البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

وذكر تعالى المقر الذي يخرج منه الشراب وهو بطونها ، وهو مبدأ الغاية الأولى ، والجمهور على أنه يخرج من أفواهها وهو مبدأ الغاية الأخيرة ولذلك قال الحريري :

تقل هذا مجاج النحل تمدحه

وإن ذممت تقل قيء الزنابير

والمجاج والقيء لا يكونان إلا من الفم. وروي عن عليّ كرم الله وجهه أنه قال في تحقير الدنيا : أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة ، وأشرف شرابه رجيع نحلة. وعنه أيضا : أما العسل فونيم ذباب ، فظاهر هذا أن العسل يخرج من غير الفم ، وقد خفي من أي المخرجين يخرج ، أمن الفم؟ أم من أسفل؟ وحكي أن سليمان عليه‌السلام ، والإسكندر ، وأرسطاطاليس ، صنعوا لها بيوتا من زجاج لينظروا إلى كيفية صنعها ، وهل يخرج العسل من فيها أم من أسفلها؟ فلم تضع من العسل شيئا حتى لطخت باطن الزجاج بالطين بحيث يمنع المشاهدة. وقال الحسن : لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم ، فجعله لعابا كالريق الدائم الذي يخرج من فم ابن آدم. وقيل : من بطونها من أفواهها ، سمى الفم بطنا لأنه في حكم البطن ، ولأنه مما يبطن ولا يظهر. واختلاف ألوانه بالبياض والصفرة والحمرة والسواد ، وذلك لاختلاف طباع النحل ، واختلاف المراعي. وقد يختلف طعمه لاختلاف المرعى كما في الحديث «جرست نحله العرفط» وقيل : الأبيض تلقيه شباب النحل ، والأصفر كهولها ، والأحمر شبيبها. والظاهر عود الضمير فيه إلى الشراب وهو العسل ، لأنه شفاء من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة. وقلّ معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل ، والعسل موجود كثير في أكثر البلدان. وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث ، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان يجعل في الأشربة والأدوية إلا العسل. وليس المراد بالناس هنا العموم ، لأن كثيرا من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل ، وإنما المعنى للناس الذي ينجع العسل في أمراضهم. ونكر شفاء إما للتعظيم فيكون المعنى فيه شفاء أي شفاء ، وإما لدلالته على مطلق الشفاء أي : فيه بعض الشفاء. وروي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، والفراء ، وابن كيسان : أن الضمير في فيه عائد على القرآن ، أي : في القرآن شفاء للناس. قال النحاس : وهذا قول حسن أي : فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس. قال القاضي أبو بكر بن العربي : أرى هذا القول لا يصح نقله عن هؤلاء ، ولو صح نقلا لم يصح عقلا فإن سياق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر ، ولما كان أمر النحل عجيبا في بنائها تلك البيوت

٥٦١

المسدسة ، وفي أكلها من أنواع الأزهار والأوراق الحامض والمر والضار ، وفي طواعيتها لأميرها ولمن يملكها في النقلة معه ، وكان النظر في ذلك يحتاج إلى تأمل وزيادة تدبر ختم بقوله تخ عالى : إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ * وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) : لما ذكر تعالى تلك الآيات التي في الأنعام والثمرات والنحل ، ذكر ما نبهنا به على قدرته التامة في إنشائنا من العدم وإماتتنا ، وتنقلنا في حال الحياة من حالة الجهل إلى حالة العلم ، وذلك كله دليل على القدرة التامة والعلم الواسع ، ولذلك ختم بقوله : عليم قدير.

وأرذل العمر آخره الذي تفسد فيه الحواس ، ويختل النطق والفكر. وخص بالرذيلة لأنها حالة لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد ، بخلاف حال الطفولة فإنها حالة تتقدم فيها إلى القوة وإدراك الأشياء ولا يتقيد أرذل العمر بسن مخصوص ، كما روي عن علي : أنه خمس وسبعون سنة. وعن قتادة : أنه تسعون ، وإنما ذلك بحسب إنسان إنسان فرب ابن خمسين انتهى ، إلى أرذل العمر ، ورب ابن مائة لم يرد إليه. والظاهر أنّ من يرد إلى أرذل العمر عام ، فيمن يلحقه الخرف والهرم. وقيل : هذا في الكافر ، لأن المسلم لا يزداد بطول عمره لا كرامة على الله ، ولذلك قال تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (١) أي لم يردوا إلى أسفل سافلين. وقال قتادة : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل لعمر.

واللام في لكي قال الحوفي : هي لام كي دخلت على كي للتوكيد ، وهي متعلقة بيرد انتهى. والذي ذهب إليه محققو النحاة في مثل لكي أنّ كي حرف مصدري إذا دخلت عليها اللام وهي الناصبة كأن ، واللام جارة ، فينسبك من كي والمضارع بعدها مصدر مجرور باللام تقديرا ، فاللام على هذا لم تدخل على كي للتوكيد لاختلاف معناهما واختلاف

__________________

(١) سورة التين : ٩٥ / ٥ ـ ٦.

٥٦٢

عملهما ، لأن اللام مشعرة بالتعليل ، وكي حرف مصدري ، واللام جارة ، وكي ناصبة. وقال ابن عطية : يشبه أن تكون لام صيرورة والمعنى : ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئا. وهذه عبارة عن قلة علمه ، لا أنه لا يعلم شيئا البتة. وقال الزمخشري : ليصير إلى حالة شبيهة بحالة في النسيان ، وأن يعلم شيئا ثم يسرع في نسيانه فلا يعلمه إن سئل عنه. وقيل : لئلا يعقل من بعد عقله الأول شيئا. وقيل : لئلا يعلم زيادة علم على علمه انتهى. وانتصب شيئا إما بالمصدر على مذهب البصريين في اختيار أعماله ما يلي للقرب ، أو بيعلم على مذهب الكوفيين في اختيار أعمال ما سبق للسبق.

ولما ذكر ما يعرض في الهرم من ضعف القوى والقدرة وانتفاء العلم ، ذكر علمه وقدرته اللذين لا يتبدلان ولا يتغيران ولا يدخلهما الحوادث ، ووليت صفة العلم ما جاورها من انتفاء العلم ، وتقدم أيضا ذكر مناسبة للختم بهذين الوصفين. ولما ذكر تعالى خلقنا ، ثم إماتتنا وتفاوتنا في السن ، ذكر تفاوتنا في الرزق ، وأن رزقنا أفضل من رزق المماليك وهم بشر مثلنا ، وربما كان المملوك خيرا من المولى في العقل والدين والتصرف ، وأن الفاضل في الرزق لا يساهم مملوكه فيما رزق فيساويه ، وكان ينبغي أن يردّ فضل ما رزق عليه ويساويه في المطعم والملبس ، كما يحكى عن أبي ذرّ أنه ريء عبده وإزاره ورداؤه مثل ردائه من غير تفاوت ، عملا بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون» وعن ابن عباس وقتادة : أنّ الإخبار بقوله : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على سبيل المثل أي : إنّ المفضلين في الرزق لا يصح منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أعطوا حتى تستوي أحوالهم ، فإذا كان هذا في البشر فكيف تنسبون أنتم أيها الكفرة إلى الله تعالى أنه يشرك في ألوهيته الأوثان والأصنام ، ومن عبد من الملائكة وغيرهم والجميع عبيده وخلقه؟ وعن ابن عباس : أن الآية مشيرة إلى عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. وقال المفسرون : هذه الآية كقوله : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (١) الآية. وقيل : المعنى أن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعا ، فهم في رزقي سواء ، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئا من الرزق ، فإنما ذلك أجريه إليهم على أيديهم. وعلى هذا القول يكون فهم فيه سواء جملة إخبار عن تساوي الجميع في أن الله تعالى هو رازقهم ، وعلى القولين الآخرين تكون الجملة فى

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٢٨.

٥٦٣

موضع جواب النفي كأنه قيل : فيستووا. وقيل : هي جملة استفهامية حذف منها الهمزة التقدير : أفهم فيه سواء أي : ليسوا مستوين في الرزق ، بل التفضيل واقع لا محالة. ثم استفهم عن جحودهم نعمة استفهام إنكار ، وأتى بالنعمة الشاملة للرزق وغيره من النعم التي لا تحصى أي : إنّ من تفضل عليكم بالنشأة أولا ثم مما فيه قوام حياتكم جدير بأن تشكر نعمه ولا تكفر.

وقرأ أبو بكر عن عاصم ، وأبو عبد الرحمن ، والأعرج بخلاف عنه : تجحدون بالتاء على الخطاب لقوله : فضل ، تبكيتا لهم في جحد نعمة الله. ولما ذكر تعالى امتنانه بالإيجاد ثم بالرزق المفضل فيه ، ذكر امتنانه بما يقوم بمصالح الإنسان مما يأنس به ويستنصر به ويخدمه ، واحتمل من أنفسكم أن يكون المراد من جنسكم ونوعكم ، واحتمل أن يكون ذلك باعتبار خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم ، فنسب ذلك إلى بني آدم ، وكلا الاحتمالين مجاز. والظاهر أن عطف حفدة على بنين يفيد كون الجميع من الأزواج ، وأنهم غير البنين. فقال الحسن : هم بنو ابنك. وقال ابن عباس والأزهري : الحفدة أولاد الأولاد ، واختاره ابن العربي. وقال ابن عباس أيضا : البنون صغار الأولاد ، والحفدة كبارهم. وقال مقاتل : بعكسه ، وقيل : البنات لأنهنّ يخدمن في البيوت أتم خدمة. ففي هذا القول خص البنين بالذكران لأنه جمع مذكر كما قال : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) (١) وإنما الزينة في الذكورة. وعن ابن عباس : هم أولاد الزوجة من غير الزوج التي هي في عصمته. وقيل : وحفدة منصوب بجعل مضمرة ، وليسوا داخلين في كونهم من الأزواج. فقال ابن مسعود ، وعلقمة ، وأبو الضحى ، وابراهيم بن جبير : الأصهار ، وهم قرابة الزوجة كأبيها وأخيها. وقال مجاهد : هم الأنصار والأعوان والخدم. وقالت فرقة : الحفدة هم البنون أي : جامعون بين البنوة والخدمة ، فهو من عطف الصفات لموصوف واحد. قال ابن عطية ما معناه : وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجه بنين وحفدة ، وهذا إنما هو في الغالب وعظم الناس. ويحتمل عندي أن قوله من أزواجكم ، إنما هو على العموم والاشتراك أي : من أزواج البشر جعل الله منهم البنين ، ومنهم جعل الخدمة ، وهكذا رتبت الآية النعمة التي تشمل العالم. ويستقيم لفظ الحفدة على مجراها في اللغة ، إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحد منهم عن حفدة انتهى. وفي قوله : من أنفسكم أزواجا دلالة على كذب العرب في

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٤٦.

٥٦٤

اعتقادها أن الآدمي قد يتزوج من الجن ويباضعها ، حتى حكوا ذلك عن عمرو بن هندانة تزوج سعلاة.

ومن في الطيبات للتبعيض ، لأن كل الطيبات في الجنة ، والذي في الدنيا أنموذج منها. والظاهر أنّ الطيبات هنا المستلذات لا الحلال ، لأن المخاطبين كفار لا يتلبسون بشرع. ولما ذكر تعالى ما امتن به من جعل الأزواج وما ننتفع به من جهتين ، ذكر مننه بالرزق. والطيبات عام في النبات والثمار والحبوب والأشربة ، ومن الحيوان. وقيل : الطيبات الغنائم. وقيل : ما أتى من غير نصب. وقال مقاتل : الباطل الشيطان ، ونعمة الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الكلبي : طاعة الشيطان في الحلال والحرام. وقيل : ما يرجى من شفاعة الأصنام وبركتها. قال الزمخشري : أفبالباطل يؤمنون وهو ما يعتقدون من مننفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها ، وما هو إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة ، فليس لهم إيمان إلا به ، كأنه شيء معلوم مستيقن. ونعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل ، وتمييزهم كافرون بها منكرون لها كما ينكر المحال الذي لا تتصوره العقول. وقيل : الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ، ونعمة الله ما أحل لهم انتهى. وقرأ الجمهور : يؤمنون بالياء ، وهو توقيف للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إيمانهم بالباطل ، ويندرج في التوقيف المعطوف بعدها. وقرأ السلمي بالتاء ، ورويت عن عاصم ، وهو خطاب إنكار وتقريع لهم ، والجملة بعد ذلك مجرد إخبار عنهم. فالظاهر أنه لا يندرج في التقريع. ويعبدون ، استفهام أخبار عن حالهم في عبادة الأصنام ، وفي ذلك تبيين لقوله : أفبالباطل يؤمنون ، نعى عليهم فساد نظرهم في عبادة ما لا يمكن أن يقع منه ما يسعى عابده في تحصيله منه وهو الرزق ، ولا هو في استطاعته. فنفى أولا أن يكون شيء من الرزق في ملكهم ، ونفى ثانيا قدرتها على أن تحاول ذلك ، وما لا تملك في جميع من عبد من دون الله من ملك أو آدمي أو غير ذلك. وأجازوا في شيئا انتصابه بقوله : رزقا ، أجاز ذلك أبو عليّ وغيره. ورد عليه ابن الطراوة بأنّ الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن ، والمصدر هو الرزق بفتح الراء كالرعي والطحن. ورد على ابن الطراوة بأنّ الرزق بالكسر يكون أيضا مصدرا ، وسمع ذلك فيه ، فصح أن يعمل في المفعول به والمعنى : ما لا يملك أن يرزق من السموات والأرض شيئا. ومن السموات متعلق إذ ذاك بالمصدر. قال ابن عطية بعد أن ذكر أعمال المصدر منونا : والمصدر يعمل مضافا باتفاق ، لأنه في تقدير الانفصال ، ولا يعمل إذا دخله الألف واللام لأنه قد توغل في حال الأسماء وبعد عن الفعلية. وتقدير

٥٦٥

الانفصال في الإضافة حسن عمله ، وقد جاء عاملا مع الألف واللام في قول الشاعر :

ضعيف النكاية أعداءه

البيت. وقوله :

لحقت فلم أنكل عن الضرب مسمعا

انتهى. أما قوله : يعمل مضافا بالاتفاق إن عنى من البصريين فصحيح ، وإن عنى من النحويين فغير صحيح ، لأنّ بعض النحويين ذهب إلى أنه وإن أضيف لا يعمل ، وإن نصب ما بعده أو رفعه إنما هو على إضمار الفعل المدلول عليه بالمصدر. وأما قوله : لأنه في تقدير الانفصال ليس كذلك ، لأنه لو كان في تقدير الانفصال لكانت الإضافة غير محضة ، وقد قال بذلك أبو القاسم بن برهان ، وأبو الحسين بن الطراوة ، ومذهبهما فاسد لنعت هذا المصدر المضاف ، وتوكيده بالمعرفة. وأما قوله : ولا يعمل إلى آخره فقد ناقض في قوله أخيرا : وقد جاء عاملا مع الألف واللام. وأما كونه لا يعمل مع الألف واللام فهو مذهب منقول عن الكوفيين ، ومذهب سيبويه جواز أعماله. قال سيبويه : وتقول عجبت من الضرب زيدا ، كما تقول : عجبت من الضارب زيدا ، تكون الألف واللام بمنزلة التنوين. وإذا كان رزقا يراد به المرزوق فقالوا : انتصب شيئا على أنه بدل من رزقا ، كأنه قيل : ما لا يملك لهم من السموات والأرض شيئا ، وهو البدل جاريا على جهة البيان لأنه أعم من رزق ، ولا على جهة التوكيد لأنه لعمومه ليس مرادفا ، فينبغي أن لا يجوز ، إذ لا يخلو البدل من أحد نوعيه هذين : إما البيان ، وإما التوكيد. وأجازوا أيضا أن يكون مصدرا أي : شيئا من الملك كقوله : ولا تضرونه شيئا أي شيئا من الضرر. وعلى هذين الإعرابين تتعلق من السموات بقوله : لا يملك ، أو يكون في موضع الصفة لرزق فيتعلق بمحذوف.

ومن السموات رزقا يعني به المطر ، وأطلق عليه رزق لأنه عنه ينشأ الرزق. والأرض يعني : الشجر ، والثمر ، والزرع. والظاهر عود الضمير في يستطيعون على ما على معناها ، لأنه يراد بها آلهتهم ، بعد ما عاد على اللفظ في قوله : ما لا يملك ، فأفرد وجاز أن يكون داخلا في صلة ما ، وجاز أن لا يكون داخلا ، بل إخبار عنهم بانتفاء الاستطاعة أصلا ، لأنهم أموات. وأما قول الزمخشري : إنه يراد بالجمع بين نفي الملك والاستطاعة التوكيد فليس كما ذكر ، لأنّ نفي الملك مغاير لنفي الاستطاعة. وقال ابن عباس : ولا يستطيعون أن يرزقوا أنفسهم. وجوز الزمخشري وابن عطية : أن يعود الضمير على ما عاد عليه في قوله :

٥٦٦

ويعبدون ، وهم الكفار أي : ولا يستطيع هؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون أولو ألباب من ذلك شيئا ، فكيف بالجماد الذي لا حس به؟ قاله الزمخشري. وقال ابن عطية : لا يستطيعون ذلك ببرهان يظهرونه وحجة يثبتونها انتهى.

ونهى تعالى عن ضرب الأمثال لله ، وضرب الأمثال تمثيلها والمعنى هنا : تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به ، لأن من يضرب الأمثال مشبه حالا بحال. وقصة بقصة من قولهم : هذا ضرب لهذا أي : مثل ، والضرب النوع. تقول : الحيوان على ضروب أي أنواع ، وهذا من ضرب واحد أي : من نوع واحد. وقال ابن عباس : معناه لا تشبهوه بخلقه انتهى. وقال : إن الله يعلم أثبت العلم لنفسه ، والمعنى : أنه يعلم ما تفعلون من عبادة غيره والإشراك به ، وعبر عن الجزاء بالعلم : وأنتم لا تعلمون كنه ما أقدمتم عليه ، ولا وبال عاقبته ، فعدم علمكم بذلك جركم وجرأكم وهو كالتعليل للنهي عن الإشراك. قال الزمخشري : ويجوز أن يراد أنّ الله يعلم كيف نضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون انتهى. وقاله ابن السائب قال : يعلم بضرب المثل ، وأنتم لا تعلمون ذلك. وقال مقاتل : يعلم أنه ليس له شريك ، وأنتم لا تعلمون ذلك. وقيل : يعلم خطأ ما تضربون من الأمثال ، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطته.

ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ

٥٦٧

سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)

الكل : الثقيل ، وقد يسمى اليتيم كلّا لثقله على من يكفله. وقال الشاعر :

أكول لمال الكل قبل شبابه

إذا كان عظم الكل غير شديد

والكل أيضا الذي لا ولد له ولا والد ، والكل العيال ، والجمع كلول. اللمح : النظر بسرعة ، لمحه لمحا ولمحانا. الجو : مسافة ما بين السماء والأرض ، وقيل : هو ما يلي الأرض في سمت العلو ، واللوح والسكاك أبعد منه. الظعن : سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع ، والظعن الهودج أيضا. الصوف للضأن ، والوبر للإبل ، والشعر للمعز ، قاله أهل اللغة في قوله : ومن أصوافها الآية. الأثاث : قال المفضل متاع البيت كالفرش والأكسية ، وقال الفراء : لا واحد له من لفظه ، كما أنّ المتاع لا واحد له من

٥٦٨

لفظه ، ولو جمعت لقلت : أأثثة في القليل ، وأثث في الكثير. وقال أبو زيد : واحده أثاثه ، وقال الخليل : أصله من قولهم أثث النبات والشعر ، فهو أثيث إذا كثر. قال امرؤ القيس :

وفرع يزين المتن أسود فاحم

أثيت كقنو النخلة المتعثكل

الكن ما حفظ ، ومنع من الريح والمطر وغير ذلك ، ومن الجبال الغار. استعتبت الرجل بمعنى أعتبته أي : أزلت عنه ما يعتب عليه ويلام ، والاسم العتبى ، وجاءت استفعل بمعنى أفعل نحو استدينته وأدينته.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) : مناسبة ضرب هذا المثل أنه لما بين تعالى ضلالهم في إشراكهم بالله غيره وهو لا يجلب نفعا ولا ضرا لنفسه ولا لعابده ، ضرب لهم مثلا قصة عبد في ملك غيره ، عاجز عن التصرف ، وحر غني متصرف فيما آتاه الله. فإذا كان هذان لا يستويان عندكم مع كونهما من جنس واحد ، ومشتركين في الإنسانية ، فكيف تشركون بالله وتسوون به من مخلوق له مقهور بقدرته من آدمي وغيره ، مع تباين الأوصاف. وأنّ موجد الوجود لا يمكن أن يشبهه شيء من خلقه ، ولا يمكن لعاقل أن يشبه به غيره. قال مجاهد : هذا مثل لله وللأصنام. وقال قتادة : للمؤمن والكافر فالكافر العبد المملوك لا ينتفع بعبادته في الآخرة ، ومن رزقناه المؤمن. وقال ابن جبير : مثل للبخيل والسخي انتهى.

ولما كان لفظ عبد قد يطلق على الحر ، خصص بمملوك. ولما كان المملوك قد يكون له تصرف وقدرة كالمأذون له والمكاتب ، خصص بقوله : لا يقدر على شيء ، والمعنى : على شيء من التصرف في المال ، لأنه يقدر على أشياء من حركاته : كالقيام ، والقعود ، والأكل ، والشرب ، والنوم ، وغير ذلك. والظاهر كون ومن موصولة أي : والذي رزقناه ، ودلت الصلة وما عطف على أنه يراد به الحر. وقال أبو البقاء : موصوفة. قال الزمخشري : الظاهر أنها موصوفة كأنه قال : وحرا رزقناه ليطابق عبدا ، ولا يمتنع أن تكون

٥٦٩

موصولة. وقال الحوفي : من بمعنى الذي ، ولا يقتضي ضرب المثل لشخصين موصوفين بأوصاف متباينة تعيينهما ، بل ما روي في تعيينهما من أنهما : عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه وعبد له أو أنهما أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه وأبو جهل ، لا يصح إسناده. وجمع الضمير في يستوون ولم يثن لسبق اثنين ، لأن من يحتمل أن يراد بها الجمع فيصير إذ ذاك جمع الضمير لانتظام العبد المملوك والأغنياء في الجمع ، وكأنه قيل : عبدا مملوكا. والملاك المرزوقون المنفقون. ويحتمل أن يراد بعبدا مملوكا الجنس ، فيصلح عود الضمير جمعا عليه ، وعلى جنس الأغنياء. ويحتمل أن يعود على العبيد والأحرار وإن لم يجر للجمعين ذكر ، لدلالة عبد مملوك ومن رزقناه عليهما.

قل : الحمد لله ، الظاهر أنه خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : يحتمل أن يكون خطابا لمن رزقه الله ، أمره أن يحمد الله على أنّ ميزه بهذه القدرة على ذلك الضعيف. وقال ابن عطية : الحمد لله شكر على بيان الأمر بهذا المثل ، وعلى إذعان الخصم له كما تقول لمن أذعن لك في حجة وسلم تبنى أنت عليه ، قولك : الله أكبر على هذا يكون كذا وكذا ، فلما قال هنا : هل يستوون ، فكأن الخصم قال له : لا ، فقال : الحمد لله ظهرت الحجة انتهى. وقيل : الحمد لله أي : هو المستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه ، إذ لا نعمة للأصنام عليهم فتحمد عليها ، إنما الحمد الكامل لله لأنه المنعم الخالق. وقال ابن عباس : الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد. والظاهر نفي العلم عن أكثرهم ، لأنّ منهم من بان له الحق ورجع إليه ، أو أكثر الخلق لأن الأكثر هم المشركون. وقيل : المراد به العموم أي : بل هم لا يعلمون. ومتعلق يعلمون محذوف ، إما لأنّ المعنى نفي العلم عن الأكثر ولم يلحظ متعلقه ، وإما لأنه محذوف يترتب على الأقوال التي سببها قوله الحمد لله.

وضرب الله مثلا رجلين أي قصة رجلين. قال الزمخشري : وهذا مثل ثان ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية ، والأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع. والأبكم الذي ولد أخرس لا يفهم ولا يفهم. وهو كلّ على مولاه أي : ثقيل ، وعيال على من يلي أمره ويعوله. أينما يوجهه : حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجح. هل يستوي هو ، ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات مع رشد وديانة ، فهو يأمر الناس بالعدل ، وهو في نفسه على صراط مستقيم على سيرة صالحة ، ودين قويم انتهى. وقال ابن عباس : أحدهما أبكم مثل

٥٧٠

للكافر ، والذي يأمر بالعدل المؤمن. وقال قتادة : هذا مثل لله تعالى ، والأصنام فهي الأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شيء ، وهو عيال على من والاه من قريب أو صديق ، كما الأصنام تحتاج أن تنقل وتخدم ويتعذب بها ، ثم لا يأتي من جهتها خير البتة. وعن قتادة أيضا وغيره : هذا مثل ضربه الله لنفسه وللوثن ، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن ، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى ، وهذا ليس كذلك لأنه قال : مثلا رجلين ، فلا بد أن يكون عديل الأبكم الموصوف بتلك الصفات ، ومقابله رجل موصوف بما يقابل تلك الصفات من النطق والقدرة والكفاية ، ولكنه حذف المقابل لدلالة مقابله عليه ، ثم قيل : هل يستوي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات ، وهذا الناطق : ففي ذكر استوائهما أيضا دليل على حذف المقابل. ولما كان البكم هو المبدأ به من الأوصاف ، وعنه تكون الأوصاف التي بعده قابلة في الاستواء بالنطق ، وثمرته من الأمر بالعدل غيره وهو في نفسه على طريقة مستقيمة ، فحيثما توجه صدر منه الخبر ونفع ، وليس بكالّ على أحد. وقد تقرر في بداية العقول أنّ الأبكم العاجز لا يكون مساويا في العقل والشرف للناطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية ، فلأن يحكم بأنّ الجماد لا يكون مساويا لرب العالمين في العبودية أحرى وأولى. وكما قلنا في المثل السابق : لا يحتاج إلى تعيين المضروب بهما المثل ، فكذلك هنا ، فتعيين الأبكم بأبي جهل ، والآمر بالعدل : بعمار ، أو بأبيّ بن خلف ، وعثمان بن مظعون ، أو بهاشم بن عمرو بن الحرث كان يعادي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصح إسناده.

وقرأ عبد الله ، وعلقمة ، وابن وثاب ، ومجاهد ، وطلحة يوجه بهاء واحدة ساكنة مبنيا ، وفاعله ضمير يعود على مولاه ، وضمير المفعول محذوف لدلالة المعنى عليه. ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائدا على الأبكم ، ويكون الفعل لازما وجه بمعنى توجه ، كان المعنى : أينما يتوجه. وعن عبد الله أيضا : توجهه بهاءين ، بتاء الخطاب ، والجمهور بالياء والهاءين. وعن علقمة وابن وثاب ، وطلحة ، يوجه بهاء ، واحدة ساكنة ، والفعل مبني للمفعول. وعن علقمة ، وطلحة : يوجه بكسر الجيم وهاء واحدة مضمومة. قال صاحب اللوامح : فإن صح ذلك فإنّ الهاء التي هي لام الفعل محذوفة فرارا من التضعيف ، ولأن اللفظ به صعب مع التضعيف ، أو لم يرد به الشرط ، بل أمر هو بتقدير أينما هو يوجه ، وقد حذف منه ضمير المفعول به ، فيكون حذف الياء من لا يأت بخير على التخفيف نحو : يوم يأت. وإذا يسر انتهى. ولا يخرج أين عن الشرط أو الاستفهام. وقال أبو حاتم : هذه القراءة ضعيفة ، لأن الجزم لازم انتهى. والذي توجه عليه هذه القراءة إن صحت أنّ أينما شرط

٥٧١

حملت على إذا لجامع ما اشتركا فيه من الشرطية ، ثم حذفت الياء من لا يأت تخفيفا ، أو جزمه على توهم أنه نطق بأينما المهملة معملة لقراءة من قرأ أنه من يتقي ويصبر في أحد الوجهين ، ويكون معنى يوجه يتوجه ، فهو فعل لازم لا متعد.

ثم ذكر تعالى أنه له غيب السموات والأرض ، وهو ما غاب عن العباد وخفي فيهما عنهم علمه. والظاهر اتصاله بقوله : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١) أخبر باستئثاره بعلم غيب السموات والأرض ، بكمال قدرته على الإتيان بالساعة التي تنكرونها في لمحة البصر أو أقرب ، والمعنى بهذا الإخبار : أنّ الآلهة التي تعبدونها منتف عنها هذان الوصفان اللذان للإله وهما : العلم المحيط بالمغيبات ، والقدرة البالغة التامّة. ومن ذكر أنّ قوله : ومن يأمر بالعدل هو الله تعالى ، ذكر ارتباط هذه الجملة بما قبلها بأنّ من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم هو الكامل في العلم والقدرة ، فبين ذلك بهذه الجملة. قيل : والغيب هنا ما لا يدرك بالحس ، ولا يفهم بالعقل. وقال المفضل : ما غاب عن الخلق هو في قبضته لا يعزب عنه. وقيل : هو ما في قوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (٢) وقال الزمخشري : أو أراد بغيب السموات والأرض يوم القيامة ، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم. قيل : لما كانت الساعة آتية ولا بد ، جعلت من القرب كلمح البصر. وقال الزجاج : لم يرد أنّ الساعة تأتي في لمح البصر ، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها أي : يقول للشيء كن فيكون. وقيل : هذا تمثيل للقرب كما تقول : ما السنة إلا لحظة. وقال الزمخشري : هو عند الله وإن تراخى ، كما يقولون أنتم في الشيء التي تستقربونه : كلمح البصر ، أو هو أقرب إذا بالغتم في استقرابه ونحوه قوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) (٣) و (لَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) (٤) (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٥) أي هو عنده دان ، وهو عندكم بعيد. وقيل : المعنى أنّ إقامة الساعة وإماتة الأحياء ، وإحياء الأموات من الأولين والآخرين ، يكون في أقرب وقت أوحاه. أنّ الله على كل شيء قدير ، فهو يقدر على أن يقيم الساعة ، ويبعث الخلق ، لأنه بعض المقدورات. وقال ابن عطية : والمعنى على ما قال قتادة وغيره ، وما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله تعالى إلا أن يقول لها : كن فلو اتفق أن يقف على ذلك شخص من البشر لكانت من السرعة

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١٦.

(٢) سورة لقمان : ٣١ / ٣٤.

(٣) سورة الحج : ٢٢ / ٤٧.

(٤) سورة الحج : ٢٢ / ٤٧.

(٥) سورة الحج : ٢٢ / ٤٧.

٥٧٢

بحيث يشك هل هي كلمح البصر؟ أو هي أقرب من ذلك؟ فأو على هذا على بابها في الشك. وقيل : هي للتخيير انتهى. والشك والتخيير بعيدان ، لأنّ هذا إخبار من الله تعالى عن أمر الساعة ، فالشك مستحيل عليه. ولأنّ التخيير إنما يكون في المحظورات كقولهم : خذ من مالي دينارا أو درهما ، أو في التكليفات كآية الكفارات : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ) (١) وأو هنا للإبهام على المخاطب كقوله : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (٢) وقوله : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) (٣) وهو تعالى قد علم عددهم ، ومتى يأتيها أمره ، كما علم أمر الساعة ، لكنه أبهم على المخاطب. وكون أو هنا للإبهام ذكره الزجاج هنا. وقال القاضي : هذا لا يصح ، لأنّ إقامة الساعة ليست حال تكليف حتى يقال : إنه تعالى يأتي بها في زمان يعني القاضي فيكون الإبهام على المخاطب في ذلك الزمان ، وليس زمان تكليف. والذي نقوله : إن الإبهام وقع وقت الخطاب المتقدم على أمر الساعة ، لا وقت الإتيان بها. وليس من شرط الإبهام على المخاطب في الإخبار عن شيء اتحاد زمان الإخبار وزمان وقوع ذلك الشيء ، ألا ترى في قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (٤) كيف تأمر زمان الإخبار عن زمان وقوع ذلك الإرسال ، ووجودهم مائة ألف أو يزيدون. وقال أبو عبد الله الرازي : لمح البصر انتقال الجسم بالطرف من أعلى الحدقة ، وهي مؤلفة من أجزاء وتلك الأجزاء كثيرة ، والزمان الذي يحصل فيه للمح مركب من آناء متعاقبة ، والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآناء ، فلذلك قال : (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) (٥) ولما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا هو لمح البصر ذكره ، ثم قال : أو هو أقرب تنبيها على ما ذكرناه ، وليس المراد طريقة الشك ، والمراد بل هو أقرب انتهى. وفيه بعض تلخيص. وما ذكره من أنّ أو بمعنى بل ، هو قول الفراء ، ولا يصح لأنّ الإضراب على قسمين كلاهما لا يصح هنا. أما أحدهما : فإن يكون إبطالا للإسناد السابق ، وأنه ليس هو المراد ، وهذا مستحيل هنا ، لأنه يؤول إلى إسناد غير مطابق. والثاني : أن يكون انتقالا من شيء إلى شيء من غير إبطال لذلك الشيء السابق ، وهذا مستحيل هنا للتنافي الذي بين الإخبار بكونه مثل لمح البصر في السرعة ، والإخبار بالأقربية ، فلا يمكن صدقهما معا. وقال

__________________

(١) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ١٤٧.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ٢٤.

(٤) سورة الصافات : ٣٧ / ١٤٧.

(٥) سورة النحل : ١٦ / ٧٧.

٥٧٣

صاحب الغنيان : وهذا وإن كان يعتبر إدراكه حقيقة ، إلا أن المقصود المبالغة على مذهب العرب وأرباب النظم. وما أحسن قول الأبله الشاعر في المعنى :

قال له البرق وقالت له الريح

جميعا وهما ما هما

أأنت تجري معنا قال إن

نشطت أضحكتكما منكما

أنا ارتداد الطرف قد فته

إلى المدى سبقا فمن أنتما

ولما ذكر تعالى أمر الساعة وأنها كائنة لا محالة ، فكان في ذلك دلالة على النشأة الآخرة. وتقدم وصفهم بانتفاء العلم ، ذكر تعالى النشأة الأولى وهي إخراجهم من بطون أمهاتهم غير عالمين شيئا ، تنبيها على وقوع النشأة الآخرة. ثم ذكر تعالى امتنانه عليهم بجعل الحواس التي هي سبب لإدراك الأشياء والعلم ، ولما كانت النشأة الأولى ، وجعل ما يعلمون به لهم من أعظم النعم عليهم قال : لعلكم تشكرون ، وتقدّم الكلام في أمهات في النساء. وقرأ حمزة : بكسر الهمزة ، والميم هنا وفي النور ، والزمر ، والنجم ، والكسائي بكسر الهمزة فيهن ، والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم ، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم.

قال أبو حاتم : حذف الهمزة رديء ، ولكنّ قراءة ابن أبيّ أصوب انتهى. وإنما كانت أصوب لأنّ كسر الميم إنما هو لاتباعها حركة الهمزة ، فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الاتباع ، بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقرّ الميم على حركتها. ولا تعلمون جملة حالية أي : غير عالمين. وقالوا : لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم ، أو شيئا مما قضى عليكم من السعادة أو الشقاوة ، أو شيئا من منافعكم. والأولى عموم لفظ شيء ، ولا سيما في سياق النفي. وقال وهب : يولد المولود حذرا إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألما. ويحتمل وجعل أن يكون معطوفا على أخرجكم ، فيكون واحدا في حيز خبر المبتدأ ، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار معطوفا على الجملة الابتدائية كاستئنافها.

والمراد بالسمع والأبصار والأفئدة إحساسها وإدراكها ، فعبر عن ذلك بالآية. وقال أبو عبد الله الرازي ما معناه : إنما جمع الفؤاد جمع قلة ، لأنه إنما خلق للمعارف الحقيقية اليقينية ، وأكثر الخلق مشغولون بالأفعال البهيمية ، فكان فؤادهم ليس بفؤاد ، فلذلك ذكر في جمعه جمع القلة انتهى ملخصا. وهو قول هذياني ، ولو لا جلالة قائله وتسطيره في الكتب ما ذكرته ، وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري : أنه من جموع القلة التي جرت مجرى

٥٧٤

جموع الكثرة والقلة ، إذا لم يرد في السماع غيرها كما جاء : شسوع في جمع شسع لا غير ، فجرى ذلك المجرى انتهى. إلا أنّ دعوى الزمخشري أنه لم يجىء في جمع شسع إلا شسع لا غير ، ليس بصحيح ، بل جاء فيه جمع القلة قالوا : أشساع ، فكان ينبغي له أن يقول : غلب شسوع. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وطلحة ، والأعمش ، وابن هرمز : ألم تروا بتاء الخطاب ، وباقي السبعة بالياء. قال ابن عطية : واختلف عن الحسن ، وعيسى الثقفي ، وعاصم ، وأبي عمرو. ولما ذكر تعالى مدارك العلم الثلاثة : السمع ، والنظر ، والعقل ، والأوّلان مدرك المحسوس ، والثالث مدرك المعقول ، اكتفى من ذكر مدرك المحسوس بذكر النظر ، فإنه أغرب لما يشاهد به من عظيم المخلوقات على بعدها المتفاوت ، كمشاهدته النيرات التي في الأفلاك. وجعل هنا موضع الاعتبار والتعجب الحيوان الطائر ، فإنّ طيرانه في الهواء مع ثقل جسمه مما يعجب منه ويعتبر به. وتضمنت الآية أيضا ذكر مدرك العقل في كونه لا يسقط ، إذ ليس تحته ما يدعمه ، ولا فوقه ما يتعلق به ، فيعلم بالعقل أنه له ممسك قادر على إمساكه وهو الله تعالى ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (١) فانتظم في الآية ذكر مدرك الحس ومدرك العقل. ومعنى مسخرات : مذللات ، وبني للمفعول دلالة على أن له مسخرا. وقال أبو عبد الله الرازي : هذا دليل على كمال قدرة الله وحكمته ، فإنه تعالى خلق الطائر خلقة معها يمكنه الطيران ، أعطاه جناحا يبسطه مرة ، ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء ، وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة ، يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ، ولو لا ذلك لما كان الطيران ممكنا انتهى. وكلامه منتزع من كلام القاضي قال : إنما أضاف الإمساك إلى نفسه ، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات لأجلها تمكن الطائر من تلك الأفعال ، فلما كان هو المتسبب لذلك صحت هذه الإضافة انتهى. والذي نقوله : إنه كان يمكنه أن يطير ولو لم يخلق له جناح ، وأنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى ، وأن الممسك له في جو السماء هو الله تعالى. وقد قام الدليل على أنّ جميع الأفعال كلها مخلوقة لله ، وقام الدليل على أنه تعالى هو الفاعل المختار ، فلا نقول : إنه لو لا الجناح ولطف الجو ما أمكن الطيران ، ولا لو لا الآلات ما أمكن. وقال الزمخشري : ما يوافق كلامهما قال : مسخرات ، مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة ، والأسباب المواتية لذلك. ثم أحسن أخيرا في قوله : ما يمسكهن في قبضهن

__________________

(١) سورة الملك : ٦٧ / ١٩.

٥٧٥

وبسطهن ووقوفهن إلا الله بقدرته انتهى. لآيات : جمع ولم يفرد ، لما في ذلك من الآيات خفة الطائر التي جعلها الله فيه لأن يرتفع بها ، وثقله الذي جعله فيه لأن ينزل ، والفضاء الذي بين السماء والأرض ، والإمساك الذي لله تعالى ، أو جمع باعتبار ما في هذه الآية والتي قبلها وقال : لقوم يؤمنون ، فإنهم هم الذين ينتفعون بالاعتبار ، ولتضمن الآية أن المسخر والممسك لها هو الله ، فهو إخبار منه تعالى ما يصدق به إلا المؤمن.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ * وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ * يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) : لما ذكر تعالى ما منّ به عليهم من خلقهم ، وما خلق لهم من مدارك العلم ، ذكر ما امتن به عليهم مما ينتفعون به في حياتهم من الأمور الخارجية عن دوابهم من البيوت التي يسكنونها ، من الحجر والمدر والأخشاب وغيرها. والسكن فعل بمعنى مفعول ، كالقنص ، والنقص. وأنشد الفراء :

جاء الشتاء ولما أتخذ سكنا

يا ويح نفسي من حفر القراميص

وليس السكن بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية ، وكأنه تعالى ذكر أولا ما غالب البيوت عليه من كونها لا تنقل ، بل ينتقل الناس إليها. ثم ذكر ثانيا ما منّ به علينا من المتخذ من جلود الأنعام ، وهو ما ينتقل من القباب والخيام والفساطيط التي من الأدم ، أو ذكر أولا البيوت على طريق العموم ، ثم ذكر بيوت الجلود خصوصا تنبيها على حال أكثر العرب ، فإنهم لانتجاعهم إنما بيوتهم من الجلود ، والظاهر أنه لا يندرج في البيوت التي من جلود الأنعام بيوت الشعر ، وبيوت الصوف والوبر. وقال ابن سلام : تندرج لأنها ثابتة فيها ، فهي منها. ومعنى تستخفونها : تجدونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل. يوم ظعنكم : يوم ترحلون خف عليكم حملها ونقلها ، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها. وقد يراد بالاستخفاف في وقتي السفر والحضر أي : مدة النجعة والإقامة. وقرأ الحرميان وأبو عمرو : ظعنكم بفتح العين ، وباقي السبعة بسكونها ، وهما لغتان. وليس السكون بتخفيف كما جاء في نحو الشعر والشعر لمكان حرف الحلق ، والظاهر أنّ أثاثا مفعول ، والتقدير : وجعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا. وقيل : أثاثا منصوب على الحال على

٥٧٦

أنّ المعنى : جعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتا ، فيكون ذلك معطوفا على من جلود الأنعام ، كما تقول : جعلت لك من الماء شرابا ومن اللبن ، وفي التقدير الأول يكون قد عطف مجرورا على مجرور ، ومنصوبا على منصوب كما تقول : ضربت في الدار زيدا وفي القصر عمرا ، ولما لم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان وحرير اقتصر على هذه الثلاثة هنا ، واندرجت في قوله سرابيل تقيكم الحر. والمتاع : ما يتمتع به أي : ينتفع به. وقال ابن عباس : الزينة. وقال المفضل : المتجر والمعاش. وقال الخليل : الأثاث والمتاع واحد وجمع بينهما لاختلاف اللفظين كقوله : وألفى قولها كذبا ومينا. وغيا ؛ تعالى ذلك بقوله : إلى حين ، فقال ابن عباس : إلى الموت. وقال مقاتل : إلى بلى ذلك الشيء. وقيل : إلى انقضاء حاجتكم منه. ولما ذكر تعالى ما منّ به عليهم ما سبق ذكره ، وكانت بلادهم غالبا عليها الحر ، ذكر امتنانه عليهم بما يقيهم الحر من خلق الأجرام التي لها ظل كالشجر وغيره مما يمنع من أذى الشمس. وقال ابن عباس ومجاهد : ظلال الغمام. وقال ابن السائب : ظلال البيوت. وقال قتادة ، والزجاج : ظلال الشجر. وقال ابن قتيبة : ظلال الشجر والجبال والأكنان من الجبال هي الغيران ، والكهوف ، والبيوت المنحوتة منها. والسربال ما لبس على البدن من : قميص ، وقرقل ، ومجول ، ودرع ، وجوشن ، ونحو ذلك من صوف وكتان وقطن وغيرها. واقتصر على ذكر الحر إما لأن ما يقي الحر يقي البرد قاله الزجاج ، أو حذف البرد لدلالة ضده عليه قاله المبرد ، أو لأنه أمسّ في تلك البلاد والبرد فيها معدوم في الأكثر. وإذا جاء توقى بالأثاث فيخلص السربال لتوقي الحر فقط ، قاله عطاء الخراساني. وهذا في بلاد الحجاز ، وأما غيرها من بلاد العرب فيوجد فيها البرد الشديد كما قال متمم :

إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا

وقال آخر :

في ليلة من جمادى ذات أندية

والسرابيل التي تقي الناس هي الدروع. قال كعب بن زهير :

شم العرانين أبطال لبوسهم

من نسج داود في الهيجا سرابيل

والسربال عام ، يقع على ما كان من حديد وغيره. والبأس في أصل اللغة الشدة ، وهنا الحرب. وفي الحديث : «كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» والمعنى : تقيكم أذى

٥٧٧

الحرب وهو ما يعرض فيها من الجراح الناشئة من ضرب السيف ، والدبوس ، والرمح ، والسهم ، وغير ذلك مما يعد للحديث. كذلك أي مثل ذلك الإتمام للنعمة فيما سبق ، يتم نعمته في المستقبل. وقرأ ابن عباس : تتم بتاء مفتوحة نعمته بالرفع ، أسند التمام إليها اتساعا ، وعنه نعمه جمعا. وقرأ : لعلكم تسلمون بفتح التاء ، واللام من السلامة والخلاص ، فكأنه تعليل لوقاية السرابيل من أذى الحرب ، أو تسلمون من الشرك. وأما تسلمون في قراءة الجمهور فالمعنى : تؤمنون ، أو تنقادون إلى النظر في نعم الله تعالى مفض إلى الإيمان والانقياد. روي أن أعرابيا سمع قوله تعالى : والله جعل لكم من بيوتكم سكنا إلى آخر الآيتين فقال : عند كل نعمة اللهم نعم ، فلما سمع : لعلكم تسلمون ، قال : اللهم هذا فلا ، فنزلت.

فإن تولوا ، يحتمل أن يكون ماضيا أي : فإن أعرضوا عن الإسلام. ويحتمل أن يكون مضارعا أي : فإن تتولوا ، وحذفت التاء ، ويكون جاريا على الخطاب السابق والماضي على الالتفات ، والفاء وما بعدها جواب الشرط صورة ، والجواب حقيقة محذوف أي : فأنت معذور إذ أدّيت ما وجب عليك ، فأقيم سبب العذر وهو البلاغ مقام المسبب لدلالته عليه. وقال ابن عطية : المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على حق الإيمان في قلوبهم ، فإنما عليك أن تبين وتبلغ أمر الله ونهيه انتهى. ثم أخبر عنهم على سبيل التقريع والتوبيخ بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، وعرفانهم للنعم التي عدت عليهم حيث يعترفون بها ، وأنها منه تعالى ، وإنكارهم لها حيث يعبدون غير الله ، وجعل ذلك إنكارا على سبيل المجاز ، إذ لم يرتبوا على معرفة نعمه تعالى مقتضاها من عبادته ، وإفراده بالعبادة دون ما نسبوا إليه من الشركاء ، قال قريبا من هذا المعنى مجاهد. وقال السدّي : النعمة هنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : يعرفون بمعجزاته وآيات نبوته ، وينكرون ذلك بالتكذيب ، ورجحه الطبري. وعن مجاهد أيضا : إنكارهم قولهم ورثناها من آبائنا. وعن ابن عون : إضافتها إلى الأسباب لا إلى مسببها ، وحكى صاحب الغنيان : يعرفونها في الشدة ، ثم ينكرونها في الرخاء. وقيل : إنكارهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله. وقيل : يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم. والظاهر أنّ المراد من وأكثرهم موضوعه الأصلي. وقال الحسن : وكلهم : ما من أحد يقوم بواجب حق الشكر ، فجعله من كفران النعمة. وظاهر أن الكفر هنا هو مقابل الإيمان. وقيل : أكثر أهل مكة ، لأنّ منهم من أبى. وقيل : معنى الكافرون الجاحدون المعاندون ، لأنّ فيهم من كان جاهلا لم يعرف فيعاند. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : ما معنى ثم؟

٥٧٨

(قلت) : الدلالة على أنّ إنكارهم مستبعد بعد حصول المعرفة ، لأنّ حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ * وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ * الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ * وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) : لما ذكر إنكارهم لنعمة الله تعالى ، ذكر حال يوم القيامة حيث لا ينفع فيه الإنكار على سبيل الوعيد لهم بذلك اليوم. وانتصب يوم بإضمار اذكر قاله : الحوفي ، والزمخشري ، وابن عطية ، وأبو البقاء. وقال الزمخشري : أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه. وقال الطبري : هو معطوف على ظرف محذوف العامل فيه : ثم ينكرونها ، أي ينكرونها اليوم. ويوم نبعث أي : ينكرون كفرهم ، فيكذبهم الشهيد ، والشهيد نبي تلك الأمة يشهد عليهم بإيمانهم وبكفرهم ، ومتعلق الأذن محذوف. فقيل : في الرجوع إلى دار الدنيا. وقيل : في الكلام والاعتذار كما قال : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ) (١) فيعتذرون أي بعد شهادة أنبيائهم عليهم ، وإلا فقبل ذلك تجادل كل أمة عن نفسه. وجاء كلامهم في ذلك ، ولكنها مواطن يتكلمون في بعضها ولا ينطقون في بعضها ولا هم يستعتبون أي : مزال عنهم العتب. وقال قوم : معناه لا يسألون أن يرجعوا عن ما كانوا عليه في الدنيا ، فهذا استعتاب معناه طلب عتباهم ، ونحوه قول من قال : ولا هم يسترضون أي : لا يقال لهم ارضوا ربكم ، لأنّ الآخرة ليست بدار عمل قاله الزمخشري. وقال الطبري : معناه يعطون الرجوع إلى الدنيا فيقع منهم توبة وعمل.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : فما معنى ثم هذه؟ (قلت) : معناها انهم يمنون بعد شهادة الأنبياء بما هو أطم منه ، وأنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ، ولا إدلاء بحجة انتهى. ولما كانت حالة العذاب في الدنيا مخالفة لحال الآخرة إذ من رأى العذاب في الدنيا رجا أن يؤخر عنه ، وإن وقع فيه أن يخفف عنه ، أخبر تعالى أن عذاب

__________________

(١) سورة المرسلات : ٧٧ / ٣٥ ـ ٣٦.

٥٧٩

الآخرة لا يكون فيه تخفيف ولا نظرة. والظاهر أنّ جواب إذا قوله فلا يخفف ، وهو على إضمار هو أي : فهو لا يخفف ، لأنه لو لا تقدير الإضمار لم تدخل الفاء ، لأن جواب إذا إذا كان مضارعا لا يحتاج إلى دخول الفاء ، سواء كان موجبا أم منفيا ، كما قال تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) (١) وتقول : إذا جاء زيد لا يجيء عمرو. قال الحوفي : فلا يخفف جواب إذا ، وهو العامل في إذا ، وقد تقدم لنا أنّ ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا تعمل فيما قبله ، وبينا أنّ العامل في إذا الفعل الذي يليها كسائر أدوات الشرط ، وإن كان ليس قول الجمهور. وجعل الزمخشري جواب إذا محذوفا فقال : وقد قدر العامل في يوم نبعث مجزوما قال : ويوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه ، وكذلك وإذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف ولا هم ينظرون كقوله : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً) (٢) فتبهتهم الآية انتهى. والظاهر أن قوله : شركاءهم ، عام في كل من اتخذوه شريكا لله من صنم ووثن وآدمي وشيطان وملك ، فيكذبهم من له منهم عقل ، فيكون : فألقوا عائدا على من له الكلام ، ويجوز أن يكون عاما ينطق الله تعالى بقدرته الأوثان والأصنام. وإضافة الشركاء إليهم على هذا القول لكونهم هم الذين جعلوهم شركاء لله. وقال الحسن : شركاؤهم الشياطين ، شركوهم في الأموال والأولاد كقوله تعالى : (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) (٣) ، وقيل : شركاؤهم في الكفر. وعلى القول الأول شركاؤهم في أن اتخذوهم آلهة مع الله وعبدوهم ، أو شركاؤهم في أن جعلوا لهم نصيبا من أموالهم وأنعامهم ، والظاهر أنّ القول منسوب إليهم حقيقة. وقيل : منسوب إلى جوارحهم ، لأنهم لما أنكروا الإشراك بقولهم : (إِلَّا أَنْ قالُوا : وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٤) أصمت الله ألسنتهم وأنطق جوارحهم. ومعنى : تدعو ، ونعبد قالوا ذلك رجاء أن يشركوا معهم في العذاب ، إذ يحصل التأسي ، أو اعتذارا عن كفرهم إذ زين لهم الشيطان ذلك وحملهم عليه ، إن كان الشركاء هم الشياطين. وقال أبو مسلم الأصبهاني. قالوا : ذلك إحالة هذا الذنب على تلك الأصنام ، وظنا أن ذلك ينجيهم من عذاب الله أو من عذابهم ، فعند ذلك تكذيبهم تلك الأصنام. وقال القاضي : هذا بعيد ، لأنّ الكفار يعلمون علما ضروريا في الآخرة أن العذاب سينزل بهم ، ولا نصرة ، ولا فدية ، ولا شفاعة. وتقدم الإخبار بأنهم شركاء ، والإخبار أنهم كانوا يدعونهم : أي يعبدونهم ، فاحتمل التكذيب أن يكون عائدا للإخبار الأول أي : لسنا شركاء

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٧٢.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٤٠.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٦٤.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٢٣.

٥٨٠