البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

أنفسهم ، ولكن قلدوا الآباء عاندوا. قال ابن عطية : قال الزجاج : كيف ، في موضع نصب على خبر كان ، لا يجوز أن يعمل فيه انظر ، لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه ، هذا قانون النحويين لأنهم عاملوا كيف في كل مكان معاملة الاستفهام المحض. في قولك : كيف زيد؟ ولكيف تصرفات غير هذا تحل محل المصدر الذي هو كيفية ، وينخلع معنى الاستفهام ، ويحتمل هذا الموضع أن يكون منها ومن تصرفاتها قولهم : كن كيف شئت ، وانظر قول البخاري : كيف كان بدء الوحي ، فإنه لم يستقم انتهى. وقول الزجاج : لا يجوز أن يعمل فيه انظر ، وتعليله : يريد لا يجوز أن تعمل فيه انظر لفظا ، لكنّ الجملة في موضع نصب لا نظر معلقة ، وهي من نظر القلب. وقول ابن عطية : هذا قانون النحويين إلى آخر تعليله ، ليس كما ذكر ، بل لكيف معنيان : أحدهما : الاستفهام المحض ، وهو سؤال عن الهيئة ، إلا أن تعلق عنها العامل فمعناها معنى الأسماء التي يستفهم بها إذا علق عنها العامل. والثاني : الشرط. لقول العرب : كيف تكون أكون وقوله : ولكيف تصرفات إلى آخره ، ليس كيف تحل محل المصدر ، ولا لفظ كيفية هو مصدر ، إنما ذلك نسبة إلى كيف. وقوله : ويحتمل أن يكون هذا الموضع منها ومن تصرفاتها قولهم : كن كيف شئت ، لا يحتمل أن يكون منها ، لأنه لم يثبت لها المعنى الذي ذكر من كون كيف بمعنى كيفية وادعاء مصدر كيفية. وأما كن كيف شئت ، فكيف ليست بمعنى كيفية ، وإنما هي شرطية وهو المعنى الثاني الذي لها. وجوابها محذوف التقدير : كيف شئت فكن ، كما تقول : قم متى شئت ، فمتى اسم شرط ظرف لا يعمل فيه قم ، والجواب محذوف تقديره : متى شئت فقم ، وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه كقولهم : اضرب زيدا إن أساء إليك ، التقدير : إن أساء إليك فاضربه ، وحذف فاضربه لدلالة اضرب المتقدم عليه. وأما قول البخاري : كيف كان بدء الوحي؟ فهو استفهام محض ، إما على سبيل الحكاية كأنّ قائلا سأله فقال : كيف كان بدء الوحي؟ فأجاب بالحديث الذي فيه كيفية ذلك. والظالمين : الظاهر أنه أريد به الذين من قبلهم ، ويحتمل أن يراد به من عاد عليه ضمير بل كذبوا.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) : الظاهر أنه إخبار بأنّ من كفار قريش من سيؤمن به وهو من سبقت له السعادة ، ومنهم من لا يؤمن به فيوافى على الكفر. وقيل : هو تقسيم في الكفار الباقين على كفرهم ، فمنهم من يؤمن به باطنا ويعلم أنه حق ولكنه كذب عنادا ، ومنهم من لا يؤمن به لا باطنا ولا ظاهرا ، إما لسرعة تكذيبه وكونه لم يتدبره ، وإما لكونه نظر فيه فعارضته الشبهات وليس عنده من الفهم ما

٦١

يدفعها. وفيه تفريق كلمة الكفار ، وأنهم ليسوا مستوين في اعتقاداتهم ، بل هم مضطربون وإن شملهم التكذيب والكفر. وقيل : الضمير في ومنهم عائد على أهل الكتاب ، والظاهر عوده على من عاد عليه ضمير أم يقولون ، وتعلق العلم بالمفسدين وحدهم تهديد عظيم لهم.

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) : أي وإن تمادوا على تكذيبك فتبرأ منهم قد أعذرت وبلغت كقوله : (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (١) ومعنى لي عملي أي : جزاء عملي ولكم جزاء عملكم. ومعنى عملي الصالح المشتمل على الإيمان والطاعة ، ولكم عملكم المشتمل على الشرك والعصيان. والظاهر أنها آية منابذة لهم وموادعة ، وضمنها الوعيد كقوله : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (٢) السورة. وقيل : المقصود بذلك استمالتهم وتأليف قلوبهم. وقال قوم منهم ابن زيد : هي منسوخة بالقتال لأنها مكية ، وهو قول : مجاهد ، والكلبي ، ومقاتل. وقال المحققون : ليست بمنسوخة ، ومدلولها اختصاص كل واحد بأفعاله ، وثمراتها من الثواب والعقاب ، ولم ترفع آية السيف شيئا من هذا. وبدأ في المأمور بقوله : لي عملي لأنه آكد في الانتفاء منهم وفي البراءة بقوله : أنتم بريئون مما أعمل ، لأنّ هذه الجملة جاءت كالتوكيد والتتميم لما قبلها ، فناسب أن تلي قوله : ولكم عملكم. ولمراعاة الفواصل ، إذ لو تقدم ذكر براءة كما تقدم ذكر لي عملي لم تقع الجملة فاصلة ، إذ كان يكون التركيب وأنتم بريئون مما أعمل.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) : قال ابن عباس : نزلت الآيتان في النضر بن الحرث وغيره من المستهزئين. وقال ابن الأنباري : في قوم من اليهود انتهى. وهذه الآية فيها تقسيم من لا يؤمن من الكفار إلى هذين القسمين بعد تقسيم المكذبين إلى من يؤمن ومن لا يؤمن ، والضمير في يستمعون عائد على معنى من ، والعود على المعنى دون العود على اللفظ في الكثرة وهو كقوله : (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) (٣) والمعنى : من يستمعون إليك إذا

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١٦.

(٢) سورة الكافرون : ١٠٩ / ١.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٢.

٦٢

قرأت القرآن وعلمت الشرائع ، ثم نفى جدوى ذلك الاستماع بقوله : أفأنت تسمع الصم أي هم ، وإن استمعوا إليك صم عن إدراك ما تلقيه إليهم ليس لهم وعي ولا قبول ، ولا سيما قد انضاف إلى الصمم انتفاء العقل ، فحري بمن عدم السمع والعقل أن لا يكون له إدراك لشيء البتة ، بخلاف أن لو كان الأصم عاقلا فإنه بعقله يهتدي إلى أشياء. وأعاد في قوله : ومنهم من ينظر إليك الضمير مفردا مذكرا على لفظ من ، وهو الأكثر في لسان العرب. والمعنى : أنهم عمي فلا تقدر على هدايتهم ، لأن السبب الذي يهتدي به إلى رؤية الدلائل قد فقدوه ، هذا وهم مع فقد البصر قد فقدوا البصيرة ، إذ من كان أعمى فإنه مهديه نور بصيرته إلى أشياء بالحدس ، وهذا قد جمع بين فقدان البصر والبصيرة ، وهذه مبالغة عظيمة في انتفاء قبول ما يلقى إلى هؤلاء ، إذ جمعوا بين الصمم وانتفاء العقل ، وبين العمى وفقد البصيرة. وقوله : أفأنت؟ تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن لا يكترث بعدم قبولهم ، فإنّ الهداية إنما هي لله. قال ابن عطية : جاء ينظر على لفظ من ، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى ، وإذا جاء أولا على معناها فلا يجوز أن يعطف عليه بآخر على اللفظ ، لأن الكلام يلبس حينئذ انتهى. وليس كما قال ، بل يجوز أن تراعي المعنى أولا فتعيد الضمير على حسب ما تريد من المعنى من تأنيث وتثنية وجمع ، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفردا مذكرا ، وفي ذلك تفصيل ذكر في علم النحو. والمقصود من الآيتين : إعلامه عليه‌السلام بأن هؤلاء الكفار قد انتهوا في النفرة والعداوة والبغض الشديد في رتبة من لا ينفع فيه علاج البتة ، لأنّ من كان أصم أحمق وأعمى فاقد البصيرة لا يمكن ذلك أن يقف على محاسن الكلام وما انطوى عليه من الإعجاز ، ولا يمكن هذا أن يرى ما أجرى الله على يدي رسوله من الخوارق ، فقد أيس من هداية هؤلاء. وقال الشاعر :

وإذا خفيت على المعني فعاذر

أن لا تراءى مقلة عمياء

ولما ذكر تعالى هؤلاء الأشقياء ، ذكر تعالى أنه لا يظلمهم شيئا ، إذ قد أزاح عللهم ببعثة الرسل وتحذيرهم من عقابه ، ولكن هم ظالموا أنفسهم بالكفر والتكذيب. واحتمل هذا النفي للظلم أن يكون في الدنيا أي : لا يظلمهم شيئا من مصالحهم ، واحتمل أن يكون في الآخرة وأن ما يلحقهم من العقاب هو عدل منه ، لأنهم هم الذين تسببوا فيه باكتساب ذنوبهم كما قدّر تعالى عليهم لا يسأل عما يفعل. وتقدم خلاف القراء في ، ولكنّ الناس من تشديد النون ونصب الناس وتخفيفها والرفع.

٦٣

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) : قرأ الأعمش وحفص : يحشرهم بالياء راجعا الضمير غائبا عائدا على الله ، إذ تقدّم (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) (١) ولما ذكر أولئك الأشقياء أتبعه بالوعيد ، ووصف حالهم يوم القيامة والمعنى : كأن لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور يعني : فقليل لبثهم ، وذلك لهول ما يعاينون من شدائد القيامة ، أو لطول يوم القيامة ووقوفهم للحساب. قال ابن عباس : رأوا أنّ طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة. قال ابن عطية : ويوم ظرف ، ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره : واذكر. ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله : كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار ، ويصح نصبه بيتعارفون ، والكاف من قوله : كأن ، يصح أن تكون في موضع الصفة لليوم ، ويصح أن تكون في موضع نعت للمصدر كأنه قال : ويوم نحشرهم حشرا كأن لم يلبثوا ، ويصح أن يكون قوله : كأن لم يلبثوا في موضع الحال من الضمير في نحشرهم انتهى. أما قوله : ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا فإنه كلام مجمل لم يبين الفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا ، ولعله أراد ما قاله الحوفي : من أن الكاف في موضع نصب بما تضمنت من معنى الكلام وهو السرعة انتهى. فيكون التقدير : ويوم نحشرهم يسرعون كأن لم يلبثوا ، وأما قوله : والكاف من قوله كأن ، يصح أن تكون في موضع الصفة لليوم ، فلا يصح لأنّ يوم نحشرهم معرفة ، والجمل نكرات ، ولا تنعت المعرفة بالنكرة. لا يقال : إنّ الجمل الذي يضاف إليها أسماء الزمان نكرة على الإطلاق ، لأنها إن كانت في التقدير تنحل إلى معرفة ، فإنّ ما أضيف إليها يتعرف وإن كانت تنحل إلى نكرة كان ما أضيف إليها نكرة ، تقول : مررت في يوم قدم زيد الماضي ، فتصف يوم بالمعرفة ، وجئت ليلة قدم زيد المباركة علينا. وأيضا فكأن لم يلبثوا إلا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهة المعنى ، لأنّ ذلك من وصف المحشورين لا من وصف يوم حشرهم. وقد تكلف بعضهم تقدير محذوف يربط فقدره : كأن لم يلبثوا قبله ، فحذف قبله أي قبل اليوم ، وحذف مثل هذا الرابط لا يجوز. فالظاهر أنها جملة حالية من مفعول نحشرهم كما قاله ابن عطية آخرا ، وكذا أعربه الزمخشري وأبو البقاء.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : كأن لم يلبثوا ويتعارفون كيف موقعهما؟ (قلت) : أما الأولى فحال منهم أي : نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة. وأما الثانية فإما أن تتعلق

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٤٤.

٦٤

بالظرف يعني : فتكون حالا ، وإما أن تكون مبينة لقوله : كأن لم يلبثوا إلا ساعة ، لأنّ التعارف يبقى مع طول العهد وينقلب تناكرا انتهى. وقال الحوفي : يتعارفون فعل مستقبل في موضع الحال من الضمير في يلبثوا وهو العامل ، كأنه قال : متعارفين ، المعنى : اجتمعوا متعارفين. ويجوز أن يكون حالا من الهاء والميم في نحشرهم وهو العامل انتهى. وأما قول ابن عطية : ويصح أن يكون في موضع نصب للمصدر ، كأنه قال : ويوم نحشرهم حشرا كأن لم يلبثوا ، فقد حكاه أبو البقاء فقال : وقيل هو نعت لمصدر محذوف أي حشرا كأن لم يلبثوا قبله انتهى. وقد ذكرنا أن حذف مثل هذا الرابط لا يجوز. وجوزوا في يتعارفون أن يكون حالا على ما تقدم ذكره من الخلاف في ذي الحال والعامل فيها ، وأن يكون جملة مستأنفة ، أخبر تعالى أنه يقع التعارف بينهم. وقال الكلبي : يعرف بعضهم بعضا كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم ، وهو تعارف توبيخ وافتضاح ، يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني ، وليس تعارف شفقة وعطف ، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة ، كما قال تعالى : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ) (١). وقيل : يعرف بعضهم بعضا ما كانوا عليه من الخطأ والكفر. وقال الضحاك : تعارف تعاطف المؤمنين ، والكافرون لا أنساب بينهم. وقيل : القيامة مواطن ، ففي موطن يتعارفون وفي موطن لا يتعارفون ، والظاهر أن قوله : قد خسر الذين إلى آخره جملة مستأنفة ، أخبر تعالى بخسران المكذبين بلقائه. قال الزمخشري : هو استئناف فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أخسرهم. وقال أيضا : وابتدأ به قد خسر على إرادة القول أي : يتعارفون بينهم قائلين ذلك. قال ابن عطية : وقيل إنه إخبار المحشورين على جهة التوبيخ لأنفسهم انتهى. وهذا يحتمل أن يكون كقول الزمخشري : يتعارفون بينهم قائلين ذلك ، وأن يكون كقول غيره : نحشرهم قائلين قد خسر ، فاحتمل هذا المقدر أن يكون معمولا ليتعارفون ، وأن يكون معمولا لنحشرهم ، ونبه على العلة الموجبة للخسران وهو التكذيب بلقاء الله. وما كانوا مهتدين : الظاهر أنه معطوف على قوله : قد خسر ، فيكون من كلام المحشورين إذا قلنا : إنّ قوله قد خسر من كلامهم ، أخبروا عن أنفسهم بخسرانهم في الآخرة وبانتفاء هدايتهم في الدنيا. ويحتمل أن يكون معطوفا على صلة الذين أي : كذبوا بلقاء الله ، وانتفت هدايتهم في الدنيا. ويحتمل أن تكون الجملة كالتوكيل بجملة الصلة ، لأن من كذب بلقاء الله هو غير مهتد. وقيل : وما

__________________

(١) سورة المعارج : ٧٠ / ١٠.

٦٥

كانوا مهتدين إلى غاية مصالح التجارة. وقيل : للإيمان. وقيل : في علم الله ، بل هم ممن حتم ضلالهم وقضى به.

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) : إما هي أن الشرطية زيد عليها ما قال ابن عطية ، ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة. ولو كانت أن وحدها لم يجز انتهى. يعني أنّ دخول النون للتأكيد إنما يكون مع زيادة ما بعد إن ، وهذا الذي ذكره مخالف لظاهر كلام سيبويه. قال ابن خروف : أجاز سيبويه الإتيان بما ، وأن لا يؤتى بها ، والإتيان بالنون مع ما وإن لا يؤتى بها ، والإراءة هنا بصرية ، ولذلك تعدى الفعل إلى اثنين ، والكاف خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبعض الذي نعدهم يعني : من العذاب في الدنيا. وقد أراه الله تعالى أنواعا من عذاب الكفار في الدنيا قتلا وأسرا ونهبا للأموال وسبيا للذراري ، وضرب جزية ، وتشتيت شمل بالجلاء إلى غير بلادهم ، وما يحصل لهم في الآخرة أعظم ، لأنه العذاب الدائم الذي لا ينقطع. والظاهر أنّ جواب الشرط هو قوله : فإلينا مرجعهم ، وكذا قاله الحوفي وابن عطية. قال ابن عطية : ومعنى هذه الآية الوعيد بالرجوع إلى الله تبارك وتعالى أي : إن أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب ، ثم مع ذلك الله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم. فثم هاهنا لترتيب الأخبار ، لا لترتيب القصص في أنفسها. وقال الزمخشري : فإلينا مرجعهم جواب نتوفينك ، وجواب نرينك محذوف ، كأنه قيل : وإما نرينك بعض الذي نعدهم فذاك ، أو نتوفينك قبل أن نريكه ، فنحن نريك في الآخرة انتهى. فجعل الزمخشري الكلام شرطين لهما جوابان ، ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف ، لأن قوله : فإلينا مرجعهم صالح أن يكون جوابا للشرط والمعطوف عليه. وأيضا فقول الزمخشري : فذاك هو اسم مفرد لا ينعقد منه جواب شرط ، فكان ينبغي أن يأتي بجملة يتضح منها جواب الشرط ، إذ لا يفهم من قوله فذاك الجزء الذي حذف المتحصل به فائدة الإسناد. وقرأ ابن أبي عبلة : ثم الله بفتح الثاء أي : هنالك. ومعنى شهادة الله على ما يفعلون مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب ، كأنه قال : ثم الله معاقبهم ، وإلا فهو تعالى شهيد على أفعالهم في الدنيا والآخرة. ويجوز أن يكون المعنى أنه تعالى مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة حتى تنطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) : لما بين

٦٦

حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قومه بين حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم ، تسلية له وتطمينا لقلبه. ودلت الآية على أنه تعالى ما أهمل أمة ، بل بعث إليها رسولا كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (١) وقوله : فإذا جاء رسولهم ، إما أن يكون إخبارا عن حالة ماضية فيكون ذلك في الدنيا ، ويكون المعنى : أنه بعث إلى كل أمة رسولا يدعوهم إلى دين الله وينبئهم على توحيده ، فلما جاءهم بالبينات كذبوه ، فقضى بينهم أي : بين الرسول وأمته ، فأنجى الرسول وعذب المكذبون. وإما أن يكون على حالة مستقبلة أي : فإذا جاءهم رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم قضى بينهم ، أي : بين الأمة بالعدل ، فصار قوم إلى الجنة وقوم إلى النار ، فهذا هو القضاء بينهم قاله : مجاهد وغيره. ويكون كقوله تعالى : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) (٢).

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : الضمير في ويقولون ، عائد على مشركي قريش ومن تابعهم من منكري الحشر ، استعجلوا بما وعدوا به من العذاب على سبيل الاستبعاد ، أو على سبيل الاستخفاف ، ولذلك قالوا : إن كنتم صادقين أي : لستم صادقين فيما وعدتم به فلا يقع شيء منه. وقولهم هذا يشهد للقول الأول في الآية قبلها ، وأنها حكاية حال ماضية. وأنّ معنى ذلك : فإذا جاءهم الرسول وكذبوه قضى بينهم في الدنيا ، وأنّ كل رسول وعد أمته بالعذاب في الدنيا وإن هي كذبت.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) : لما التمسوا تعجيل العذاب أو تعجيل الساعة ، أمره عليه‌السلام أن يقول لهم : ليس ذلك إليّ ، بل ذلك إلى الله تعالى. وإذا كنت لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا فكيف أملكه لغيري؟ أو كيف أطلع على ما لم يطلعني عليه الله؟ ولكن لكل أمة أجل انفرد بعلمه تعالى. وتقدم الكلام على نظير قوله لكل أمة أجل إلى آخر الآية في الأعراف (٣). وقرأ ابن سيرين : آجالهم على الجمع. وإلا ما شاء الله ظاهره أنه استثناء متصل ، إلا ما شاء الله أن أملكه وأقدر عليه. وقال الزمخشري : هو استثناء منقطع أي : ولكن ما شاء الله من ذلك كائن ، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب. ولكل أمة أجل أي : إنّ عذابكم له أجل مضروب عند الله.

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٢٤.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٦٩.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٣٤.

٦٧

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) : تقدّم الكلام في أرأيتم في سورة الأنعام (١) وقررنا هناك أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني ، وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين ، وأن المفعول الثاني أكثر ما يكون جملة استفهام ينعقد منها مع قبلها مبتدأ وخبر كقول العرب : أرأيت زيدا ما صنع : المعنى : أخبرني عن زيد ما صنع. وقبل دخول أرأيت كان الكلام : زيد ما صنع؟ وإذا تقرر هذا فأرأيتم هنا المفعول الأول لها محذوف ، والمسألة من باب الإعمال تنازع. أرأيت وإن أتاكم على قوله : عذابه ، فأعمل الثاني إذ هو المختار على مذهب البصريين ، وهو الذي ورد به السماع أكثر من إعمال الأول. فلما أعمل الثاني حذف من الأول ولم يضمر ، لأنّ إضماره مختص بالشعر ، أو قليل في الكلام على اختلاف النحويين في ذلك. والمعنى : قل لهم يا محمد أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم أي شيء تستعجلون منه ، وليس شيء من العذاب يستعجله عاقل ، إذا العذاب كله مرّ المذاق موجب لنفار الطبع منه ، فتكون جملة الاستفهام جاءت على سبيل التلطف بهم ، والتنبيه لهم أن العذاب لا ينبغي أن يستعجل. ويجوز أن تكون الجملة جاءت على سبيل التعجب والتهويل للعذاب أي : أي شيء شديد تستعجلون منه ، أي : ما أشدّ وأهول ما تستعجلون من العذاب. وقال الحوفي : الرؤية من رؤية القلب التي بمعنى العلم ، لأنها داخلة على الجملة من الاستفهام ومعناها التقرير. وجواب الشرط محذوف ، وتقدير الكلام : أرأيتم ما يستعجل من العذاب المجرمون إن أتاكم عذابه انتهى. فظاهر كلام الحوفي : إن أرأيتم باقية على موضوعها الأول لم تضمن معنى أخبروني ، وأنها بمعنى أعلمتم ، وأن جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين ، وأنه استفهام معناه التقرير ، ولم يبين الحوفي ما يفيد جواب الشرط المحذوف.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : بم يتعلق الاستفهام؟ وأين جواب الشرط؟ (قلت) : تعلق بأرأيتم ، لأن المعنى أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون ، وجواب الشرط محذوف : وهو تندموا على الاستعجال وتعرفوا الخطأ فيه انتهى. وما قدره الزمخشري غير سائغ ، لأنه لا يقدر الجواب إلا مما تقدمه لفظا أو تقديرا تقول : أنت ظالم إن فعلت ،

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٤٦.

٦٨

فالتقدير إن فعلت فأنت ظالم. وكذلك وإنا إن شاء الله لمهتدون التقدير : إن شاء الله نهتد. فالذي يسوغ أن يقدر إن أتاكم عذابه فأخبروني ماذا يستعجل.

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضا والمعنى : إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان؟ انتهى. أما تجويزه أن يكون ماذا جوابا للشرط فلا يصح ، لأنّ جواب الشرط إذا كان استفهاما فلا بد فيه من الفاء ، تقول : إن زارنا فلان فأي رجل هو ، وإن زارنا فلان فأي يد له بذلك ، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة ، والمثال الذي ذكره وهو : إن أتيتك ماذا تطعمني؟ هو من تمثيله ، لا من كلام العرب. وأما قوله : ثم تتعلق الجملة بأرأيتم ، إن عنى بالجملة ما ذا يستعجل فلا يصح ذلك لأنه قد جعلها جوابا للشرط ، وإن عني بالجملة جملة الشرط فقد فسر هو أرأيتم بمعنى أخبرني ، وأخبرني تطلب متعلقا مفعولا ، ولا تقع جملة الشرط موقع مفعول أخبرني. وأما تجويزه أن يكون أثم إذا ما وقع آمنتم به جواب الشرط ، وماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضا فلا يصح أيضا ، لما ذكرناه من أنّ جملة الاستفهام لا تقع جوابا للشرط إلا ومعها فاء الجواب. وأيضا فثم هنا وهي حرف عطف ، تعطف الجملة التي بعدها على ما قبلها ، فالجملة الاستفهامية معطوفة ، وإذا كانت معطوفة لم يصح أن تقع جواب شرط. وأيضا فأرأيتم بمعنى أخبرني تحتاج إلى مفعول ، ولا تقع جملة الشرط موقعه.

وتقدم الكلام في قوله : (بَياتاً) (١) في الأعراف مدلولا وإعرابا. والمعنى إن أتاكم عذابه وأنتم ساهون غافلون ، إما بنوم وإما باشتغال بالمعاش والكسب ، وهو نظير قوله : (بَغْتَةً) (٢) لأن العذاب إذا فاجأ من غير شعور به كان أشد وأصعب ، بخلاف أن يكون قد استعد له وتهيىء لحلوله ، وهذا كقوله تعالى : بياتا وهم نائمون ضحى وهم يلعبون. ويجوز في ماذا أن يكون ما مبتدأ وذا خبره ، وهو بمعنى الذي ، ويستعجل صلته ، وحذف الضمير العائد على الموصول التقدير أي : شيء يستعجله من العذاب المجرمون. ويجوز في ماذا أن يكون كله مفعولا كأنه قيل : أي شيء يستعجله من العذاب المجرمون. وقد جوز بعضهم أن يكون ماذا كله مبتدأ ، وخبره الجملة بعده. وضعفه أبو عليّ لخلوّ الجملة من ضمير يعود على المبتدأ. والظاهر عود الضمير في منه على العذاب ، وبه يحصل الربط لجملة الاستفهام بمفعول أرأيتم المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل. وقيل : يعود على الله

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٤.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٣١ ـ ٤٤ ـ ٤٧.

٦٩

تعالى. والمجرمون هم المخاطبون في قوله : أرأيتم إن أتاكم. ونبه على الوصف الموجب لترك الاستعجال وهو الإجرام ، لأنّ من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه ، ويهلك فزعا من مجيئه وإن أبطأ ، فكيف يستعجله؟ وثم حرف عطف وتقدمت همزة الاستفهام عليها كما تقدمت على الواو والفاء في : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) (١) وفي (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) (٢) وتقدم الكلام على ذلك. وخلاف الزمخشري للجماعة في دعواه أنّ بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوفة عطفت عليها الجملة التي بعد حرف العطف. وقال الطبري في قوله : أثم بضم الثاء ، أنّ معناه أهنالك قال : وليست ثم هذه التي تأتي بمعنى العطف انتهى. وما قاله الطبري من أنّ ثم هنا ليست للعطف دعوى ، وأما قوله : إن المعنى أهنالك ، فالذي ينبغي أن يكون ذلك تفسير معنى ، لا أن ثم المضمومة الثاء معناها معنى هنالك.

وقرأ طلحة بن مصرّف : أثم بفتح الثاء ، وهذا يناسبه تفسير الطبري أهنالك. وقرأ الجمهور آلآن على الاستفهام بالمد ، وكذا آلآن وقد عصيت. وقرأ طلحة والأعرج : بهمزة الاستفهام بغير مد ، وهو على إضمار القول أي : قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به ، فالناصب لقوله : الآن هو آمنتم به ، وهو محذوف. قيل : تقول لهم ذلك الملائكة. وقيل : الله ، والاستفهام على طريق التوبيخ. وفي كتاب اللوامح عيسى البصري وطلحة : آمنتم به الآن بوصل الهمزة من غير استفهام ، بل على الخبر ، فيكون نصبه على الظرف من آمنتم به المذكور. وأما في العامة فنصبه بفعل مضمر يدل عليه آمنتم به المذكور ، لأن الاستفهام قد أخذ صدر الكلام ، فيمنع ما قبله أن يعمل فيما بعده انتهى. وقد كنتم جملة حالية. قال الزمخشري : وقد كنتم به تستعجلون يعني تكذبون ، لأن استعجالكم كان على جهة التكذيب والإنكار. وقال ابن عطية : تستعجلون مكذبين به.

(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) : أي تقول لهم خزنة جهنم هذا الكلام. والظلم ظلم الكفر لا ظلم المعصية ، لأنّ من دخل النار من عصاة المؤمنين لا يخلد فيها. وثم قيل عطف على المضمر قبل الآن. ومن قرأ بوصل ألف الآن فهو استئناف إخبار عما يقال لهم يوم القيامة ، وهل تجزون توبيخ لهم وتوضيح أنّ الجزاء هو على كسب العبد.

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٩. وسورة الحج : ٢٢ / ٤٦.

(٢) سورة الروم : ٣٠ / ٩.

٧٠

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) : أي يستخبرونك. وأحق هو الضمير عائد على العذاب. وقيل : على الشرع والقرآن. وقيل : على الوعيد. وقيل : على أمر الساعة ، والجملة في موضع نصب فقال الزمخشري : بيقولون أحق هو فجعل يستنبئونك تتعدى إلى واحد. وقال ابن عطية : معناه يستخبرونك ، وهي على هذا تتعدّى إلى مفعولين : أحدهما الكاف ، والآخر في الابتداء ، والخبر فعلى ما قال : يكون يستنبئونك معلقة. وأصل استنبأ أن يتعدّى إلى مفعولين : أحدهما بعن ، تقول : استنبأت زيدا عن عمرو أي طلبت منه أن ينبئني عن عمرو ، والظاهر أنها معلقة عن المفعول الثاني. قال ابن عطية : وقيل هي بمعنى يستعلمونك. قال : فهي على هذا تحتاج إلى مفاعيل ثلاثة : أحدها الكاف ، والابتداء ، والخبر سد مسد المفعولين انتهى. وليس كما ذكر ، لأنّ استعلم لا يحفظ كونها متعدية إلى مفاعيل ثلاثة ، لا يحفظ استعلمت زيدا عمرا قائما فتكون جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين ، ولا يلزم من كونها بمعنى يستعلمونك أن تتعدى إلى ثلاثة ، لأنّ استعلم لا يتعدّى إلى ثلاثة كما ذكرنا. وارتفع هو على أنه مبتدأ ، وحق خبره. وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون حق مبتدأ وهو فاعل به سد مسد الخبر ، وحق ليس اسم فاعل ولا مفعول ، وإنما هو مصدر في الأصل ، ولا يبعد أن يرفع لأنه بمعنى ثابت. وهذا الاستفهام منهم على جهة الاستهزاء والإنكار. وقرأ الأعمش : الحق. قال الزمخشري : وهو أدخل في الاستهزاء لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل ، وذلك أن اللام للجنس ، فكأنه قيل : أهو الحق لا الباطل ، أو أهو الذي سميتموه الحق؟ انتهى. وأمر تعالى نبيه أن يقول مجيبا لهم : قل إي وربي ، أي نعم وربي. وإي تستعمل في القسم خاصة ، كما تستعمل هل بمعنى قد فيه خاصة. قال معناه الزمخشري قال : وسمعتهم يقولون في التصديق إي و، فيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده انتهى. ولا حجة فيما سمعه الزمخشري من ذلك لعدم الحجية في كلامه لفساد كلام العرب إذ ذاك وقبله بأزمان كثيرة. وقال ابن عطية : هي لفظة تتقدّم القسم ، وهي بمعنى نعم ، ويجيء بعدها حرف القسم وقد لا يجيء ، تقول : أي ربي أي وربي انتهى. وقد كان يكتفي في الجواب بقوله : إي وربي ، إلا أنه أوكد بإظهار الجملة التي كانت تضمر بعد قوله : إي وربي ، مسوقة مؤكدة بأنّ. واللام مبالغة في التوكيد في الجواب ، ولما تضمن قولهم أحق هو السؤال عن العذاب ، وكان سؤالا عن العذاب اللاحق بهم لا عن مطلق عذاب يقع بمن يقع. قيل : وما أنتم بمعجزين أي فائتين العذاب المسئول عنه ، بل هو لاحق بكم. واحتملت هذه الجملة

٧١

أن تكون داخلة في جواب القسم ، فتكون معطوفة على الجواب قبلها. واحتمل أن تكون إخبارا ، معطوفا على الجملة المقولة لا على جواب القسم. وأعجز الهمزة فيه للتعدية كما قال : ولن نعجزه هربا ، لكنه كثر فيه حذف المفعول حتى قالت العرب : أعجز فلان إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه ، وقال الزجاج : أي ما أنتم ممن يعجز من يعذبكم.

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) : ولما ذكر العذاب وأقسم على حقيقته ، وأنهم لا يفلتون منه ، ذكر بعض أحوال الظالمين في الآخرة. وظلمت صفة لنفس ، والظلم هنا الشرك والكفر ، وافتدى يأتي مطاوعا لفدى ، فلا يتعدى تقول : فديته فافتدى ، وبمعنى فدى فيتعدى ، وهنا يحتمل الوجهين. وما في الأرض أي : ما كان لها في الدنيا من الخزائن والأموال والمنافع ، وأسروا من الأضداد تأتي بمعنى أظهر. قال الفرزدق :

ولما رأى الحجاج جرد سيفه

أسر الحروري الذي كان أظهرا

وقال آخر :

فأسررت الندامة يوم نادى

برد جمال غاضرة المنادي

وتأتي بمعنى أخفى وهو المشهور فيها كقوله : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (١) ويحتمل هنا الوجهين. أما الإظهار فإنه ليس بيوم تصبر ولا تجلد ولا يقدر فيه الكافر على كتمان ما ناله ، ولأنّ حالة رؤية العذاب يتحسر الإنسان على اقترافه ما أوجبه ، ويظهر الندامة على ما فاته من الفوز ومن الخلاص من العذاب ، وقد قالوا : ربنا غلبت علينا شقوتنا. وأما إخفاء الندامة فقيل : أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم ، وهذا فيه بعد ، لأنّ من عاين العذاب هو مشغول بما يقاسيه منه فكيف له فكر في الحياء وفي التوبيخ الوارد من السفلة. وأيضا وأسروا عائد على كل نفس ظلمت على المعنى ، وهو عام في الرؤساء والسفلة. وقيل : إخفاء الندامة هو من كونهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحسبوه ولا خطر ببالهم ، ومعاينتهم ما أوهى قواهم فلم يطيقوا عند ذلك بكاء ولا صراخا. ولا ما يفعله الجازع سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب ، كما يعرض لمن يقدم للصلب لا يكاد ينبس بكلمة ، ويبقى مبهوتا جامدا. وأما من قال : إن معنى قوله : وأسروا الندامة ، أخلصوا لله في تلك الندامة ، أو بدت بالندامة أسرة وجوههم أي : تكاسير جباههم ففيه بعد عن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٧٧.

٧٢

سياق الآية. والظاهر أنّ قوله : وقضى بينهم بالقسط ، جملة أخبار مستأنفة ، وليست معطوفة على ما في حيز لما ، وأن الضمير في بينهم عائد على كل نفس ظلمت. وقال الزمخشري : بين الظالمين والمظلومين دل على ذلك ذكر الظلم انتهى. وقيل : يعود على المؤمن والكافر. وقيل : على الرؤساء والأتباع.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) : قيل : تعلق هذه الآية بما قبلها من جهة أنه فرض أنّ النفس الظالمة لو كان لها ما في الأرض لافتدت به ، وهي لا شيء لها البتة ، لأنّ جميع الأشياء إنما هي بأسرها ملك لله تعالى ، وهو المتصرف فيها ، إذ له الملك والملك. ويظهر أنّ مناسبتها لما قبلها أنه لما سألوا عما وعدوا به من العذاب أحق هو؟ وأجيبوا بأنه حق لا محالة ، وكان ذلك جوابا كافيا لمن وفقه الله تعالى للإيمان ، كما كان جوابا للأعرابي حين سأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : آلله أرسلك؟ قوله عليه‌السلام له : «اللهم نعم» فقنع منه بإخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ علم أنه لا يقول إلا الحق والصدق ، كما قال هرقل : لم يكن ليدع الكذب ويكذب على الله. انتقل من هذا الجواب إلى ذكر البرهان القاطع على حجته. وتقريره بأن القول بالنبوة والمعاد يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم ، وأنّ ما سواه فهو ملكه وملكه ، وعبر عن هذا بهذه الآية ، وكان قد استقصى الدلائل على ذلك في هذه السورة في قوله : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (١) الآية وقوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) (٢) فاكتفى هنا عن ذكرها. وإذا كان جميع ما في العالم ملكه ، وملكه كان قادرا على كل الممكنات ، عالما بكل المعلومات ، غنيا عن جميع الحاجات ، منزها عن النقائص والآفات ، وبكونه قادرا على الممكنات كان قادرا على إنزال العذاب على الكفار في الدنيا والآخرة ، وقادرا على تأييد رسوله بالدلائل وإعلاء دينه ، فبطل الاستهزاء والتعجيز. وبتنزيهه عن النقائص كان منزها عن الخلف والكذب ، فثبت أن قوله : ألا إن لله ما في السموات والأرض مقدمة توجب الجزم بصحة قوله. ألا إن وعد الله حق. وألا كلمة تنبيه دخلت على الجملتين تنبيها للغافل ، إذ كانوا مشغولين بالنظر إلى الأسباب الظاهرة من نسبة أشياء إلى أنها مملوكة لمن جعل له بعض تصرف فيها واستخلاف ، ولذلك قال تعالى : ولكن أكثرهم لا يعلمون يعني : لغفلتهم عن هذه الدلائل ، ثم أتبع ذلك بذكر قدرته على الإحياء والإماتة. فيجب أن يكون

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٦.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٥.

٧٣

قادرا على إحيائه مرة ثانية ، ولذلك قال : وإليه ترجعون ، فترون ما وعد به. وقرأ الحسن بخلاف عنه ، وعيسى بن عمر : يرجعون بالياء على الغيبة. وقرأ الجمهور : بالتاء على الخطاب.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) : قيل : نزلت في قريش الذين سألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحق هو؟ فالناس هم كفار قريش. وقال ابن عطية : هو خطاب لجميع العالم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة ، ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدّي إليها وهو القرآن ، والمتصف بهذه الأوصاف الشريفة هو القرآن. قال الزمخشري : أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد ، هو شفاء أي : دواء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة ، ودعاء إلى الحق ورحمة لمن آمن به منكم انتهى. ومن ربكم يحتمل أن يتعلق بجاءتكم ، فمن لابتداء الغاية. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة أي : من مواعظ ربكم ، فتتعلق بمحذوف ، فمن للتبعيض. وفي قوله : من ربكم تنبيه على أنه من عند الله ليس من عند أحد. قال ابن عطية : وجعله موعظة بحسب الناس أجمع ، وجعله هدى ورحمة بحسب المؤمنين ، وهذا تقسيم صحيح المعنى إذا تؤوّل بأن وجهه انتهى. وذكر أبو عبد الله الرازي هنا كلاما كثيرا ممزوجا بما يسمونه حكمة ، نعلم قطعا أنّ العرب لا تفهم ذلك الذي قرره من ألفاظ القرآن ، وطوّل في ذلك ، وضرب أمثلة حسية يوقف عليها من تفسيره ، ثم قال آخر كلامه : فالحاصل أنّ الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة ، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة ، والهدى إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة ، والرحمة إشارة إلى كونها بالغة في الكمال ، والإشراق إلى حيث تصير تكمل الناقصين وهي النبوّة. فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية ، لا يمكن تأخر ما تقدّم ذكره ، ولا تقدم ما تأخر ذكره.

(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) : قال الزمخشري عن أبيّ بن كعب : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : قل بفضل الله وبرحمته فقال : «بكتاب الله والإسلام» فضله الإسلام ، ورحمته ما وعد عليه انتهى. ولو صح هذا الحديث لم يمكن خلافه. قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وهلال بن يساف : فضل الله الإسلام ، ورحمته

٧٤

القرآن. وقال الضحاك وزيد بن أسلم عكس هذا ، وقال أبو سعيد الخدري : الفضل القرآن ، والرحمة أن جعلهم من أهله. وقال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه : الفضل العلم والرحمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن عمر : الفضل الإسلام ، والرحمة تزيينه في القلوب. وقال مجاهد : الفضل والرحمة القرآن ، واختاره الزجاج. وقال خالد بن معدان : الفضل القرآن ، والرحمة السنة. وعنه أيضا أنّ الفضل الإسلام ، والرحمة الستر. وقال عمرو بن عثمان : فضل الله كشف الغطاء ، ورحمته الرؤية واللقاء. وقال الحسين بن فضل : الفضل الإيمان ، والرحمة الجنة. وقيل : الفضل التوفيق ، والرحمة العصمة. وقيل : الفضل نعمه الظاهرة ، والرحمة نعمه الباطنة. وقال الصادق : الفضل المغفرة ، والرحمة التوفيق. وقال ذو النون : الفضل الجنان ، ورحمته النجاة من النيران. وهذه تخصيصات تحتاج إلى دلائل ، وينبغي أن يعتقد أنها تمثيلات ، لأن الفضل والرحمة أريد بهما تعيين ما ذكر وحصرهما فيه.

وقال ابن عطية : وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه أنّ الفضل هو هداية الله إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع ، والرحمة هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على اتباع الإسلام والإيمان. ومعنى الآية : قل يا محمد لجميع الناس بفضل الله وبرحمته فليقع الفرح منكم ، لا بأمور الدنيا وما يجمع من حطامها ، فالمؤمنون يقال لهم : فليفرحوا وهم ملتبسون بعلة الفرح وسببه ، ومخلصون لفضل الله منتظرون لرحمته ، والكافرون يقال لهم : بفضل الله ورحمته فليفرحوا على معنى أن لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك انتهى. والظاهر أن قوله : قل بفضل الله وبرحمته ، فبذلك فليفرحوا جملتان ، وحذف ما تتعلق به الباء والتقدير : قل بفضل الله وبرحمته ليفرحوا ، ثم عطفت الجملة الثانية على الأولى على سبيل التوكيد. قال الزمخشري : والتكرير للتقرير والتأكيد ، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه ، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح ، فإنه لا مفروح به أحق منهما. ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا بذلك ، فليفرحوا. ويجوز أن يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي : فبمجيئهما فليفرحوا انتهى. أما إضمار فليعنتوا فلا دليل عليه ، وأما تعليقه بقوله : قد جاءتكم ، فينبغي أن يقدر ذلك محذوفا بعد قل ، ولا يكون متعلقا بجاءتكم الأولى للفصل بينهما بقل. وقال الحوفي : الباء متعلقة بما دل على المعنى أي : قد جاءتكم الموعظة بفضل الله. وقيل : الفاء الأولى

٧٥

زائدة ، ويكون بذلك بدلا مما قبله ، وأشير به إلى الاثنين الفضل والرحمة. وقيل : كررت الفاء الثانية للتوكيد ، فعلى هذا لا تكون الأولى زائدة ، ويكون أصل التركيب فبذلك ليفرحوا ، وفي القول قبله يكون أصل التركيب بذلك فليفرحوا ، ولا تنافي بين الأمر بالفرح هنا وبين النهي عنه في قوله : (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (١) لاختلاف المتعلق ، فالمأمور به هنا الفرح بفضل الله وبرحمته ، والمنهي هناك الفرح بجمع الأموال لرئاسة الدنيا وإرادة العلو بها والفساد والأشر ، ولذلك جاء بعده : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) (٢) وقبله : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ) (٣) وقوله : (لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (٤) جاء ذلك على سبيل الذم لفرحه بإذاقة النعماء بعد الضراء ، ويأسه وكفرانه للنعماء إذا نزعت منه ، وهذه صفة مذمومة ، وليس ذلك من أفعال الآخرة. وقول من قال : إنه إذا أطلق الفرح كان مذموما ، وإذا قيد لم يكن مذموما كما قال : (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٥) ليس بمطرد ، إذ جاء مقيدا في الذم في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) (٦) وإنما يمدح الفرح ويذم بحسب متعلقه ، فإذا كان بنيل ثواب الآخرة وإعمال البر كان محمودا ، وإذا كان بنيل لذات الدنيا وحطامها كان مذموما.

وقرأ عثمان بن عفان ، وأبيّ ، وأنس ، والحسن ، وأبو رجاء ، وابن هرمز ، وابن سيرين ، وأبو جعفر المدني ، والسلمي ، وقتادة ، والجحدري ، وهلال بن يساف ، والأعمش ، وعمرو بن قائد ، والعباس بن الفضل الأنصاري : فلتفرحوا بالتاء على الخطاب ، ورويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال صاحب اللوامح : وقال وقد جاء عن يعقوب كذلك ، انتهى. وقال ابن عطية : وقرأ أبي وابن القعقاع ، وابن عامر ، والحسن : على ما زعم هارون. ورويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلتفرحوا وتجمعون بالتاء فيهما على المخاطبة ، وهي قراءة جماعة من السلف كثيرة ، وعن أكثرهم خلاف انتهى. والجمهور بالياء على أمر الغائب. وما نقله ابن عطية أن ابن عامر قرأ فلتفرحوا بالتاء ليس هو المشهور عنه ، إنما قراءته في مشهور السبعة بالياء أمرا للغائب ، لكنه قرأ تجمعون بالتاء على الخطاب ، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب. وفي مصحف أبي : فبذلك فافرحوا ، وهذه هي اللغة الكثيرة الشهيرة في أمر المخاطب. وأما فليفرحوا بالياء فهي لغة قليلة. وفي الحديث : «لتأخذوا

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٧٦.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٧٧.

(٣) سورة القصص : ٢٨ / ٧٦.

(٤) سورة هود : ١١ / ١٠.

(٥) سورة آل عمران : ٣ / ١٧٠.

(٦) سورة الأنعام : ٦ / ٤٤.

٧٦

مصافكم» وقرأ أبو التياح والحسن : فليفرحوا بكسر اللام ، ويدل على أنّ ذلك أشير به إلى واحد عود الضمير عليه موحدا في قوله : هو خير مما يجمعون ، فالذي ينبغي أنّ قوله تعالى : بفضل الله وبرحمته ، على أنهما شيء واحد عبر عنه باسمين على سبيل التأكيد ، ولذلك أشير إليه بذلك ، وعاد الضمير عليه مفردا. وقوله : مما يجمعون يعني من حطام الدنيا ومتاعها.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) : مناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه لما ذكر تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (١) وكان المراد بذلك كتاب الله المشتمل على التحليل والتحريم ، بيّن فساد شرائعهم وأحكامهم من الحلال والحرام من غير مستند في ذلك إلى وحي. وأرأيتم هنا بمعنى أخبروني. وجوزوا في ما أنزل أن تكون موصولة مفعولا أول لأرأيتم ، والعائد عليها محذوف ، والمفعول الثاني قوله : الله أذن لكم ، والعائد على المبتدأ من الخير محذوف تقديره : آلله أذن لكم فيه ، وكرر قل قبل الخبر على سبيل التوكيد. وأن تكون ما استفهامية منصوبة بأنزل قاله : الحوفي والزمخشري. وقيل : ما استفهامية مبتدأة ، والضمير من الخبر محذوف تقديره : الله أذن لكم فيه أو به ، وهذا ضعيف لحذف هذا العائد. وجعل ما موصولة هو الوجه ، لأن فيه إبقاء. أرأيت على بابها من كونها تتعدى إلى الأول فتؤثر فيه ، بخلاف جعلها استفهامية ، فإن أرأيت إذ ذاك تكون معلقة ، ويكون ما قد سدّت مسد المفعولين ، والظاهر أنّ أم متصلة والمعنى : أخبروني آلله إذن لكم في التحليل والتحريم ، فأنتم تفعلون ذلك بأذنه أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه؟ فنبه بتوقيفهم على أحد القسمين ، وهم لا يمكنهم ادعاء إذن الله في ذلك فثبت افتراؤهم. وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار ، وأم منقطعة بمعنى بل ، أتفترون على الله تقريرا للافتراء انتهى ، وأنزل هنا قيل معناه : خلق كقوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (٢) (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (٣). وقيل : أنزل على بابها وهو على حذف مضاف أي : من سبب رزق وهو المطر. وقال ابن عطية : أنزل لفظة فيها تجوز ، وإنزال الرزق إما أن يكون في ضمن إنزال المطر بالمئال ، ونزول الأمر به الذي هو ظهور الأثر في المخلوق منه المخترع والمجعول حراما وحلالا. قال مجاهد : هو ما حكموا به من تحريم البحيرة

__________________

(١) سورة يونس : ٧ / ٥٧.

(٢) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٥.

(٣) سورة الزمر : ٣٩ / ٦.

٧٧

والسائبة والوصيلة والحام. وقال الضحاك : هو إشارة إلى قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) (١).

(وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) : ما استفهامية مبتدأة خبرها ظن ، والمعنى : أي شي ظن المفترين يوم القيامة ، أبهم الأمر على سبيل التهديد ، والإبعاد يوم يكون الجزاء بالإحسان والإساءة. ويوم منصوب بظن ، ومعمول الظن قيل : تقديره ما ظنهم أنّ الله فاعل بهم ، أينجيهم أم يعذبهم. وقرأ عيسى بن عمر : وما ظن جعله فعلا ماضيا أي أي ظن الذين يفترون ، فما في موضع نصب على المصدر ، وما الاستفهامية قد تنوب عن المصدر تقول : ما تضرب زيدا تريد أي : ضرب تضرب زيدا.

وقال الشاعر :

ماذا يغير ابنتي ريع عويلهما

لا يرقدان ولا بؤسي لمن رقدا

وجيء بلفظ ظنّ ماضيا لأنه كائن لا محالة فكأن قد كان ، والأولى أن يكون ظن في معنى يظن ، لكونه عاملا في يوم القيامة. وهو ظرف مستقبل ، وفضله تعالى على الناس حيث أنعم عليهم ورحمهم ، فأرسل إليهم الرسل ، وفصل لهم الحلال والحرام ، وأكثرهم لا يشكر هذه النعمة.

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جملة من أحوال الكفار ومذاهبهم والرد عليهم ، ومحاورة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم ، وذكر فضله تعالى على الناس وأن أكثرهم لا يشكره على فضله ، ذكر تعالى اطلاعه على أحوالهم وحال الرسول معهم في مجاهدته لهم ، وتلاوة القرآن عليهم ، وأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم ، واستطرد من ذلك إلى ذكر أولياء الله تعالى ، ليظهر التفاوت بين الفريقين فريق الشيطان وفريق الرحمن. والخطاب في قوله تعالى : وما تكون في شأن ، وما تتلوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عام بجميع شؤونه عليه‌السلام. وما تتلوا مندرج تحت عموم شأن ، واندرج من حيث المعنى في الخطاب كل ذي شأن. وما في الجملتين نافية ، والضمير في منه عائد على

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٣٦.

٧٨

شأن ، ومن قرآن تفسير للضمير ، وخص من العموم لأنّ القرآن هو أعظم شؤونه عليه‌السلام. وقيل : يعود على التنزيل ، وفسر بالقرآن لأنّ كل جزء منه قرآن ، وأضمر قبل الذكر على سبيل التفخيم له. وقيل : يعود على الله تعالى أي : وما تتلوا من عند الله من قرآن. والخطاب في قوله : ولا تعملون عام ، وكذا إلا كنا عليكم شهودا. وولى إلا هنا الفعل غير مصحوب بقد ، لأنه قد تقدم الأفعل. والجملة بعد إلا حال وشهودا رقباء نحصي عليكم ، وإذ معمولة لقوله : شهودا. ولما كانت الأفعال السابقة المراد بها الحالة الدائمة وتنسحب على الأفعال الماضية كان الظرف ماضيا ، وكان المعنى : وما كنت في شأن وما تلوت من قرآن ولا عملتم من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ أفضتم فيه. وإذ تخلص المضارع لمعنى الماضي ، ولما كان قوله : إلا كنا عليكم شهودا فيه تحذير وتنبيه عدل عن خطابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى خطاب أمته بقوله : ولا تعملون من عمل ، وإن كان الله شهيدا على أعمال الخلق كلهم. وتفيضون : تخوضون ، أو تنشرون ، أو تدفعون ، أو تنهضون ، أو تأخذون ، أو تنقلون ، أو تتكلمون ، أو تسعون ، أقوال متقاربة ثم واجهه تعالى بالخطاب وحده في قوله : وما يعزب عن ربك ، تشريفا له وتعظيما. ولما ذكر شهادته تعالى على أعمال الخلق ناسب تقديم الأرض الذي هي محل المخاطبين على السماء ، بخلاف ما في سورة سبأ ، وإن كان الأكثر تقديمها على الأرض.

وقرأ ابن وثاب ، والأعمش ، وابن مصرف ، والكسائي ، يعزب بكسر الزاي ، وكذا في سبأ (١). والمثقال اسم لا صفة ، ومعناه هنا وزن ذرة. والذر صغار النمل ، ولما كانت الذرة أصغر الحيوان المتناسل المشهور النوع عندنا جعلها الله مثالا لأقل الأشياء وأحقرها ، إذ هي أحقر ما نشاهد. ثم قال : ولا أصغر من ذلك أي : من مثقال ذرة. ولما ذكر تعالى أنه لا يغيب عن علمه أدق الأشياء التي نشاهدها ، ناسب تقديم ولا أصغر من ذلك ، ثم أتى بقوله : ولا أكبر ، على سبيل إحاطة علمه بجميع الأشياء. ومعلوم أنّ من علم أدق الأشياء وأخفاها كان علمه متعلقا بأكبر الأشياء وأظهرها. وقرأ الجمهور : ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بفتح الراء فيهما ، ووجه على أنه عطف على ذرة أو على مثقال على اللفظ. وقرأ حمزة وحده : برفع الراء فيهما ، ووجه على أنه عطف على موضع مثقال لأن من زائدة فهو مرفوع بيعزب ، هكذا وجهه الحوفي وابن عطية وأبو البقاء. وقال الزمخشري تابعا لاختيار الزجاج : والوجه النصب على نفي الجنس ، والرفع على الابتداء ، يكون كلاما مبتدأ. وفي

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ٣.

٧٩

العطف على محل مثقال ذرة أو لفظه فتحا في موضع الجر إشكال ، لأنّ قولك : لا يعزب عنه شيء إلا في كتاب مشكل انتهى. وإنما أشكل عنده ، لأنّ التقدير يصير إلا في كتاب فيعزب ، وهذا كلام لا يصح. وخرجه أبو البقاء على أنه استثناء منقطع تقديره : لكن هو في كتاب مبين ، ويزول بهذا التقدير الإشكال. وقال أبو عبد الله الرازي : أجاب بعض المحققين من وجهين : أحدهما أنّ الاستثناء منقطع ، والآخر أنّ العزوب عبارة عن مطلق البعد ، والمخلوقات قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسموات والأرض ، وقسم أوجده بواسطة القسم الأول مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد ، وهذا قد يتباعد في سلسلة العلية والمملوكية عن مرتبة وجود واجب الوجود ، فالمعنى : لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين ، كتبه الله ، وأثبت صور تلك المعلومات فيها انتهى ، وفيه بعض تلخيص. وقال الجرجاني صاحب النظم : إلا بمعنى الواو أي : وهو في كتاب مبين. والعرب تضع إلّا موضع واو النسق كقوله : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) (١) (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (٢) انتهى. وهذا قول ضعيف لم يثبت من لسان العرب وضع إلا موضع الواو ، وتقدم الكلام على قوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (٣) وسيأتي على قوله : إلا من ظلم إن شاء الله تعالى.

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ١١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٥٠.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٥٠.

٨٠