البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

لله في العبادة ، ولا آلهة نزهوا الله تعالى عن أن يكونوا شركاء له. واحتمل أن يكون عائدا على الإخبار الثاني وهو العبادة ، لما لم يكونوا راضين بالعبادة جعلوا عبادتهم كلا عبادة ، أو لما لم يدعوهم إلى العبادة. ألا ترى أنّ الأصنام والأوثان لا شعور لها بالعبادة ، فضلا عن أن يدعو وإن من عبد من صالحي المؤمنين والملائكة ، لم يدع إلى عبادته. وإن كان الشركاء الشياطين جاز أن يكونوا كاذبين في إخبارهم بكذب من عبدهم ، كما كذب إبليس في قوله : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) (١) والضمير في فألقوا إلى الله عائد على الذين أشركوا ، قاله الأكثرون. والسلم : الاستسلام والانقياد لحكم الله بعد الإباء والاستكبار في الدنيا ، فلم يكن لهم إذ ذاك حيلة ولا دفع. وروى يعقوب عن أبي عمرو : السلم بإسكان اللام. وقرأ مجاهد : بضم السين واللام. وقيل : الضمير عائد على الذين أشركوا ، وشركائهم كلهم. قال الكلبي : استسلموا منقادين لحكمه ، والضمير في وضلوا عائد على الذين أشركوا خاصة أي : وبطل عنهم ما كانوا يفترون من أنّ لله شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرأوا منهم ، والظاهر أنّ الذين مبتدأ وزدناهم الخبر. وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون قوله : الذين ، بدلا من الضمير في يفترون. وزدناهم فعل مستأنف إخباره. وصدوا عن سبيل الله أي : غيرهم زدناهم عذابا بسبب الصد فوق العذاب ، أي : الذي ترتب لهم على الكفر ضاعفوا كفرهم ، فضاعف الله عقابهم. وهذا المزيد عن ابن مسعود عقارب كأمثال النخل الطوال ، وعنه : حيات كأمثال الفيلة ، وعقارب كأمثال البغال. وعن ابن عباس : أنها من صفر مذاب تسيل من تحت العرش يعذبون بها ، وعن الزجاج : يخرجون من حر النار إلى الزمهرير ، فيبادرون من شدة برده إلى النار ، وعلل تلك الزيادة بكونهم مفسدين غيرهم ، وحاملين على الكفر. وفي كل أمة فيها منها حذف في السابق من أنفسهم وأثبته هنا وحذف هناك في وأثبته هنا ، والمعنى في كليهما : أنه يبعث الله أنبياء الأمم فيهم منهم ، والخطاب في ذلك للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإشارة بهؤلاء إلى أمته. وقال ابن عطية : ويجوز أن يبعث الله شهداء من الصالحين مع الرسل. وقد قال بعض الصحابة : إذا رأيت أحدا على معصية فانهه ، فإن أطاعك وإلا كنت عليه شهيدا يوم القيامة انتهى. وكان الشهيد من أنفسهم ، لأنه كان كذلك حين أرسل إليهم في الدنيا من أنفسهم. وقال الأصم أبو بكر المراد الشهيد هو أنه تعالى ينطق عشرة من أجزاء الإنسان حتى تشهد عليه ، لأنه قال

__________________

(١) سورة ابراهيم : ١٤ / ٢٢.

٥٨١

في صفة الشهيد من أنفسهم ، وهذا بعيد لمقابلته بقوله : وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ، فيقتضي المقابلة أنّ الشهداء على الأمم أنبياؤهم كرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ونزلنا استئناف إخبار ، وليس داخلا مع ما قبله لاختلاف الزمانين. لما ذكر ما شرفه الله به من الشهادة على أمته ، ذكر ما أنزل عليه مما فيه بيان كل شيء من أمور الدين ، ليزيح بذلك علتهم فيما كلفوا ، فلا حجة لهم ولا معذرة. والظاهر أنّ تبيانا مصدر جاء على تفعال ، وإن كان باب المصادر أن يجيء على تفعال بالفتح كالترداد والتطواف ، ونظير تبيان في كسر تائه تلقاء. وقد جوّز الزجاج فتحه في غير القرآن. وقال ابن عطية : تبيانا اسم وليس بمصدر ، وهو قول أكثر النحاة. وروى ثعلب عن الكوفيين ، والمبرد عن البصريين : أنه مصدر ولم يجىء على تفعال من المصادر إلا ضربان : تبيان وتلقاء.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف كان القرآن تبيانا لكل شيء؟ (قلت) : المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين حيث كان نصا على بعضها وإحالة على السنة ، حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاعته. وقيل : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (١) وحثا على الإجماع في قوله (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) وقد رضي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمته اتباع أصحابه ، والاقتداء بآثارهم في قوله : «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وقد اجتهدوا ، وقاسوا ، ووطئوا طرق القياس والاجتهاد ، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيين الكتاب ، فمن ثم كان تبيانا لكل شيء. وقوله : وقد رضي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قوله : اهتديتم ، لم يقل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو حديث موضوع لا يصح بوجه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن حزم في رسالته في إبطال الرأي ، والقياس ، والاستحسان ، والتعليل ، والتقليد ما نصه : وهذا خبر مكذوب موضوع باطل لم يصح قط ، وذكر إسناده إلى البزار صاحب المسند قال : سألتم عما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما في أيدي العامة ترويه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : إنما مثل أصحابي كمثل النجوم أو كالنجوم ، بأيها اقتدوا اهتدوا. وهذا كلام لم يصح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه عبد الرحيم بن زيد العمي ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم ، لأن أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه. والكلام أيضا منكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يثبت ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه ، هذا نص

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٣.

٥٨٢

كلام البزار. قال ابن معين : عبد الرحيم بن زيد كذاب خبيث ليس بشيء. وقال البخاري : هو متروك ، رواه أيضا حمزة الجزري ، وحمزة هذا ساقط متروك. ونصبوا تبيانا على الحال. ويجوز أن يكون مفعولا من أجله. وللمسلمين متعلق ببشرى ومن حيث المعنى هو متعلق بهدى ورحمة.

إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ

٥٨٣

مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ

٥٨٤

لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)

النقض ضد الإبرام ، وفي الجرم فك أجزائه بعضها من بعض. التوكيد : التثبيت ويقال : توكيد ، وتأكيد ، وهما لغتان. وزعم الزجاج أنّ الهمزة بدل من الواو ، وليس بجيد. لأن التصريف جاء في التركيبين فدل على أنهما أصلان. الغزل : معروف ، وفعله غزل يغزل بكسر الزاي غزلا ، وأطلق المصدر على المغزول. نفد الشيء ينفد فنى. الأعجمي الذي لا يتكلم بالعربية.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ

٥٨٥

فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) : عن ابن عباس في حديث فيه طول منه : أن عثمان بن مظعون كان جليس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتا فقال له : عثمان ما رأيتك تفعل فعلتك الغداة؟ قال : «وما رأيتني فعلت؟» قال : شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته على يمينك فتحرفت عني إليه وتركتني ، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك قال : أو فطنت لذلك؟ أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس قال : فماذا قال لك : قال لي : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) الآية. قال عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي ، فأحببت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ذكر الله تعالى. ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ، وصل به ما يقتضي التكاليف فرضا ونفلا وأخلاقا وآدابا. والعدل فعل كل مفروض من عقائد ، وشرائع ، وسير مع الناس في أداء الأمانات ، وترك الظلم والإنصاف ، وإعطاء الحق والإحسان فعل كل مندوب إليه قاله ابن عطية. وقال الزمخشري : العدل هو الواجب ، لأن الله عزوجل عدل فيه على عباده ، فجعل ما فرضه عليهم واقعا تحت طاقتهم. والإحسان الندب ، وإنما علق أمره بهم جميعا ، لأنّ الفرض لا بد أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب انتهى. وفي قوله : تحت طاقتهم ، نزغة الاعتزال. وعن ابن عباس : العدل لا إله إلا الله ، والإحسان أداء الفرائض. وعنه أيضا أنّ العدل هو الحق. وعن سفيان بن عيينة : أنه أسوأ السريرة والعلانية في العمل. وذكر الماوردي أنه القضاء بالحق قال تعالى : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (١) وقال أبو سليمان : العدل في لسان العرب الانصاف. وقيل : خلع الأنداد. وقيل : العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال. وإيتاء ذي القربى : هو صلة الرحم ، وهو مندرج تحت الإحسان ، لكنه نبه عليه اهتماما به وحضا على الإحسان إليه. والفحشاء : الزنا ، أو ما شنعته ظاهرة من المعاصي. وفاعلها أبدا مستتر بها ، أو القبيح من فعل أو قول ، أو البخل ، أو موجب الحد في الدنيا والعذاب في الآخرة ، أو مجاوزة حدود الله أقوال ، أولها لابن عباس. والمنكر : الشرك عن مقاتل ، أو ما وعد عليه بالنار عن ابن السائب ، أو مخالفة السريرة للعلانية عن ابن عيينة ، أو ما لا يوجب الحد في الدنيا لكن العذاب في الآخرة. أو ما تنكره العقول أقوال ، ويظهر أنه أعم من الفحشاء لاشتماله على المعاصي والرذائل والبغي : التطاول بالظلم والسعاية فيه ، وهو داخل في المنكر ، ونبه عليه اهتماما باجتنابه. وجمع في المأمور به والمنهي عنه بين ما يجب ويندب ، وما يحرم ويكره ، لاشتراك ذلك في قدر مشترك وهو الطلب في الأمر ، والترك في النهي.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٥٨.

٥٨٦

وقال أبو عبد الله الرازي : أمر بثلاثة ، ونهى عن ثلاثة. فالعدل التوسط بين الإفراط والتفريط ، وذلك في العقائد وأعمال الرعاة. فقال ابن عباس : العدل لا إله إلا الله ، وهو إثبات الإله الواحد ، فليس تعطيلا محضا ولا إثبات أكثر من إله. وإثبات كونه عالما قادرا واجب الصفات فليس نفيا للصفات ، ولا إثبات صفة حادثة متغيرة. وكون فعل العبد بواسطة قدرته تعالى ، والداعية التي جعلها فيه فليس جبرا محضا ، ولا استقلالا بالفعل. وكونه تعالى يخرج من النار من دخلها من أهل التوحيد ، فليس إرجاء ولا تخليدا بالمعصية. وأما أعمال الرعاة فالتكاليف اللازمة لهم ، فليس قولا بأنه لا تكليف ، ولا قولا بتعذيب النفس واجتناب ما يميل الطبع إليه من : أكل الطيب ، والتزوج ، ورمي نفسه من شاهق ، والقصاص ، أو الدية ، أو العفو ، فليس تشديدا في تعيين القصاص كشريعة موسى عليه‌السلام ، ولا عفوا حتما كشريعة عيسى عليه‌السلام ، وتجنب الحائض في اجتناب وطئها فقط فليس اجتنابا مطلقا كشريعة موسى عليه‌السلام ، ولا حل وطئها حالة الحيض كشريعة عيسى عليه‌السلام ، والاختتان فليس إبقاء للقلفة ولا قطعا للآلة كما ذهب إليه المانوية. وقال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (١) (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا) (٢) ولا تجعل الآيتين. ومن المشهور قولهم بالعدل : قامت السموات والأرض ، ومعناه : إن مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة ، وكان بعضها أزيد ، لغلب الازدياد وانقلبت الطبائع. فالشمس لو قربت من العالم لعظمت السخونة واحترق ما فيه ، ولو زاد بعدها لاستوى الحر والبرد. وكذا مقادير حركات الكواكب ، ومراتب سرعتها ، وبطئها. والإحسان : الزيادة على الواجب من الطاعات بحسب الكمية والكيفية ، والدواعي ، والصوارف ، والاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوبية. ومن الإحسان الشفقة على الخلق ، وأصلها صلة الرحم ، والمنهي عنه ثلاثة. وذلك أنه أودع في النفس البشرية قوى أربعة : الشهوانية وهي تحصيل اللذات ، والغضبية وهي : إيصال الشر ، ووهمية : وهي شيطانية تسعى في الترفع والتراوس على الناس. فالفحشاء ما نشأ عن القوّة الشهوانية الخارجة عن أدب الشريعة ، والمنكر ما نشأ عن الغضبية ، والبغي ما نشأ عن الوهمية انتهى ما تخلص من كلامه عفا الله عنه. ولما أمر تعالى بتلك الثلاث ، ونهى عن تلك الثلاث قال : يعظكم به ، أي بما ذكر تعالى من أمر ونهي ، والمعنى : ينبهكم أحسن تنبيه لعلكم تذكرون أي : تتنبهون لما أمرتم به ونهيتم عنه ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٣.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦٧.

٥٨٧

وعقد الله علم لما عقده الإنسان والتزمه مما يوافق الشريعة. وقال الزمخشري : هي البيعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) (١) وكأنه لحظ ما قيل أنها نزلت في الذين بايعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإسلام ، رواه عن بريدة. وقال قتادة ومجاهد : فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر. وقال ميمون بن مهران : الوفاء لمن عاهدته مسلما كان أو كافرا ، فإنما العهد لله. وقال الأصم : الجهاد وما فرض في الأموال من حق. وقيل : اليمين بالله ، ولا تنقضوا العهود الموثقة بالإيمان ، نهى عن نقضها تهمما بها بعد توكيدها أي : توثيقها باسم الله وكفالة الله وشهادته ، ومراقبته ، لأن الكفيل مراع لحال المكفول به. ولا تكونوا أي : في نقض العهد بعد توكيده بالله كالمرأة الورهاء تبرم فتل غزلها ثم تنقضه نكثا ، وهو ما يحل فتله. والتشبيه لا يقتضي تعيين المشبه به. وقال السدي ، وعبد الله بن كثير : هي امرأة حمقاء كانت بمكة. وعن الكلبي ومقاتل : هي من قريش خرقاء اسمها ريطة بنت سعد بن تيم ، تلقب بجفراء ، اتخذت مغزلا قدر ذراع ، وصنارة مثل أصبع ، وفلكة عظيمة على قدرها ، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن. وعن مجاهد : هذا فعل نساء أهل نجد ، تنقض إحداهن غزلها ثم تنفشه ، وتخلطه بالصوف فتغزله. وقال ابن الأنباري : ريطة بنت عمرو المرية ، ولقبها الجفراء من أهل مكة ، وكانت معروفة عند المخاطبين. والظاهر أنّ المراد بقوله : من بعد قوّة أي : شدة حدثت من تركيب قوى الغزل. ولو قدرناها واحدة القوى لم تكن تنتقض أنكاثا. والنكث في اللغة الحبل إذا انتقضت قواه. وقال مجاهد : المعنى من بعد إمرار قوة. والدخل : الفساد والدغل ، جعلوا الإيمان ذريعة إلى الخدع والغدر ، وذلك أن المحلوف له مطمئن ، فيمكن الحالف ضره بما يريده. قالوا : نزلت في العرب كانوا إذا حالفوا قبيلة فجاء أكثر منها عددا حالفوه وغدروا بالتي كانت أقل. وقيل : أن تكونوا أنتم أزيد خبرا ، فأسند إلى أمة ، والمراد المخاطبون. وقال ابن بحر : الدخل والداخل في الشيء لم تكن منه ، ودخلا مفعول ثان. وقيل : مفعول من أجله ، وأن تكون أي : بسبب أن تكون وهي أربى مبتدأ وخبر. وأجاز الكوفيون أن تكون هي عمادا يعنون فضلا ، فيكون أربى في موضع نصب ، ولا يجوز ذلك عند البصريين لتنكير أمة. والضمير في به عائد على المصدر المنسبك من أن تكون أي : بسبب كون أمة أربى من أمة يختبركم بذلك. قال الزمخشري : لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله ، وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من

__________________

(١) سورة الفتح : ٤٨ / ١٠.

٥٨٨

أيمان البيعة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم وليبينن لكم : إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام انتهى. وقيل : يعود على الوفاء بالعهد. وقال ابن جبير ، وابن السائب ، ومقاتل : يعود على الكثرة. قال ابن الأنباري : لما كان تأنيثها غير حقيقي حمل على معنى التذكير ، كما حملت الصيحة على الصياح.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ * وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) : هذه المشيئة مشيئة اختيار على مذهب أهل السنة ، ابتلى الناس بالأمر والنهي ليذهب كل إلى ما يسر له ، وذلك لحق الملك لا يسأل عما يفعل. ولو شاء لكانوا كلهم على طريق واحدة ، إما هدى ، وإما ضلالة ، ولكنه فرق ، فناس للسعادة ، وناس للشقاوة. فخلق الهدى والضلال ، وتوعد بالسؤال عن العمل ، وهو سؤال توبيخ لا سؤال تفهم ، وسؤال التفهم هو المنفي في آيات. ومذهب المعتزلة أن هذه المشيئة مشيئة قهر. قال العسكري : المراد أنه قادر على أن يجمعكم على الإسلام قهرا ، فلم يفعل ذلك ، وخلقكم ليعذب من يشاء على معصيته ، ويثيب من يشاء على طاعته ، ولا يشاء شيئا من ذلك إلا أن يستحقه. ويجوز أن يكون المعنى : أنه لو شاء خلقكم في الجنة ، ولكن لم يفعل ذلك ليثيب المطيعين منكم ، ويعذب العصاة.

ثم قال : ولتسألن عما كنتم تعملون يعني : سؤال المحاسبة والمجازاة. وفيه دليل على أنّ الإضلال في الآية العقاب ، ولو كان الإضلال عن الدين لم يكن لسؤاله إياهم معنى. وقال الزمخشري : أمة واحدة حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار ، وهو قادر على ذلك ، ولكن الحكمة اقتضت أن يضل من يشاء ، وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه ، ويهدي من يشاء وهو أن يلطف بمن علم الله أنه يختار الإيمان ، يعني : أنه بنى الأمر على الاختيار ، وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب ، ولم ينبه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك ، وحققه بقوله : ولتسألن

٥٨٩

عما كنتم تعملون. ولو كان هذا المضطر إلى الضلال والاهتداء ، لما أثبت لهم عملا يسألون عنه انتهى. قالوا : كرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلا تهمما بذلك ، ومبالغة في النهي عنه لعظم موقعه في الدين. قال ابن عطية : وتردده في معاملات الناس. وقال الزمخشري : تأكيدا عليهم ، وإظهار العظم ما يرتكب منه انتهى. وقيل : إنما كرر لاختلاف المعنيين : لأن الأول نهى فيه عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة ، وهنا نهي عن الدخل في الإيمان التي يراد بها اقتطاع حقوق ، فكأنه قال : دخلا بينكم لتتوصلوا بها إلى قطع أموال المسلمين ، وأقول : لم يتكرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلا ، وإنما سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلا معللا بشيء خاص وهو : أن تكون أمة هي أربى من أمة.

وجاء النهي بقوله : ولا تتخذوا ، استئناف إنشاء عن اتخاذ الإيمان دخلا على العموم ، فيشمل جميع الصور من الحلف في المبايعة ، وقطع الحقوق المالية ، وغير ذلك. وانتصب فتزل على جواب النهي ، وهو استعارة لمن كان مستقيما ووقع في أمر عظيم وسقط ، لأنّ القدم إذا زلت تقلب الإنسان من حال خير إلى حال شر. وقال كثير : فلما توافينا ثبت وزلت. قال الزمخشري : فنزل أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها. (فإن قلت) : لم وجدت القدم ونكرت؟ (قلت) : لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه ، فكيف بأقدام كثيرة انتهى؟ ونقول : الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع ، وتارة يلحظ فيه اعتبار كل فرد فرد ، فإذا لوحظ فيه المجموع كان الإسناد معتبرا فيه الجمعية ، وإذا لوحظ كل فرد فرد كان الإسناد مطابقا للفظ الجمع كثيرا ، فيجمع ما أسند إليه ، ومطابقا لكل فرد فرد فيفرد كقوله : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) (١) أفرد متكأ لما كان لوحظ في قوله لهن معنى لكل واحدة ، ولو جاء مرادا به الجمعية أو على الكثير في الوجه الثاني لجمع المتكأ ، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل قول الشاعر :

فإني وجدت الضامرين متاعهم

يموت ويفنى فارضخي من وعائيا

أي : رأيت كل ضامر. ولذلك أفرد الضمير في يموت ويفنى. ولما كان المعنى هنا : لا يتخذ كل واحد منكم ، جاء فنزل قدم مراعاة لهذا المعنى ثم قال : وتذوقوا ، مراعاة للمجموع ، أو للفظ الجمع على الوجه الكثير. إذا قلنا : إن الإسناد لكل فرد فرد ، فتكون الآية قد تعرضت للنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا باعتبار المجموع وباعتبار كل فرد فرد ، ودل على ذلك بإفراد

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٣١.

٥٩٠

قدم وبجمع الضمير في : وتذوقوا. وما مصدرية في بما صددتم ، أي : بصدودكم أو بصدكم غيركم ، لأنهم لو نقضوا الأيمان وارتدوا لاتخذ نقضها سنة لغيرهم فيسبون بها ، وذوق السوء في الدنيا. ولكم عذاب عظيم أي : في الآخرة. والسوء : ما يسوءهم من قتل ، ونهب ، وأسر ، وجلاء ، وغير ذلك مما يسوء.

قال ابن عطية : وقوله صددتم عن سبيل الله ، يدل على أنّ الآية فيمن بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى هذا فسر الزمخشري قال : لأنهم قد نقضوا أيمان البيعة. ولا يدل على ذلك لخصوصه ، بل نقض الأيمان في البيعة مندرج في العموم. ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا ، هذا نهي عن نقض ما بين الله تعالى والعبد لأخذ حطام من عرض الدنيا. قال الزمخشري : كان قوم ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فثبتهم الله. ولا تشتروا : ولا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسول الله ثمنا قليلا عرضا من الدنيا يسيرا ، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا أنّ ما عند الله من إظهاركم وتغنيمكم ومن ثواب الآخرة خير لكم. وقال ابن عطية : هذه آية نهي عن الرشا وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الآخذ فعله ، أو فعل ما يجب عليه تركه ، فإن هذه هي التي عهد الله إلى عباده فيها وبين تعالى الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة ، بأنّ هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان ، وينقضي عنها ، والتي في الآخرة باقية دائمة. ودل قوله : وما عند الله باق ، على أن نعيم الجنة لا ينقطع ، وفي ذلك حجة على جهم بن صفوان إذ زعم أن نعيم الجنة منقطع. وقرأ عاصم ، وابن كثير : ولنجزين بالنون ، وباقي السبعة بالياء. وصبروا : أي جاهدوا أنفسهم على ميثاق الإسلام وأذى الكفار ، وترك المعاصي ، وكسب المال بالوجه الذي لا يحل بأحسن ما كانوا يعملون. قيل : من التنفل بالطاعات ، وكانت أحسن لأنها لم يحتم فعلها ، فكان الإنسان يأتي بالتنفلات مختارا غير ملزوم بها. وقيل : ذكر الأحسن ترغيبا في عمله ، وإن كانت المجازاة على الحسن والأحسن. وقيل : الأحسن هنا بمعنى الحسن ، فليس أفعل التي للتفضيل. والذي يظهر أنّ المراد بالأحسن هنا الصبر أي : وليجزين الذين صبروا بصبرهم أي : بجزاء صبرهم ، وجعل الصبر أحسن الأعمال لاحتياج جميع التكاليف إليه ، فالصبر هو رأسها ، فكان الأحسن لذلك. ومن صالحة للمفرد والمذكر وفروعهما. لكن يتبادر إلى الذهن الإفراد والتذكير ، فبين بالنوعين ليعم الوعد كليهما. وهو مؤمن : جملة حالية ، والإيمان شرط في العمل

٥٩١

الصالح مخصص لقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (١) أو يراد بمثقال ذرة من إيمان ، كما جاء في من يخرج من النار من عصاة المؤمنين ، والظاهر من قوله تعالى : فلنحيينه حياة طيبة ، أنّ ذلك في الدنيا وهو قول الجمهور ؛ ويدل عليه قوله : ولنجزينهم أجرهم يعني في الآخرة ، وقال الحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، وابن زيد : ذلك في الجنة. وقال شريك : في القبر. وقال عليّ ، ووهب بن منبه ، وابن عباس ، والحسن في رواية عنهما هي : القناعة ، وعن ابن عباس والضحاك : الرزق الحلال ، وعنه أيضا : السعادة. وقال عكرمة : الطاعة. وقال قتادة : الرزق في يوم بيوم ، وقال إسماعيل بن أبي خالد : الرزق الطيب والعمل الصالح ، وقال أبو بكر الورّاق : حلاوة الطاعة ، وقيل : العافية والكفاية ، وقيل : الرضا بالقضاء ، ذكرهما الماوردي. وقال الزمخشري : المؤمن مع العمل الصالح إن كان موسرا فلا مقال فيه ، وإن كان معسرا فمعه ما يطيب عيشه ، وهو القناعة والرضا بقسمة الله تعالى. والفاجر إن كان معسرا فلا إشكال في أمره ، وإن كان موسرا فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه. وقال ابن عطية : طيب الحياة للصالحين بانبساط نفوسهم ونيلها وقوة رجائهم ، والرجاء للنفس أمر ملذ ، وبأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم ، فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة وقناعة فذاك كمال ، وإلا فالطيب فيما ذكرنا راتب. وعاد الضمير في فلنحيينه على لفظه من مفردا ، وفي ولنجزينهم على معناها من الجمع ، فجمع. وروي عن نافع : وليجزينهم بالياء بدل النون ، التفت من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة. وينبغي أن يكون على تقدير قسم ثان لا معطوفا على فلنحيينه ، فيكون من عطف جملة قسمية على جملة قسمية ، وكلتاهما محذوفتان. ولا يكون من عطف جواب على جواب ، لتغاير الإسناد وإفضاء الثاني إلى إخبار المتكلم عن نفسه بإخبار الغائب ، وذلك لا يجوز. فعلى هذا لا يجوز : زيد قلت والله لأضربن هندا ولينفينها ، يريد ولينفيها زيد. فإن جعلته على إضمار قسم ثان جاز أي : وقال زيد لينفينها لأن ، لك في هذا التركيب أن تحكى لفظه ، وأن تحكى على المعنى. فمن الأول : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) (٢) ومن الثاني : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) (٣) ولو جاء على اللفظ لكان ما قلنا.

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ

__________________

(١) سورة الزلزلة : ٩٩ / ٧.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ١٠٧.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ٧٤.

٥٩٢

آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ * وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) : لما ذكر تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (١) وذكر أشياء مما بين في الكتاب ، ثم ذكر قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) (٢) ذكر ما يصون به القارئ قراءته من وسوسة الشيطان ونزغه ، فخاطب السامع بالاستعاذة منه إذا أخذ في القراءة. فإن كان الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفظا فالمراد أمته ، إذ كانت قراءة القرآن من أجل الأعمال الصالحة كما ورد في الحديث : إن ثواب قراءة كل حرف عشر حسنات والظاهر بعقب الاستعاذة. وقد روى ذلك بعض الرواة عن حمزة ، وروي عن ابن سيرين أنه قال : كلما قرأت الفاتحة حين تقول : آمين ، فاستعذ. وروي عن أبي هريرة ، ومالك ، وداود. تعقبها القراءة كما روي عن حمزة والجمهور : على ترك هذا الظاهر وتأويله بمعنى : فإذا أردت القراءة. قال الزمخشري : لأنّ الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه ، فكان بسبب قوى وملابسة ظاهرة كقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (٣) وكقوله : «إذا أكلت فسم الله» وقال ابن عطية : فإذا وصلة بين الكلامين والعرب تستعملها في مثل هذا ، وتقدير الآية : فإذا أخذت في قراءة القرآن فاستعذ ، أمر بالاستعاذة. فالجمهور على الندب ، وعن عطاء الوجوب. والظاهر : طلب الاستعاذة عند القراءة مطلقا ، والظاهر : أنّ الشيطان المراد به إبليس وأعوانه. وقيل : عام في كل متمرد عات من جن وإنس ، كما قال شياطين الإنس والجن. واختلف في كيفية الاستعاذة ، والذي صار إليه الجمهور من القراء وغيرهم واختاروه : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، لما روى عبد الله بن مسعود ، وأبو هريرة ، وجبير بن مطعم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه استعاذ عند القراءة بهذا اللفظ بعينه» ونفى تعالى سلطان الشيطان عن المؤمنين. والسلطان هنا التسليط والولاية ، والمعنى : أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته كما قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (٤) وكما أخبر تعالى عنه فقال في قصة أوليائه : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (٥) وقيل :

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٨٩.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٩٧.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ٦.

(٤) سورة الحجر : ١٥ / ٤٢.

(٥) سورة ابراهيم : ١٤ / ٢٢.

٥٩٣

المراد بالسلطان الحجة ، وظاهر الإخبار انتفاء سلطنته على المؤمنين مطلقا. وقيل : ليس له عليهم سلطان لاستعاذتهم منه. وقيل : ليس له قدرة أن يحملهم على ذنب ، والضمير في به عائد على بهم ، وقيل : على الشيطان ، وهو الظاهر لاتفاق الضمائر والمعنى : والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله ، أو تكون الباء للسببية ، والأمر بالاستعاذة يقتضي أنها تصرف كيد الشيطان ، كأنها متضمنة التوكل على الله والانقطاع إليه.

ولما ذكر تعالى إنزال الكتاب تبيينا لكل شيء ، وأمر بالاستعاذة عند قراءته ، ذكر تعالى نتيجة ولاية الشيطان لأوليائه المشركين ، وما يلقيه إليهم من الأباطيل ، فألقى إليهم إنكار النسخ لما رأوا تبديل آية مكان آية. وتقدم الكلام في النسخ في البقرة. والظاهر أنّ هذا التبديل رفع آية لفظا ومعنى ، ويجوز أن يكون التبديل لحكم المعنى وإبقاء اللفظ. ووجد الكفار بذلك طعنا في الدين ، وما علموا أنّ المصالح تختلف باختلاف الأوقات والأشخاص ، وكما وقع نسخ شريعة بشريعة يقع في شريعة واحدة. وأخبر تعالى أنه العالم بما ينزل لا أنتم ، وما ينزل مما يقره وما يرفعه ، فمرجع علم ذلك إليه ، وهو على حسب الحوادث والمصالح ، وهذه حكمة إنزاله شيئا فشيئا ، وهذه الجملة اعتراض بين الشرط وجوابه. قيل : ويحتمل أن يكون حالا. وبالغوا في نسبة الافتراء للرسول بلفظ إنما ، وبمواجهة الخطاب ، وباسم الفاعل الدال على الثبوت ، وقال : بل أكثرهم ، لأن بعضهم يعلم ويكفر عنادا. ومفعول لا يعلمون محذوف لدلالة المعنى عليه أي : لا يعلمون أنّ الشرائع حكم ومصالح. هذه الآية دلت على وقوع نسخ القرآن بالقرآن. وروح القدس : هنا هو جبريل عليه‌السلام بلا خلاف ، وتقدم لم سمي روح القدس. وأضاف الرب إلى كاف الخطاب تشريفا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم باختصاص الإضافة ، وإعراضا عنهم ، إذ لم يضف إليهم. وبالحق حال أي : ملتبسا بالحق سواء كان ناسخا أو منسوخا ، فكله مصحوب بالحق لا يعتريه شيء من الباطل. وليثبت معناه أنهم لا يضطربون في شيء منه لكونه نسخ ، بل النسخ مثبت لهم على إيمانهم ، لعلمهم أنه جميعه من عند الله ، لصحة إيمانهم واطمئنان قلوبهم يعلمون أنه حكيم ، وأنّ أفعاله كلها صادرة عن حكمة ، فهي صواب كلها. ودل اختصاص التعليل بالمسلمين على اتصاف الكفار بضده من لحاق الاضطراب لهم وتزلزل عقائدهم وضلالهم. وقرىء : ليثبت مخففا من أثبت. قال الزمخشري : وهدى وبشرى مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت انتهى. وتقدم الرد عليه في نحو هذا ، وهو

٥٩٤

قوله : (لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) (١) وهدى ورحمة في هذه السورة. ولا يمتنع عطفه على المصدر المنسبك من أن والفعل ، لأنه مجرور ، فيكون وهدى وبشرى مجرورين كما تقول : جئت لأحسن إلى زيد وإكرام لخالد ، إذ التقدير : لإحسان إلى زيد. وأجاز أبو البقاء أن يكون ارتفاع هدى وبشرى على إضمار مبتدأ أي : وهو هدى وبشرى. ولما نسبوه عليه‌السلام للافتراء وهو الكذب على الله ، لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا ذلك الافتراء الذي نسبوه هو من تعليم بشر إياه ، فليس هو المختلق بل المختلق غيره ، وهو ناقل عنه. وظاهر قولهم : إنما أنت مفتر. إنّ معناه : مختلق الكذب ، وهو ينافي التعلم من البشر ، فيحتمل أن يكون قوله : مفتر ، في نسبة ذلك إلى الله ، ويحتمل أن يكونوا فيه طائفتين : طائفة ذهبت إلى أنه هو المفتري ، وطائفة أنه يتعلم من البشر. ويعلم مضارع اللفظ ومعناه : المضي أي : ولقد علمنا ، وجاء إسناد التعليم إلى مبهم لم يعين. فقيل : هو حبر غلام ورمى كان لعامر بن الحضرمي ، وقيل : عائش أو يعيش ، وكان صاحب كتب مولى حويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه قاله : الفراء ، والزجاج. وقيل : أبو فكيهة أعجمي مولى لمرأة بمكة. قيل : واسمه يسار وكان يهوديا قاله : مقاتل ، وابن جبير ، إلا أنه لم يقل كان يهوديا. وقال ابن زيد : كان رجلا حدادا نصرانيا اسمه عنس. وقال حصين بن عبد الله بن مسلم : كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر ، يسار وحبر ، كانا يقرآن كتبا لهما بلسانهم ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمر بهما فيسمع قراءتهما. قيل : وكانا حدادين يصنعان السيوف ، فقال المشركون : يتعلم منهما فقيل لأحدهما ذلك فقال : بل هو يعلمني ، فقال ابن عباس : كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له : بلعام ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمه الإسلام فقالت قريش : هذا يعلم محمدا من جهة الأعاجم. وقال الضحاك : الإشارة إلى سلمان الفارسي ، وضعف هذا من جهة أنّ سلمان إنما أسلم بعد الهجرة ، وهذا السورة مكية إلا ما نبه عليه أنه مدني. واللسان : هنا اللغة. وقرأ الحسن : اللسان الذي بتعريف اللسان بأل ، والذي صفته. وقرأ حمزة والكسائي : يلحدون من لحد ثلاثيا ، وهي قراءة عبد الله بن طلحة ، والسلمي ، والأعمش ، ومجاهد ، وقرأ باقي السبعة ، وابن القعقاع : بضم الياء وكسر الحاء من ألحد رباعيا وهما بمعنى واحد. قال الزمخشري : يقال ألحد القبر ولحده ، فهو ملحد وملحودا ذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه ، ثم استعير لكل إمالة عن استقامة فقالوا : ألحد فلان في قوله : وألحد في دينه لأنه أمال دينه عن الأديان كلها ، لم

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٦٤.

٥٩٥

يمله من دين إلى دين. والمعنى : لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أعجمي غير بين ، وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة ، ردّا لقولهم وإبطالا لطعنهم انتهى. وظاهر قول الزمخشري : إن اللسان في الموضعين اللغة. وقال ابن عطية : وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارحة. واللسان في كلام العرب اللغة ، ويحتمل أن يراد وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارحة. واللسان في كلام العرب اللغة ، ويحتمل أن يراد في هذه الآية. وقال الكرماني : المعنى أنتم أفصح وأبلغهم وأقدرهم على الكلام نظما ونثرا ، وقد عجزتم وعجز جميع العرب ، فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن؟

قال الزمخشري : (فإن قلت) : الجملة التي هي قوله لبيان الذي يلحدون إليه أعجمي ، ما محلها؟ (قلت) : لا محل لها ، لأنها مستأنفة جواب لقولهم ، ومثله قوله الله : أعلم ، حيث يجعل رسالاته بعد قوله : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) (١) انتهى. ويجوز عندي أن تكون جملة حالية فموضعها نصب وذلك أبلغ في الإنكار عليهم أي : يقولون ذلك والحالة هذه أي : علمهم بأعجمية هذا البشر وإبانة عربية هذا القرآن كان يمنعهم من تلك المقالة ، كما تقول : تشتم فلانا وهو قد أحسن إليك أي : علمك بإحسانه لك كان يقتضي منعك من شتمه. وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف ولم يذهب إلى الحال ، لأن من مذهبه أن مجيء الجملة الحالية الاسمية بغير واو شاذ ، وهو مذهب مرجوح جدا ، ومجيء ذلك بغير واو لا يكاد ينحصر كثرة في كلام العرب ، وهو مذهب تبع فيه الفراء ، وأما الله أعلم فظاهر قوله فيها ، لأنها جملة خالية من ضمير يعود على ذي الحال ، لأن ذا الحال هو ضمير قالوا ، وفي هذه الآية ذو الحال ضمير يقولون ، والضمير الذي في جملة الحال هو ضمير الفاعل في يلحدون ، فالجملة وإن عريت عن الواو ففيها ضمير ذي الحال.

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ * إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ * مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٤.

٥٩٦

الْكافِرِينَ * أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ * لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ * ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) : لما ذكر تعالى نسبتهم إلى الافتراء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنّ ما أتى به من عند الله إنما يعلمه إياه بشر ، كان ذلك تسجيلا عليهم بانتفاء الإيمان ، فأخبر تعالى عنهم أنهم لا يهديهم الله أبدا إذ كانوا جاحدين آيات الله ، وهو ما أتى به الرسول من المعجزات وخصوصا القرآن ، فمن بالغ في جحد آيات الله سد الله عليه باب الهداية. وذكر تعالى وعيده بالعذاب الأليم لهم ، ومعنى لا يهديهم : لا يخلق الإيمان في قلوبهم. وهذا عام مخصوص ، فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى. وقال الزمخشري : لا يهديهم الله لا يلطف بهم ، لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة ، لا من أهل اللطف والثواب انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. وقال ابن عطية : المفهوم من الوجود أنّ الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بآياته ، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخبرتهما بتقبيح فعلهم والتشنيع بخطئهم ، وذلك كقوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١) والمراد ما ذكرناه ، فكأنه قال : إن الذين لم يؤمنوا لم يهدهم الله انتهى. وقال القاضي : أقوى ما قيل في ذلك لا يهديهم إلى طريق الجنة ، ولذلك قال بعده : ولهم عذاب أليم ، والمراد أنهم لما تركوا الإيمان بالله لا يهديهم الله إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار. وقال العسكري : يجوز أن يكون المعنى أنهم إن لم يؤمنوا بهذه الآيات لم يهتدوا ، والمراد بقوله : لا يهديهم الله أي لا يهتدون ، وإنما يقال : هدى الله فلانا على الإطلاق إذا اهتدى هو ، وأما من لم يقبل الهدى فإنه يقال : إن الله هداه فلم يهتد ، كما قال : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٢) ثم ردّ تعالى قولهم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) (٣) بقوله : إنما يفتري الكذب ، أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن ، لأنه يترقب عقابا عليه. ولما كان في كلامهم إنما وهو يقتضي الحصر عند بعضهم ، جاء الرد عليهم بإنما أيضا ، وجاء بلفظ يفتري الذي يقتضي التجدد ، ثم علق الحكم على الوصف المقتضي للافتراء وهو : انتفاء الإيمان ، وختم بقوله : وأولئك هم الكاذبون. فاقتضى التوكيد البالغ والحصر بلفظ الإشارة ، والتأكيد بلفظ هم ، وإدخال أل على الكاذبون ، وبكونه اسم فاعل يقتضي الثبوت والدوام ، فجاء يفتري يقتضي التجدد ، وجاء الكاذبون يقتضي الثبوت والدوام. وقال الزمخشري : وأولئك إشارة

__________________

(١) سورة الصف : ٦١ / ٥.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ١٧.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ١٠١.

٥٩٧

إلى قريش هم الكاذبون ، هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون. أو إلى الذين لا يؤمنون أي : وأولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب ، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب. أو أولئك هم الكاذبون عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء ، لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين. أو أولئك هم الكاذبون في قولهم : إنما أنت مفتر انتهى. والوجه الذي بدأ به بعيد ، وهو أن وأولئك إشارة إلى قريش. والظاهر أن من شرطية في موضع رفع على الابتداء ، وهو استئناف إخبار لا تعلق له بما قبله من جهة الإعراب. ولما كان الكفر يكون باللفظ وبالاعتقاد ، استثنى من الكافرين من كفر باللفظ وقلبه مطمئن بالإيمان ، ورخص له في النطق بكلمة الكفر إذ كان قلبه مؤمنا ، وذلك مع الإكراه. والمعنى : إلا من أكره على الكفر ، تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما بعده عليه تقديره : الكافرون بعد الإيمان غير المكرهين ، فعليهم غضب. ويصح أن يكون الاستثناء من ما تضمنه جواب الشرط المحذوف أي : فعليهم غضب ، إلا من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب ، ولكن من شرح وكذا قدره الزمخشري أعني الجواب قبل الاستثناء في قول من جعل من شرطا. وقال ابن عطية : وقالت فرقة من في قوله من كفر ابتداء ، وقوله : من شرح تخصيص منه ، ودخل الاستثناء لإخراج عمار وشبهه. ودنا من الاستثناء الأول الاستدراك بلكن وقوله : فعليهم ، خبر عن من الأولى والثانية ، إذ هو واحد بالمعنى لأن الإخبار في قوله : من كفر ، إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر انتهى. وهذا وإن كان كما ذكر فهاتان جملتان شرطيتان ، وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك ، فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على انفراده لا يشتركان فيه ، فتقدير الحذف أحرى على صناعة الإعراب. وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في ادعائه أن قوله : (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (١) وقوله : (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) (٢) جواب لأما ، ولأنّ هذا وهما أداتا شرط ، إحداهما تلي الأخرى ، وعلى كون من في موضع رفع على الابتداء ، يجوز أن تكون شرطية كما ذكرنا ، ويجوز أن تكون موصولة وما بعدها صلتها ، والخبر محذوف لدلالة ما بعده عليه ، كما ذكرنا في حذف جواب الشرط. إلا أن من الثانية لا يجوز أن تكون شرطا حتى يقدر قبلها مبتدأ لأنّ من وليت لكن فيتعين إذ ذاك أن تكون من موصولة ، فإن قدر مبتدأ بعد لكن جاز أن تكون شرطية في موضع خبر ذلك المبتدأ المقدر كقوله :

__________________

(١) سورة الواقعة : ٥٦ / ٩١.

(٢) سورة الواقعة : ٥٦ / ٣٩.

٥٩٨

ولكن متى يسترفد القوم أرفد

أي : ولكن أنا متى يسترفد القوم أرفد. وكذلك تقدر هنا ، ولكن هم من شرح بالكفر صدرا أي : منهم. وأجاز الحوفي والزمخشري : أن تكون بدلا من الذين لا يؤمنون ، ومن الكاذبون. ولم يجز الزجاج إلا أن يكون بدلا من الكاذبون ، لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام ، فعلقه بما قبله. وأجاز الزمخشري أن يكون بدلا من أولئك ، فإذا كان بدلا من الذين لا يؤمنون فيكون قوله : وأولئك هم الكاذبون ، جملة اعتراض بين البدل والمبدل منه ، والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء. وإذا كان بدلا من الكاذبون فالتقدير : وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، وإذا كان بدلا من أولئك فالتقدير : ومن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون.

وهذه الأوجه الثلاثة عندي ضعيفة. لأنّ الأول يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه ، والوجود يقتضي أنّ من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن ، وسواء كان ممن كفر بعد الإيمان أنه كان ممن لم يؤمن قط ، بل من لم يؤمن قط هم الأكثرون المفترون الكذب. وأما الثاني فيؤول المعنى إلى ذلك ، إذ التقدير : وأولئك أي الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، والذين لا يؤمنون هم المفترون. وأما الثالث فكذلك. إذ التقدير : أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، مخبر عنهم بأنهم الكاذبون. وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب على الذم انتهى. وهذا أيضا بعيد ، والذي تقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة لا ترتبط بما قبلها من حيث الإعراب ، بل من حيث المعنى. والمناسبة وفي قوله : إلا من أكره دليل على أنّ من فعل المكره لا يترتب عليه شيء ، وإذا كان قد سومح لكلمة الكفر أو فعل ما يؤدي إليه ، فالمسامحة بغيره من المعاصي أولى. وقد تكلموا في كيفية الإكراه المبيح لذلك ، وفي تفصيل الأشياء التي يقع الإكراه فيها ، وذلك كله مذكور في كتب الفقه. والمكرهون على الكفر المعذبون على الإسلام : خباب ، وصهيب ، وبلال ، وعمار ، وأبواه ياسر وسمية ، وسالم ، وحبر ، عذبوا فأجابهم عمار وحبر باللفظ فخلي سبيلهما ، وتمادى الباقون على الإسلام فقتل ياسر وسمية ، وهما أول قتيل في الإسلام ، وعذب بلال وهو يقول : (أحد أحد) وعذب خباب بالنار فما أطفأها إلا ودك ظهره. وجمع الضمير في فعليهم على معنى من ، وأفرد في شرح

٥٩٩

على لفظها. والظاهر أنّ ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذاب أي : كائن لهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة. وقال الزمخشري : واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم انتهى. وهي نزغة اعتزالية. والضمير في بأنهم عائد على من في من شرح : ولما فعلوا فعل من استحب ، ألزموا ذلك وإن كانوا غيره مصدقين بآخره ، لكن من حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره. وقوله : استحبوا ، هو تكسب منهم علق به العقاب ، وأنّ الله لا يهدي إشارة إلى اختراع الله الكفر في قلوبهم ، فجمعت الآية بين الكسب والاختراع ، وهذا عقيدة أهل السنة. وقيل : ذلك إشارة إلى الارتداد والإقدام على الكفر ، لأجل أنهم رجحوا الدنيا على الآخرة ، ولأنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان. وتقدم الكلام على الطبع على القلوب والسمع والأبصار والختم عليها. وأولئك هم الغافلون : قال ابن عباس : عن ما يراد منهم في الآخرة. وقال الزمخشري : الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم ، لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها. ولما كان الإسناد ليكتسب بالطاعات سعادة الآخرة ، فعمل على عكس ذلك من المعاصي الكفر وغيره عظم خسرانه فقيل فيهم : هم الخاسرون لا غيرهم. ومن أخسر ممن اتصف بتلك الأوصاف السابقة من كينونة غضب الله عليهم ، والعذاب الأليم ، واستحباب الدنيا ، وانتفاء هدايتهم ، والإخبار بالطبع وبغفلتهم. ولما ذكر تعالى حال من كفر بعد الإيمان ، وحال من أكره ، ذكر حال من هاجر بعد ما فتن.

قال ابن عطية : وهذه الآية مدنية ، ولا أعلم في ذلك خلافا. وقال ابن عباس : نزلت فكتب بها المسلمون إلى من كان أسلم بمكة أنّ الله قد جعل لكم مخرجا ، فخرجوا ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل ، فعلى هذا السبب يكون جهادهم مع الرسول على الإسلام. وروي أنهم خرجوا واتبعوا وجاهدوا متبعيهم ، فقتل من قتل ، ونجا من نجا ، فنزلت حينئذ ، فعنى بالجهاد جهادهم لمتبعيهم. وقال ابن إسحاق : نزلت في عمار ، وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد. قال ابن عطية : وذكر عمار في هذا غير قويم ، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء ، وإنما هؤلاء من باب ممن شرح بالكفر صدرا أفتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية. وقال عكرمة والحسن : نزلت في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه ، فكأنه يقول : من بعد ما فتنهم الشيطان. وقال الزمخشري : ثم إن ربك دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك ، وهم عمار وأصحابه. وللذين عند الزمخشري في موضع خبران قال : ومعنى إن ربك لهم إنه لهم لا عليهم ، بمعنى أنه وليهم وناصرهم ،

٦٠٠