البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤

حبسه القرآن» أي وجب عليه الخلود. قال : ثم تلا هذه الآية (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً). وعن أبي هريرة أنه عليه‌السلام قال : «المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي» فظاهر هذا الكلام تخصيص شفاعته لأمته ، وقد تأوله من حمل ذلك على الشفاعة العظمى التي يحمده بسببها الخلق كلهم على أن المراد لأمته وغيرهم أو يقال إن كل مقام منهما محمود.

الثالث : عن حذيفة : يجمع الله الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأوّل مدعوّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقول : لبيك وسعديك والشر ليس إليك» والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا منجأ ولا ملجأ إلا إليك ، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت. قال : فهذا قوله (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).

الرابع قال الزمخشري : معنى المقام المحمود المقام الذي يحمده القائم فيه ، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات انتهى. وهذا قول حسن ولذلك نكر (مَقاماً مَحْمُوداً) فلم يتناول مقاما مخصوصا بل كل مقام محمود صدق عليه إطلاق اللفظ.

الخامس : ما قالت فرقة منها مجاهد وقد روي أيضا عن ابن عباس أن المقام المحمود هو أن يجلسه الله معه على العرش. وذكر الطبري في ذلك حديثا وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال : من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متّهم ما زال أهل العلم يحدّثون بهذا. قال ابن عطية : يعني من أنكر جوازه على تأويله. وقال أبو عمرو ومجاهد : إن كان أحد الأئمة يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم أحدهما هذا والثاني في تأويل (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (١) قال : تنتظر الثواب ليس من النظر ، وقد يؤوّل قوله معه على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) (٢) وقوله (ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً) (٣) و (إِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٤) كل ذلك كناية عن المكانة لا عن المكان.

وقال الواحدي : هذا القول مروي عن ابن عباس وهو قول رذل موحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس ، ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه.

__________________

(١) سورة القيامة : ٧٥ / ٢٢.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٢٠٦.

(٣) سورة التحريم : ٦٦ / ١١.

(٤) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٦٩.

١٠١

الأول : أن البعث ضد الإجلاس بعثت التارك وبعث الله الميت أقامه من قبره ، فتفسيره البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد.

الثاني : لو كان جالسا تعالى على العرش لكان محدودا متناهيا فكان يكون محدثا.

الثالث : أنه قال (مَقاماً) ولم يقل مقعدا (مَحْمُوداً) ، والمقام موضع القيام لا موضع القعود.

الرابع : أن الحمقى والجهّال يقولون إن أهل الجنة يجلسون كلهم معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنيوية فلا مزية له بإجلاسه معه.

الخامس : أنه إذا قيل بعث السلطان فلانا لا يفهم منه أجلسه مع نفسه انتهى. وفيه بعض تلخيص.

ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة والتهجد ووعده بعثه (مَقاماً مَحْمُوداً) وذلك في الآخرة أمره بأن يدعوه بما يشمل أموره الدنيوية والأخروية ، فقال (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) والظاهر أنه عام في جميع موارده ومصادره دنيوية وأخروية ، والصدق هنا لفظ يقتضي رفع المذام واستيعاب المدح كما تقول : رجل صدق إذ هو مقابل رجل سوء. وقال ابن عباس والحسن وقتادة : هو إدخال خاص وهو في المدينة ، وإخراج خاص وهو من مكة. فيكون المقدم في الذكر هو المؤخر في الوقوع ، ومكان الواو هو الأهم فبدىء به. وقال مجاهد وأبو صالح : ما معناه إدخاله فيما حمله من أعباء النبوة وأداء الشرع وإخراجه منه مؤدّيا لما كلفه من غير تفريط. وقال الزمخشري : أدخلني القبر (مُدْخَلَ صِدْقٍ) إدخالا مرضيا على طهارة وطيب من السيئات ، وأخرجني منه عند البعث إخراجا مرضيا ملقى بالكرامة آمنا من السخط ، يدل عليه ذكره على ذكر البعث. وقيل : إدخاله مكة ظاهرا عليها بالفتح ، وإخراجه منها آمنا من المشركين. وقال محمد بن المنكدر : إدخاله الغار وإخراجه منه سالما. وقيل : الإخراج من المدينة والإدخال مكة بالفتح. وقيل : الإدخال في الصلاة والإخراج منها. وقيل : الإدخال في الجنة والإخراج من مكة. وقيل : الإدخال فيما أمر به الإخراج مما نهاه عنه. وقيل : (أَدْخِلْنِي) في بحار دلائل التوحيد والتنزيه ، (وَأَخْرِجْنِي) من الاشتغال بالدليل إلى معرفة المدلول والتأمل في آثار محدثاته إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد. وقال أبو سهل : حين رجع من تبوك وقد قال

١٠٢

المنافقون : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) (١) يعني إدخال عز وإخراج نصر إلى مكة ، والأحسن في هذه الأقوال أن تكون على سبيل التمثيل لا التعيين ، ويكون اللفظ كما ذكرناه يتناول جميع الموارد والمصادر.

وقرأ الجمهور : (مُدْخَلَ) و (مُخْرَجَ) بضم ميمهما وهو جار قياسا على أفعل مصدر ، نحو أكرمته مكرما أي إكراما. وقرأ قتادة وأبو حيوة وحميد وإبراهيم بن أبي عبلة بفتحهما. وقال صاحب اللوامح : وهما مصدران من دخل وخرج لكنه جاء من معنى (أَدْخِلْنِي وَأَخْرِجْنِي) المتقدمين دون لفظهما ومثلهما (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (٢) ويجوز أن يكونا اسم المكان وانتصابهما على الظرف ، وقال غيره : منصوبان مصدرين على تقدير فعل أي (أَدْخِلْنِي) فأدخل (مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي) فأخرج (مُخْرَجَ صِدْقٍ).

والسلطان هنا قال الحسن : التسليط على الكافرين بالسيف ، وعلى المنافقين بإقامة الحدود. وقال قتادة : ملكا عزيزا تنصرني به على كل من ناواني. وقال مجاهد : حجة بينة. وقيل : كتابا يحوي الحدود والأحكام. وقيل : فتح مكة. وقيل : في كل عصر (سُلْطاناً) ينصر دينك و (نَصِيراً) مبالغة في ناصر. وقيل : فعيل بمعنى مفعول ، أي منصورا ، وهذه الأقوال كلها محتملة لقوله (سُلْطاناً نَصِيراً) وروي أنه تعالى وعده ذلك وأنجزه له في حياته وتممه بعد وفاته. قال قتادة : و (الْحَقُ) القرآن و (الْباطِلُ) الشيطان. وقال ابن جريج : الجهاد و (الْباطِلُ) الشرك. وقيل : الإيمان والكفر. وقال مقاتل : جاءت عبادة الله وذهبت عبادة الشيطان ، وهذه الآية نزلت بمكة ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستشهد بها يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بمخصرة حسبما ذكر في السير. و (زَهُوقاً) صفة مبالغة في اضمحلاله وعلم ثبوته في وقت ما.

و (مِنَ) في (مِنَ الْقُرْآنِ) لابتداء الغاية. وقيل للتبعيض قاله الحوفي : وأنكر ذلك لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه ورد هذا الإنكار لأن إنزاله إنما هو مبعض. وقيل : لبيان الجنس قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء ، وقد ذكرنا أن من التي لبيان الجنس لا تتقدم على المبهم الذي تبينه وإنما تكون متأخره عنه. وقرأ الجمهور : و (نُنَزِّلُ) بالنون ومجاهد بالياء خفيفة ورواها المروزي عن حفص. وقرأ زيد بن عليّ : شفاء ورحمة بنصبهما

__________________

(١) سورة المنافقون : ٦٣ / ٨.

(٢) سورة نوح : ٧١ / ١٧.

١٠٣

ويتخرج النصب على الحال وخبر هو قوله (لِلْمُؤْمِنِينَ) والعامل فيه ما في الجار والمجرور من الفعل ، ونظيره قراءة من قرأ (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (١) بنصب مطويات. وقول الشاعر :

رهط ابن كوز محقي أدراعهم

فيهم ورهط ربيعة بن حذار

وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف أو المجرور لا يجوز إلّا عند الأخفش ، ومن منع جعله منصوبا على إضمار أعني وشفاؤه كونه مزيلا للريب كاشفا عن غطاء القلب بفهم المعجزات والأمور الدالة على الله المقررة لدينه ، فصار لعلات القلوب كالشفاء لعلات الأجسام. وقيل : شفاء بالرقى والعوذ كما جاء في حديث الذي رقي بالفاتحة من لسعة العقرب. واختلفوا في النشرة وهو أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه ، فأجاز ذلك ابن المسيب ولم يره مجاهد. وعن عائشة : كانت تقرأ بالمعوذتين في إناء ثم تأمر أن يصب على المريض. وقال أبو عبد الله المازني : النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم ، سميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها أي تحل ، ومنعها الحسن والنخعي. وروى أبو داود من حديث جابر أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سئل عن النشرة : «هي من عمل الشيطان». ويحمل ذلك على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله وسنة الرسول ، والنشرة من جنس الطب في غسالة شيء له فضل.

وقال مالك : لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين ، وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين أما بعد نزول البلاء فيجوز رجاء الفرج والبرء والمرض كالرقى المباحة التي وردت السنة بها من العين وغيرها. وقال ابن المسيب : يجوز تعليق العوذة في قصبة أو رقعة من كتاب الله ويضعه عند الجماع وعند الغائط ، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان.

وخسار الظالمين وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه هو بإعراضهم عنه وعدم تدبره بخلاف المؤمن فإنه يزداد بالنظر فيه وتدبر معانيه إيمانا.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٦٧.

١٠٤

وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً).

لما ذكر تعالى تنويع ما أنزل من القرآن شفاء ورحمة للمؤمن وبزيادة خسار للظالم ، عرّض بما أنعم به وما حواه من لطائف الشرائع على الإنسان ، ومع ذلك (أَعْرَضَ) عنه وبعد بجانبه اشمئزازا له وتكبرا عن قرب سماعه وتبديلا مكان شكر الإنعام كفره. وقرأ الجمهور : (وَنَأى) من النأي وهو البعد ، وقرأ ابن عامر وناء. وقيل هو مقلوب نأى فمعناه بعد. وقيل : معناه نهض بجانبه. وقال الشاعر :

حتى إذا ما التأمت مفاصله

وناء في شق الشمال كاهله

أي نهض متوكئا على شماله. ومعنى (يَؤُساً) قنوطا من أن ينعم الله عليه. والظاهر أن المراد بالإنسان هنا ليس واحدا بعينه بل المراد به الجنس كقوله (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (١) (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) (٢) الآية وهو راجع لمعنى الكافر ، والإعراض يكون بالوجه والنأي بالجانب يكون بتولية العطف أو يراد بنأي الجانب الاستكبار لأن ذلك من عادة المستكبرين. والشاكلة قال ابن عباس : ناحيته. وقال مجاهد : طبيعته. وقال الضحاك : حدّته. وقال قتادة والحسن : نيته. وقال ابن زيد : دينه. وقال مقاتل : خلقه وهذه أقوال متقاربة. وقال الزمخشري : على مذهب الذي يشاكل حاله في الهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطرق التي تشعبت منه ، والدليل عليه قوله (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) أي أشد مذهبا وطريقة.

وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه : لم أر في القرآن آية أرجى من التي فيها (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) (٣) قدم الغفران قبل قبول التوبة. وعن عثمان رضي‌الله‌عنه لم أر آية أرجى من (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٤). وعن عليّ كرّم الله وجهه ورضي عنه لم أر آية أرجى من (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (٥) الآية. قالوا ذلك حين تذاكروا القرآن. وعن القرطبي : لم أر آية أرجى من (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) (٦) الآية.

__________________

(١) سورة العاديات : ١٠٠ / ٦.

(٢) سورة المعارج : ٧٠ / ١٩.

(٣) سورة غافر : ٤٠ / ٣.

(٤) سورة الحجر : ١٥ / ٤٩.

(٥) سورة الزمر : ٣٩ / ٥٣.

(٦) سورة الأنعام : ٦ / ٨٢.

١٠٥

وقال أبو عبد الله الرازي : الأرواح والنفوس مختلفة بماهيتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور ، وبعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها من القرآن ضلال ونكال انتهى. وثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود أنه قال : إني مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حرث بالمدينة وهو متكىء على عسيب ، فمر بنا ناس من اليهود فقال : سلوه عن الروح فقال بعضهم : لا تسألوه فسيفتيكم بما تكرهون فأتاه نفر منهم فقالوا : يا أبا القاسم ما تقول في الروح؟ فسكت ثم ماج فأمسكت بيدي على جبهته ، فعرفت أنه ينزل عليه فأنزل عليه (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الآية. وروي أن يهود قالوا لقريش : سلوه عن الروح وعن فتية فقدوا في أول الزمان ، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها فإن أجاب في ذلك كله أو لم يجب في شيء فهو كذاب ، وإن أجاب في بعض ذلك وسكت عن بعض فهو نبي. وفي طرق هذا : إن فسر الثلاثة فهو كذاب وإن سكت عن الروح فهو نبي فنزل في شأن الفتية (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ) (١) ونزل في شأن الذي بلغ الشرق والغرب (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) (٢) ونزل في الروح (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) والظاهر من حديث ابن مسعود أن الآية مدنية ومن سؤال قريش أنها مكية ، والروح على قول الجمهور هنا الروح التي في الحيوان وهو اسم جنس وهو الظاهر. وقال قتادة : هو جبريل عليه‌السلام قال وكان ابن عباس يكتمه. وقيل : عيسى ابن مريم عليه‌السلام وعن عليّ أنه ملك ، وذكر من وصفه ما الله أعلم به ولا يصح عن عليّ.

وقيل : الروح القرآن ويدل عليه الآية قبله والآية بعده. وقيل : خلق عظيم روحاني أعظم من الملك. وقيل : الروح جند من جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام ذكره العزيزي. وقال أبو صالح خلق كخلق آدم وليسوا بني آدم لهم أيد وأرجل ، ولا ينزل ملك من السماء إلّا ومعه واحد منهم ، والصحيح من هذه الأقوال القول الأول ، والظاهر أنهم سألوا عن ماهيتها وحقيقتها وقيل عن كيفية مداخلتها الجسد الحيواني وانبعاثها فيه وصورة ملابستها له ، وكلاهما مشكل لا يعلمه قبل إلّا الله. وقد رأيت كتابا يترجم بكتاب النفخة والتسوية لبعض الفقهاء المتصوفة يذكر فيها أن الجواب في قوله (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) إنما هو للعوام ، وأما الخواص فهم عنده يعرفون الروح ، وأجمع علماء الإسلام على أن الروح مخلوقة ، وذهب كفرة الفلاسفة وكثير ممن ينتمي إلى الإسلام إلى أنها قديمة

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٩.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٣٨.

١٠٦

واختلاف الناس في الروح بلغ إلى سبعين قولا ، وكذلك اختلفوا هل الروح النفس أم شيء غيرها ، ومعنى (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي فعل ربي كونها بأمره ، وفي ذلك دلالة على حدوثها والأمر بمعنى الفعل وارد قال تعالى (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (١) أي فعله ، ويحتمل أن يكون أمرا واحدا الأمور وهو اسم جنس لها أي من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها. وقيل : من وحي ربي ، وكلامه ليس من كلام البشر ويتخرج على قول من قال إن الروح هنا القرآن. وقيل : من علم ربي والظاهر أن الخطاب في (وَما أُوتِيتُمْ) هم الذين سألوا عن الروح وهم طائفة من اليهود. وقيل اليهود بجملتهم. وقيل الناس كلهم.

قال ابن عطية : وهذا هو الصحيح لأن قوله (قُلِ الرُّوحُ) إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ جميع علومهم محصورة وعلمه تعالى لا يتناهى. وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش : وما أوتوا بضمير الغيبة عائدا على السائلين ، ولما ذكر تعالى ما أنعم به من تنزيل القرآن على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شفاء ورحمة وقدرته على ذلك ، ذكر قدرته على أنه لو شاء لذهب بما أوحى ولكنه تعالى لم يشأ ذلك والمعنى أنّا كما نحن قادرون على إنزاله نحن قادرون على إذهابه. وقال أبو سهل : هذا تهديد لغير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإذهاب ما أوتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتوا كعلم الروح وعلم الساعة. وروي لا تقوم الساعة حتى يرتفع القرآن والحديث وفي حديث ابن مسعود يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وبما في القلوب ، ثم قرأ عبد الله (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ). وقال صاحب التحرير : ويحتمل عندي في تأويل الآية وجه غير ما ذكر وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أبطأ عليه الوحي لما سئل عن الروح شق ذلك عليه وبلغ منه الغاية ، فأنزل الله تعالى تهذيبا له هذه الآية. ويكون التقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنّا لو شئنا ذهبنا بما (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) جميعه فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاب قلبه ولزم الأدب انتهى. والباء في (لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي) للتعدية كالهمزة وتقدم الكلام على ذلك في قوله (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) (٢) في أوائل سورة البقرة. والكفيل هنا قيل من يحفظ ما أوحينا إليك. وقيل كفيلا بإعادته إلى الصدور. وقيل كفيلا يضمن لك أن يؤتيك ما أخذ منك. وقال الزمخشري : والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور والمصاحف ولم نترك له أثرا وبقيت كما كنت لا تدري ما الكتاب ثم لا تجد لك بهذا الذهاب من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظا مسطورا (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) إلا أن

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٩٧.

(٢) سورة البقرة : ١٢ / ٢٠.

١٠٧

يرحمك ربك فيرده عليك كان رحمته يتوكل عليه بالرد أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة من ربك نتركه غير مذهوب به ، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة في تنزيله وتحفيظه انتهى. وعلى الاستثناء المنقطع خرجه ابن الأنباري وابن عطية.

قال ابن الأنباري : لكن رحمة من ربك تمنع من أن تسلب القرآن ، وقال في زاد المسير المعنى لكن الله يرحمك فأثبت ذلك في قلبك. وقال ابن عطية : لكن (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) تمسك ذلك عليك وتخريج الزمخشري الأول جعله استثناء متصلا جعل رحمته تعالى مندرجة تحت قوله تعالى (وَكِيلاً).

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً).

لما ذكر تعالى إنعامه على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنبوّة بإنزال وحيه عليه وباهر قدرته بأنه تعالى لو شاء لذهب بالقرآن ، ذكر ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر ، وهو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله ، وأنه من أكبر النعم والفضل الذي أبقى له ذكرا إلى آخر الدهر ورفع له قدرا به في الدنيا والآخرة ، وإذا كان فصحاء اللسان الذي نزل به وبلغاؤهم عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مثله فلأن يكونوا أعجز عن (أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ) جميعه ، ولو تعاون الثقلان عليه (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ) الجنّ تفعل أفعالا مستغربة كما حكى الله عنهم في قصة سليمان عليه‌السلام أدرجوا مع الإنس في التعجيز ليكون ذلك أبلغ في العجز ، ويحتمل أن تكون الملائكة مندرجين تحت لفظ الجن لأنه قد يطلق عليهم هذا الاسم كقوله (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) (١) وإن كان الأكثر استعماله في غير الملائكة من الأشكال الجنية المستترين عن أبصار الإنس ، ويحتمل أن يكون ذكر الجن هنا لأنه عليه‌السلام بعث إلى الإنس والجن فوقع التعجيز للثقلين معا لذلك.

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ١٥٨.

١٠٨

وروي أن جماعة من قريش قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنّا نحن نقدر على المجيء بمثل هذا ، فنزلت و (لا يَأْتُونَ) جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة في (لَئِنِ) وهي الداخلة على الشرط كقوله (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) (١) فالجواب في نحو هذا للقسم المحذوف لا للشرط ، ولذلك جاء مرفوعا. فأما قول الأعشى :

لئن منيت بنا عن غب معركة

لأتلفنا عن دماء القوم ننتفل

فاللام في (لَئِنِ) زائدة وليست موطئة لقسم قبلها. فلذلك جزم في قوله لأتلفنا وقد احتج بهذا ونحوه الفراء في زعمه أنه إذا اجتمع القسم والشرط وتقدم القسم ولم يسبقهما ذو خبر أنه يجوز أن يكون الجواب للقسم وهو الأكثر وللشرط ، ومذهب البصريين يحتم الجواب للقسم خاصة. وذكر ابن عطية هنا فصلا حسنا في ذكر الإعجاز نقلناه بقصته. قال : وفهمت العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودريتها به ما لا نفهمه نحن ولا كل من خالطته حضارة ، ففهموا العجز عنه ضرورة وشاهده وعلمه الناس بعدهم استدلالا ونظرا ولكل حصل علم قطعي لكن ليس في مرتبة واحدة ، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعماله ومشاهده علم ضرورة ، وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر فحصل للجميع القطع لكن في مرتبتين ، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام ، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير وذي الرمّة في قول الفرزدق :

علام تلفتين وأنت تحتي

وفي قول جرير :

تلفت إنها تحت ابن قين

وألا ترى قول الأعرابي : عز فحكم فقطع ، وألا ترى إلى الاستدلال الآخر على البعث بقوله (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) (٢) فقال : إن الزيارة تقتضي الانصراف ، ومنه علم بشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى :

وأنكرتني وما كان الذي نكرت

__________________

(١) سورة الحشر : ٥٩ / ١٢.

(٢) سورة التكاثر : ١٠٢ / ٢.

١٠٩

ومنه قول الأعرابي للأصمعي :

من أحوج الكريم أن يقسم

فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز ، ولجأ النجاد منهم إلى السيف ورضي بالقتل والسباء وكشف الحرم. وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة انتهى. ما اقتصرنا عليه من كلامه وكان قد قدم قبل ذلك قوله والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم ، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلّا الله عزوجل والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص ، فإذا نظم كلمة خفي عنه العلل التي ذكرنا.

وقال الزمخشري : و (لا يَأْتُونَ) جواب قسم محذوف ، ولولا اللام الموطئة لجاز أن تكون جوابا للشرط. كقوله :

يقول لا غائب مالي ولا حرم

لأن الشرط وقع ماضيا انتهى. يعني بالشرط قوله وهو صدر البيت :

وإن أتاه خليل يوم مسأله

فأتاه فعل ماض دخلت عليه أداة الشرط فخلصته للاستقبال ، وأفهم كلام الزمخشري أن يقول : وإن كان مرفوعا هو جواب الشرط الذي هو وإن أتاه ، وهذا الذي ذهب إليه هو مخالف لمذهب سيبويه ولمذهب الكوفيين والمبرد ، لأن مذهب سيبويه في مثل هذا التركيب وهو أن يكون فعل الشرط ماضيا وبعده مضارع مرفوع أن ذلك المضارع هو على نية التقديم وجواب الشرط محذوف ، ومذهب الكوفيين والمبرد أنه هو الجواب لكنه على حذف الفاء ، ومذهب ثالث وهو أنه هو جواب الشرط وهو الذي قال به الزمخشري والكلام على هذه المذاهب مذكور في علم النحو.

وقال الزمخشري : والعجب من المذاهب ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز ، وإنما يكون المعجز حيث تكون القدرة فيقال : الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه ، والمحال الذي لا مجال للقدرة فيه ولا مدخل لها فيه كثاني القديم فلا يقال للفاعل قد عجز عنه ولا هو معجز ، ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال إلّا أن يكابروا فيقولوا : هو قادر على المحال فإن رأس مالهم المكابرة وقلب الحقائق انتهى. وتكرر لفظ مثل في قوله : (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) على سبيل التأكيد

١١٠

والتوضيح ، وأن المراد منهم (أَنْ يَأْتُوا) بمثله إذ قد يراد بمثل الشيء في موضع الشيء نفسه ، فبين بتكرار (بِمِثْلِهِ) ولم يكن التركيب (لا يَأْتُونَ) به رفعا لهذا الاحتمال ، وأن المطلوب منهم أن يأتوا بالمثل لا أن يأتوا بالقرآن.

ولما ذكر تعالى عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن نبه على فضله تعالى بما ردّد فيه وضرب من الأمثال والعبر التي تدل على توحيده تعالى ، ومع كثرة ما ردد من الأمثلة وأسبغ من النعم لم يكونوا إلّا كافرين به وبنعمه. وقرأ الجمهور : (صَرَّفْنا) بتشديد الراء والحسن بتخفيفها ، والظاهر أن مفعول (صَرَّفْنا) محذوف تقديره البينات والعبر و (مِنْ) لابتداء الغاية. وقال ابن عطية : ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة التقدير ولقد (صَرَّفْنا كُلِّ مَثَلٍ) انتهى. يعني فيكون مفعول (صَرَّفْنا كُلِّ مَثَلٍ) وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش لا على مذهب جمهور البصريين ، والظاهر أن المراد بالمثل هو القول الغريب السائر في الآفاق ، والقرآن ملآن من الأمثال التي ضربها الله تعالى.

وقال الزمخشري : (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. وقال أبو عبد الله الرازي : (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) إشارة إلى التحدّي به بالجهات المختلفة كالتحدي بكل القرآن كالذي هنا ، وبسورة مثله وبكلام من سورة كقوله (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) (١) ومع ظهور عجزهم أبوا (إِلَّا كُفُوراً) انتهى ملخصا. وقيل : (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) من الترغيب والترهيب وأنباء الأولين والآخرين وذكر الجنة والنار وأكثر الناس. قيل : من كان في عهد الرسول من المشركين وأهل الكتاب. وقيل : أهل مكة وهو الظاهر بدليل ما أتى بعده من قوله (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) وتقدم القول في دخول (إِلَّا) بعد أبى في سورة براءة. وروي في مقالتهم هذه أخبار مطولة هي في كتب الحديث والسير ملخصها أن صناديد قريش اجتمعوا وسيروا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما جاء إليهم جرت بينهم محاورات في ترك دينهم وطلبه منهم أن يوحدوا ويعبدوا الله فأرغبوه بالمال والرئاسة والملك فأبى ، فقال : «لست أطلب ذلك». فاقترحوا عليه الست الآيات التي ذكرها الله هنا ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تحداهم بأن (يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) فتبين عجزهم عن ذلك وإعجازه ، وانضمت إليه معجزات أخر وبينات واضحة فلزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح آيات فعل الحائر المبهوت المحجوج ، فقالوا ما حكاه الله عنهم.

__________________

(١) سورة الطور : ٥٢ / ٣٤.

١١١

وقرأ الكوفيون : تفجره من فجر مخففا وباقي السبعة من فجر مشددا ، والتضعيف للمبالغة لا للتعدية ، والأعمش وعبد الله بن مسلم بن يسار من أفجر رباعيا وهي لغة في فجر الأرض هنا أرض مكة وهي الأرض التي فيها تصرف العالمين ومعاشهم ، روي عنهم أنهم قالوا له : أزل جبال مكة وفجر لنا (يَنْبُوعاً) حتى يسهل علينا الحرث والزرع وأحي لنا قصيا فإنه كان صدوقا يخبرنا عن صدقك اقترحوا لهم أولا هذه الآية ثم اقترحوا أخرى له عليه‌السلام أن (تَكُونَ) له (جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ) وهما كانا الغالب على بلادهم ، ومن أعظم ما يقتنون ، ومعنى (خِلالَها) أي وسط تلك الجنة وأثناءها. فتسقي ذلك النخل وتلك الكروم وانتصب (خِلالَها) على الظرف.

وقرأ الجمهور : (تُسْقِطَ) بتاء الخطاب مضارع أسقط السماء نصبا ، ومجاهد بياء الغيبة مضارع سقط السماء رفعا ، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي (كِسَفاً) بسكون السين وباقي السبعة بفتحها. وقولهم (كَما زَعَمْتَ) إشارة إلى قوله تعالى (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) (١). وقيل : (كَما زَعَمْتَ) إن ربك إن شاء فعل. وقيل : هو ما في هذه السورة من قوله (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) (٢). قال أبو عليّ (قَبِيلاً) معاينة كقوله (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) (٣). وقال غيره : (قَبِيلاً) كفيلا من تقبله بكذا إذا كفله ، والقبيل والزعيم والكفيل بمعنى واحد. وقال الزمخشري : (قَبِيلاً) كفيلا بما تقول شاهدا لصحته ، والمعنى أو تأتي بالله (قَبِيلاً) والملائكة (قَبِيلاً) كقوله :

كنت منه ووالدي بريا

وإني وقيار بها لغريب

أي مقابلا كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) أو جماعة حالا من الملائكة. وقرأ الأعرج قبلا م المقابلة. وقرأ الجمهور : (مِنْ زُخْرُفٍ) وعبد الله من ذهب ، ولا تحمل على أنها قراءة لمخالفة السواد وإنما هي تفسير. وقال مجاهد : كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله من ذهب. وقال الزّجاج : الزخرف الزينة وتقدم شرح الزخرف. (وَفِي السَّماءِ) على حذف مضاف ، أي في معارج السماء. والظاهر أن (السَّماءِ) هنا هي المظلة. وقيل : المراد إلى مكان عال وكل ما علا وارتفع يسمى سماء وقال الشاعر :

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ٩.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٦٨.

(٣) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢١.

١١٢

وقد يسمى سماء كل مرتفع

وإنما الفضل حيث الشمس والقمر

قيل : وقائل هذه هو ابن أبي أمية قال : لن نؤمن حتى تضع على السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول ، ويحتمل أن يكون مجموع أولئك الصناديد قالوا ذلك وغيوا إيمانهم بحصول واحد من هذه المقترحات ، ويحتمل أن يكون كل واحد اقترح واحدا منها ونسب ذلك للجميع لرضاهم به أو تكون (أَوْ) فيها للتفضيل أي قال كل واحد منهم مقالة مخصوصة منها ، وما اكتفوا بالتغيية بالرقي (فِي السَّماءِ) حتى غيوا ذلك بأن ينزل عليهم (كِتاباً) يقرؤونه ، ولما تضمن اقتراحهم ما هو مستحيل في حق الله تعالى وهو أن يأتي (بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) أمره تعالى بالتسبيح والتنزيه عما لا يليق به ، ومن أن يقترح عليه ما ذكرتم فقال (سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) أي ما كنت إلّا بشرا رسولا أي من الله إليكم لا مقترحا عليه ما ذكرتم من الآيات.

وقال الزمخشري : وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلّا العناد واللجاج ، ولو جاءتهم كل آية لقالوا هذا سحر كما قال عز وعلا (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) (١) وحين أنكروا. الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات ، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم لم يكن انتهى وشق القمر أعظم من شق الأرض ونبع الماء من بين أصابعه أعظم من نبع الماء من الحجر. وقرأ ابن كثير وابن عامر قال (سُبْحانَ رَبِّي) على الخبر تعجب عليه الصلاة والسلام من اقتراحاتهم عليه ، ونزه ربه عما جوزوا عليه من الإتيان والانتقال وذلك في حق الله مستحيل (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً) مثلهم (رَسُولاً) ، والرسل لا تأتي إلّا بما يظهره الله عليهم من الآيات وليس أمرها إليهم إنما ذلك إلى الله.

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ١٤.

١١٣

وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً).

الظاهر أن قوله : (وَما مَنَعَ النَّاسَ) إخبار من الله تعالى عن السبب الضعيف الذي منعهم من الإيمان ، إذ ظهر لهم المعجز وهو استبعاد أن يبعث الله رسولا إلى الخلق واحدا منهم ولم يكن ملكا ، وبعد أن ظهر المعجز فيجب الإقرار والاعتراف برسالته فقولهم : لا بد أن يكون من الملائكة تحكم فاسد ، ويظهر من كلام ابن عطية أن قوله (وَما مَنَعَ النَّاسَ) هو من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال هذه الآية على معنى التوبيخ والتلهف من النبيّ عليه الصلاة والسلام كأنه يقول متعجبا منهم ما شاء الله كان (ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا) هذه العلة النزرة والاستبعاد الذي لا يسند إلى حجة ، وبعثة البشر رسلا غير بدع ولا غريب فيها يقع الإفهام والتمكن من النظر كما لو كان في الأرض ملائكة يسكنونها مطمئنين لكان الرسول إليهم من الملائكة ليقع الإفهام ، وأما البشر فلو بعث إليهم ملك لنفرت طبائعهم من رؤيته ولم تحتمله أبصارهم ولا تجلدت له قلوبهم ، وإنما الله أجرى أحوالهم على معتادها انتهى.

و (أَنْ يُؤْمِنُوا) في موضع نصب و (أَنْ قالُوا) : في موضع رفع ، و (إِذْ) ظرف العامل فيه منع والناس كفار قريش القائلون تلك المقالات السابقة و (الْهُدى) هو القرآن ومن جاء به ، وليس المراد مجرد القول بل قولهم الناشئ عن اعتقاد والهمزة في (أَبَعَثَ) للإنكار و (رَسُولاً) ظاهره أنه نعت ، ويجوز أن يكون (رَسُولاً) مفعول بعث ، و (بَشَراً) حال متقدمة عليه أي (أَبَعَثَ اللهُ) رسولا في حال كونه (بَشَراً) ، وكذلك يجوز في قوله (مَلَكاً رَسُولاً) أي (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ رَسُولاً) في حال كونه (مَلَكاً). وقوله (يَمْشُونَ) يتصرفون فيها بالمشي وليس لهم صعود إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلمون ما يجب علمه ، بل هم مقيمون في الأرض يلزمهم ما يلزم المكلفين من عبادات مخصوصة وأحكام لا يدرك تفصيلها بالعقل ، (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ) من جنسهم من يعلمهم ذلك ويلقيه إليهم.

ولما دعاهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان وتحدى على صدق نبوته بالمعجز الموافق لداعوه ، أمره تعالى أن يعلمهم بأنه تعالى هو الشهيد بينه وبينهم على تبليغه وما قام به من أعباء الرسالة وعدم قبولهم وكفرهم ، وما اقترحوا عليه من الآيات على سبيل العناد ، وأردف ذلك بما فيه

١١٤

تهديد وهو قوله (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً) بخفيات أسرارهم (بَصِيراً) مطلقا على ما يظهر من أفعالهم وأقوالهم. والظاهر أن قوله : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) إخبار من الله تعالى وليس مندرجا تحت (قُلْ) لقوله (وَنَحْشُرُهُمْ) ويحتمل أن يكون مندرجا لمجيء (وَمَنْ) بالواو ، ويكون (وَنَحْشُرُهُمْ) إخبارا من الله تعالى. وعلى القول الأول يكون التفاتا إذ خرج من الغيبة للتكلم ، ولما تقدم دعوة الرسول إلى الإيمان وتحدى بالمعجز الذي آتاه الله ، ولجّوا في كفرهم وعنادهم ولم يجد فيهم ما جاء به من الهدى أخبر بأن ذلك كله راجع إلى مشيئته تعالى وأنه هو الهادي وهو المفضل ، فسلاه تعالى بذلك وأخبر تعالى على سبيل التهديد لهم والوعيد الصدق لحالهم وقت حشرهم يوم القيامة.

وقال الزمخشري : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) ومن يوفقه ويلطف به (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) لأنه لا يلطف إلّا بمن عرف أن اللطف ينفع فيه (وَمَنْ يُضْلِلْ) ومن يخذل (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ) أنصارا انتهى. وهو على طريقة الاعتزال ومن مفعول بيهد وبيضلل ، وحمل على اللفظ في قوله (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) فأفرد ملاحظة لسبيل الهدى وهي واحدة فناسب التوحيد التوحيد ، وحمل على المعنى في قوله (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ) لا على اللفظ ملاحظة لسبيل الضلال فإنها متشعبة متعددة فناسب التشعيب والتعديد الجمع ، وهذا من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى ابتداء من غير أن يتقدّم الحمل على اللفظ وهي قليلة في القرآن ، والظاهر أن قوله (عَلى وُجُوهِهِمْ) حقيقة كما قال تعالى (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) (١) الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم. وفي هذا حديث قيل : يا رسول الله كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال : «أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادرا أن يمشيه في الآخرة على وجهه». قال قتادة : بلى وعزة ربنا. وقيل : (عَلى وُجُوهِهِمْ) مجاز يقال للمنصرف عن أمر خائبا مهموما انصرف على وجهه ، ويقال للبعير كأنما يمشي على وجهه. وقيل : هو مجاز عن سحبهم على وجوههم على سرعة من قول العرب قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا.

والظاهر أن قوله (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) هو حقيقة وذلك عند قيامهم من قبورهم ، ثم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله عنهم. وقيل : هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه

__________________

(١) سورة القمر : ٥٤ / ٤٨.

١١٥

الصفات ، وإما من حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينطقون بحجة. وقال الزمخشري : كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ويتصامّون عن سماعه فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقرّ أعينهم ولا يسمعون ما يلذ أسماعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم ، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى انتهى. وهذا قول ابن عباس والحسن قالا المعنى (عُمْياً) عما يسرهم ، (بُكْماً) عن التكلم بحجة (صُمًّا) عما ينفعهم. وقيل : (عُمْياً) عن النظر إلى ما جعل الله لأوليائه ، (بُكْماً) عن مخاطبة الله ، (صُمًّا) عما مدح الله به أولياءه ، وانتصب (عُمْياً) وما بعده على الحال والعامل فيها (نَحْشُرُهُمْ). وقيل : يحصل لهم ذلك حقيقة عند قوله (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١) فعلى هذا تكون حالا مقدرة لأن ذلك لم يكن مقارنا لهم وقت الحشر.

(كُلَّما خَبَتْ) قال ابن عباس : كلما فرغت من إحراقهم فيسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ثم يثور فتلك زيادة السعير ، فالزيادة في حيزهم ، وأما جهنم فعلى حالها من الشدّة لا يصيبها فتور ، فعلى هذا يكون (خَبَتْ) مجازا عن سكون لهبها مقدار ما تكون إعادتهم كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها ، لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسيرهم على تكذيبهم ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد ، وقد دل على ذلك بقوله (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ) والإشارة بذلك إلى ما تقدم من حشرهم على تلك الحال وصيرورتهم إلى جهنم والعذاب فيها ، والآيات تعم القرآن والحجج التي جاء بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونص على إنكار البعث إذ هو طعن في القدرة الإلهية وهذا مع اعترافهم بأنه تعالى منشىء العالم ومخترعه ، ثم إنهم ينكرون الإعادة فصار ذلك تعجيزا لقدرته.

وتقدم الكلام على قوله (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) في هذه السورة فأغنى عن إعادته ، ولما أنكروا البعث نبههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا) وهو استفهام إنكار وتوبيخ لهم على ما كانوا يستبعدونه من الإعادة ، واحتجاج عليهم بأنهم قدر أو أقدرة الله على خلق هذه الأجرام العظيمة التي بعض ما تحويه البشر ، فكيف يقرون بخلق هذا المخلوق العظيم ثم ينكرون إعادة بعض مما حله وذلك مما لا يحيله العقل بل هو مما يجوزه ، ثم أخبر الصادق بوقوعه فوجب قبوله والرؤية

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٨.

١١٦

هنا رؤية القلب وهي العلم ، ومعنى (مِثْلَهُمْ) من الإنس لأنهم ليسوا أشد خلقا منهن كما قال (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) (١) وإذا كان قادرا على إنشاء أمثالهم من الإنس من العدم الصرف فهو قادر على أن يعيدهم كما قال (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (٢) وهو أهون عليه. وعطف قوله (وَجَعَلَ لَهُمْ) على قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا) لأنه استفهام تضمن التقرير والمعنى قد علموا بدليل العقل كيت وكيت (وَجَعَلَ لَهُمْ) أي للعالمين ذلك (أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) وهو الموت أو القيامة ، وليس هذا الجعل واحدا في الاستفهام المتضمن التقرير ، أو إن كان الأجل القيامة لأنهم منكروها وإذا كان الأجل الموت فهو اسم جنس واقع موقع آجال : (فَأَبَى الظَّالِمُونَ) وهم الواضعون الشيء غير موضعه على سبيل الاعتداء (إِلَّا كُفُوراً) جحودا لما أتى به الصادق من توحيد الله وإفراده بالعبادة ، وبعثهم يوم القيامة للجزاء.

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً).

مناسبة قوله (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ) الآية أن المشركين قالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا. فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم ، فبين تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم ، ولما قدموا على إيصال النفع لأحد ، وعلى هذا فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا هذا ما قيل في ارتباط هذه الآية. وقاله العسكري : والذي يظهر لي أن المناسب هو أنه عليه‌السلام قد منحه الله ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن ، فهو أحرص الناس على إيصال الخير وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله ، ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحا بذلك لا يطلب منهم أجرا ، وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلّا الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه ، فلا يصل منهم إليه إلّا الأذى ، فنبه تعالى بهذه الآية على سماحته عليه‌السلام وبذله ما آتاه الله ، وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه فقال : لو ملكوا التصرف في (خَزائِنَ

__________________

(١) سورة النازعات : ٧٩ / ٢٧.

(٢) سورة الروم : ٣٠ / ٢٧.

١١٧

رَحْمَةِ) الله التي هي وسعت كل شيء كانوا أبخل من كل أحد بما أوتوه من ذلك بحيث لا يصل منهم لأحد شيء من النفع إذ طبيعتهم الإقتار وهو الإمساك عن التوسع في النفقة ، هذا مع ما أوتوه من الخزائن ، فهذه الآية جاءت مبينة تبين ما بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام من حرصه على نفعهم وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه ، والمستقرأ في (لَوْ) التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره أن يليها الفعل إما ماضيا وإما مضارعا. كقوله (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) (١) أو منفيا بلم أو أن وهنا في قوله (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ) وليها الاسم فاختلفوا في تخريجه ، فذهب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء وغيرهم إلى أنه مرفوع بفعل محذوف يفسره الفعل بعده ، ولما حذف ذلك الفعل وهو تملك انفصل الضمير وهو الفاعل بتملك كقوله :

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها

التقدير وإن لم يحمل فحذف لم يحمل وانفصل الضمير المستكن في يحمل فصار هو ، وهنا انفصل الضمير المتصل البارز وهو الواو فصار (أَنْتُمْ) ، وهذا التخريج بناء على أن (لَوْ) يليها الفعل ظاهرا ومضمرا في فصيح الكلام ، وهذا ليس بمذهب البصريين.

قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : لا تلي لو إلّا الفعل ظاهر أو لا يليها مضمرا إلّا في ضرورة أو نادر كلام مثل : ما جاء في المثل من قولهم :

لو ذات سوار لطمتني

وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الصائغ : البصريون يصرحون بامتناع لو زيد قام لأكرمته على الفصيح ، ويجيزونه شاذا كقولهم :

لو ذات سوار لطمتني

وهو عندهم على فعل مضمر كقوله تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) (٢) فهو من باب الاشتغال انتهى. وخرّج ذلك أبو الحسن عليّ بن فضال المجاشعي على إضمار كان ، والتقدير (قُلْ لَوْ) كنتم (أَنْتُمْ) تملكون فظاهر هذا التخريج أنه حذف كنتم برمته وبقي (أَنْتُمْ) توكيدا لذلك الضمير المحذوف مع الفعل ، وذهب شيخنا الأستاذ أبو الحسن الصائغ إلى حذف كان فانفصل اسمها الذي كان متصلا بها ، والتقدير (قُلْ لَوْ)

__________________

(١) سورة الواقعة : ٥٦ / ٦٥.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٦.

١١٨

كنتم (تَمْلِكُونَ) فلما حذف الفعل انفصل المرفوع ، وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد (لَوْ) معهود في لسان العرب ، والرحمة هنا الرزق وسائر نعمه على خلقه.

والكلام على (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ) تقدم نظيره في قوله (إِذاً لَأَذَقْناكَ) (١) و (خَشْيَةَ) مفعول من أجله ، والظاهر أن (الْإِنْفاقِ) على مشهور مدلوله فيكون على حذف مضاف ، أي (خَشْيَةَ) عاقبة (الْإِنْفاقِ) وهو النفاد. وقال أبو عبيدة : أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد ، فيكون المعنى خشية الافتقار. والقتور الممسك البخيل و (الْإِنْسانُ) هنا للجنس.

ولما حكى الله تعالى عن قريش ما حكى من تعنتهم في اقتراحهم وعنادهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلاه تعالى بما جرى لموسى مع فرعون ومع قومه من قولهم (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (٢) إذ قالت قريش (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ) (٣) وقالت (أَوْ نَرى رَبَّنا) (٤) وسكن قلبه ونبه على أن عاقبتهم للدمار والهلاك كما جرى لفرعون إذ أهلكه الله ومن معه. و (تِسْعَ آياتٍ) قال ابن عباس وجماعة من الصحابة : هي اليد البيضاء ، والعصا ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم هذه سبع باتفاق ، وأما الثنتان فعن ابن عباس لسانه كان به عقد فحلها الله ، والبحر الذي فلق له. وعنه أيضا البحر والجبل الذي نتق عليهم. وعنه أيضا السنون ونقص من الثمرات وقاله مجاهد والشعبي وعكرمة وقتادة. وقال الحسن : السنون ونقص الثمرات آية واحدة ، وعن الحسن ووهب البحر والموت أرسل عليهم. وعن ابن جبير الحجر والبحر. وعن محمد بن كعب : البحر والسنون. وقيل : (تِسْعَ آياتٍ) هي من الكتاب ، وذلك أن يهوديا قال لصاحبه : تعال حتى نسأل هذا النبيّ فقال الآخر لا تقل إنه نبيّ فإنه لو سمع كلامك صارت له أربعة أعين ، فأتياه وسألاه عن (تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) فقال : لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله ، ولا تسخروا ، ولا تقذفوا المحصنات ، ولا تفروا من الزحف ، وعليكم خاصة يهود أن لا تعتدوا في السبت ، قال : فقبّلا يده وقالا : نشهد أنك نبيّ فقال : ما منعكما أن تسلما؟ قالا : إن داود دعا الله أن لا يزال في ذريته نبيّ وإنّا نخاف إن أسلمنا تقتلنا اليهود. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.

وقرأ الجمهور : فسل (بَنِي إِسْرائِيلَ) وبنو إسرائيل معاصروه ، وفسل معمول لقول

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٧٥.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٥٣.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٢.

(٤) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢١.

١١٩

محذوف أي فقلنا سل ، والظاهر أنه خطاب للرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره أن يسألهم عما أعلمه به من غيب القصة. ثم قال : (إِذا جاءَهُمْ) يريد آباءهم وأدخلهم في الضمير إذ هم منهم. وقال الزمخشري : سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم ، أو سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك. ويدل عليه قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فسأل (بَنِي إِسْرائِيلَ) على لفظ الماضي بغير همز وهي لغة قريش. وقيل : فسل يا رسول الله المؤمنين من بني إسرائيل وهم عبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات لتزداد يقينا وطمأنينة قلب ، لأن الدلالة إذا تظافرت كان ذلك أقوى وأثبت كقول إبراهيم عليه‌السلام (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (١) انتهى. وهذا القول هو الأول وهو ما أعلمه به من غيب القصة. ولما كان متعلق السؤال محذوفا احتمل هذه التقديرات ، والظاهر أن الأمر بالسؤال لبني إسرائيل هو حقيقة. وقال ابن عطية ما معناه : يحتمل أن يكون السؤال عبارة عن تطلب أخبارهم والنظر في أحوالهم وما في كتبهم. نحو قوله (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) (٢) جعل النظر والتطلب معبرا عنه بالسؤال ، ولذلك قال الحسن : سؤالك إياهم نظرك في القرآن ، والظاهر أن (إِذْ) معمولة لآتينا أي (آتَيْنا) حين جاء أتاهم.

وقال الزمخشري : فإن قلت : بم نعلق (إِذْ جاءَهُمْ)؟ قلت : أما على الوجه الأول فبالقول المحذوف أي فقلنا له سلهم حين جاءهم ، وأما على الآخر فبآتينا أو بإضمار اذكر أو يخبرونك انتهى. ولا يتأتى تعلقه باذكر ولا بيخبرونك لأنه ظرف ماض. وقراءة فسأل مروية عن ابن عباس. قال ابن عباس : كلام محذوف وتقديره فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أي طلبهم لينجيهم من العذاب انتهى. وعلى قراءة فسل يكون التقدير فقلنا له سل (بَنِي إِسْرائِيلَ) أي سل فرعون إطلاق بني إسرائيل. وقال أبو عبد الله الرازي : فسل (بَنِي إِسْرائِيلَ) اعتراض في الكلام والتقدير ، (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) إذ جاء (بَنِي إِسْرائِيلَ) فسلهم وليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم ، بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود صدق ما ذكره الرسول عليه‌السلام ، فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد انتهى. وعلى قراءة فسأل ماضيا وقدره فسأل فرعون (بَنِي إِسْرائِيلَ) يكون المفعول الأول لسأل محذوفا ، والثاني هو (بَنِي إِسْرائِيلَ) وجاز أن يكون من الأعمال لأنه توارد على فرعون سأل وفقال فأعمل ، الثاني على ما هو أرجح.

والظاهر أن قوله (مَسْحُوراً) اسم مفعول أي قد سحرت بكلامك هذا مختل وما

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٠.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٤٥.

١٢٠