلا تعارض. قيل : من الملائكة. وقيل : من العلماء وعلم القليل لا يكون إلّا بإعلام الله.

وقال ابن عباس : أنا من القليل ، ثم نهاه تعالى عن الجدال فيهم أي في عدتهم ، والمراء وسمي مراجعته لهم (مِراءً) على سبيل المقابلة لمماراة أهل الكتاب له في ذلك ، وقيده بقوله ظاهرا أي غير متعمق فيه وهو إن نقص عليهم ما أوحي إليك فحسب من غير تجهيل ولا تعنيف كما قال (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٢). وقال ابن زيد : (مِراءً

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٤.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ١٢٥.

١٦١

ظاهِراً) هو قولك لهم ليس كما تعلمون. وحكى الماوردي إلّا بحجة ظاهرة. وقال ابن الأنباري : إلّا جدال متيقن عالم بحقيقة الخبر ، والله تعالى ألقى إليك ما لا يشوبه باطل. وقال ابن بحر : (ظاهِراً) يشهده الناس. وقال التبريزي : (ظاهِراً) ذاهبا بحجة الخصم. وأنشد :

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

أي ذاهب ، ثم نهاه أن يسأل أحدا من أهل الكتاب عن قصتهم لا سؤال متعنت لأنه خلاف ما أمرت به من الجدال بالتي هي أحسن ، ولا سؤال مسترشد لأنه تعالى قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم ، ثم نهاه أن يخبر بأنه يفعل في الزمن المستقبل شيئا إلّا ويقرن ذلك بمشيئة الله تعالى ، وتقدم في سبب النزول أنه عليه‌السلام حين سأله قريش عن أهل الكهف والخضر والروح قال : «غدا أخبركم». ولم يقل إن شاء الله ، فتأخر عنه الوحي مدة. قيل : خمسة عشر يوما. وقيل : أربعين و (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء لا يمكن حمله على ظاهره لأنه يكون داخلا تحت القول ، فيكون من المقول ولا ينهاه الله أن يقول (إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) لأنه كلام صحيح في نفسه لا يمكن ينهى عنه ، فاحتيج في تأويل هذا الظاهر إلى تقدير.

فقال ابن عطية : في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ويحسنه الإيجاز تقديره إلّا أن تقول (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أو إلّا أن تقول إن شاء الله ، فالمعنى إلّا أن تذكر مشيئة الله فليس (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) من القول الذي نهى عنه. وقال الزمخشري : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) متعلق بالنهي لا بقوله (إِنِّي فاعِلٌ) لأنه لو قال (إِنِّي فاعِلٌ) كذا (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) كان معناه إلّا أن تعترض مشيئة الله دون فعله ، وذلك ما لا مدخل فيه للنهي وتعلقه بالنهي على وجهين.

أحدهما : ولا تقولنّ ذلك القول إلّا أن يشاء الله أن تقوله بأن ذلك فيه.

والثاني : ولا تقولنه إلّا بأن يشاء الله أي إلّا بمشيئته وهو في موضع الحال ، أي إلّا ملتبسا بمشيئة الله قائلا إن شاء الله. وفيه وجه ثالث وهو أن يكون إلّا أن يشاء الله في معنى كلمة ثانية كأنه قيل : ولا تقولنه أبدا ونحوه (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) (١) لأن عودهم في ملتهم مما لن يشاء الله ، وهذا نهي تأديب من الله لنبيه حين قال : «ائتوني غدا أخبركم». ولم يستثن انتهى.

قال ابن عطية : وقالت فرقة هو استثناء من قوله (وَلا تَقُولَنَ) وحكاه الطبري ، ورد

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٨٩.

١٦٢

عليه وهو من الفساد من حيث كان الواجب أن لا يحكى انتهى. وتقدم تخريج الزمخشري : ذلك على أن يكون متعلقا بالنهي ، وتكلم المفسرون في هذه الآية في الاستثناء في اليمين ، وليست الآية في الإيمان والظاهر أمره تعالى بذكر الله إذا عرض له نسيان ، ومتعلق النسيان غير متعلق الذكر. فقيل : التقدير (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) إذا تركت بعض ما أمرك به. وقيل واذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسيّ ، وقد حمل قتادة ذلك على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها. وقيل : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) بالتسبيح والاستغفار (إِذا نَسِيتَ) كلمة الاستثناء تشديدا في البعث على الاهتمام بها. وقيل : (وَاذْكُرْ) مشيئة (رَبَّكَ) إذا فرط منك نسيان لذلك أي (إِذا نَسِيتَ) كلمة الاستثناء ثم تنبهت لها ، فتداركتها بالذكر قاله ابن جبير. قال : ولو بعد يوم أو شهر أو سنة. وقال ابن الأنباري : بعد تقضي النسيان كما تقول : اذكر لعبد الله إذا صلى صاحبك أي إذا قضى الصلاة.

والإشارة بقوله لأقرب من هذا إلى الشيء المنسي أي (اذْكُرْ رَبَّكَ) عند نسيانه بأن تقول (عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي) لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه (رَشَداً) وأدنى خيرا أو منفعة ، ولعل النسيان كان خيرة كقوله (أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) (١). وقال الزمخشري : وهذا إشارة إلى بناء أهل الكهف ، ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والحجج على أني نبيّ صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من بناء أصحاب الكهف ، وقد فعل ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والأخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك وأدل انتهى. وهذا تقدمه إليه الزجّاج قال المعنى : (عَسى) أن ييسر الله من الأدلة على نبوّتي أقرب من دليل أصحاب الكهف. وقال ابن الأنباري : (عَسى) أن يعرفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم ويعجل لي من جهته الرشاد. وقال محمد الكوفي المفسر : هي بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن وإنها كفارة لنسيان الاستثناء.

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً).

الظاهر أن قوله (وَلَبِثُوا) الآية إخبار من الله تعالى بمدة لبثهم نياما في الكهف إلى أن أطلع الله عليهم. قال مجاهد : وهو بيان لمجمل قوله تعالى (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (٢) ولما تحرر هذا العدد بإخبار من الله تعالى أمر نبيه أن يقول (قُلِ اللهُ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٠٦.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ١١.

١٦٣

أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) فخبره هذا هو الحق والصدق الذي لا يدخله ريب ، لأنه عالم (غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والظاهر أن قوله (بِما لَبِثُوا) إشارة إلى المدة السابق ذكرها. وقال بعضهم : (بِما لَبِثُوا) إشارة إلى المدة التي بعد الاطلاع عليهم إلى مدة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : لما قال (وَازْدَادُوا تِسْعاً) كانت التسعة منبهمة هي الساعات والأيام والشهور والأعوام ، واختلفت بنو إسرائيل بحسب ذلك فأمره تعالى برد العلم إليه يعني في التسع وهذا بعيد لأنه إذا سبق عدد مفسر وعطف عليه ما لم يفسر حمل تفسيره على السابق. وحكى النقاش أنها ثلاثمائة شمسية ، ولما كان الخطاب للعرب زيدت التسع إذ حساب العرب هو بالقمر لاتفاق الحسابين. وقال قتادة ومطر الورّاق : (لَبِثُوا) إخبار من بني إسرائيل ، واحتجوا بما في مصحف عبد الله وقالوا (لَبِثُوا) وعلى غير قراءة عبد الله يكون معطوفا على المحكي بقوله (سَيَقُولُونَ) (١).

ثم أمر الله نبيه أن يرد العلم إليه (بِما لَبِثُوا) ردّا عليهم وتفنيدا لمقالتهم. قيل : هو من قول المتنازعين في أمرهم وهو الصحيح على مقتضى سياق الآية ، ويؤيده (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) جعل ذلك من الغيوب التي هو تعالى مختص بها. وقرأ الجمهور : مائة بالتنوين. قال ابن عطية : على البدل أو عطف البيان. وقيل : على التفسير والتمييز. وقال الزمخشري : عطف بيان لثلاثمائة. وحكى أبو البقاء أن قوما أجازوا أن يكون بدلا من مائة لأن مائة في معنى مئات ، فأما عطف البيان فلا يجوز على مذهب البصريين ، وأما نصبه على التمييز فالمحفوظ من لسان العرب المشهور أن مائة لا يفسر إلّا بمفرد مجرور ، وإن قوله إذا عاش الفتى مائتين عاما من الضرورات ولا سيما وقد انضاف إلى ذلك كون (سِنِينَ) جمعا. وقرأ حمزة والكسائي وطلحة ويحيى والأعمش والحسن وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي مائة بغير تنوين مضافا إلى (سِنِينَ) أوقع الجمع موقع المفرد ، وأنحى أبو حاتم على هذه القراءة ولا يجوز له ذلك. وقال أبو عليّ : هذه تضاف في المشهور إلى المفرد ، وقد تضاف إلى الجمع. وقرأ أبي سنة وكذا في مصحف عبد الله. وقرأ الضحاك : سنون بالواو على إضمار هي سنون. وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه (تِسْعاً) بفتح التاء كما قالوا عشر.

ثم ذكر اختصاصه بما غاب في السموات والأرض وخفي فيها من أحوال أهلها ، وجاء بما دل على التعجب من إدراكه للمسموعات والمبصرات للدّلالة على أن أمره في الإدراك

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٢٢.

١٦٤

خارج عن حد ما عليه إدراك السامعين والمبصرين ، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها كما يدرك أكبرها حجما وأكثفها جرما ، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر والضمير في (بِهِ) عائد على الله تعالى ، وهل هو في موضع رفع أو نصب وهل (أَسْمِعْ) و (أَبْصِرْ) أمران حقيقة أم أمران لفظا معناهما إنشاء التعجب في ذلك خلاف مقرر في النحو. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى (أَبْصِرْ) بدين الله (وَأَسْمِعْ) أي بصر بهدى الله وسمع فترجع الهاء إما على الهدى وإما على الله ذكره ابن الأنباري. وقرأ عيسى : أسمع به وأبصر على الخبر فعلا ماضيا لا على التعجب ، أي (أَبْصِرْ) عباده بمعرفته وأسمعهم ، والهاء كناية عن الله تعالى.

والضمير في قوله (ما لَهُمْ) قال الزمخشري : لأهل السموات والأرض من (وَلِيٍ) متول لأمورهم (وَلا يُشْرِكُ) في قضائه (أَحَداً) منهم. وقيل : يحتمل أن يعود على أصحاب الكهف أي هذه قدرته وحده. ولم يوالهم غيره يتلطف بهم ولا أشرك معه أحدا في هذا الحكم. ويحتمل أن يعود على معاصري الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكفار ومشاقيه ، وتكون الآية اعتراضا بتهديد قاله ابن عطية. وقيل : يحتمل أن يعود على مؤمني أهل السموات والأرض أي لن يتخذ من دونه وليا. وقيل : يعود على المختلفين في مدة لبثهم أي ليس لهم من دون الله من يتولى تدبيرهم ، فكيف يكونون أعلم منه؟ أو كيف يعلمون من غير إعلامه إياهم؟ وقرأ الجمهور : (وَلا يُشْرِكُ) بالياء على النفي. وقرأ مجاهد بالياء والجزم. قال يعقوب : لا أعرف وجهه. وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو حيوة وزيد وحميد ابن الوزير عن يعقوب والجعفي واللؤلؤي عن أبي بكر : ولا تشرك بالتاء والجزم على النهي.

ولما أنزل عليه ما أنزل من قصة أهل الكهف أمره بأن يقص ويتلو على معاصريه ما أوحى إليه تعالى من كتابه في قصة أهل الكهف وفي غيرهم ، وأن ما أوحاه إليه (لا مُبَدِّلَ) له و (لا مُبَدِّلَ) عام و (لِكَلِماتِهِ) عام أيضا فالتخصيص إما في (لا مُبَدِّلَ) أي لا مبدل له سواه ، ألا ترى إلى قوله (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) (١) وإما في كلماته أي (لِكَلِماتِهِ) المتضمنة الخبر لأن ما تضمن غير الخبر وقع النسخ في بعضه ، وفي أمره تعالى أن يتلو ما أوحي إليه وإخباره أنه لا مبدّل (لِكَلِماتِهِ) إشارة إلى تبديل المتنازعين في أهل الكهف ، وتحريف أخبارهم والملتحد الملتجأ الذي تميل إليه وتعدل.

__________________

(١) سورة النمل : ١٦ / ١٠١.

١٦٥

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً).

قال كفار قريش لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك ، يعنون عمارا وصهيبا وسلمان وابن مسعود وبلالا ونحوهم من الفقراء ، وقالوا : إن ريح جبابهم تؤذينا ، فنزلت (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) الآية ، وعن سلمان أن قائل ذلك عيينة بن حصين والأقرع وذووهم من المؤلفة فنزلت ، فالآية على هذا مدنية والأول أصح لأن السورة مكية ، وفعل المؤلفة فعل قريش فردّ بالآية عليهم (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) أي احبسها وثبتها. قال أبو ذؤيب :

فصبرت عارفة لذلك حره

ترسو إذا نفس الجبان تطلع

وفي الحديث النهي عن صبر الحيوان أي حبسه للرمي ، و (مَعَ) تقتضي الصحبة والموافقة والأمر بالصبر هنا يظهر منه كبير اعتناء بهؤلاء الذين أمر أن يصبر نفسه معهم. وهي أبلغ من التي في الأنعام (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ) (١) الآية. وقال ابن عمر ومجاهد وإبراهيم : (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) إشارة إلى الصلوات الخمس. وقال قتادة : إلى صلاة الفجر وصلاة العصر ، وقد يقال : إن ذلك يراد به العموم أي (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) دائما ، ويكون مثل : ضرب زيد الظهر والبطن يريد جميع بدنه لا خصوص المدلول بالوضع. وتقدّم الكلام على قوله (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) قراءة وإعرابا في الأنعام.

(وَلا تَعْدُ) أي لا تصرف (عَيْناكَ) النظر عنهم إلى أبناء الدنيا ، وعدا متعد تقول : عدا فلان طوره وجاء القوم عدا زيدا ، فلذلك قدرنا المفعول محذوفا ليبقى الفعل على أصله من التعدية. وقال الزمخشري : وإنما عدّي بعن لتضمين عدا معنى نبا وعلا في قولك : نبت عنه عينه ، وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به. فإن قلت : أي غرض في هذا التضمين؟ وهلا قيل ولا تعدهم عيناك أو (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ). قلت : الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين. وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ، ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك ولا تقتحمهم عيناك مجاوزين إلى غيرهم ونحو قوله (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) (٢) أي ولا تضموها إليها آكلين لها انتهى. وما ذكره من التضمين لا ينقاس عند

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٥٢.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٢.

١٦٦

البصريين وإنما يذهب إليه عند الضرورة ، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنه يكون أولى. وقرأ الحسن : (وَلا تَعْدُ) من أعدى ، وعنه أيضا وعن عيسى والأعمش (وَلا تَعْدُ). قال الزمخشري : نقلا بالهمزة وبنقل الحشو ومنه قوله :

فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له

لأن معناه فعد همك عما ترى انتهى. وكذا قال صاحب اللوامح. قال : وهذا مما عديته بالتضعيف كما كان في الأولى بالهمز ، وما ذهبا إليه ليس بجيد بل الهمزة والتكثير في هذه الكلمة ليسا للتعدية وإنما ذلك لموافقة أفعل وفعل للفعل المجرد ، وإنما قلنا ذلك لأنه إذا كان مجردا متعد وقد أقر بذلك الزمخشري فإنه قال : يقال عداه إذا جاوزه ، ثم قال : وإنما عدّي بعن للتضمين والمستعمل في التضمين هو مجاز ولا يتسعون فيه إذا ضمنوه فيعدونه بالهمزة أو التضعيف ، ولو عدّي بهما وهو متعد لتعدى إلى اثنين وهو في هذه القراءة ناصب مفعولا واحدا ، فدل على أنه ليس معدى بهما.

وقال الزمخشري : (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) في موضع الحال انتهى. وقال صاحب الحال : إن قدر (عَيْناكَ) فكان يكون التركيب تريدان ، وإن قدر الكاف فمجيء الحال من المجرور بالإضافة مثل هذا فيها إشكال لاختلاف العامل في الحال وذي الحال ، وقد أجاز ذلك بعضهم إذا كان المضاف جزءا أو كالجزء ، وحسن ذلك هنا أن المقصود نهيه عليه الصلاة والسلام عن الإعراض عنهم والميل إلى غيرهم ، وإنما جيء بقوله (عَيْناكَ) والمقصود هو لأنهما بهما تكون المراعاة للشخص والتلفت له ، والمعنى (وَلا تَعْدُ) أنت (عَنْهُمْ) النظر إلى غيرهم.

وقال الزمخشري : (مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) من جعلنا قلبه غافلا عن الذكر بالخذلان أو وجدناه غافلا عنه كقولك : أجبنته وأفحمته وأبخلته إذا وجدته كذلك ، أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بالذكر ، ولم نجعلهم من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان ، وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله (وَاتَّبَعَ هَواهُ) انتهى. وهذا على مذهب المعتزلة ، والتأويل الآخر تأويل الرماني وكان معتزليا قال : لم نسمه بما نسم به قلوب المؤمنين بما يبين به ، فلاحهم كما قال : كتب في قلوبهم الإيمان من قولهم بعير غفل لم يكن عليه سمة ، وكتاب غفل لم يكن عليه إعجام ، وأما أهل السنة فيقولون : إن الله تعالى أغفله حقيقة وهو خالق الضلال فيه والغفلة. وقال المفضل : أخليناه عن الذكر وهو القرآن. وقال ابن جريج :

١٦٧

شغلنا قلبه بالكفر وغلبة الشقاء ، والظاهر أن المراد بمن (أَغْفَلْنا) كفار قريش. وقيل : عيينة والأقرع والأول أولى لأن الآية مكية.

وقرأ عمر بن فائد وموسى الأسواري وعمرو بن عبيد (أَغْفَلْنا) بفتح اللام (قَلْبَهُ) بضم الباء أسند الأفعال إلى القلب. قال ابن جنيّ من ظننا غافلين عنه. وقال الزمخشري : حسبنا قلبه غافلين من أغفلته إذا وجدته غافلا انتهى. (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في طلب الشهوات (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً). قال قتادة ومجاهد : ضياعا. وقال مقاتل بن حيان : سرفا. وقال الفرّاء : متروكا. وقال الأخفش : مجاوزا للحد. قيل : وهو قول عتبة إن أسلمنا أسلم الناس. وقال ابن بحر : الفرط العاجل السريع ، كما قال (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (١). وقيل : ندما. وقيل : باطلا. وقال ابن زيد : مخالفا للحق. وقال ابن عطية : الفرط يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع ، أي أمره الذي يجب أن يلزم ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف أي (أَمْرُهُ) و (هَواهُ) الذي هو بسبيله انتهى.

و (الْحَقُ) يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، فقدره ابن عطية هذا (الْحَقُ) أي هذا القرآن أو هذا الإعراض عنكم وترك الطاعة لكم وصبر النفس مع المؤمنين. وقال الزمخشري : (الْحَقُ) خبر مبتدأ محذوف والمعنى جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلّا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك ، وجيء بلفظ الأمر والتخيير لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ما شاء من النجدين انتهى. وهو على طريق المعتزلة ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره (مِنْ رَبِّكُمْ). قال الضحاك : هو التوحيد. وقال مقاتل : هو القرآن. وقال مكي : أي الهدى والتوفيق والخذلان من عند الله يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ، ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ليس إليّ من ذلك شيء. وقال الكرماني : أي الإسلام والقرآن ، وهذا الذي لفظه لفظ الأمر معناه التهديد والوعيد ولذلك عقبه بقوله : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) قال معناه ابن عباس. وقال السدّي : هو منسوخ بقوله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٢) وهذا قول ضعيف ، والظاهر أن الفاعل بشاء عائد على (مِنْ).

وعن ابن عباس من شاء الله له بالإيمان آمن ، ومن لا فلا انتهى. وحكى ابن عطية عن فرقة أن الضمير في (شاءَ) عائد على الله تعالى ، وكأنه لما كان الإيمان والكفر تابعين لمشيئة الله جاء بصيغة الأمر حتى كأنه تحتم وقوعه مأمور به مطلوب منه. وقرأ أبو السمال

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ١١.

(٢) سورة الإنسان : ٧٦ / ٣٠.

١٦٨

قعنب وقل الحق بفتح اللام حيث وقع. قال أبو حاتم : وذلك رديء في العربية انتهى. وعنه أيضا ضم اللام حيث وقع كأنه اتباع لحركة القاف. وقرأ أيضا (الْحَقُ) بالنصب. قال صاحب اللوامح : هو على صفة المصدر المقدر لأن الفعل يدل على مصدره وإن لم يذكر فينصبه معرفة كنصبه إياه نكرة ، وتقديره (وَقُلِ) القول (الْحَقُ) وتعلق (مِنْ) بمضمر على ذلك مثل هو إرجاء والله أعلم. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي بكسر لامي الأمر.

ولما تقدم الإيمان والكفر أعقب بما أعد لهما فذكر ما أعد للكافرين يلي قوله (فَلْيَكْفُرْ) وأتى بعد ذلك بما أعد للمؤمنين ، ولما كان الكلام مع الكفار وفي سياق ما طلبوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت البداءة بما أعد لهم أهم وآكد ، وهما طريقان للعرب هذه الطريق والأخرى أنه يجعل الأول في التقسيم للأول في الذكر ، والثاني للثاني. والسرادق قال ابن عباس : حائط من نار محيط بهم. وحكى أقضى القضاة الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا. وحكى الكلبي : أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار. وقيل : دخان (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) يطلبوا الغوث مما حل بهم من النار وشدة إحراقها واشتداد عطشهم (يُغاثُوا) على سبيل المقابلة وإلّا فليست إغاثة. وروي في الحديث أنه عكر الزيت إذا قرب منه سقطت فروة وجهه فيه. وقال ابن عباس : ماء غليظ مثل دردي الزيت. وعن مجاهد أنه القيح والدم الأسود. وعن ابن جبير : كل شيء ذائب قد انتهى حرّه. وذكر ابن الأنباري أنه الصديد. وعن الحسن أنه الرماد الذي ينفظ إذا خرج من التنور. وقيل : ضرب من القطران.

و (يَشْوِي) في موضع الصفة لماء أو في موضع الحال منه لأنه قد وصف فحسن مجيء الحال منه ، وإنما اختص (الْوُجُوهَ) لكونها عند شربهم يقرب حرّها من وجوههم. وقيل : عبر بالوجوه عن جميع أبدانهم ، والمعنى أنه ينضج به جميع جلودهم كقوله (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) (١) والمخصوص بالذم محذوف تقديره (بِئْسَ الشَّرابُ) هو أي الماء الذي يغاثون به. والضمير في (ساءَتْ) عائد على النار. والمرتفق قال ابن عباس : المنزل. وقال عطاء : المقر. وقال القتبي : المجلس. وقال مجاهد : المجتمع ، وأنكر الطبري أن يعرف لقول مجاهد معنى ، وليس كذلك كان مجاهدا ذهب إلى معنى الرفاقة ومنه الرفقة. وقال أبو عبيدة : المتكأ. وقال الزجاج : المتكأ على المرفق ، وأخذه الزمخشري فقال : متكأ من المرفق وهذا لمشاكلة قوله (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (٢) وإلا فلا

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٥٦.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٣١.

١٦٩

ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء. وقال ابن الأنباري : ساءت مطلبا للرفق ، لأن من طلب رفقا من جهنم عدمه. وقال ابن عطية : قريبا من قول ابن الأنباري. قال : والأظهر عندي أن يكون المرتفق بمعنى الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره. وقال أبو عبد الله الرازي : والمعنى بئس الرفقاء هؤلاء ، وبئس موضع الترافق النار.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)

لما ذكر تعالى حال أهل الكفر وما أعد لهم في النار ذكر حال أهل الإيمان وما أعد لهم في الجنة ، وخبر (إِنَ) يحتمل أن تكون الجملة من قوله أولئك لهم. وقوله (إِنَّا لا نُضِيعُ) الجملة اعتراض. قال ابن عطية : ونحو هذا من الاعتراض قول الشاعر :

إن الخليفة إن الله ألبسه

سربال ملك به ترجى الخواتيم

انتهى ، ولا يتعين في قوله إن الله ألبسه أن يكون اعتراضا هي اسم إن وخبرها الذي هو ترجى الخواتيم ، يجوز أن يكون إن الله ألبسه هو الخبر ، ويحتمل أن يكون الخبر قوله (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ) والعائد محذوف تقديره (مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) منهم. أو هو قوله (مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) على مذهب الأخفش في ربطه الجملة بالاسم إذا كان هو المبتدأ في المعنى ، لأن (مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) هم (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فكأنه قال : إنّا لا نضيع أجرهم ، ويحتمل أن تكون الجملتان خبرين لأن على مذهب من يقتضي المبتدأ خبرين فصاعدا من غير شرط أن يكونا ، أو يكن في معنى خبر واحد.

وإذا كان خبر (إِنَ) قوله (إِنَّا لا نُضِيعُ) كان قوله (أُولئِكَ) استئناف اخبار موضح لما انبهم في قوله (إِنَّا لا نُضِيعُ) من مبهم الجزاء. وقرأ عيسى الثقفي (لا نُضِيعُ) من ضيع عداه بالتضعيف ، والجمهور من أضاع عدوّه بالهمزة ، ولما ذكر مكان أهل الكفر وهو النار. ذكر مكان أهل الإيمان وهي (جَنَّاتُ عَدْنٍ) ولما ذكر هناك ما يغاثون به وهو الماء كالمهل ذكر هنا ما خص به أهل الجنة من كون الأنهار تجري من تحتهم ، ثم ذكر ما أنعم عليهم من التحلية واللباس اللذين هما زينة ظاهرة. وقال سعيد بن جبير : يحلى كل واحد ثلاثة أساور سوار من ذهب ، وسوار من فضة ، وسوار من لؤلؤ ويواقيت.

١٧٠

وقال الزمخشري : و (مِنْ) الأول للابتداء والثانية للتبيين ، وتنكير (أَساوِرَ) لإبهام أمرها في الحسن انتهى. ويحتمل أن تكون (مِنْ) في قوله (مِنْ ذَهَبٍ) للتبعيض لا للتبيين. وقرأ أبان عن عاصم من اسورة من غير ألف وبزيادة هاء وهو جمع سوار. وقرأ أيضا أبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر : (وَيَلْبَسُونَ) بكسر الباء. وقرأ ابن محيصن (وَإِسْتَبْرَقٍ) بوصل الألف وفتح القاف حيث وقع جعله فعلا ماضيا على وزن استفعل من البريق ، ويكون استفعل فيه موافقا للمجرد الذي هو برق كما تقول : قر واستقر بفتح القاف ذكره الأهوازي في الإقناع عن ابن محيصن. قال ابن محيصن. وحده : (وَإِسْتَبْرَقٍ) بالوصل وفتح القاف حيث كان لا يصرفه انتهى. فظاهره أنه ليس فعلا ماضيا بل هو اسم ممنوع الصرف. وقال ابن خالويه : جعله استفعل من البريق ابن محيصن فظاهره أنه فعل ماض وخالفهما صاحب اللوامح. قال ابن محيصن : (وَإِسْتَبْرَقٍ) بوصل الهمزة في جميع القرآن فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفا على غير قياس ، ويجوز أنه جعله عربية من برق يبرق بريقا. وذلك إذا تلالأ الثوب لجدته ونضارته ، فيكون وزنه استفعل من ذلك فلما تسمى به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ، ومعاملة المتمكنة من الأسماء في الصرف والتنوين ، وأكثر التفاسير على أنه عربية وليس بمستعرب دخل في كلامهم فأعربوه انتهى.

ويمكن أن يكون القولان روايتين عنه فتح القاف وصرفه التنوين ، وذكر أبو الفتح بن جنيّ قراءة فتح القاف ، وقال : هذا سهو أو كالسهو انتهى. وإنما قال ذلك لأنه جعله اسما ومنعه من الصرف لا يجوز لأنه غير علم ، وقد أمكن جعله فعلا ماضيا فلا تكون هذه القراءة سهوا. قال الزمخشري : وجمع بين السندس وهو ما رقّ من الديباج ، وبين الإستبرق وهو الغليظ منه جمعا بين النوعين ، وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلي في النفس أعظم وإلى القلب أحب ، وفي القيمة أغلى ، وفي العين أحلى ، وبناء فعله للمفعول الذي لم يسم فاعله إشعارا بأنهم يكرمون بذلك ولا يتعاطون ذلك بأنفسهم كما قال الشاعر :

غرائر في كن وصون ونعمة

تحلين ياقوتا وشذرا مفقرا

وأسند اللباس إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصا لو كان بادي العورة ، ووصف الثياب بالخضرة لأنها أحسن الألوان والنفس تنبسط لها أكثر من غيرها ، وقد روي في ذلك أثر إنها تزيد في ضوء البصر وقال بعض الأدباء :

أربعة مذهبة لكل هم وحزن

الماء والخضرة والبستان والوجه الحسن

١٧١

وخص الاتكاء لأنها هيئة المنعمين والملوك على أسرّتهم. وقرأ ابن محيصن : (عَلَى الْأَرائِكِ) بنقل الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام على (فِيها) فتنحذف ألف (عَلَى) لتوهم سكون لام التعريف والنطق به علرائك ومثله قول الشاعر :

فما أصبحت علرض نفس برية

ولا غيرها إلّا سليمان بالها

يريد على الأرض ، والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم الثواب ما وعدوا به ، والضمير في (حَسُنَتْ) عائد على الجنات.

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)

حفه : طاف به من جوانبه. قال الشاعر :

يحفه جانبا نيق ويتبعه

مثل الزجاجة لم يكحل من الرمد

وخففته به : جعلته مطيفا به ، وحف به القوم صاروا في حفته ، وهي جوانبه. كلتا : اسم

١٧٢

مفرد اللفظ عند البصريين مثنى المعنى ومثنى لفظا ، ومعنى عند البغداديين وتاؤه عند البصريين غير الجرمي بدل من واو فاصله كلوى ، والألف فيه للتأنيث وزائدة عند الجرمي ، والألف منقلبة عن أصلها ووزنها عنده فعيل. المحاورة : مراجعة الكلام من حار إذا رجع.

البيدودة الهلاك ، ويقال منه : باد يبيد بيودا وبيدودة. قال الشاعر :

فلئن باد أهله

لبما كان يوهل

النطفة القليل من الماء ، يقال ما في القربة من الماء نطفة ، المعنى ليس فيها قليل ولا كثير ، وسمّي المني نطفة لأنه ينطف أي يقطر قطرة بعد قطرة. وفي الحديث : جاء ورأسه ينطف ماء أي يقطر. الحسبان في اللغة الحساب ، ويأتي أقوال أهل التفسير فيه. الزلق : ما لا يثبت فيه القدم من الأرض.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً).

قيل نزلت في أخوين من بني مخزوم الأسود بن عبد الأسود بن عبد ياليل وكان كافرا ، وأبي سلمة عبد الله بن الأسود كان مؤمنا. وقيل : اخوان من بني إسرائيل فرطوس وهو الكافر وقيل : اسمه قطفير ، ويهوذا وهو المؤمن في قول ابن عباس. وقال مقاتل : اسمه تمليخا وهو المذكور في الصافات في قوله (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) (١) وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل أنفق أحدهما ماله في سبيل الله وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله. وعن مكي أنهما رجلان من بني إسرائيل اشتركا في مال كافر ستة آلاف فاقتسماها. وروي أنهما كانا حدادين كسبا مالا. وروي أنهما ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار ، فاشترى الكافر أرضا بألف وبنى دار بألف وتزوج امرأة بألف واشترى خدما ومتاعا بألف ، واشترى المؤمن أرضا في الجنة بألف فتصدق به ، وجعل ألفا صداقا للحور فتصدق به ، واشترى الولدان المخلدين بألف فتصدق به ، ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله.

والضمير في (لَهُمْ) عائد على المتجبرين الطالبين من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرد الضعفاء

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ٥١.

١٧٣

المؤمنين ، فالرجل الكافر بإزاء المتجبرين والرجل المؤمن بإزاء ضعفاء المؤمنين ، وظهر بضرب هذا المثل الربط بين هذه الآية والتي قبلها إذ كان من أشرك إنما افتخر بماله وأنصاره ، وهذا قد يزول فيصير الغني فقيرا ، وإنما المفاخرة بطاعة الله والتقدير (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) قصة (رَجُلَيْنِ) وجعلنا تفسير للمثل فلا موضع له من الإعراب ، ويجوز أن يكون موضعه نصبا نعتا لرجلين. وأبهم في قوله (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما) وتبين أنه هو الكافر الشاك في البعث ، وأبهم تعالى مكان الجنتين إذ لا يتعلق بتعيينه كبير فائدة. وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين وكانتا الأخوين ، فباع أحدهما نصيبه من الآخر وأنفقه في طاعة الله حتى عيره الآخر ، وجرت بينهما هذه المحاورة قال : فغرقها الله في ليلة وإياهما عنى بهذه الآية. قال ابن عطية : وتأمل هذه الهيئة التي ذكر الله فإن المرء لا يكاد يتخيل أجل منهما في مكاسب الناس جنتا عنب أحاط بهما نخل بينهما فسحة هي مزدرع لجميع الحبوب والماء المعين ، يسقى جميع ذلك من النهر.

وقال الزمخشري : (جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ) بساتين من كروم ، (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا) النخل محيطا بالجنتين ، وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة انتهى. وقرأ الجمهور (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ) وفي مصحف عبد الله كلا الجنتين ، أتى بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي ، ثم قرأ (آتَتْ) فأنث لأنه ضمير مؤنث ، فصار نظير قولهم طلع الشمس وأشرقت. وقال الفراء في قراءة ابن مسعود : كل الجنتين آتى أكله انتهى فأعاد الضمير على كل. وقال الزمخشري : جعلها أرضا جامعة للأقوات والفواكه ، ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينهما مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق ، ونعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص ثم بما هو أصل الخير ومادته من أمر الشرب ، فجعله أفضل ما يسقى به وهو السيح بالنهر الجاري فيها والأكل الثمر.

وقرأ الجمهور (وَفَجَّرْنا) بتشديد الجيم. وقال الفراء : إنما شدد (وَفَجَّرْنا) وهو نهر واحد لأن النهر يمتد فكان التفجر فيه كله أعلم الله تعالى أن شربهما كان من نهر واحد وهو أغزر الشرب. وقرأ الأعمش وسلام ويعقوب وعيسى بن عمر بتخفيف الجيم وكذا قرأ الأعمش في سورة القمر ، والتشديد في سورة القمر أظهر لقوله (عُيُوناً) (١) وقوله هنا

__________________

(١) سورة القمر : ٥٤ / ١٢.

١٧٤

(نَهَراً) وانتصب (خِلالَهُما) على الظرف أي وسطهما ، كان النهر يجري من داخل الجنتين. وقرأ الجمهور (نَهَراً) بفتح الهاء. وقرأ أبو السمال والفياض بن غزوان وطلحة بن سليمان بسكون الهاء. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير ونافع وجماعة قراء المدينة : (ثَمَرٌ) وبثمره بضم الثاء والميم جمع ثمار. وقرأ الأعمش وأبو رجاء وأبو عمرو بإسكان الميم فيهما تخفيفا أو جمع ثمرة كبدنة وبدن. وقرأ أبو جعفر والحسن وجابر بن زيد والحجاج وعاصم وأبو حاتم ويعقوب عن رويس عنه بفتح الثاء والميم فيهما. وقرأ رويس عن يعقوب (ثَمَرٌ) بضمهما وبثمره بفتحهما فيمن قرأ بالضم. قال ابن عباس وقتادة الثمر جميع المال من الذهب والحيوان وغير ذلك. وقال النابغة :

مهلا فداء لك الأقوام كلهم

وما أثمروا من مال ومن ولد

وقال مجاهد : يراد بها الذهب والفضة خاصة. وقال ابن زيد : هي الأصول فيها الثمر. وقال أبو عمرو بن العلاء : الثمر المال ، فعلى هذا المعنى أنه كانت له إلى الجنتين أموال كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما ، فكان متمكنا من عمارة الجنتين. وأما من قرأ بالفتح فلا إشكال أنه يعني به حمل الشجر. وقرأ أبو رجاء في رواية (ثَمَرٌ) بفتح الثاء وسكون الميم ، وفي مصحف أبيّ وآتيناه ثمرا كثيرا ، وينبغي أن يجعل تفسيرا.

ويظهر من قوله (فَقالَ لِصاحِبِهِ) أنه ليس أخاه ، (وَهُوَ يُحاوِرُهُ) جملة حالية ، والظاهر أن ذا الحال هو القائل أي يراجعه الكلام في إنكاره البعث ، وفي إشراكه بالله. وقيل : هي حال من صاحبه أي المسلم كان يحاوره بالوعظ والدعاء إلى الله وإلى الإيمان بالبعث ، والظاهر كون أفعل للتفضيل وأن صاحبه كان له مال ونفر ولم يكن سبروتا كما ذكر أهل التاريخ ، وأنه جاء يستعطيه ويدل على ذلك كونه قابله بقوله (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) (١) وهذا على عادة الكفار في الافتخار بكثرة المال وعزة العشيرة والتكبر والاغترار بما نالوه من حطام الدنيا ، ومقالته تلك لصاحبه بإزاء مقالة عيينة والأقرع للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نحن سادات العرب وأهل الوبر والمدر ، فنحّ عنا سلمان وقرناءه.

وعنى بالنفر أنصاره وحشمه. وقيل : أولادا ذكورا لأنهم ينفرون معه دون الإناث ، واستدل على أنه لم يكن أخاه بقوله : (وَأَعَزُّ نَفَراً) إذ لو كان أخاه لكان نفره وعشيرته نفر أخيه وعشيرته ، وعلى التفسيرين السابقين لا يرد هذا. أما من فسر النفر بالعشيرة التي هي

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٣٩.

١٧٥

مشتركة بينهما فيرد ، وأفرد الجنة في قوله (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) من حيث الوجود كذلك لأنه لا يدخلهما معا في وقت واحد.

وقال الزمخشري : فإن قلت : لم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت : معناه ودخل ما هو جنته ما له جنة غيرها ، يعني أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المتقون فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما انتهى.

ولا يتصور ما قال لأن قوله ودخل جنته إخبار من الله تعالى بدخول ذلك الكافر جنته فلا بد أن قصد في الإخبار أنه دخل إحدى جنتيه إذ لا يمكن أن يدخلهما معا في وقت واحد ، والمعنى (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) يري صاحبه ما هي عليه من البهجة والنضارة والحسن. (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) جملة حالية أي وهو كافر بنعمة ربه مغتر بما ملكه شاك في نفاد ما خوله. وفي البعث الذي حاوره فيه صاحبه ، والظاهر أن الإشارة بقوله (هذِهِ) إلى الجنة التي دخلها ، وعنى بالأبد أبد حياته وذلك لطول أمله وتمادي غفلته ، ولحسن قيامه عليها بما أوتي من المال والخدم فهي باقية مدة حياته على حالها من الحسن والنضارة ، والحس يقتضي أن أحوال الدنيا بأسرها غير باقية أو يكون قائلا بقدم العالم ، وأن ما حوته هذه الجنة إن فنيت أشخاص أثمارها فتخلفها أشخاص أخر ، وكذا دائما. ويبعد قول من قال : يحتمل أن يشير بهذه إلى الهيئة من السموات والأرض وأنواع المخلوقات ، ودل كلامه على أن المحاورة التي كانت بينهما هي في فناء هذا العالم الذي هذه الجنة جزء منه ، وفي البعث الأخروي أن صاحبه كان تقرر له هذان الأمران وهو يشك فيهما.

ثم أقسم على أنه إن رد إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وقياس الأخرى على الدنيا وكما يزعم صاحبه ليجدن في الآخرة خيرا من جنته في الدنيا تطمعا ، وتمنيا على الله ، وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده ، وأنه ما أولاه الجنتين في الدنيا إلّا لاستحقاقه ، وأن معه هذا الاستحقاق أين توجه كقوله (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) (١).

وأما ما حكى الله تعالى عما قاله العاص بن وائل لأوتين مالا وولدا فليس على حد مقالة هذا لصاحبه لأن العاصي قصد الاستخفاف وهو مصمم على التكذيب ، وهذا قال ما معناه إن كان ثم رجوع فسيكون حالي كذا وكذا. وقرأ ابن الزبير وزيد بن عليّ وأبو بحرية وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد وابن مناذر ونافع وابن كثير وابن عامر منهما على التثنية وعود الضمير على الجنتين ، وكذا في مصاحف مكة والمدينة والشام. وقرأ الكوفيون

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٥٠.

١٧٦

وأبو عمرو (مِنْها) على التوحيد وعود الضمير على الجنة المدخولة وكذا في مصاحف الكوفة والبصرة ، ومعنى (مُنْقَلَباً) مرجعا وعاقبة أي منقلب الآخرة لبقائها خير من منقلب الدنيا لزوالها ، وانتصب (مُنْقَلَباً) على التمييز المنقول من المبتدأ.

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً).

(وَهُوَ يُحاوِرُهُ) حال من الفاعل وهو صاحبه المؤمن. وقرأ أبيّ وهو يخاصمه وهي قراءة تفسير لا قراءة رواية لمخالفته سواد المصحف ، ولأن الذي روي بالتواتر (هُوَ يُحاوِرُهُ) لا يخاصمه. و (أَكَفَرْتَ) استفهام إنكار وتوبيخ حيث أشرك مع الله غيره. وقرأ ثابت البناني : ويلك (أَكَفَرْتَ) وهو تفسير معنى التوبيخ والإنكار لا قراءة ثابتة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم نبهه على أصل نشأته وإيجاده بعد العدم وأن ذلك دليل على جواز البعث من القبور ، ثم تحتم ذلك بإخبار الصادقين وهم الرسل عليهم‌السلام. وقوله (خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) إما أن يراد خلق أصلك (مِنْ تُرابٍ) وهو آدم عليه‌السلام وخلق أصله سبب في خلقه فكان خلقه خلقا له ، أو أريد أن ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب ، فنبهه أولا على ما تولد منه ماء أبيه ثم ثانيه على النطفة التي هي ماء أبيه. وأما ما نقل من أن ملكا وكلّ بالنطفة يلقي فيها قليلا من تراب قبل دخولها في الرحم فيحتاج إلى صحة نقل.

ثم نبهه على تسويته رجلا وهو خلقه معتدلا صحيح الأعضاء ، ويقال للغلام إذا تمّ شبابه قد استوى. وقيل : ذكره بنعمة الله عليه في كونه رجلا ولم يخلقه أنثى ، نبهه بهذه التنقلات على كمال قدرته وأنه لا يعجزه شيء. قال الزمخشري : (سَوَّاكَ) عدلك وكملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال ، جعله كافرا بالله جاحدا لأنعمه لشكه في البعث كما يكون المكذب بالرسول كافرا انتهى. وانتصب (رَجُلاً) على الحال. وقال الحوفي (رَجُلاً) نصب بسوى أي جعلك (رَجُلاً) فظاهره أنه عدى سوى إلى اثنين ، ولما لم يكن الاستفهام استفهام استعلام وإنما هو استفهام إنكار وتوبيخ فهو في الحقيقة تقرير على كفره

١٧٧

وإخبار عنه به لأن معناه قد كفرت بالذي استدرك هو مخبرا عن نفسه ، فقال (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) إقرار بتوحيد الله وأنه لا يشرك به غيره.

وقرأ الكوفيون وأبو عمرو وابن كثير ونافع في رواية ورش وقالون لكن بتشديد النون بغير ألف في الوصل وبألف في الوقف وأصله ، ولكن أنا نقل حركة الهمزة إلى نون لكن وحذف الهمزة فالتقى مثلان فأدغم أحدهما في الآخر. وقيل : حذف الهمزة من أنا على غير قياس فالتقت نون لكن وهي ساكنة مع نون أنا فأدغمت فيها ، وأما في الوقف فإنه أثبت ألف أنا وهو المشهور في الوقف على أنا ، وأما في الوصل فالمشهور حذفها وقد أبدلها ألفا في الوقف أبو عمر وفي رواية فوقف لكنه ذكره ابن خالويه. وقال ابن عطية : وروى هارون عن أبي عمر ولكنه (هُوَ اللهُ رَبِّي) بضمير لحق لكن. وقرأ ابن عامر ونافع في رواية المسيلي وزيد بن عليّ والحسن والزهري وأبو بحرية ويعقوب في رواية وأبو عمر وفي رواية وكردم وورش في رواية وأبو جعفر بإثبات الألف وقفا ووصلا ، أما في الوقف فظاهر ، وأما في الوصل فبنو تميم يثبتونها فيه في الكلام وغيرهم في الاضطرار فجاء على لغة بني تميم. وعن أبي جعفر حذف الألف وصلا ووقفا وذلك من رواية الهاشمي ، ودل إثباتها في الوصل أيضا على أن أصل ذلك لكن أنا.

وقال الزمخشري : وحسن ذلك يعني إثبات الألف في الوصل وقوع الألف عوضا من حذف الهمزة انتهى. ويدل على ذلك أيضا قراءة فرقة لكننا بحذف الهمزة وتخفيف النونين. وقال أيضا الزمخشري ونحوه يعني ونحو إدغام نون لكن في نون أما بعد حذف الهمزة قول القائل :

وترمينني بالطرف أي أنت مذنب

وتقلينني لكن إياك لا أقلي

أي لكن أنا لا أقليك انتهى. ولا يتعين ما قاله في البيت لجواز أن يكون التقدير لكنني فحذف اسم لكن وذكروا أن حذفه فصيح إذا دل عليه الكلام ، وأنشدوا على ذلك قول الشاعر :

فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي

ولكن زنجي عظيم المشافر

أي ولكنك زنجي ، وأجاز أبو علي أن تكون لكن لحقتها نون الجماعة التي في خرجنا وضربنا ووقع الإدغام لاجتماع المثلين ثم وحد في (رَبِّي) على المعنى ، ولو اتبع اللفظ لقال ربنا انتهى. وهو تأويل بعيد. وقال ابن عطية : ويتوجه في لكنا أن تكون المشهورة من أخوات إن المعنى لكن قولي (هُوَ اللهُ رَبِّي) إلّا أني لا أعرف من يقرأ بها وصلا ووقفا

١٧٨

انتهى. وذكر أبو القاسم يوسف بن عليّ بن جبارة الهذلي في كتاب الكامل في القراءات من تأليفه ما نصه : يحذفها في الحالين يعني الألف في الحالين يعني الوصل والوقف حمصي وابن عتبة وقتيبة غير الثقفي ، ويونس عن أبي عمر ويعني بحمصي ابن أبي عبلة وأبا حيوة وأبا بحرية. وقرأ أبيّ والحسن لكن أنا (هُوَ اللهُ) على الانفصال ، وفكه من الإدغام وتحقيق الهمز ، وحكاها ابن عطية عن ابن مسعود. وقرأ عيسى الثقفي لكن هو الله بغير أنا ، وحكاها ابن خالويه عن ابن مسعود ، وحكاها الأهوازي عن الحسن. فأما من أثبت (هُوَ) فإنه ضمير الأمر والشأن ، وثم قول محذوف أي لكن أنا أقول (هُوَ اللهُ رَبِّي) ويجوز أن يعود على الذي (خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) ، أي أنا أقول : (هُوَ) أي خالقك (اللهُ رَبِّي) و (رَبِّي) نعت أو عطف بيان أو بدل ، ويجوز أن لا يقدر. أقول محذوفة فيكون أنا مبتدأ ، و (هُوَ) ضمير الشأن مبتدأ ثان و (اللهُ) مبتدأ ثالث ، و (رَبِّي) خبره والثالث وخبره خبر عن الثاني ، والثاني وخبره خبر عن أنا ، والعائد عليه هو الياء في (رَبِّي) ، وصار التركيب نظير هند هو زيد ضاربها. وعلى رواية هارون يجوز أن يكون هو توكيد الضمير النصب في لكنه العائد على الذي خلقك ، ويجوز أن يكون فصلا لوقوعه بين معرفين ، ولا يجوز أن يكون ضمير شأن لأنه لا عائد على اسم لكن من الجملة الواقعة خبرا.

وفي قوله و (لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) تعريض بإشراك صاحبه وأنه مخالفه في ذلك ، وقد صرح بذلك صاحبه في قوله يا ليتني لم أشرك بربي أحدا. وقيل : أراد بذلك أنه لا يرى الغنى والفقر إلّا منه تعالى ، يفقر من يشاء ويغني من يشاء. وقيل : لا أعجز قدرته على الإعادة ، فأسّوي بينه وبين غيره فيكون إشراكا كما فعلت أنت.

ولما وبخ المؤمن الكافر أورد له ما ينصحه فحضه على أن كان يقول إذا دخل جنته (ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) أي الأشياء مقذوفة بمشيئة الله إن شاء أفقر ، وإن شاء أغنى ، وإن شاء نصر ، وإن شاء خذل. ويحتمل أن تكون ما شرطية منصوبة بشاء ، والجواب محذوف أي أي شيء شاء الله كان ، ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذي مرفوعة على الابتداء ، أي الذي شاءه الله كائن ، أو على الخبر أي الأمر ما شاء الله (وَلَوْ لا) تحضيضية ، وفصل بين الفعل وبينها بالظرف وهو معمول لقوله (قُلْتَ). ثم نصحه بالتبري من القوة فيما يحاوله ويعانيه وأن يجعل القوة لله تعالى. وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي هريرة : «ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة»؟ قال : بلى يا رسول الله ، قال : «لا قوة إلّا بالله إذا قالها العبد قال الله عزوجل أسلم عبدي واستسلم». ونحوه من حديث أبي موسى وفيه إلّا بالله العلي العظيم.

١٧٩

ثم أردف تلك النصيحة بترجيه من الله ، وتوقعه أن يقلب ما به وما بصاحبه من الفقر والغنى. فقال : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) أي إني أتوقع من صنع الله تعالى وإحسانه أن يمنحني جنة خيرا من جنتك لإيماني به ، ويزيل عنك نعمته لكفرك به ويخرب بستانك. وقرأ الجمهور : (أَقَلَ) بالنصب مفعولا ثانيا لترني وهي علمية لا بصرية لوقوع (أَنَا) فصلا ، ويجوز أن يكون توكيدا للضمير المنصوب في ترني ، ويجوز أن تكون بصرية و (أَنَا) توكيد للضمير في ترني المنصوب فيكون (أَقَلَ) حالا. وقرأ عيسى بن عمر (أَقَلَ) بالرفع على أن تكون أنا مبتدأ ، و (أَقَلَ) خبره ، والجملة في موضع مفعول ترني الثاني إن كانت علمية ، وفي موضع الحال إن كانت بصرية. ويدل قوله (وَوَلَداً) على أن قول صاحبه (وَأَعَزُّ نَفَراً) (١) عنى به الأولاد إن قابل كثرة المال بالقلة وعزة النفر بقلة الولد.

والحسبان ، قال ابن عباس وقتادة : العذاب. وقال الضحاك : البرد. وقال الكلبي : النار. وقال ابن زيد : القضاء. وقال الأخفش : سهام ترمي في مجرى فقلما تخطىء. وقيل : النبل. وقيل : الصواعق. وقيل : آفة مجتاحة. وقال الزجاج : عذاب حسبان وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك ، وهذا الترجي إن كان ذلك أن يؤتيه في الدنيا فهي أنكى للكافر وآلم إذ يرى حاله من الغنى قد انتقلت إلى صاحبه ، وإن كان ذلك أن يؤتيه في الآخرة فهو أشرف وأذهب مع الخير والصلاح (فَتُصْبِحَ صَعِيداً) أي أرضا بيضاء لا نبات فيها لا من كرم ولا نخل ولا زرع ، قد اصطلم جميع ذلك فبقيت يبابا قفرا يزلق عليها لإملاسها ، والزلق الذي لا تثبت فيه قدم ذهب غراسه وبناؤه وسلب المنافع حتى منفعة المشي فيه فهو وحل لا ينبت ولا يثبت فيه قدم. وقال الحسن : الزلق الطريق الذي لا نبات فيه. وقيل : الخراب. وقال مجاهد : رملا هائلا. وقيل : الزلق الأرض السبخة وترجّي المؤمن لجنة هذا الكافر آفة علوية من السماء أو آفة سفلية من الأرض ، وهو غور مائها فيتلف كل ما فيها من الشجر والزرع ، وغور مصدر خبر عن اسم أصبح على سبيل المبالغة و (أَوْ يُصْبِحَ) معطوف على قوله (وَيُرْسِلَ) لأن غؤور الماء لا يتسبب على الآفة السماوية إلّا إن عنى بالحسبان القضاء الإلهي ، فحينئذ يتسبب عنه إصباح الجنة (صَعِيداً زَلَقاً) أو إصباح مائها (غَوْراً).

وقرأ الجمهور (غَوْراً) بفتح الغين. وقرأ البرجمي : (غَوْراً) بضم الغين. وقرأت فرقة بضم الغين وهمز الواو يعنون وبواو بعد الهمزة فيكون غؤورا كما جاء في مصدر غارت عينه غؤورا ، والضمير في (لَهُ) عائد على الماء أي لن يقدر على طلبه لكونه ليس مقدورا

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٣٩.

١٨٠