البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ (٧١) فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤)

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) : أولياء الله هم الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة. وقد فسر ذلك في قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (١) وعن سعيد بن جبير : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن أولياء الله فقال : «هم الذين يذكرون الله برؤيتهم» يعني السمت والهيئة. وعن ابن عباس : الإخبات والسكينة. وقيل : هم المتحابون في الله. قال ابن عطية : وهذه الآية يعطي ظاهرها أن من آمن واتقى فهو داخل في أولياء الله ، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي ، وإنما نبهنا هذا التنبيه حذرا من مذهب الصوفية وبعض الملحدين في الولي انتهى. وإنما قال : حذرا من مذهب الصوفية ، لأن بعضهم نقل عنه أنّ الولي أفضل من النبي ، وهذا لا يكاد يخطر في قلب مسلم. ولابن العربي الطائي كلام في الولي وفي غيره نعوذ بالله منه. وعن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله» قالوا : يا رسول الله ومن هم؟ قال : «قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام ولا

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٦٣.

٨١

أموال يتعاطونها ، فو الله إنّ وجوههم لتنور ، وإنهم لعلى منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ، ثم قرأ : ألا إن أولياء الله» الآية وتقدم تفسير لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين يحتمل أن يكون منصوبا على الصفة قاله الزمخشري ، أو على البدل قاله ابن عطية ، أو بإضمار أمدح ، ومرفوعا على إضمارهم ، أو على الابتداء ، والخبر لهم البشرى. وأجاز الكوفيون رفعه على موضع أولياء نعتا ، أو بدلا ، وأجيز فيه الخبر بدلا من ضمير عليهم. وفي قوله : وكانوا يتقون ، إشعار بمصاحبتهم للتقوى مدة حياتهم ، فحالهم في المستقبل كحالهم في الماضي. وبشراهم في الحياة الدنيا تظاهرت الروايات عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن» أو «ترى له» فسرها بذلك وقد سئل. وعنه في صحيح مسلم : «لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة» وقال قتادة والضحاك : هي ما يبشر به المؤمن عند موته وهو حي عند المعاينة. وقيل : هي محبة الناس له ، والذكر الحسن. وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس؟ فقال : «تلك عاجل بشرى المؤمن» وعن عطاء : لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة. قال تعالى : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) (١) الآية قال ابن عطية : ويصح أن تكون بشرى الدنيا في القرآن من الآيات المبشرات ، ويقوي ذلك قوله في هذه الآية : لا تبديل لكلمات الله ، وإن كان ذلك كله يعارضه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي الرؤيا» إلا إن قلنا : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى مثالا من البشرى وهي تعم جميع البشر. وبشراهم في الآخرة تلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالنور والكرامة ، وما يرون من بياض وجوههم ، وإعطاء الصحف بأيمانهم ، وما يقرأون منها ، وغير ذلك من البشارات. لا تبديل لكلمات الله ، لا تغيير لأقواله ، ولا خلف في مواعيده كقوله : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) (٢) والظاهر أنّ ذلك إشارة إلى التبشير والبشرى في معناه. قال الزمخشري : وذلك إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين. وقال ابن عطية : إشارة إلى النعيم الذي وقعت به البشرى.

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) : إما أن يكون قولهم أريد به بعض أفراده وهو التكذيب والتهديد وما يتشاورون به في أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون من إطلاق العام وأريد به الخاص. وإما أن

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٣٠.

(٢) سورة ق : ٥٠ / ٢٩.

٨٢

يكون مما حذفت منه الصفة المخصصة أي : قولهم الدال على تكذيبك ومعاندتك ، ثم استأنف بقوله : إنّ العزة لله جميعا أي : لا عزة لهم ولا منعة ، فهم لا يقدرون لك على شيء ولا يؤذونك ، إن الغلبة والقهر لله ، وهو القادر على الانتقام منهم ، فلا يعازه شيء ولا يغالبه. وكأنّ قائلا قال : لم لا يحزنه قولهم وهو مما يحزن؟ فقيل : إنّ العزة لله جميعا ، ليس لهم منها شيء. وقرأ أبو حيوة : أنّ العزة بفتح الهمزة وليس معمولا لقولهم : لأن ذلك لا يحزن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ هو قول حق. وخرجت هذه القراءة على التعليل أي : لا يقع منك حزن لما يقولون ، لأجل أنّ العزة لله جميعا. ووجهت أيضا على أن يكون إنّ العزة بدل من قولهم ولا يظهر هذا التوجيه.

قال الزمخشري : ومن جعله بدلا من قولهم ثم أنكره ، فالمنكر هو تخريجه لا ما أنكره من القرآن. وقال القاضي : فتحها شاذ يقارب الكفر ، وإذا كسرت كان استئنافا ، وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب. وقال ابن قتيبة : لا يجوز فتح إن في هذا الموضع وهو كفر وغلو ، وإنما قال القاضي وابن قتيبة ذلك بناء منهما على أن معمولة لقولهم ، وقد ذكرنا توجيه ذلك على التعليل وهو توجيه صحيح. هو السميع لما يقولون ، العليم لما يريدون.

وفي هذه الآية تأمين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إضرار الكفار ، وأن الله تعالى يديله عليهم وينصره. (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (١) (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) (٢) وقال الأصم : كانوا يتعززون بكثرة خدمهم وأموالهم ، فأخبر أنه قادر على أن يسلب منهم ملك الأشياء ، وأن ينصرك وينقل إليك أموالهم وديارهم انتهى. ولا تضاد بين قوله : إن العزة لله جميعا ، وقوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) لأن عزتهم إنما هي بالله ، فهي كلها لله. (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).

المناسبة ظاهرة في هذه الآية لما ذكر أن العزة له تعالى وهي القهر والغلبة ، ذكر ما يناسب القهر وهو كون المخلوقات ملكا له تعالى ، ومن الأصل فيها أن تكون للعقلاء ، وهنا هي شاملة لهم ولغيرهم على حكم التغليب ، وحيث جيء بما كان تغليبا للكثرة إذ أكثر المخلوقات لا تعقل. وقال الزمخشري : يعني العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان ،

__________________

(١) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢١.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ٥١.

(٣) سورة المنافقون : ٦٣ / ٨.

٨٣

وإنما خصهم ليؤذن أنّ هؤلاء إذا كانوا له في ملكه فهم عبيد كلهم ، لا يصلح أحد منهم للربوبية ، ولا أن يكون شريكا له فيها ، فما دونهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون ندا وشريكا. ويدل على أنّ من اتخذ غيره ربا من ملك أو إنسي فضلا عن صنم أو غير ذلك ، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر. والظاهر أنّ ما نافية ، وشركاء مفعول يتبع ، ومفعول يدعون محذوف لفهم المعنى تقديره : آلهة أو شركاء أي : أنّ الذين جعلوهم آلهة وأشركوهم مع الله في الربوبية ليسوا شركاء حقيقة ، إذ الشركة في الألوهية مستحيلة ، وإن كانوا قد أطلقوا عليهم اسم الشركاء. وجوزوا أن تكون ما استفهامية في موضع نصب بيتبع ، وشركاء منصوب بيدعون أي : وأي شيء يتبع على تحقير المتبع ، كأنه قيل : من يدعو شريكا لله لا يتبع شيئا. وأجاز الزمخشري أن تكون ما موصولة عطفا على من ، والعائد محذوف أي : والذي يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي : وله شركاؤهم. وأجاز غيره أن تكون ما موصولة في موضع رفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : والذي يتبعه المشركون باطل. وقرأ السلمي : تدعون بالتاء على الخطاب. قال ابن عطية : وهي قراءة غير متجهة. وقال الزمخشري : وقرأ علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه تدعون بالتاء ، ووجهه أن يحمل وما يتبع على الاستفهام أي : وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين ، يعني : أنهم يتبعون الله تعالى ويطيعونه ، فما لكم لا تفعلون فعلهم كقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) (١) انتهى. وأنّ نافية أي : ما يتبعون إلا ظنهم أنهم شركاء. ويخرصون : يقدرون. ومن قرأ تدعون بالتاء كان قوله : إن يتبعون التفاتا ، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة. (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) : هذا تنبيه منه تعالى على عظيم قدرته وشمول نعمته لعباده ، فهو المستحق لأن يفرد بالعبادة لتسكنوا فيه مما تقاسون من الحركة والتردّد في طلب المعاش وغيره بالنهار ، وأضاف الإبصار إلى النهار مجازا ، لأن الأبصار تقع فيه كما قال :

ونمت وما ليل المطيّ بنائم

أي : يبصرون فيه مطالب معايشهم. وقال قطرب : يقال أظلم الليل صار ذا ظلمة ، وأضاء النهار وأبصر أي صار ذا ضياء وبصر انتهى. وذكر علة خلق الليل وهي قوله : لتسكنوا فيه ،

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٥٧.

٨٤

وحذفها من النهار ، وذكر وصف النهار وحذفه من الليل ، وكل من المحذوف يدل على مقابله ، والتقدير : جعل الليل مظلما لتسكنوا فيه ، والنهار مبصرا لتتحركوا فيه في مكاسبكم وما تحتاجون إليه بالحركة ، ومعنى تسمعون : سماع معتبر.

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ. قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) : الضمير في قالوا عائد على من نسب إلى الله الولد ، ممن قال الملائكة بنات الله ، أو عزير ابن الله ، أو المسيح ابن الله ، وسبحانه : تنزيه من اتخاذ الولد وتعجب ممن يقول ذلك ، هو الغني علة لنفي الولد ، لأنّ اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه ، والله تعالى غير محتاج إلى شيء ، فالولد منتف عنه ، وكل ما في السموات والأرض ملكه فهو غني عن اتخاذ الولد. وأن نافية ، والسلطان الحجة أي : ما عندكم من حجة بهذا القول. قال الحوفي : وبهذا متعلق بمعنى الاستقرار يعني : الذي تعلق به الظرف. وتبعه الزمخشري فقال : الباء حقها أن تتعلق بقوله : إن عندكم على أن يجعل القول مكانا للسلطان كقولك : ما عندكم بأرضكم نور ، كأنه قيل : إنّ عندكم فيما تقولون سلطان. وقال أبو البقاء : وبهذا متعلق بسلطان أو نعت له ، وأ تقولون استفهام إنكار وتوبيخ لمن اتبع ما لا يعلم ، ويحتج بذلك في إبطال التقليد في أصول الدين ، واستدل بها نفاة القياس وإخبار الآحاد. ولما نفى البرهان عنهم جعلهم غير عالمين ، فدل على أن كل قول لا برهان عليه لقائله فذلك جهل وليس بعلم. والذين يفترون على الله الكذب عام يشمل من نسب إلى الله الولد ، ومن قال في الله وفي صفاته قولا بغير علم وهو داخل في الوعيد بانتفاء الإفلاح ، ولما نفى عنهم الفلاح وكان لهم حظ من إفلاحهم في الدنيا لحظوظ فيها من مال وجاه وغير ذلك قيل : متاع قليل جواب على تقدير سؤال ، أن قائلا قال : كيف لا يفلحون وهم في الدنيا مفلحون بأنواع مما يتلذذون به ، فقيل : ذلك متاع في الدنيا ، أو لهم متاع في الدنيا زائل لا بقاء له ، ثم يلقون الشقاء المؤبد في الآخرة.

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا

٨٥

لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)

لفت عنقه لواها وصرفها. وقال الأزهري : لفت الشيء وفتله لواه ، وهذا من المقلوب انتهى. ومطاوع لفت التفت ، وقيل : انفتل.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) : لما ذكر تعالى الدلائل على وحدانيته ، وذكر ما جرى بين الرسول وبين الكفار ، ذكر قصصا من قصص الأنبياء وما جرى لهم مع قومهم من الخلاف وذلك تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليتأسى بمن قبله من الأنبياء فيخف عليه ما يلقى منهم من التكذيب وقلة الاتباع ، وليعلم المتلوّ عليهم هذا القصص عاقبة من كذب الأنبياء ، وما منح الله نبيه من العلم بهذا القصص وهو لم يطالع كتابا ولا صحب عالما ، وأنها طبق ما أخبر به. فدل ذلك على أن الله أوحاه إليه وأعلمه به ، وأنه نبي لا شك فيه. والضمير في عليهم عائد على أهل مكة الذين تقدم ذكرهم. وكبر معناه عظم مقامي أي : طول مقامي فيكم ، أو قيامي للوعظ. كما يحكى عن عيسى عليه‌السلام أنه كان يعظ الحواريين قائما ليروه وهم قعود ، وكقيام الخطيب ليسمع الناس وليروه ، أو نسب ذلك إلى مقامه والمراد نفسه كما تقول : فعلت كذا

٨٦

لمكان فلان ، وفلان ثقيل الظل تريد لأجل فلان وفلان ثقيل. قال ابن عطية : ولم يقرأ هنا بضم الميم انتهى. وليس كما ذكر ، بل قرأ مقامي بضم الميم أبو مجلز وأبو رجاء وأبو الجوزاء. والمقام الإقامة بالمكان ، والمقام مكان القيام. والتذكير وعظه إياهم وزجرهم عن المعاصي ، وجواب الشرط محذوف تقديره : فافعلوا ما شئتم. وقيل : الجواب فعلى الله توكلت. وفأجمعوا معطوف على الجواب ، وهو لا يظهر لأنه متوكل على الله دائما. وقال الأكثرون : الجواب فأجمعوا ، وفعلى الله توكلت جملة اعتراض بين الشرط وجزائه كقوله :

أما تريني قد نحلت ومن يكن

غرضا لأطراف الأسنة ينحل

فلرب أبلج مثل ثقلك بادن

ضخم على ظهر الجواد مهبل

وقرأ الجمهور : فأجمعوا من أجمع الرجل الشيء عزم عليه ونواه. قال الشاعر :

أجمعوا أمرهم بليل فلما

أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

وقال آخر :

يا ليت شعري والمنى لا تنفع

هل أعذرت يوما وأمري مجمع

وقال أبو قيد السدوسي : أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه. وقال أبو الهيثم : أجمع أمره جعله مجموعا بعد ما كان متفرقا ، قال : وتفرقته أنه يقول مرة أفعل كذا ، ومرة أفعل كذا ، فإذا عزم على أمر واحد قد جعله أي : جعله جميعا ، فهذا هو الأصل في الإجماع ، ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى ، فقيل : أجمعت على الأمر أي عزمت عليه ، والأصل أجمعت الأمر انتهى. وعلى هذه القراءة يكون وشركاءكم عطفا على أمركم على حذف مضاف أي : ك وأمر شركائكم ، أو على أمركم من غير مراعاة محذوف. لأنه يقال أيضا : أجمعت شركائي ، أو منصوبا بإضمار فعل أي : وادعوا شركاءكم ، وذلك بناء على أنه لا يقال أجمعت شركائي يعني في الأكثر ، فيكون نظير قوله :

فعلفتها تبنا وماء باردا

حتى شتت همالة عيناها

في أحد المذهبين أي : وسقيتها ماء باردا ، وكذا هي في مصحف أبي. وادعوا شركاءكم ، وقال أبو علي : وقد تنصب الشركاء بواو مع كما قالوا : جاء البرد والطيالسة. ولم يذكر الزمخشري في نصب ، وشركاءكم غير قول أبي على أنه منصوب بواو مع ، وينبغي أن يكون هذا التخريج على أنه مفعول معه من الفاعل وهو الضمير في أجمعوا لا من المفعول الذي

٨٧

هو أمركم ، وذلك على أشهر الاستعمالين. لأنه يقال : أجمع الشركاء ، ولا يقال جمع الشركاء أمرهم إلا قليلا ، ولا أجمعت الشركاء إلا قليلا. وفي اشتراط صحة جواز العطف فيما يكون مفعولا معه خلاف ، فإذا جعلناه من الفاعل كان أولى. وقرأ الزهري ، والأعمش ، والجحدري ، وأبو رجاء ، والأعرج ، والأصمعي عن نافع ، ويعقوب : بخلاف عنه فاجمعوا بوصل الألف وفتح الميم من جمع ، وشركاءكم عطف على أمركم لأنه يقال : جمعت شركائي ، أو على أنه مفعول معه ، أو على حذف مضاف أي : ذوي الأمر منكم ، فجرى على المضاف إليه ما جرى على المضاف ، لو ثبت قاله أبو علي. وفي كتاب اللوامح : أجمعت الأمر أي جعلته جميعا ، وجمعت الأموال جميعا ، فكان الإجماع في الأحداث والجمع في الأعيان ، وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر. وفي التنزيل : (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) (١) انتهى.

وقرأ أبو عبد الرحمن ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر ، وسلام ، ويعقوب فيما روي عنه : وشركاؤكم بالرفع ، ووجه بأنه عطف على الضمير في فأجمعوا ، وقد وقع الفصل بالمفعول فحسن ، وعلى أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه أي : وشركاؤكم فليجمعوا أمرهم. وقرأت فرقة : وشركائكم بالخفض عطفا على الضمير في أمركم أي : وأمر شركائكم فحذف كقول الآخر :

أكل امرئ تحسبين امرأ

ونار توقد بالليل نارا

أي وكل نار ، فحذف كل لدلالة ما قبله عليه. والمراد بالشركاء الأنداد من دون الله ، أضافهم إليهم إذ هم يجعلونهم شركاء بزعمهم ، وأسند الإجماع إلى الشركاء على وجه التهكم كقوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ) (٢) أو يراد بالشركاء من كان على دينهم وطريقتهم. قال ابن الأنباري : المراد من الأمر هنا وجود كيدهم ومكرهم ، فالتقدير : لا تتركوا من أمركم شيئا إلا أحضرتموه انتهى. وأمره إياهم بإجماع أمرهم دليل على عدم مبالاته بهم ثقة بما وعده ربه من كلاءته وعصمته ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة أي حالكم معي وصحبتكم لي غما وهما أي : ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة ، وحالكم عليكم غمة. والغم والغمة كالكرب والكربة ، قال أبو الهيثم : هو من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم إذا التمس فلم ير. وقال طرفة :

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٦٠.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٩٥.

٨٨

لعمرك ما أمري عليّ بغمة

نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد

وقال الليث : يقال : إنه لفي غمة من أمره إذا لم يتبين له. وقال الزجاج : أمركم ظاهرا مكشوفا ، وحسنه الزمخشري فقال : وقد ذكر القول الأول الذي يراد بالأمر فقال : والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأول. والغمة السترة ، من غمه إذا ستره. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا غمة في فرائض الله تعالى» أي لا تستر ولكن يجاهر بها ، يعني : ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستورا عليكم ، بل مكشوفا مشهورا تجاهرون به انتهى. ومعني اقضوا إلي : أنفذوا قضاءكم نحوي ، ومفعول اقضوا محذوف أي : اقضوا إليّ ذلك الأمر وامضوا ما في أنفسكم ، واقطعوا ما بيني وبينكم. وقرأ السري بن ينعم : ثم أفضوا بالفاء وقطع الألف ، أي : انتهوا إليّ بشركم من أفضى بكذا انتهى إليه. وقيل : معناه أسرعوا. وقيل : من أفضى إذا خرج إلى الفضاء أي : فاصحروا به إليّ وأبرزوه. ومنه قول الشاعر :

أبى الضيم والنعمان تحرق نابه

عليه فأفضى والسيوف معاقله

ولا تنظرون : أي لا تؤخرون ، والنظرة التأخير.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) : أي : فإن دام توليكم عما جئت به إليكم من توحيد الله ورفض آلهتكم فلست أبالي بكم ، لأنّ توليكم لا يضرني في خاصتي ، ولا قطع عني صلة منكم ، إذ ما دعوتكم إليه وذكرتكم به ووعظتكم ، لم أسألكم عليه أجرا ، إنما يثيبني عليه الله تعالى أي : ما نصحتكم إلا لوجه الله تعالى لا لغرض من أغراض الدنيا. ثم أخبر أنه أمره أن يكون من المسلمين من المنقادين لأمر الله الطائعين له ، فكذبوه ، فتموا على تكذيبه ، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان. وفي الفلك متعلق بالاستقرار الذي تعلق به معه ، أو بفنجيناه. وجعلناهم جمع ضمير المفعول على معنى من ، وخلائف يخلفون الفارقين المهلكين. ثم أمر بالنظر في عاقبة المنذرين بالعذاب ، وإلى ما صار إليه حالهم. وفي هذا الإخبار توعد للكفار بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وضرب مثال لهم في أنهم بحال هؤلاء من التكذيب فسيكون حالهم كحالهم في التعذيب. والخطاب في فانظر للسامع لهذه القصة ، وفي ذلك تعظيم لما جرى عليهم ، وتحذير لمن أنذرهم الرسول ، وتسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ

٨٩

مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) : من بعده أي : من بعد نوح رسلا إلى قومهم ، يعني هودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وشعيبا. والبينات : المعجزات ، والبراهين الواضحة المثبتة لما جاءوا به. وجاء النفي مصحوبا بلام الجحود ليدل على أنّ إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع ، والضمير في كذبوا عائد على من عاد عليه ضمير كانوا وهم قوم الرسل. والمعنى : أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية وتكذيب للحق ، فتساوت حالتهم قبل البعثة وبعدها ، كأن لم يبعث إليهم أحد. ومن قبل متعلق بكذبوا أي : من قبل بعثة الرسل. وقيل : المعنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول ، ثم لجوا في الكفر وتمادوا ، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجهم في الكفر وتماديهم. وقال يحيى بن سلام : من قبل معناه من قبل العذاب ، وهذا القول فيه بعد. وقيل : الضمير في كذبوا عائد على قوم نوح أي : فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح ، يعني : أن شنشنتهم واحدة في التكذيب. قال ابن عطية ، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو : أن تكون ما مصدرية ، والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي : من سببه ومن جرائه ، ويؤيد هذا التأويل كذلك نطبع انتهى. والظاهر أنّ ما موصولة ، ولذلك عاد الضمير عليها في قوله : بما كذبوا به. ولو كانت مصدرية بقي الضمير غير عائد على مذكور ، فتحتاج أن يتكلف ما يعود عليه الضمير. وقرأ الجمهور : نطبع بالنون ، والعباس بن الفضل بالياء ، والكاف للتشبيه أي : مثل ذلك الطبع المحكم الذي يمتنع زواله نطبع على قلوب المعتدين المجاوزين طورهم والمبالغين في الكفر.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) أي : من بعد أولئك الرسل بآياتنا وهي المعجزات التي ظهرت على يديه ، ولا يخص قوله : وملائه بالإشراف ، بل هي عامّة لقوم فرعون شريفهم ومشروفهم. فاستكبروا تعاظموا عن قبولها ، وأعظم الكبر أن يتعاظم العبيد عن قبول رسالة ربهم بعد تبينها واستيضاحها ، وباجترامهم الآثام العظيمة استكبروا واجترءوا على ردّها. والحق هو العصا واليد قالوا لحبهم الشهوات : إن هذا لسحر مبين ، وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويها وباطلا ، ولم يقولوا إنّ هذا لسحر مبين إلا عند معاينة العصا وانقلابها ، واليد وخروجها بيضاء ، ولم يتعاطوا إلا مقاومة العصا وهي معجزة موسى الذي وقع فيها عجز المعارض. وقرأ مجاهد ، وابن جبير ،

٩٠

والأعمش : لساحر مبين ، جعل خبر إنّ اسم فاعل لا مصدرا كقراءة الجماعة. ولما كابروا موسى فيما جاء به من الحق أخبروا على جهة الجزم بأنّ ما جاء به سحر مبين فقال لهم موسى : أتقولون؟ مستفهما على جهة الإنكار والتوبيخ ، حيث جعلوا الحق سحرا ، أسحر هذا أي : مثل هذا الحق لا يدعى أنه سحر. وأخبر أنه لا يفلح من كان ساحرا لقوله تعالى : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) (١) والظاهر أن معمول أتقولون محذوف تقديره : ما تقدم ذكره وهو إنّ هذا لسحر ، ويجوز أن يحذف معمول القول للدلالة عليه نحو قول الشاعر :

لنحن الألى قلتم فإني ملتئم

برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا

ومسألة الكتاب متى رأيت ، أو قلت زيدا منطلقا. وقيل : معمول أتقولون هو أسحر هذا إلى آخره ، كأنهم قالوا : أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ، ولا يفلح الساحرون. كما قال موسى للسحرة : ما جئتم به السحر إن الله سيبطله. والذين قالوا : بأن الجملة وأن الاستفهام هي محكية لقول اختلفوا فقال بعضهم : قالوا ذلك على سبيل التعظيم للسحر الذي رأوه بزعمهم ، كما تقول لفرس تراه يجيد الجري : أفرس هذا على سبيل التعجيب والاستغراب ، وأنت قد علمت أنه فرس ، فهو استفهام معناه التعجيب والتعظيم. وقال بعضهم : قال ذلك منهم كل جاهل بالأمر ، فهو يسأل أهو سحر؟ لقول بعضهم : إن هذا لسحر. وأجاز الزمخشري أن يكون معنى قوله : أتقولون للحق ، أتعيبونه وتطعنون فيه ، فكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه ، قال : من قولهم فلان يخاف القالة ، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوء ، ونحو القول الذكر في قوله : سمعنا فتى يذكرهم ثم قال أسحر هذا فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه.

(قالُوا : أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ. وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ. فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) : أجئتنا خطاب لموسى وحده ، لأنه هو الذي ظهرت على يديه معجزة العصا واليد. لتصرفنا وتلوينا عن ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة غير الله ، واتخاذ إله دونه. والكبرياء مصدر. قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وأكثر المتأولين : المراد به هنا الملك ، إذ الملوك موصوفون بالكبر ،

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٦٩.

٩١

ولذلك قيل للملك الجبار ، ووصف بالصد والشرس. وقال ابن الرقيات في مصعب بن الزبير :

ملكه ملك رأفة ليس فيه

جبروت منه ولا كبرياء

يعني ما عليه الملوك من ذلك. وقال ابن الرقاع :

سؤدد غير فاحش لا يداني

ه تجبارة ولا كبرياء

وقال الأعمش : الكبرياء العظمة. وقال ابن زيد : العلو. وقال الضحاك أيضا : الطاعة ، والأرض هنا أرض مصر. وقرأ ابن مسعود ، وإسماعيل ، والحسن فيما زعم خارجة ، وأبو عمرو ، وعاصم : بخلاف عنهما ، وتكون بالتاء لمجاز تأنيث الكبرياء ، والجمهور بالياء لمراعاة اللفظ ، والمعنى : أنهم قالوا مقصودك في ذكره إلينا بما جئت ، هو أن ننتقل من دين آبائنا إلى ما تأمر به ونطيعك ، ويكون لكما العلو والملك علينا بطاعتنا لك ، فنصير أتباعا لك تاركين دين آبائنا ، وهذا مقصود لا نراه ، فلا نصدقك فيما جئت به إذ غرضك إنما هو موافقتك على ما أنت عليه ، واستعلاؤك علينا. فالسبب الأول هو التقليد ، والثاني الجد في الرئاسة حتى لا تكونوا تبعا. واقتضى هذان السببان اللذان توهموهما مقصودا التصريح بانتفاء الإيمان الذي هو سبب لحصول السببين. ويجوز أن يقصدوا الذم بأنهما إن ملكا أرض مصر تكبر وتجبرا كما قال القبطي : إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض. ولما ادعوا أنّ ما جاء به موسى هو سحر ، أخذوا في معارضته بأنواع من السحر ، ليظهر لسائر الناس أنّ ما أتى به موسى من باب السحر. والمخاطب بقوله : ائتوني ، خدمة فرعون والمتصرفون بين يديه. وقرأ ابن مصرف ، وابن وثاب ، وعيسى ، وحمزة ، والكسائي : بكل سحار على المبالغة. وفي قوله : ألقوا ما أنتم ملقون ، استطالة عليهم وعدم مبالاة بهم. وفي إبهام ما أنتم ملقون ، تخسيس له وتقليل ، وإعلام أنه لا شيء يلتفت إليه. قال أبو عبد الله الرازي : كيف أمرهم ، فالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر؟ قلنا : إنه عليه الصلاة والسلام أمرهم بإلقاء الحبال والعصى ليظهر للخلق أن ما ألقوا عمل فاسد وسعى باطل ، لا على طريق أنه عليه‌السلام أمرهم بالسحر انتهى. وقرأ أبو عمرو ، ومجاهد وأصحابه ، وابن القعقاع : بهمزة الاستفهام في قوله : آلسحر ممدودة ، وباقي السبعة والجمهور بهمزة الوصل ، فعلى الاستفهام قالوا : يجوز أن تكون ما استفهامية مبتدأ ، والسحر بدل منها. وأن تكون منصوبة بمضمر تفسيره جئتم به ، والسحر خبر مبتدأ

٩٢

محذوف. ويجوز عندي في هذا الوجه أن تكون ما موصولة مبتدأة ، وجملة الاستفهام خبر ، إذ التقدير : أهو السحر ، أو السحر هو ، فهو الرابط كما تقول : الذي جاءك أزيد هو؟ وعلى همزة الوصل جاز أن تكون ما موصولة مبتدأة ، والخبر السحر ، ويدل عليه قراءة عبد الله والأعمش : سحر. وقراءة أبيّ ما أتيتم به سحر. ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، أو في موضع نصب على الاشتغال ، وهو استفهام على سبيل التحقير والتعليل لما جاءوا به ، والسحر خبر مبتدأ محذوف أي : هو السحر. قال ابن عطية : والتعريف هنا في السحر ارتب ، لأنه قد تقدم منكرا في قولهم : إن هذا لسحر ، فجاء هنا بلام العهد كما يقال : أول الرسالة سلام عليك ، وفي آخرها والسلام عليك انتهى. وهذا أخذه من الفراء. قال الفراء : وإنما قال السحر بالألف واللام ، لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت بالألف واللام ، ولو قال له من رجل لم يقع في وهمه أنه يسأله عن الرجل الذي ذكره له انتهى. وما ذكره هنا في السحر ليس هو من باب تقدم النكرة ، ثم أخبر عنها بعد ذلك ، لأن شرط هذا أن يكون المعرّف بالألف واللام هو النكرة المتقدم ، ولا يكون غيره كما قال تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) (١) وتقول : زارني رجل فأكرمت الرجل ، ولما كان إياه جاز أن يأتي بالضمير بدله فتقول : فأكرمته. والسحر هنا ليس هو السحر الذي هو في قولهم : إن هذا لسحر ، لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحر هو ما ظهر على يدي موسى عليه‌السلام من معجزة العصا ، والسحر الذي في قول موسى إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به ، فقد اختلف المدلولان وقالوا هم عن معجزة موسى وقال موسى عما جاؤوا به ، ولذلك لا يجوز أن يأتي هنا بالضمير بدل السحر ، فيكون عائدا على قولهم سحر. والظاهر أنّ الجمل بعده من كلام موسى عليه‌السلام. وسيبطله يمحقه ، بحيث يذهب أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة. وقيل : هذه الجمل من كلام الله تعالى. ومعنى بكلماته ، بقضاياه السابقة في وعده. وقال ابن سلام : بكلماته بقوله : (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) (٢) وقيل بكلماته بحججه وبراهينه وقرىء بكلمته على التوحيد أي بأمره ومشيئته.

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ. وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ. فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَنَجِّنا

__________________

(١) سورة المزمل : ٧٣ / ١٥ ـ ١٦.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ٦٨.

٩٣

بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) : الظاهر في الفاء من حيث أنّ مدلولها التعقيب أن هذا الإيمان الصادر من الذرية لم يتأخر عن قصة الإلقاء. والظاهر أن الضمير في قومه عائد على موسى ، وأنه لا يعود على فرعون ، لأنّ موسى هو المحدث عنه في هذه الآية ، وهو أقرب مذكور. ولأنه لو كان عائدا على فرعون لم يظهر لفظ فرعون ، وكان التركيب على خوف منه. ومن ملإهم أن يفتنهم ، وهذا الإيمان من الذرية كان أول مبعثه إذ قد آمن به بنو إسرائيل قومه كلهم ، كان أولا دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون ، واجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف. وقال مجاهد والأعمش : معنى الآية أنّ قوما أدركهم موسى ولم يؤمنوا ، وإنما آمن ذراريهم بعد هلاكهم لطول الزمن. قال ابن عطية : وهذا قول غير صحيح ، إذا آمن قوم بعد موت آبائهم ، فلا معنى لتخصيصهم باسم الذرية. وأيضا فما روي من أخبار بني إسرائيل لا يعطي هذا ، وينفيه قوله : فما آمن ، لأنه يعطي تقليل المؤمنين به ، لأنه نفى الإيمان ثم أوجبه لبعضهم ، ولو كان الأكثر مؤمنا لأوجب الإيمان أولا ثم نفاه عن الأقل ، وعلى هذا الوجه يتخرج قول ابن عباس في الذرية : إنه القليل ، إلا أنه أراد أنّ لفظ الذرية بمعنى القليل كما ظن مكيّ وغيره. وقالت فرقة : إنما سماهم ذرية لأنّ أمهاتهم كانت من بني إسرائيل ، وإماؤهم من القبط ، رواه عكرمة عن ابن عباس : فكان يقال لهم الذرية كما قيل لفرس اليمن الأبناء ، وهم الفرس المنتقلون مع وهوز بسعاية سيف بن ذي يزن. وممن ذهب إلى أن الضمير في قومه على موسى : ابن عباس قال : وكانوا ستمائة ألف ، وذلك أن يعقوب عليه‌السلام دخل مصر في اثنين وسبعين نفسا ، فتوالدوا بمصر حتى صاروا ستمائة ألف. وقيل : الضمير في قومه يعود على فرعون ، روي أنه آمنت زوجة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وشباب من قومه. قال ابن عباس أيضا : والسحرة أيضا ، فإنهم معدودون في قوم فرعون. وقال السدي : كانوا سبعين أهل بيت من قوم فرعون. قال ابن عطية : ومما يضعف عود الضمير على موسى عليه‌السلام أنّ المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قوما قد فشت فيهم السوآت ، وكانوا في مدة فرعون قد نالهم ذل مفرط ، وقد رجوا كشفه على يد مولود يخرج فيهم يكون نبيا ، فلما جاءهم موسى عليه‌السلام أصفقوا عليه وبايعوه ، ولم يحفظ قط أن طائفة من بني إسرائيل كفرت به ، فكيف تعطى هذه الآية أنّ الأقل منهم كان الذي آمن ، فالذي يترجح بحسب هذا أنّ الضمير عائد على فرعون. ويؤيد ذلك أيضا ما تقدم من محاورة موسى ورده عليهم ، وتوبيخهم على قولهم هذا سحر ، فذكر الله ذلك عنهم ثم قال : فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون الذي هذه أقوالهم. وتكون القصة

٩٤

على هذا التأويل بعد ظهور الآية والتعجيز بالعصا ، وتكون الفاء مرتبة للمعاني التي عطفت انتهى. ويمكن أن يكون معنى فما آمن أي : ما أظهر إيمانه وأعلن به إلا ذرية من قوم موسى ، فلا يدل ذلك على أنّ طائفة من بني إسرائيل كفرت به. والظاهر عود الضمير في قوله : وملاهم ، على الذرية وقاله الأخفش ، واختاره الطبري أي : أخوف بني إسرائيل الذرية وهم أشراف بني إسرائيل إن كان الضمير في قومه عائدا على موسى ، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون على أنفسهم. ويدل عليه قوله تعالى : أن يفتنهم أي يعذبهم. وقال ابن عباس : أن يقتلهم. وقيل : يعود على قومه أي : وملا قوم موسى ، أو قوم فرعون. وقيل : يعود على المضاف المحذوف تقديره : على خوف من آل فرعون ، قاله الفراء. كما حذف في ، (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١) ورد عليه بأنّ الخوف يمكن من فرعون ، ولا يمكن سؤال القرية ، فلا يحذف إلا ما دل عليه الدليل. وقد يقال : ويدل على هذا المحذوف جمع الضمير في وملاهم. وقيل : ثم معطوف محذوف يدل عليه كون الملك لا يكون وحده ، بل له حاشية وأجناد ، وكأنه قيل : على خوف من فرعون وقومه وملاهم أي : ملا فرعون وقومه ، وقاله الفراء أيضا : وقيل : لما كان ملكا جبارا أخبر عنه بفعل الجميع. وقيل : سميت الجماعة بفرعون مثل هود. وأن يفتنهم بدل من فرعون بدل اشتمال أي : فتنته ، فكون في موضع جر ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بخوف إما على التعليل ، وإما على أنه في موضع المفعول به ، أي : على خوف لأجل فتنته ، أو على خوف فتنته. وقرأ الحسن وجراح ونبيح : يفتنهم بضم الياء من أفتن ، ولعال متجر أو باغ ظالم ، أو متعال أو قاهر كما قال :

فاعمد لما تعلو فما لك بالذي

لا تستطيع من الأمور يدان

أي لما تقهر أقوال متقاربة ، وإسرافه كونه كثير القتل والتعذيب. وقيل : كونه من أخس العبيد فادعى الإلهية ، وهذا الإخبار مبين سبب خوف أولئك المؤمنين منه.

وفي الآية مسلاة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقلة من آمن لموسى ومن استجاب له مع ظهور ذلك المعجز الباهر ، ولم يؤمن له إلا ذرية من قومه ، وخطاب موسى عليه‌السلام لمن آمن بقوله : يا قوم ، دليل على أن المؤمنين الذرية كانوا من قومه ، وخاطبهم بذلك حين اشتد خوفهم مما توعدهم به فرعون من قتل الآباء وذبح الذرية. وقيل : قال لهم ذلك حين قالوا إنا

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٨٢.

٩٥

لمدركون. وقيل : حين قالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ، قيل : والأول هو الصواب ، لأنّ جواب كل من القولين مذكور بعده وهو : (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) (١) وقوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) (٢) الآية وعلق توكلهم على شرطين : متقدم ، ومتأخر. ومتى كان الشرطان لا يترتبان في الوجود فالشرط الثاني شرط في الأول ، فمن حيث هو شرط فيه يجب أن يكون متقدما عليه. فالإسلام هو الانقياد للتكاليف الصادرة من الله ، وإظهار الخضوع وترك التمرّد ، والإيمان عرفان القلب بالله تعالى ووحدانيته وسائر صفاته ، وأنّ ما سواه محدث تحت قهره وتدبيره. وإذا حصل هذان الشرطان فوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى ، واعتمد عليه في كل الأحوال. وأدخل أن على فعلي الشرط وإن كانت في الأغلب إنما تدخل على غير المحقق مع علمه بإيمانهم على وجه إقامة الحجة وتنبيه الأنفس وإثارة الأنفة ، كما تقول : إن كنت رجلا فقاتل ، تخاطب بذلك رجلا تريد إقامة البينة. وطول ابن عطية هنا في مسألة التوكل بما يوقف عليه في كتابه. وأجابوا موسى عليه‌السلام بما أمرهم به من التوكل على الله لأنهم كانوا مخلصين في إيمانهم وإسلامهم ، ثم سألوا الله تعالى شيئين : أحدهما : أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين. قال الزمخشري : أي موضع فتنة لهم ، أي عذاب تعذبوننا أو تفتنوننا عن ديننا ، أو فتنة لهم يفتنون بها ويقولون : لو كان هؤلاء على الحق ما أصيبوا. وقال مجاهد وأبو مجلز وأبو الضحى وغيرهم : معنى القول الآخر قال : المعنى لا ينزل بنا ملأنا بأيديهم أو بغير ذلك مدة محاربتنا لهم فيفتنون ويعتقدون أن هلاكنا إنما هو بقصد منك لسوء ديننا وصلاح دينهم وأنهم أهل الحق. وقالت فرقة : المعنى لا نفتنهم ونبتليهم بقتلنا وإذايتنا فتعذبهم على ذلك في الآخرة. قال ابن عطية : وفي هذا التأويل قلق. وقال ابن الكلبي : لا تجعلنا فتنة بتقتير الرزق علينا وبسطه لهم. والآخر : ينجيهم من الكافرين أي : من تسخيرهم واستعبادهم. والذي يظهر أنهم سألوا الله تعالى أن لا يفتنوا عن دينهم ، وأن يخلصوا من الكفار ، فقدموا ما كان عندهم أهم وهو سلامة دينهم لهم ، وأخروا سلامة أنفسهم ، إذ الاهتمام بمصالح الدين آكد من الاهتمام بمصالح الأبدان.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) : لم يصرح باسم أخيه لأنه قد تقدّم أولا في قوله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ) (٣) وتبوآ اتخذا مباءة أي مرجعا للعبادة والصلاة كما تقول : توطن

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٦٢.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٢٩.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ٧٥.

٩٦

اتخذ موطنا ، والظاهر اتخاذ البيوت بمصر. قال الضحاك : وهي مصر المحروسة ، ومصر من البحر إلى أسوان ، والاسكندرية من أرض مصر. وقال مجاهد : هي الاسكندرية ، وكان فرعون قد استولى على بني إسرائيل خرب مساجدهم ومواضع عباداتهم ، ومنعهم من الصلوات ، وكلفهم الأعمال الشاقة. وكانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم ، فيردوهم ويفتنوهم عن دينهم ، كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام. وقرأ حفص في رواية هبيرة : تبويا بالياء ، وهذا تسهيل غير قياسي ، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف ، والظاهر أنّ المأمور بأن يجعل قبلة هي المأمور بتبوئها. ومعنى قبلة مساجد : أمروا بأن يتخذوا بيوتهم مساجد قاله : النخعي ، وابن زيد ، وروي عن ابن عباس. وعن ابن عباس أيضا : واجعلوا بيوتكم قبل القبلة ، وعنه أيضا : قبل مكة. وقال مجاهد وقتادة ومقاتل والفراء : أمروا بأن يجعلوها مستقبلة الكعبة. وعن ابن عباس أيضا وابن جبير : قبلة يقابل بعضها بعضا. وأقيموا الصلاة وهذا قبل نزول التوراة ، لأنها لم تنزل إلا بعد إجارة البحر. وبشر المؤمنين يعني : بالنصر في الدنيا وبالجنة في الآخرة ، وهو أمر لموسى عليه‌السلام أن يتبوآ لقومهما ويختاراها للعبادة ، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء. ثم نسق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ، لأن ذلك واجب على الجمهور ، ثم خص موسى عليه‌السلام بالتبشير الذي هو الغرض تعظيما له وللمبشر به.

وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ

٩٧

الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)

٩٨

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) : لما بالغ موسى عليه‌السلام في إظهار المعجزات وهم مصرون على العناد واشتد أذاهم عليه وعلى من آمن معه ، وهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفرا ، وعلى الإنذار إلا استكبارا. أو علم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال ، أو علم ذلك بوحي من الله تعالى ، دعا الله تعالى عليهم بما علم أنه لا يكون غيره كما تقول : لعن الله إبليس وأخزى الكفرة. كما دعا نوح على قومه حين أوحى إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (١) وقدم بين يدي الدعاء ما آتاهم الله من النعمة في الدنيا وكان ذلك سببا للإيمان به ولشكر نعمه ، فجعلوا ذلك سببا لجحوده ولكفر نعمه. والزينة عبارة عما يتزين به ويتحسن من الملبوس والمركوب والأثاث والمال ، ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق. قال المؤرخون والمفسرون : كان لهم فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والياقوت. وفي تكرار ربنا توكيد للدعاء والاستغاثة ، واللام في ليضلوا الظاهر أنها لام كي على معنى : آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج ، فكان الإتيان لكي يضلوا. ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة كقوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٢) وكما قال الشاعر :

وللمنايا تربي كل مرضعة

وللخراب يجد الناس عمرانا

وقال الحسن : هو دعاء عليهم ، وبهذا بدأ الزمخشري قال : كأنه قال ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال ، وليكونوا ضلالا ، وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا. ويبعد أن يكون دعاء قراءة من قرأ ليضلوا بضم الياء ، إذ يبعد أن يدعو بأن يكونوا مضلين غيرهم ، وهي قراءة الكوفيين ، وقتادة والأعمش ، وعيسى ، والحسن ، والأعرج بخلاف عنهما. وقرأ الحرميان ، والعربيان ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وأهل مكة : بفتحها. وقرأ الشعبي بكسرها ، والى بين الكسرات الثلاث. وقيل : لا محذوفة ، التقدير لئلا يضلوا عن سبيلك قاله : أبو علي الجبائي. وقرأ أبو الفضل الرقاشي : أإنك آتيت على الاستفهام. ولما تقدم ذكر الأموال وهي أعز ما ادخر دعا بالطموس عليها وهي التعفية

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٣٦.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٨.

٩٩

والتغيير أو الإهلاك. قال ابن عباس ، ومحمد بن كعب : صارت دراهمهم حجارة منقوشة صحاحا وأثلاثا وأنصافا ، ولم يبق لهم معدن إلا طمس الله عليه فلم ينتفع بها أحد بعد. وقال قتادة : بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة. وقال مجاهد وعطية : أهلكها حتى لا ترى. وقال ابن زيد : أرض دنانيرهم ودراهمهم وفرشهم وكل شيء لهم حجارة. قال محمد بن كعب : سألني عمر بن عبد العزيز فذكرت ذلك له ، فدعا بخريطة أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير ، وأنها الحجارة. وقال قتادة ، والضحاك ، وأبو صالح ، والقرطبي : جعل سكرهم حجارة. وقال السدي : مسخ الله الثمار والنخل والأطعمة حجارة. وقال شيخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان المقدسي عرف بابن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير في هذا الكتاب : أخبرني جماعة من الصالحين كان شغلهم السياحة أنهم عاينوا بجبال مصر وبراريها حجارة على هيئة الدنانير والدراهم ، وفيها آثار النقش ، وعلى هيئة الفلوس ، وعلى هيئة البطيخ العبد لاويّ ، وهيئة البطيخ الأخضر ، وعلى هيئة الخيار ، وعلى هيئة القثاء ، وحجارة مطولة رقيقة معوجة على هيئة النقوش ، وربما رأوا على صورة الشجر. واشدد على قلوبهم : وقال ابن عباس ومقاتل والفراء والزجاج اطبع عليها وأمنعها من الإيمان. وقال ابن عباس أيضا والضحاك : أهلكهم كفارا. وقال مجاهد : اشدد عليها بالضلالة. وقال ابن قتيبة : قس قلوبهم. وقال ابن بحر : اشدد عليها بالموت. وقال الكرماني : أي لا يجدوا سلوا عن أموالهم ، ولا صبرا على ذهابها. وقرأ الشعبي وفرقة : اطمس بضم الميم ، وهي لغة مشهورة. فلا يؤمنوا مجزوم على أنه دعاء عند الكسائي والفراء ، كما قال الأعشى :

فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى

ولا تلفينّ إلا وأنفك راغم

ومنصوب على أنه جواب اشدد بدأ به الزمخشري ، ومعطوف على ليضلوا على أنه منصوب قاله : الأخفش وغيره. وما بينهما اعتراض ، أو على أنه مجزوم على قول من قال : إن لام ليضلوا لام الدعاء ، وكان رؤية العذاب غاية ونهاية ، لأن الإيمان إذ ذاك لا ينفع ولا تخرج من الكفر ، وكان العذاب الأليم غرقهم. وقال ابن عباس : قال محمد بن كعب : كان موسى يدعو وهارون يؤمن ، فنسبت الدعوة إليهما. ويمكن أن يكونا دعوا ، ويبعد قول من قال : كنى عن الواحد بلفظ التثنية ، لأن الآية تضمنت بعد مخاطبتهما في غير شيء. وروي عن ابن جريج ، ومحمد بن علي ، والضحاك : أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة ، وأعلما أن دعاءهما صادف مقدورا ، وهذا معنى إجابة الدعاء. وقيل لهما : لا تتبعان سبيل

١٠٠