البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤

يأتي به غير مستقيم وهذا خطاب بنقيض. وقال الفراء والطبري : مفعول بمعنى فاعل أي ساحرا ، فهذه العجائب التي يأتي بها من أمر السحر ، وقالوا : مفعول بمعنى فاعل مشؤوم وميمون وإنما هو شائم ويأمن. وقرأ الجمهور : (لَقَدْ عَلِمْتَ) بفتح التاء على خطاب موسى لفرعون وتبكيته في قوله عنه أنه مسحور رأى لقد علمت أن ما جئت به ليس من باب السحر ، ولا أني خدعت في عقلي ، بل علمت أنه ما أنزلها إلّا الله ، وما أحسن ما جاء به من إسناد إنزالها إلى لفظ (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إذ هو لما سأله فرعون في أول محاورته فقال له : وما رب العالمين قال : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ينبهه على نقصه وأنه لا تصرّف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى استحالة ، فبكتّه وأعلمه أنه يعلم آيات الله ومن أنزلها ولكنه مكابر معاند كقوله (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (١) وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذا وهي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه. وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن عليّ والكسائي علمت بضم التاء أخبر موسى عن نفسه أنه ليس بمسحور كما وصفه فرعون ، بل هو يعلم أن (ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) الآيات إلّا الله.

وروي عن عليّ أنه قال : ما علم عدوّ الله قط وإنما علم موسى ، وهذا القول عن عليّ لا يصح لأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول ، وكيف يصح هذا القول وقراءة الجماعة بالفتح على خطاب فرعون.

و (ما أَنْزَلَ) جملة في موضع نصب علق عنها (عَلِمْتَ). ومعنى (بَصائِرَ) دلالات على وحدانية الله وصدق رسوله والإشارة بهؤلاء إلى الآيات التسع. وانتصب (بَصائِرَ) على الحال في قول ابن عطية والحوفي وأبي البقاء ، وقالا : حال من (هؤُلاءِ) وهذا لا يصح إلّا على مذهب الكسائي والأخفش لأنهما يجيزان ما ضرب هندا هذا إلّا زيد ضاحكة. ومذهب الجمهور أنه لا يجوز فإن ورد ما ظاهره ذلك أول على إضمار فعل يدل عليه ما قبله التقدير ضربها ضاحكة ، وكذلك يقدرون هنا أنزلها (بَصائِرَ) وعند هؤلاء لا يعمل ما قبل إلّا فيما بعدها إلّا أن يكون مستثنى منه أو تابعا له.

وقابل موسى ظنه بظن فرعون فقال : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) وشتان ما بين الظنين ظن فرعون ظن باطل ، وظن موسى ظن صدق ، ولذلك ال أمر فرعون إلى الهلاك

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ١٤.

١٢١

كان أولا موسى عليه‌السلام يتوقع من فرعون أذى كما قال (إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) (١) فأمر أن يقول له قولا لينا فلما قال له الله : لا تخف وثق بحماية الله ، فصال على فرعون صولة المحمي. وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك. ومثبور مهلك في قول الحسن ومجاهد ، وملعون في قول ابن عباس ، وناقص العقل فيما روى ميمون بن مهران ، ومسحور في قول الضحاك قال : رد عليه مثل ما قال له فرعون مع اختلاف اللفظ ، وعن الفراء مثبور مصروف عن الخير مطبوع على قلبك من قولهم : ما ثبرك عن هذا؟ أي ما منعك وصرفك. وقرأ أبيّ وإن أخالك يا فرعون لمثبورا وهي أن الخفيفة ، واللام الفارقة واستفزازه إياهم هو استخفافه لموسى ولقومه بأن يقلعهم من أرض مصر بقتل أو جلاء ، فحاق به مكره وأغرقه الله وقبطه أراد أن تخلو أرض مصر منهم فأخلاها الله منه. ومن قومه والضمير في (مِنْ بَعْدِهِ) عائد على فرعون أي من بعد إغراقه ، و (الْأَرْضَ) المأمور بسكناها أرض الشام ، والظاهر أن يكون الأمر بذلك حقيقة على لسان موسى عليه‌السلام ووعد الآخرة قيام الساعة.

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً).

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) هو مردود على قوله (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) (٢) الآية وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولا ، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في (أَنْزَلْناهُ) عائد على موسى عليه‌السلام وجعل منزلا كما قال (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (٣) أو عائد على الآيات التسع ، وذكر على المعنى أو عائد على الوعد المذكور قبله. وقال أبو سليمان الدمشقي (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أي بالتوحيد ، (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي بالوعد والوعيد والأمر والنهي. وقال الزهراوي : بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس ، (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره. وقال الزمخشري : وما أنزلنا القرآن إلّا بالحكمة المقتضية لإنزاله وما نزل إلّا ملتبسا بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير ، وما أنزلناه من السماء إلّا بالحق

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٤٥.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٨.

(٣) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٢.

١٢٢

محفوظا بالرصد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلّا محفوظا بهم من تخليط الشياطين انتهى. وقد يكون (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) توكيدا من حيث المعنى لما كان يقال أنزلته فنزل ، وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من نزوله جاء ، (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) مزيلا لهذا الاحتمال ومؤكدا حقيقة ، (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) وإلى معنى التأكيد نحا الطبري. وانتصب (مُبَشِّراً وَنَذِيراً) على الحال أي (مُبَشِّراً) لهم بالجنة ومنذرا من النار ليس لك شيء من إكراههم على الدين.

وقرأ الجمهور : (فَرَقْناهُ) بتخفيف الراء أي بيّنا حلاله وحرامه قاله ابن عباس ، وعن الحسن فرقنا فيه بين الحق والباطل. وقال الفراء : أحكمناه وفصلناه كقوله (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (١). وقرأ أبيّ وعبد الله وعليّ وابن عباس وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمرو بن قائد وزيد بن عليّ وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه بشد الراء أي (أَنْزَلْناهُ) نجما بعد نجم. وفصلناه في النجوم. وقال بعض من اختار ذلك : لم ينزل في يوم ولا يومين ولا شهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين. قال ابن عباس : كان بين أوله وآخره عشرون سنة ، هكذا قال الزمخشري عن ابن عباس. وحكي عن ابن عباس في ثلاث وعشرين سنة. وقيل : في خمس وعشرين ، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في سنه عليه‌السلام ، وعن الحسن نزل في ثمانية عشر سنة. قال ابن عطية : وهذا قول مختل لا يصح عن الحسن.

وقيل معنى : (فَرَقْناهُ) بالتشديد فرقنا آياته بين أمر ونهي ، وحكم وأحكام ، ومواعظ وأمثال ، وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي. وانتصب (قُرْآناً) على إضمار فعل يفسره (فَرَقْناهُ) أي وفرقنا (قُرْآناً فَرَقْناهُ) فهو من باب الاشتغال وحسن النصب ، ورجحه على الرفع كونه عطفا على جملة فعلية وهي قوله (وَما أَرْسَلْناكَ). ولا بد من تقدير صفة لقوله (وَقُرْآناً) حتى يصح كونه كان يجوز فيه الابتداء لأنه نكرة لا مسوغ لها في الظاهر للابتداء بها ، والتقدير (وَقُرْآناً) أي قرآن أي عظيما جليلا ، وعلى أنه منصوب بإضمار فعل يفسره الظاهر بعده خرّجه الحوفي والزمخشري. وقال ابن عطية وهو مذهب سيبويه. وقال الفراء : هو منصوب بأرسلناك أي (ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً) كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة وهذا إعراب متكلف وأكثر تكلفا منه قول ابن عطية ، ويصح أن يكون معطوفا على الكاف في (أَرْسَلْناكَ) من حيث كان إرسال هذا وإنزال هذا المعنى واحد.

__________________

(١) سورة الدخان : ٤٤ / ٤.

١٢٣

وقرأ أبيّ وعبد الله (فَرَقْناهُ) عليك بزيادة عليك و (لِتَقْرَأَهُ) متعلق بفرقناه ، والظاهر تعلق على مكث بقوله (لِتَقْرَأَهُ) ولا يبالي بكون الفعل يتعلق به حرفا جر من جنس واحد لأنه اختلف معنى الحرفين الأول في موضع المفعول به ، والثاني في موضع الحال أي متمهلا مترسلا.

قال ابن عباس ومجاهد وابن جريج : (عَلى مُكْثٍ) على ترسل في التلاوة. وقيل : (عَلى مُكْثٍ) أي تطاول في المدة شيئا بعد شيء. وقال الحوفي : (عَلى مُكْثٍ) بدل من (عَلَى النَّاسِ) وهذا لا يصح لأن قوله (عَلى مُكْثٍ) هو من صفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو القارئ ، أو صفات المقروء في المعنى وليس من صفات الناس فيكون بدلا منهم. وقيل يتعلق (عَلى مُكْثٍ) بقوله (فَرَقْناهُ) ويقال مكث بضم الميم وفتحها وكسرها. وقال ابن عطية : وأجمع القراء على ضم الميم من (مُكْثٍ). وقال الحوفي : والمكث بالضم والفتح لغتان ، وقد قرىء بهما وفيه لغة أخرى كسر الميم.

(وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) على حسب الحوادث من الأقوال والأفعال. (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) يتضمن الإعراض عنهم والاحتقار لهم والازدراء بهم وعدم الاكتراث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم منه ، وأنهم لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك ، فإن خيرا منهم وأفضل هم العلماء الذي قرؤوا الكتاب وعلموا ما الوحي وما الشرائع ، قد آمنوا به وصدقوه وثبت عندهم أنه النبيّ العربي الموعود في كتبهم ، فإذا تلي عليهم خروا (سُجَّداً) وسبحوا الله تعظيما لوعده ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنزال القرآن عليه ، وهو المراد بالوعد في قوله (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً).

و (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) يجوز أن يكون تعليلا لقوله (آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم ، وأن يكون تعليلا لقل على سبيل التسلية كأنه قيل (قُلْ) عن إيمان الجاهلية بإيمان العلماء انتهى من كلام الزمخشري ، وفيه بعض تلخيص. وقال غيره : (قُلْ آمِنُوا) الآية تحقير للكفار ، وفي ضمنه ضرب من التوعد والمعنى أنكم لستم بحجة فسواء علينا أأمنتم أم كفرتم وإنما ضرر ذلك على أنفسكم ، وإنما الحجة أهل العلم انتهى. والظاهر أن الضمير في (قُلْ آمِنُوا بِهِ) عائد على القرآن ، و (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) هم مؤمنو أهل الكتاب. وقيل : ورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو بن نفيل ومن جرى مجراهما ، فإنهما كانا ممن أوتي العلم واطّلعا على

١٢٤

التوراة والإنجيل ووجدا فيهما صفته عليه الصلاة والسلام. وقيل : هم جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم ، فتذكروا أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزل عليه. وقرىء عليهم منه شيء فخشعوا وسجدوا لله وقالوا : هذا وقت نبوّة المذكور في التوراة وهذه صفته ، ووعد الله به واقع لا محالة ، وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح فنزلت هذه الآية فيهم.

وقيل : المراد بالذين (أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والظاهر أن الضمير في (مِنْ قَبْلِهِ) عائد على القرآن كما عاد عليه في قوله : (بِهِ) ويدل عليه ما قبله وما بعده. وقيل الضمير إن في (بِهِ) وفي (مِنْ قَبْلِهِ) عائدان على الرسول عليه الصلاة والسلام.

واستأنف ذكر القرآن في قوله (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) والظاهر في قوله (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) أن الضمير في (يُتْلى) عائد على القرآن. وقيل : هو عائد على التوراة وما فيها من تصديق القرآن ومعرفة النبيّ عليه الصلاة والسلام ، والخرور هو السقوط بسرعة ، ومنه (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ) (١) وانتصب (سُجَّداً) على الحال ، والسجود وهو وضع الجبهة على الأرض هو غاية الخرور ونهاية الخضوع ، وأول ما يلقي الأرض حالة السجود الذقن ، أو عبر عن الوجوه بالأذقان كما يعبر عن كل شيء ببعض ما يلاقيه. وقال الشاعر :

فخرو الأذقان الوجوه تنوشهم

سباع من الطير العوادي وتنتف

وقيل : أريد حقيقة الأذقان لأن ذلك غاية التواضع وكان سجودهم كذلك. وقال ابن عباس : المعنى للوجوه.

وقال الزمخشري : فإن قلت : حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خر على وجهه وعلى ذقنه فما معنى اللام في خر لذقنه؟ قال :

فخر صريعا لليدين وللفم

قلت : معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور ، واختصه به لأن اللام للاختصاص انتهى. وقيل : اللام بمعنى على و (سُبْحانَ رَبِّنا) نزهوا الله عما نسبته إليه كفار قريش وغيرهم من أنه لا يرسل البشر رسلا وأنه لا يعيدهم للجزاء ، وأن هنا المخففة من الثقيلة المعنى أن ما وعد به من إرسال محمد عليه الصلاة والسلام وإنزال القرآن عليه قد فعله وأنجزه ، ونكر الخرور لاختلاف حالي السجود والبكاء ، وجاء التعبير عن الحالة الأولى بالاسم وعن الحالة الثانية بالفعل لأن الفعل مشعر بالتجدد ، وذلك أن البكاء ناشىء عن التفكر فهم دائما في

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٢٦.

١٢٥

فكرة وتذكر ، فناسب ذكر الفعل إذ هو مشعر بالتجدد ، ولما كانت حالة السجود ليست تتجدد في كل وقت عبر فيها بالاسم.

(وَيَزِيدُهُمْ) أي ما تلي عليهم (خُشُوعاً) أي تواضعا. وقال عبد الأعلى التيمي : من أوتي من العلم ما لا يبكيه خليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه لأن تعالى نعت العلماء فقال : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الآية. وقال ابن عطية : ويتوجه في هذه الآية معنى آخر ، وهو أن يكون قوله (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) مخلصا للوعيد دون التحقير ، المعنى فسترون ما تجازون به ، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي إن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة إذا يتلى عليهم ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا انتهى. وقد تقدمت الإشارة إلى طرف من هذا.

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً).

قال ابن عباس : تهجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة بمكة فجعل يقول في سجوده : «يا رحمن يا رحيم». فقال المشركون : كان محمد يدعو إلها واحدا فهو الآن يدعو إلهين اثنين الله والرحمن ، ما الرحمن إلّا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة فنزلت قاله في التحرير. ونقل ابن عطية نحوا منه عن مكحول. وقال عن ابن عباس : سمعه المشركون يدعو يا الله يا رحمن ، فقالوا : كان يدعو إلها واحدا وهو يدعو إلهين فنزلت. وقال ميمون بن مهران : كان عليه‌السلام يكتب : باسمك اللهم حتى نزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتبها فقال مشركو العرب : هذا الرحيم نعرفه ، فما الرحمن؟ فنزلت : وقال الضحاك : قال أهل الكتاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم ، فنزلت لما لجوّا في إنكار القرآن أن يكون الله نزله على رسوله عليه‌السلام وعجزوا عن معارضته ، وكان عليه الصلاة والسلام قد جاءهم بتوحيد الله والرفض لآلهتهم عدلوا إلى رميه عليه الصلاة والسلام بأن ما نهاهم عنه رجع هو إليه ، فردّ الله تعالى عليهم بقوله (قُلِ ادْعُوا اللهَ) الآية. والظاهر من أسباب النزول أن الدعاء هنا قوله يا رحمن يا رحيم أو يا الله يا رحمن من الدعاء بمعنى النداء والمعنى : إن دعوتم الله فهو اسمه وان دعوتم الرحمن فهو صفته. قال الزمخشري : والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو يتعدّى إلى مفعولين ، تقول : دعوته زيدا ثم تترك أحدهما

١٢٦

استغناء عنه ، فتقول : دعوت زيدا انتهى. ودعوت هذه من الأفعال التي تتعدّى إلى اثنين ثانيهما بحرف جر ، تقول : دعوت والدي بزيد ثم تتسع فتحذف الباء. وقال الشاعر في دعا هذه :

دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن

أخاها ولم أرضع لها بلبان

وهي أفعال تتعدى إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر ، يحفظ ويقتصر فيها على السماع وعلى ما قال الزمخشري يكون الثاني لقوله (ادْعُوا) لفظ الجلالة ، ولفظ (الرَّحْمنَ) وهو الذي دخل عليه الباء ثم حذف وكأن التقدير (ادْعُوا) معبودكم بالله أو ادعوه بالرحمن ولهذا قال الزمخشري : المراد بهما اسم المسمى وأو للتخيير ، فمعنى (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) سموا بهذا الاسم أو بهذا ، واذكروا إما هذا وإما هذا انتهى.

وكذا قال ابن عطية هما اسمان لمسمى واحد ، فإن دعوتموه بالله فهو ذاك ، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك وأي هنا شرطية. والتنوين قيل عوض من المضاف و (ما) زائدة مؤكدة.

وقيل : (ما) شرط ودخل شرط على شرط. وقرأ طلحة بن مصرف. (أَيًّا) من (تَدْعُوا) فاحتمل أن تكون من زائدة على مذهب الكسائي إذ قد ادّعى زيادتها في قوله :

يا شاة من قنص لمن حلت له

واحتمل أن يكون جمع بين أداتي شرط على وجه الشذوذ كما جمع بين حرفي جر نحو قول الشاعر :

فأصبحن لا يسألنني عن بما به

وذلك لاختلاف اللفظ. والضمير في (فَلَهُ) عائد على مسمى الاسمين وهو واحد ، أي فلمسماهما (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ، وتقدم الكلام على قوله (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) في الأعراف.

وقوله : (فَلَهُ) هو جواب الشرط. قيل : ومن وقف على (أَيًّا) جعل معناه أي اللفظين دعوتموه به جاز ، ثم استأنف فقال ما تدعوه (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وهذا لا يصح لأن ما لا تطلق على آحاد أولي العلم ، ولأن الشرط يقتضي عموما ولا يصح هنا ، والصلاة هنا الدعاء قاله ابن عباس وعائشة وجماعة. وعن ابن عباس أيضا : هي قراءة القرآن في الصلاة فهو على حذف مضاف أي بقراءة الصلاة ، ولا يلبس تقدير هذا المضاف لأنه معلوم أن الجهر والمخافتة معتقبان على الصوت لا غير ، والصلاة أفعال وأذكار وكان عليه الصلاة

١٢٧

والسلام يرفع صوته بقراءته فيسب المشركون ويلغون فأمر بأن يخفض من صوته حتى لا يسمع المشركين ، وأن لا يخافت حتى يسمعه من وراءه من المؤمنين.

(وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ) أي بين الجهر والمخافتة (سَبِيلاً) وسطا وتقدم الكلام على (بَيْنَ ذلِكَ) في قوله (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (١). وقال ابن عباس أيضا والحسن : لا تحسن علانيتها وتسيء سرّيتها. وعن عائشة : الصلاة يراد بها هنا التشهد. وقال ابن سيرين : كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك ، وكان أبو بكر يسرّ قراءته وعمر يجهر بها. فقيل لهما في ذلك فقال أبو بكر : إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي. وقال عمر : أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت قيل لأبي بكر ارفع أنت قليلا. وقيل لعمر : اخفض أنت قليلا. وعن ابن عباس أيضا : المعنى (وَلا تَجْهَرْ) بصلاة النهار (وَلا تُخافِتْ) بصلاة الليل. وقال ابن زيد : معنى الآية على ما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحيانا فيرفع الناس معه ، ويخفض أحيانا فيسكت الناس خلفه انتهى. كما يفعل أهل زماننا من رفع الصوت بالتلحين وطرائق النغم المتخذة للغناء.

ولما ذكر تعالى أنه واحد وإن تعددت أسماؤه أمر تعالى أن يحمده على ما أنعم به عليه مما آتاه من شرف الرسالة والاصطفاء ، ووصف نفسه بأنه (لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) فيعتقد فيه تكثر بالنوع ، وكان ذلك ردّا على اليهود والنصارى والعرب الذين عبدوا الأصنام وجعلوها شركاء لله ، والعرب الذين عبدوا الملائكة واعتقدوا أنهم بنات الله. ونفى أولا الولد خصوصا ثم نفى الشريك في ملكه وهو أعم من أن ينسب إليه ولد فيشركه أو غيره ، ولما نفى الولد ونفى الشريك نفى الولي وهو الناصر ، وهو أعم من أن يكون ولدا أو شريكا أو غير شريك. ولما كان اتخاذ الولي قد يكون للانتصار والاعتزاز به والاحتماء من الذلّ وقد يكون للتفضل والرحمة لمن والى من صالحيّ عباده كان النفي لمن ينتصر به من أجل المذلة ، إذ كان مورد الولاية يحتمل هذين الوجهين فنفى الجهة التي لأجل النقص بخلاف الولد والشريك فإنهما نفيا على الإطلاق. وجاء الوصف الأول بقوله (الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) والمعنى أنه تعالى لم يسم ولم يعدّ أحدا ولدا ولم ينفه بجهة التوالد لاستحالة ذلك في بداية العقول ، فلا يتعرض لنفيه بالمنقول ولذلك جاء ما اتخذ الله من ولد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦٨.

١٢٨

وقال مجاهد : في قوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) المعنى لم يخالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد. وقال الزمخشري : (وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) ناصر من الذلّ ومانع له منه لاعتزازه به ، أو لم يوال أحدا من أجل المذلة به ليدفعها بموالاته انتهى. وقيل : ولم يكن له (وَلِيٌ) من اليهود والنصارى لأنهم أذل الناس فيكون (مِنَ الذُّلِ) صفة لولي انتهى. أي (وَلِيٌّ مِنَ) أهل (الذُّلِ) ، فعلى هذا وما تقدّم يكون (مِنَ) في معنى المفعول به أو للسبب أو للتبعيض.

وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد؟ قلت : لأن من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة فهو الذي يستحق جنس الحمد ، والذي تقرر أن النفي تسلط من حيث المعنى على القيد أي لا ذل يوجد في حقه فيكون له ولي ينتصر به منه ، فالذل والولي الذي يكون اتخاذه بسببه منتفيان.

(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) التكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال ، وأكد بالمصدر تحقيقا له وإبلاغا في معناه ، وابتدئت هذه السورة بتنزيه الله تعالى واختتمت به ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية و (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) (١) إلى آخرها والله أعلم.

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٩٣.

١٢٩

سورة الكهف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً

١٣٠

(١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ

١٣١

وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩)

بخع يبخع بخعا وبخوعا أهلك من شدة الوجد وأصله الجهد قاله الأخفش والفراء. وفي حديث عائشة ذكرت عمر فقالت : بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك. وقال الكسائي : بخع الأرض بالزراعة جعلها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة. وقال الليث : بخع الرجل نفسه قتلها من شدة وجده. وأنشد قول الفرزدق :

ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه

لشيء نحته عن يديه المقادير

أي نحّته بشد الحاء فخفف. قال أبو عبيدة : كان ذو الرّمة ينشد الوجد بالرفع. وقال الأصمعي : إنما هو الوجد بالفتح انتهى. فيكون نصبه على أنه مفعول من أجله. جرزت الأرض بقحط أو جراد أو نحوه : ذهب نباتها وبقيت لا شيء فيها وأرضون أجراز ، ويقال : سنة جرز وسنون أجراز لا مطر فيها ، وجرز الأرض الجراد أكل ما فيها ، وامرأة جروز أي أكول. قال الشاعر :

إن العجوز خبة جروزا

تأكل كل ليلة قفيزا

الكهف النقب المتسع في الجبل فإن لم يك واسعا فهو غار. وقال ابن الأنباري. حكى اللغويون أنه بمنزلة الغار في الجبل. الرقيم : فعيل من رقم إما بمعنى مفعول وإما بمعنى فاعل ، ويأتي إن شاء الله الاختلاف في المراد به عن المفسرين. فأما قول أمية بن أبي الصلت :

وليس بها إلّا الرقيم مجاورا

وصيدهم والقوم في الكهف همد

فعنى به كلبهم. أحصى الشيء حفظه وضبطه. الشطط : الجور وتعدّى الحد والغلو. وقال

١٣٢

الفراء : اشتط في الشؤم جاوز القدر ، وشط المنزل بعد شطوطا ، وشط الرجل وأشط جار ، وشطت الجارية شطاطا وشطاطة طالت. تزورّ : تروع وتميل. وقال الأخفش : تزور تنقبض انتهى. والزور الميل والأزور المائل بعينه إلى ناحية ، ويكون في غير العين. قال ابن أبي ربيعة :

وجبني خيفة القوم أزوره

وقال عنترة :

فازور من وقع القنا بلبانه

وشكا إليّ بعبرة وتحمحم

وقال بشر بن أبي حازم :

تؤمّ بها الحداة مياه نخل

وفيها عن أبانين ازورار

ومنه زاره إذا مال إليه ، والزور الميل عن الصدق. قرض الشيء قطعه ، تقول العرب : قرضت موضع. كذا أي قطعته. وقال ذو الرمّة :

إلى ظعن يقوضن أجواز مشرف

شمالا وعن أيمانهنّ الفوارس

وقال الكوفيون : قرضت موضع كذا جاذبته ، وحكوا عن العرب قرضته قبلا ودبرا. الفجوة : المتسع من الفجاء وهو تباعد ما بين الفخذين ، رجل أفجأ وامرأة فجواء وجمع الفجوة فجاء. اليقظ المتنبه وجمعه أيقاظ كعضد وأعضاد ، ويقاظ كرجل ورجال ورجل يقظان وامرأة يقظى. الرقاد معروف وسمي به علما. الوصيد الفناء. وقيل : العتبة. وقيل : الباب.

قال الشاعر :

بأرض فضاء لا يسد وصيدها

عليّ ومعروفي بها غير منكر

الورق الفضة مضروبة وغير مضروبة. السرادق قال أبو منصور الجواليقي : هو فارسي معرب وأصله سرادار وهو الدهليز. قال الفرزدق :

تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم

تركت لهم قبل الضراب السرادقا

وبيت مسردق أي ذو سرادق. المهل : ما أذيب من جواهر الأرض. وقيل دردي الزيت. شوى اللحم : أنضجه من غير مرق. السوار : ما جعل في الذراع من ذهب أو فضة أو نحاس أو رصاص ويجمع على أسورة في القلة كخمار وأخمرة ، وعلى خمر وفي الكثرة كخمار وخمر إلّا أنه تسكن عينه إلّا في الشعر فتحرك ، وأساور جمع أسورة. وقال أبو

١٣٣

عبيدة : جمع أسوار ويقال لكل ما في الذراع من الحليّ وعنه وعن قطرب : هو على حذف الزيادة وأصله أساوير. وأنشد ابن الأنباري :

والله لو لا صبية صغار

كأنما وجوههم أقمار

تضمهم من الفنيك دار

أخاف أن يصيبهم إقتار

أو لاطم ليس له أسوار

لما رآني ملك جبار

ببابه ما وضح النهار

السندس رقيق الديباج ، والإستبرق ما غلظ منه ، والإستبرق رومي عرب وأصله استبره أبدلوا الهاء قافا قاله ابن قتيبة. وقيل : مسمى بالفعل وهو إستبرق من البريق فقطعت بهمزة وصله.

وقيل : الإستبرق اسم الحرير. وقال المرقش :

تراهنّ يلبسن المشاعر مرة

وإستبرق الديباج طور إلباسها

وقال ابن بحر : الإستبرق المنسوج بالذهب. الأريكة السرير في حجلة ، فإن كان وحده فلا يسمى أريكة. وقال الزجاج : الأرائك الفرش في الحجال.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً).

هي مكية كلها إلا في قوله. وعن ابن عباس وقتادة إلّا قوله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) (١) الآية فمدنية. وقال مقاتل : إلّا من أولها إلى (جُرُزاً) ومن قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٢) الآيتين فمدني. وسبب نزولها أن قريشا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة ، فقالوا لهما : سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألاهم فقالت : سلوه فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم ، فإنه كان لهم حديث

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٢٨.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٣٠.

١٣٤

عجيب ، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان بناؤه ، وسلوه عن الروح فأقبل النضر وعقبة إلى مكة فسألوه فقال : «غدا أخبركم» ولم يقل إن شاء الله ، فاستمسك الوحي خمسة عشر يوما فأرجف كفار قريش ، وقالوا : إن محمدا قد تركه رئيه الذي كان يأتيه من الجن. وقال بعضهم : قد عجز عن أكاذيبه فشق ذلك عليه ، فلما انقضى الأمد جاءه الوحي بجواب الأسئلة وغيرها.

وروي في هذا السبب أن اليهود قالت : إن أجابكم عن الثلاثة فليس بنبيّ ، وإن أجاب عن اثنتين وأمسك عن الأخرى فهو نبيّ. فأنزل الله سورة أهل الكهف وأنزل بعد ذلك (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) (١). ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه لما قال (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) (٢) وذكر المؤمنين به أهل العلم وأنه يزيدهم خشوعا ، وأنه تعالى أمر بالحمد له وأنه لم يتخذ ولدا ، أمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج القيم على كل الكتب المنذر من اتخذ ولدا ، المبشر المؤمنين بالأجر الحسن. ثم استطرد إلى حديث كفار قريش والتفت من الخطاب في قوله (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (٣) إلى الغيبة في قوله (عَلى عَبْدِهِ) لما في (عَبْدِهِ) من الإضافة المقتضية تشريفه ، ولم يجيء التركيب أنزل عليك.

و (الْكِتابَ) القرآن ، والعوج في المعاني كالعوج في الأشخاص ونكر (عِوَجاً) ليعم جميع أنواعه لأنها نكرة في سياق النفي ، والمعنى أنه في غاية الاستقامة لا تناقض ولا اختلاف في معانيه ، لا حوشية ولا عيّ في تراكيبه ومبانيه. و (قَيِّماً) تأكيد لإثبات الاستقامة إن كان مدلوله مستقيما وهو قول ابن عباس والضحاك. وقيل : (قَيِّماً) بمصالح العباد وشرائع دينهم وأمور معاشهم ومعادهم. وقيل : (قَيِّماً) على سائر الكتب بتصديقها. واختلفوا في هذه الجملة المنفية ، فزعم الزمخشري أنها معطوفة على (أَنْزَلَ) فهي داخلة في الصلة ، ورتب على هذا أن الأحسن في انتصاب (قَيِّماً) أن ينتصب بفعل مضمر ولا يجعل حالا من (الْكِتابَ) لما يلزم من ذلك وهو الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة ، وقدره جعله (قَيِّماً). وقال ابن عطية : (قَيِّماً) نصب على الحال من (الْكِتابَ) فهو بمعنى التقديم مؤخر في اللفظ ، أي أنزل الكتاب (قَيِّماً) واعترض بين الحال وذي الحال قوله (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) ذكره الطبري عن ابن عباس ، ويجوز أن يكون منصوبا

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٥.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ١٠٥.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ١١١.

١٣٥

بفعل مضمر تقديره أنزله أو جعله (قَيِّماً). أما إذا قلنا بأن الجملة المنفية اعتراض فهو جائز ، ويفصل بجمل للإعتراض بين الحال وصاحبها.

وقال العسكري : في الآية تقديم وتأخير كأنه قال : احمدوا الله على إنزال القرآن (قَيِّماً) لا عوج فيه ، ومن عادة البلغاء أن يقدّموا الأهم. وقال أبو عبد الله الرازي : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) يدل على كونه مكملا في ذاته. وقوله قيما يدل على كونه مكملا بغيره ، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو الذي ذكره الله ، وأن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه. وقال الكرماني : إذا جعلته حالا وهو الأظهر فليس فيه تقديم ولا تأخير ، والصحيح أنهما حالان من (الْكِتابَ) الأولى جملة والثانية مفرد انتهى. وهذا على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف ، وكثير من أصحابنا على منع ذلك انتهى. واختاره الأصبهاني وقال : هما حالان متواليان والتقدير غير جاعل له (عِوَجاً قَيِّماً) وقال صاحب حل العقد : يمكن أن يكون قوله قيما بدلا من قوله (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) أي جعله مستقيما (قَيِّماً) انتهى. ويكون بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيدا أبو من أنه بدل جملة من مفرد وفيه خلاف. وقيل : (قَيِّماً) حال من الهاء المجرورة في (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ) مؤكدة. وقيل : منتقلة ، والظاهر أن الضمير في (لَهُ) عائد على (الْكِتابَ) وعليه التخاريج الإعرابية السابقة. وزعم قوم أن الضمير في (لَهُ) عائد على (عَبْدِهِ) والتقدير (عَلى عَبْدِهِ) وجعله (قَيِّماً). وحفص يسكت على قوله (عِوَجاً) سكتة خفيفة ثم يقول (قَيِّماً). وفي بعض مصاحف الصحابة (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) لكن جعله قيما ويحمل ذلك على تفسير المعنى لا أنها قراءة.

وأنذر يتعدى لمفعولين قال (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) (١) وحذف هنا المفعول الأول وصرح بالمنذر به لأنه هو الغرض المسوق إليه فاقتصر عليه ، ثم صرح بالمنذر في قوله حين كرر الإنذار فقال : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) فحذف المنذر أولا لدلالة الثاني عليه ، وحذف المنذر به لدلالة الأول عليه ، وهذا من بديع الحذف وجليل الفصاحة ، ولما لم يكرر البشارة أتى بالمبشر والمبشر به ، والظاهر أن (لِيُنْذِرَ) متعلقة بأنزل. وقال الحوفي : تتعلق بقيما ، ومفعول لينذر المحذوف قدره ابن عطية (لِيُنْذِرَ) العالم ، وأبو البقاء (لِيُنْذِرَ) العباد أو لينذركم. والزمخشري قدره خاصا قال : وأصله (لِيُنْذِرَ) الذين كفروا (بَأْساً شَدِيداً) ، والبأس من قوله (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) (٢) وقد بؤس العذاب وبؤس

__________________

(١) سورة النبأ : ٧٨ / ٤٠.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٦٥.

١٣٦

الرجل بأسا وبأسة انتهى. وكأنه راعي في تعيين المحذوف مقابله وهو (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ) والبأس الشديد عذاب الآخرة ويحتمل أن يندرج فيه ما يلحقهم من عذاب الدنيا.

ومعنى من (لَدُنْهُ) صادر من عنده. وقرأ أبو بكر بسكون الدال وإشمامها الضم وكسر النون ، وتقدّم الكلام عليها في أول هود. وقرىء (وَيُبَشِّرَ) بالرفع والجمهور بالنصب عطفا على (لِيُنْذِرَ) والأجر الحسن الجنة ، ولما كنى عن الجنة بقوله (أَجْراً حَسَناً) قال : (ماكِثِينَ فِيهِ) أي مقيمين فيه ، فجعله ظرفا لإقامتهم ، ولما كان المكث لا يقتضي التأبيد قال (أَبَداً) وهو ظرف دال على زمن غير متناه ، وانتصب (ماكِثِينَ) على الحال وذو الحال هو الضمير في (لَهُمْ) والذين نسبوا الولد إلى الله تعالى بعض اليهود في عزيز ، وبعض النصارى في المسيح ، وبعض العرب في الملائكة ، والضمير في (بِهِ) الظاهر أنه عائد على الولد الذي ادّعوه. قال المهدوي : فتكون الجملة صفة للولد. قال ابن عطية : وهذا معترض لأنه لا يصفه إلّا القائل وهم ليس قصدهم أن يصفوه ، والصواب عندي أنه نفى مؤتنف أخبر الله تعالى به بجهلهم في ذلك ، ولا موضع للجملة من الإعراب ويحتمل أن يعود على الله تعالى ، وهذا التأويل أذم لهم وأقضى في الجهل التام عليهم وهو قول الطبري انتهى.

قيل : والمعنى (ما لَهُمْ) بالله (مِنْ عِلْمٍ) فينزهوه عما لا يجوز عليه ، ويحتمل أن يعود على القول المفهوم من (قالُوا) أي (ما لَهُمْ).

بقولهم هذا (مِنْ عِلْمٍ) فالجملة في موضع الحال أي (قالُوا) جاهلين من غير فكر ولا روية ولا نظر في ما يجوز ويمتنع. وقيل : يعود على الاتخاذ المفهوم من اتخذه أي (ما لَهُمْ) بحكمة الاتخاذ من علم إذ لا يتخذه إلّا من هو عاجز مقهور يحتاج إلى معين يشد به عضده. وهذا مستحيل على الله.

قال الزمخشري : اتخاذ الله ولدا في نفسه محال ، فكيف قيل (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ)؟ قلت : معناه ما لهم به من علم لأنه ليس مما يعلم لاستحالته ، وانتفاء العلم بالشيء إما للجهل بالطريق الموصل إليه ، وإما لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به انتهى.

(وَلا لِآبائِهِمْ) معطوف على (لَهُمْ) وهم من تقدم من أسلافهم الذين ذهبوا إلى هذه المقالة السخيفة ، بل من قال ذلك إنما قاله عن جهل وتقليد. وذكر الآباء لأن تلك المقالة قد أخذوها عنهم وتلقفوها منهم.

١٣٧

وقرأ الجمهور : (كَلِمَةً) بالنصب والظاهر انتصابها على التمييز ، وفاعل (كَبُرَتْ) مضمر يعود على المقالة المفهومة من قوله (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) ، وفي ذلك معنى التعجب أي ما أكبرها كلمة ، والجملة بعدها صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم ، فإن كثيرا مما يوسوس به الشيطان في القلوب ويحدث به النفس لا يمكن أن يتفوه به بل يصرف عنه الفكر ، فكيف بمثل هذا المنكر وسميت (كَلِمَةً) كما يسمون القصيدة كلمة. وقال ابن عطية : وهذه المقالة هي قائمة في النفس معنى واحدا فيحسن أن تسمى (كَلِمَةً) وقال أيضا : وقرأ الجمهور بنصب الكلمة كما تقول نعم رجلا زيد ، وفسر بالكلمة ووصفها بالخروج من أفواههم فقال بعضهم : نصبها على التفسير على حد نصب قوله تعالى (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (١). وقالت فرقة : نصبها على الحال أي (كَبُرَتْ) فريتهم ونحو هذا انتهى. فعلى قوله كما تقول نعم رجلا زيد يكون المخصوص بالذم محذوفا لأنه جعل (تَخْرُجُ) صفة لكلمة ، والتقدير (كَبُرَتْ كَلِمَةً) خارجة (مِنْ أَفْواهِهِمْ) تلك المقالة التي فاهوا بها وهي مقالتهم (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً). والضمير في (كَبُرَتْ) ليس عائدا على ما قبله بل هو مضمر يفسره ما بعده ، وهو التمييز على مذهب البصريين ، ويجوز أن يكون المخصوص بالذم محذوفا وتخرج صفة له أي (كَبُرَتْ كَلِمَةً) كلمة (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ). وقال أبو عبيدة : نصب على التعجب أي أكبر بها (كَلِمَةً) أي من (كَلِمَةً). وقرىء كبرت سكون الباء وهي في لغة تميم. وقرأ الحسن وابن يعمر وابن محيصن والقواس عن ابن كثير بالرفع على الفاعلية والنصب أبلغ في المعنى وأقوى ، و (إِنْ) نافية أي ما (يَقُولُونَ) و (كَذِباً) نعت لمصدر محذوف أي قولا (كَذِباً).

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ) لعل للترجي في المحبوب وللإشفاق في المحذور. وقال العسكري : فيها هنا هي موضوعة موضع النهي يعني أن المعنى لا تبخع نفسك. وقيل : وضعت موضع الاستفهام تقديره هل أنت (باخِعٌ نَفْسَكَ)؟ وقال ابن عطية : تقرير وتوقيف بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كذلك. وقال الزمخشري : شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم برجل فارقته أحبته وأعزته ، فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وتلهفا على فراقهم انتهى. وتكون لعل

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١٦.

١٣٨

للإستفهام قول كوفي ، والذي يظهر أنها للإشفاق أشفق أن يبخع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه لكونهم لم يؤمنوا.

وقوله (عَلى آثارِهِمْ) استعارة فصيحة من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان وإعراض عن الشرع ، فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في إدبارهم يحزن عليهم ، ومعنى (عَلى آثارِهِمْ) من بعدهم أي بعد يأسك من إيمانهم أو بعد موتهم على الكفر. ويقال : مات فلان على أثر فلان أي بعده ، وقرىء (باخِعٌ نَفْسَكَ) بالإضافة. وقرأ الجمهور : (باخِعٌ) بالتنوين (نَفْسَكَ) بالنصب. قال الزمخشري : على الأصل يعني إن اسم الفاعل إذا استوفي شروط العلم فالأصل أن يعمل ، وقد أشار إلى ذلك سيبويه في كتابه. وقال الكسائي : العمل والإضافة سواء ، وقد ذهبنا إلى أن الإضافة أحسن من العمل بما قررناه في ما وضعنا في علم النحو. وقرىء : (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا) بكسر الميم وفتحها فمن كسر. فقال الزمخشري : هو يعني اسم الفاعل للإستقبال ، ومن فتح فللمضي يعني حالة الإضافة ، أي لأن (لَمْ يُؤْمِنُوا) والإشارة بهذا الحديث إلى القرآن. قال تعالى (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) (١).

و (أَسَفاً) قال مجاهد : جزعا. وقال قتادة : غضبا وعنه أيضا حزنا. وقال السدّي : ندما وتحسرا. وقال الزجاج : الأسف المبالغة في الحزن والغضب. وقال منذر بن سعيد : الأسف هنا الحزن لأنه على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف ، ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه كان غضبا كقوله تعالى (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) (٢) أي أغضبونا. قال ابن عطية : وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد انتهى. وانتصاب (أَسَفاً) على أنه مفعول من أجله أو على أنه مصدر في موضع الحال ، وارتباط قوله (إِنَّا جَعَلْنا) الآية بما قبلها هو على سبيل التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه تعالى أخبر أنه خلق ما على الأرض من الزينة للإبتلاء والاختبار أي الناس (أَحْسَنُ عَمَلاً) فليسوا على نمط واحد في الاستقامة واتباع الرسل ، بل لا بد أن يكون فيهم من هو أحسن عملا ومن هو أسوأ عملا ، فلا تغتم وتحزن على من فضلت عليه بأنه يكون أسوأ عملا ومع كونهم يكفرون بي لا أقطع عنهم موادّ هذه النعم التي خلقتها.

و (جَعَلْنا) هنا بمعنى خلقنا ، والظاهر أن ما يراد بها غير العاقل وأنه يراد به العموم فيما لا يعقل. و (زِينَةً) كل شيء بحسبه. وقيل : لا يدخل في ذلك ما كان فيه إيذاء من

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٢٣.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٥٥.

١٣٩

حيوان وحجر ونبات لأنه لا زينة فيه ، ومن قال بالعموم قال فيه (زِينَةً) من جهة خلقه وصنعته وإحكامه. وقيل : المراد بما هنا خصوص ما لا بعقل. فقيل : الأشجار والأنهار. وقيل : النبات لما فيه من الاختلاف والأزهار. وقيل : الحيوان المختلف الأشكال والمنافع والأفعال. وقيل : الذهب والفضة والنحاس والرصاص والياقوت والزبرجد والجوهر والمرجان وما يجري مجرى ذلك من نفائس الأحجار.

وقال الزمخشري : (ما عَلَى الْأَرْضِ) يعني ما يصلح أن يكون (زِينَةً لَها) ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها. وقالت : فرقة أراد النعيم والملابس والثمار والخضرة والمياه. وقيل : (ما) هنا لمن يعقل ، فعن مجاهد هو الرجال وقاله ابن جبير عن ابن عباس وروى عكرمة أن الزينة الخلفاء والعلماء والأمراء. وانتصب (زِينَةً) على الحال أو على المفعول من أجله إن كان (جَعَلْنا) بمعنى خلقنا ، وأوجدنا ، وإن كانت بمعنى صيرنا فانتصب على أنه مفعول ثان.

واللام من (لِنَبْلُوَهُمْ) تتعلق بجعلنا ، والابتلاء الاختبار وهو متأوّل بالنسبة إلى الله تعالى. والضمير في (لِنَبْلُوَهُمْ) إن كانت ما لمن يعقل فهو عائد عليها على المعنى ، وأن لا يعود على ما يفهم من سياق الكلام وهو سكان الأرض المكلفون و (أَيُّهُمْ) يحتمل أن يكون الضمير فيها إعرابا فيكون (أَيُّهُمْ) مبتدأ و (أَحْسَنُ) خبره. والجملة في موضع المفعول (لِنَبْلُوَهُمْ) ويكون قد علق (لِنَبْلُوَهُمْ) إجراء لها مجرى العلم لأن الابتلاء والاختبار سبب للعلم ، كما علقوا سل وانظر البصرية لأنهما سببان للعلم وإلى أن الجملة استفهامية مبتدأ وخبر ذهب الحوفي ، ويحتمل أن تكون الضمة فيها بناء على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء في أي. وهو كونها مضافة قد حذف صدر صلتها ، فأحسن خبر مبتدأ محذوف فتقديره هو (أَحْسَنُ) ويكون (أَيُّهُمْ) في موضع نصب بدلا من الضمير في (لِنَبْلُوَهُمْ) ، والمفضل عليه محذوف تقديره ممن ليس (أَحْسَنُ عَمَلاً). وقال الثوري أحسنهم عملا أزهدهم فيها. وقال أبو عاصم العسقلاني : أترك لها. وقال الزمخشري : حسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار بها. وقال أبو بكر غالب بن عطية : أحسن العمل أخذ بحق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه. وقال الكلبي : أحسن طاعة. وقال القاسم بن محمد ما عليها من الأنبياء والعلماء ليبلو المرسل إليهم والمقلدين للعلماء أيهم أحسن قبولا وإجابة. وقال سهل : أحسن توكلا علينا فيها. وقيل : أصفى قلبا وأحسن سمتا. وقال ابن إسحاق : أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي.

١٤٠