البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)

السرر : جمع سرير ، ككليب وكلب. وبعض تميم يفتح الراء ، وكذا كل مضاعفة فعيل. النصب : التعب. القنوط : أتم اليأس ، يقال : قنط يقنط بفتحها ، وقنط بفتح النون يقنط بكسرها وبضمها. الفضح والفضيحة مصدران لفضح يفضح ، إذا أتى من أمر الإنسان ما يلزمه به العار ، ويقال : فضحك الصبح ، إذا تبين للناس. قال الشاعر :

ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا

مثل القلامة قد قصت من الظفر

التوسم : تفعل من الوسم ، وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها ، يقال : توسم فيه الخير إذا رأى ميسم ذلك. وقال عبد الله بن رواحة في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

إني توسمت فيك الخير أجمعه

والله يعلم أني ثابت البصر

وقال الشاعر :

توسمت لما أن رأيت مهابة

عليه وقلت المرء من آل هاشم

واتسم الرجل جعل لنفسه علامة يعرف بها ، وتوسم الرجل طلب كلاء الوسمي. وقال ثعلب : الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك. وأصل التوسم التثبت والتفكر ، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير أو غيره. الأيكة : الشجرة الملتفة واحدة أيك. قال الشاعر :

تجلو بقادمتي حمامة أيكة

بردا أسف لثاته بالإثمد

الخفض مقابل الرفع ، وهو كناية عن الإلانة والرفق. عضين : جمع عضة ، وأصلها الواو والهاء يقال : عضيت الشيء تعضيه فرقته ، وكل فرقة عضة ، فأصله عضوة. وقيل :

العضة في قريش السحر ، يقولون للساحر : عاضه ، وللساحرة : عاضهة. قال الشاعر :

أعوذ بربي من النافثات

في عقد العاضه المعضه

وفي الحديث : «لعن الله العاضهة والمستعضهة» وفسر بالساحر والمستسحرة ، فأصله

٤٨١

الهاء. وقيل : من العضه يقال : عضهه عضها ، وعضيهة رماه بالبهتان. قال الكسائي : العضه الكذب والبهتان ، وجمعها عضون. وذهب الفراء إلى أنّ عضين من العضاة ، وهي شجرة تؤذي تخرج كالشوك. ومن العرب من يلزم الياء ويجعل الإعراب في النون فيقول : عضينك كما قالوا : سنينك ، وهي كثيرة في تميم وأسد. الصدع : الشق ، وتصدع القوم تفرقوا ، وصدعته فانصدع أي شققته فانشق. وقال مؤرج : أصدع أفصل ، وقال ابن الأعرابي : أفصد.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ * نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) : لما ذكر تعالى ما أعد لأهل النار ، ذكر ما أعد لأهل الجنة ، ليظهر تباين ما بين الفريقين. ولما كان حال المؤمنين معتنى به ، أخبر أنهم في جنات وعيون ، جعل ما يستقرون فيه في الآخرة كأنهم مستقرون فيه في الدنيا ، ولذلك جاء : ادخلوها على قراءة الأمر ، لأنّ من استقر في الشيء لا يقال له : أدخل فيه. وجاء حال الغاوين موعودا به في قوله : (لَمَوْعِدُهُمْ) (١) لأنهم لم يدخلوها. والعيون : جمع عين. وقرأ نافع ، وأبو عمر ، وحفص ، وهشام : وعيون بضم العين ، وباقي السبعة بكسرها. وقرأ الحسن : ادخلوها ماضيا مبنيا للمفعول من الإدخال. وقرأ يعقوب في رواية رويس كذلك ، وبضم التنوين ، وعنه فتحه. وما بعده أمر على تقدير : أدخلوها إياهم من الإدخال ، أمر الملائكة بإدخال المتقين الجنة ، وتسقط الهمزة في القراءتين. وقرأ الجمهور : ادخلوها أمر من الدخول. فعلى قراءتي الأمر ، ثم محذوف أي : يقال لهم ، أو يقال للملائكة. وبسلام في موضع نصب على الحال ، واحتمل أن يكون المعنى : مصحوبين بالسلامة ، وأن يكون المعنى : مسلما عليكم أي : محيون ، كما حكي عن الملائكة أنهم يدخلون على أهل الجنة يقولون : سلام عليكم. (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) تقدم شرحه في الأعراف (٢). قيل : وانتصب إخوانا على الحال ، وهي حال من الضمير ، والحال من المضاف إليه إذا لم يكن معمولا لما أضيف على سبيل الرفع أو النصب تندر ، فلذلك قال بعضهم : إنه إذا كان المضاف جزأ من المضاف إليه كهذا ، لأنّ الصدور بعض ما أضيفت إليه وكالجزء كقوله : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (٣) جاءت الحال من المضاف. وقد قررنا أنّ ذلك لا يجوز. وما استدلوا به له تأويل غير ما ذكروا ، فتأويله هنا أنه منصوب

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٤٣.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٤٣.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١٢٥.

٤٨٢

على المدح ، والتقدير : أمدح إخوانا. لما لم يمكن أن يكون نعتا للضمير قطع من إعرابه نصبا على المدح ، وقد ذكر أبو البقاء أنه حال من الضمير في الظرف في قوله : في جنات ، وأن يكون حالا من الفاعل في : ادخلوها ، أو من الضمير في : آمنين.

ومعنى إخوانا : ذوو تواصل وتوادد. وعلى سرر متقابلين : حالان. والقعود على السرير : دليل على الرفعة والكرامة التامة كما قال : يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة. وعن ابن عباس : على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر. وقال قتادة : متقابلين متساوين في التواصل والتزاور. وعن مجاهد : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض ، تدور بهم الأسرة حيث ما داروا ، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين انتهى.

ولما كانت الدنيا محل تعب بما يقاسى فيها من طلب المعيشة ، ومعاناة التكاليف الضرورية لحياة الدنيا وحياة الآخرة ، ومعاشرة الأضداد ، وعروض الآفات والأسقام ، ومحل انتقال منها إلى دار أخرى مخوف أمرها عند المؤمن ، لا محل إقامة ، أخبر تعالى بانتفاء ذلك في الجنة بقوله : لا يمسهم فيها نصب. وإذا انتفى المس ، انتفت الديمومة. وأكد انتفاء الإخراج بدخول الباء في : بمخرجين. وقيل : للثواب أربع شرائط أن يكون منافع وإليه الإشارة بقوله : في جنات وعيون مقرونة بالتعظيم ، وإليه الإشارة بقوله : ادخلوها بسلام آمنين خالصة عن مظان الشوائب الروحانية : كالحقد ، والحسد ، والغل ، والجسمانية كالإعياء ، والنصب. وإليه الإشارة بقوله : ونزعنا إلى لا يمسهم فيها نصب دائمة ، وإليه الإشارة بقوله : وما هم منها بمخرجين. وعن علي بن الحسين : أن قوله ونزعنا الآية ، نزلت في أبي بكر وعمر ، والغل غل الجاهلية. وقيل : كانت بين بني تميم وعدي وهاشم أضغان ، فلما أسلموا تحابوا. ولما تقدّم ذكر ما في النار ، وذكر ما في الجنة ، أكد تعالى تنبيه الناس. وتقرير ذلك وتمكينه في النفس بقوله : نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وناسب ذكر الغفران والرحمة اتصال ذلك بقوله : إن المتقين. وتقديما لهذين الوصفين العظيمين اللذين وصف بهما نفسه وجاء قوله : وأن عذابي ، في غاية اللطف إذ لم يقل على وجه المقابلة. وأني المعذب المؤلم ، كل ذلك ترجيح لجهة العفو والرحمة. وسدت أنّ مسد مفعولي نبىء إن قلنا إنها تعدت إلى ثلاثة ، ومسد واحد إن قلنا : تعدّت إلى اثنين. وعن ابن عباس : غفور لمن تاب ، وعذابه لمن لم يتب. وفي قوله : نبىء الآية ، ترجيح جهة الخير من جهة أمره تعالى رسوله بهذا التبليغ ، فكأنه إشهاد على نفسه بالتزام المغفرة

٤٨٣

والرحمة. وكونه أضاف العباد إليه فهو تشريف لهم ، وتأكيد اسم أنّ بقوله : أنا. وإدخال أل على هاتين الصفتين وكونهما جاءتا بصيغة المبالغة والبداءة بالصفة السارة أولا وهي الغفران ، واتباعها بالصفة التي نشأ عنها الغفران وهي الرحمة. وروي في الحديث : «لو يعلم العبد قدر عفو الله ما تورع عن حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه» وفي الحديث عن ابن المبارك بإسناده أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلع من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك فقال : «ألا أراكم تضحكون» ثم أدبر حتى إذا كان عناء الحجر ، رجع إلينا القهقرى فقال : «جاء جبريل عليه‌السلام فقال يقول الله لم تقنط عبادي نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم».

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ * قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) ولما ذكر تعالى ما أعد للعاصين من النار ، وللطائعين من الجنة ، ذكر العرب بأحوال من يعرفونه ممن عصى وكذب الرسل فحل به عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ، ليزدجروا عن كفرهم ، وليعتبروا بما حل بغيرهم. فبدأ بذكر جدهم الأعلى إبراهيم عليه‌السلام ، وما جرى لقوم ابن أخيه لوط ، ثم بذكر أصحاب الحجر وهم قوم صالح ، ثم بأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب. وقرأ أبو حيوة : ونبيهم بإبدال الهمزة ياء. وضيف ابراهيم هم الملائكة الذين بشروه بالولد ، وبهلاك قوم لوط. وأضيفوا إلى ابراهيم وإن لم يكونوا أضيافا ، لأنهم في صورة من كان ينزل به من الأضياف ، إذ كان لا ينزل به أحد إلا ضافه ، وكان يكنى أبا الضيفان. وكان لقصره أربعة أبواب ، من كل جهة باب ، لئلا يفوته أحد. والضيف أصله المصدر ، والأفصح أن لا يثنى ولا يجمع للمثنى والمجموع ، ولا حاجة إلى تكلف إضمار كما قاله النحاس وغيره من تقدير : أصحاب ضيف. وسلاما مقتطع من جملة محكية بقالوا ، فليس منصوبا به ، والتقدير : سلمت سلاما من السلامة ، أو سلمنا سلاما من التحية. وقيل : سلاما نعت لمصدر محذوف تقديره : فقالوا قولا سلاما ، وتصريحه هنا بأنه وجل منهم ، كان بعد تقريبه إليهم ما أضافهم به وهو العجل الحنيذ ، وامتناعهم من الأكل وفي هو ذاته أوجس في نفسه خيفة ، فيمكن أنّ هذا التصريح كان بعد إيجاس الخيفة. ويحتمل أن يكون القول هنا مجازا بأنه ظهرت عليه مخايل الخوف حتى صار كالمصرح به القائل.

وقرأ الجمهور : لا توجل مبنيا للفاعل. وقرأ الحسن : بضم التاء مبنيا للمفعول من

٤٨٤

الإيجال. وقرىء : لا تأجل بإبدال الواو ألفا كما قالوا : تابة في توبة. وقرىء : لا تواجل من واجله بمعنى أوجله. إنا نبشرك استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل ، أي : إنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل. والمبشر به هو إسحاق ، وذلك بعد أن ولد له إسماعيل وشب بشروه بأمرين : أحدهما : أنه ذكر. والثاني : وصفه بالعلم على سبيل المبالغة. فقيل : النبوة كقوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا) (١) وقيل : عليم بالدين.

وقرأ الأعرج : بشرتموني بغير همزة الاستفهام ، وعلى أنّ مسني الكبر في موضع الحال. وقرأ ابن محيصن : الكبر بضم الكاف وسكون الباء ، واستنكر إبراهيم عليه‌السلام أن يولد له مع الكبر. وفبم تبشرون ، تأكيد استبعاد وتعجب ، وكأنه لم يعلم أنهم ملائكة رسل الله إليه ، فلذلك استفهم ، واستنكر أن يولد له. ولو علم أنهم رسل الله ما تعجب ولا استنكر ، ولا سيما وقد رأى من آيات الله عيانا كيف أحيا الموتى. قال الزمخشري : كأنه قال : فبأيّ أعجوبة تبشروني ، أو أراد أنكم تبشرونني بما هو غير متصور في العادة ، فبأي شيء تبشرون؟ يعني : لا تبشروني في الحقيقة بشيء ، لأنّ البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء. ويجوز أن لا تكون صلة لبشر ، ويكون سؤالا على الوجه والطريقة يعني : بأي طريقة تبشرونني بالولد ، والبشارة به لا طريقة لها في العادة انتهى. وكأنه قال : أعلى وصفي بالكبر ، أم على أني أرد إلى الشباب؟ وقيل : لما استطاب البشارة أعاد السؤال ، ويضعف هذا قولهم له : بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. وقرأ الحسن : تبشروني بنون مشددة وياء المتكلم ، أدغم نون الرفع في نون الوقاية. وابن كثير : بشدها مكسورة دون ياء. ونافع يكسرها مخففة ، وغلّطه أبو حاتم وقال : هذا يكون في الشعر اضطرارا ، وخرجت على أنه حذف نون الوقاية وكسر نون الرفع للياء ، ثم حذفت الياء لدلالة الكسرة عليها. وقالوا هو مثل قوله :

يسوء القاليات إذا قليني

وقول الآخر :

لا أباك تخوفيني

وقرأ باقي السبعة : بفتح وهي علامة الرفع. قال الحسن : فبم تبشرون على وجه الاحتقار وقلة المبالاة بالمبشرات لمضي العمر واستيلاء الكبر. وقال مجاهد : عجب من

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ١١٢.

٤٨٥

كبره وكبر امرأته ، وتقدم ذكر سنه وقت البشارة. وبالحق أي باليقين الذي لا لبس فيه ، أو بالطريقة التي هي حق ، وهي قول الله ووعده وأنه قادر على أن يوجد ولدا من غير أبوين ، فكيف من شيخ فان ، وعجوز عاقر. وقرأ ابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، ورويت عن أبي عمرو : من القنطين ، من قنط يقنط. وقرأ النحويان والأعمش : ومن يقنط ، وفي الروم والزمر بكسر النون ، وباقي السبعة بفتحها ، وزيد بن علي والأشهب بضمها. وهو استفهام في ضمنه النفي ، ولذلك دخلت إلا في قوله : إلا الضالون وقولهم له : فلا تكن من القانطين نهي ، والنهي عن الشيء لا يدل على تلبس المنهي عنه به ولا بمقارنته. وقوله : ومن يقنط ردّ عليهم ، وأن المحاورة في البشارة لا تدل على القنوط ، بل ذلك على سبيل الاستبعاد لما جرت به العادة. وفي ذلك إشارة إلى أنّ هبة الولد على الكبر من رحمة الله ، إذ يشد عضد والده به ويؤازره حالة كونه لا يستقل ويرث منه علمه ودينه.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ * فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) : لما بشروه بالولد راجعوه في ذلك ، علم أنهم ملائكة الله ورسله ، فاستفهم بقوله : فما خطبكم؟ الخطب لا يكاد يقال إلا في الأمر الشديد ، فأضافه إليهم من حيث أنهم حاملوه إلى أولئك القوم المعذبين. ونكر قوما وصفتهم تقليلا لهم واستهانة بهم ، وهم قوم لوط أهل مدينة سدوم والمعنى : أرسلنا بالهلاك. وإلا آل لوط : يحتمل أن يكون استثناء من الضمير المستكن في مجرمين والتقدير : أجرموا كلهم إلا آل لوط ، فيكون استثناء متصلا ، والمعنى : إلا آل لوط فإنهم لم يجرموا. ويكون قوله : إنا لمنجوهم أجمعين ، استئناف إخبار عن نجاتهم ، وذلك لكونهم لم يجرموا ، ويكون حكم الإرسال منسحبا على قوم مجرمين وعلى آل لوط لإهلاك هؤلاء ، وإنجاء هؤلاء. والظاهر أنه استثناء منقطع ، لأنّ آل لوط لم يندرج في قوله : قوم مجرمين ، لا على عموم البدل ، لأنّ وصف الإجرام منتف عن آل لوط ، ولا على عموم الشمول لتنكير قوم مجرمين ، ولانتفاء وصف الإجرام عن آل لوط. وإذا كان استثناء منقطعا فهو مما يجب فيه النصب ، لأنه من الاستثناء الذي لا يمكن بوجه العامل على المستثنى فيه ، لأنهم لم يرسلوا إليهم أصلا ، وإنما أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة. ويكون قوله : إنا لمنجوهم

٤٨٦

جرى مجرى خبر ، لكن في اتصاله بآل لوط ، لأن المعنى : لكن آل لوط منجون. وقد زعم بعض النحويين في الاستثناء المنقطع المقدر بلكن إذا لم يكن بعده ما يصح أن يكون خبرا أنّ الخبر محذوف ، وأنه في موضع رفع لجريان إلا وتقديرها بلكن.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : فقوله إلا امرأته مم استثني ، وهل هو استثناء من استثناء؟ (قلت) : استثنى من الضمير المجرور في قوله : لمنجوهم ، وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيء ، لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه ، وأن يقال : أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته ، كما اتحد الحكم في قول المطلق : أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة ، وفي قول المقر لفلان : عليّ عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما. فأما في الآية فقد اختلف الحكمان ، لأنّ إلا آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين ، وإلا امرأته قد تعلق بمنجوهم ، فأنى يكون استثناء من استثناء : انتهى. ولما استسلف الزمخشري أن إلا امرأته مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم ، لم يجوز أن يكون استثناء من استثناء. ومن قال : إنه استثناء فيمكن تصحيح كلامه بأحد وجهين : أحدهما : أنه لما كان الضمير في لمنجوهم عائد على آل لوط ، وقد استثنى منه المرأة ، صار كأنه مستثنى من آل لوط ، لأنّ المضمر هو الظاهر في المعنى. والوجه الآخر : أن قوله : إلا آل لوط ، لما حكم عليهم بغير الحكم علي قوم مجرمين اقتضى ذلك نجاتهم ، فجاء قوله : إنا لمنجوهم أجمعين تأكيدا لمعنى الاستثناء ، إذ المعنى إلا آل لوط ، فلم يرسل إليهم بالعذاب ، ونجاتهم مترتبة على عدم الإرسال إليهم بالعذاب ، فصار نظير قولك : قام القوم إلا زيدا ، فإنه لم يقم وإلا زيدا لم يقم. فهذه الجملة تأكيد لما تضمنه الاستثناء من الحكم على ما بعد إلا بضد الحكم السابق على المستثنى منه ، فإلا امرأته على هذا التقرير الذي قررناه استثناء من آل لوط ، لأن الاستثناء مما جيء به للتأسيس أولى من الاستثناء مما جيء به للتأكيد.

وقرأ الأخوان : لمنجوهم بالتخفيف ، وباقي السبعة بالتشديد. وقرأ أبو بكر : قدرنا بالتخفيف ، وباقي السبعة بالتشديد ، وكسرت إنها إجراء لفعل التقدير مجرى العلم ، إما لكونه بمعناه ، وإما لترتبه عليه. وأسندوا التقدير إليهم ، ولم يقولوا : قدر الله ، لأنهم هم المأمورون بإهلاكهم كما يقول من يلوذ بالملك ومن هو متصرف بأوامره : أمرنا بكذا ، والآمر هو الملك. وقال الزمخشري : لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم انتهى. فأدرج مذهب الاعتزال في تفضيل الملائكة في غضون كلامه ، ووصف قوم بمنكرون لأنه نكرتهم نفسه ونفرت منهم ، وخاف أن يطرقوه بشر. وبل إضراب عن قول

٤٨٧

محذوف أي : ما جئناك بشيء تخافه ، بل جئناك بالعذاب لقومك ، إذ كانوا يمترون فيه أي : يشكون في وقوعه ، أو يجادلونك فيه تكذيبا لك بما وعدتهم عن الله. ويحتمل أن يكون نكرهم لكونهم ليسوا بمعروفين في هذا القطر ، فخاف الهجوم منهم عليه ، أو أن يتعرض إليهم أحد من قومه إذ كانوا في صورة شباب حسان مرد. وأتيناك بالحق أي : باليقين من عذابهم ، وإنا لصادقون في الإخبار لحلوله بهم. وتقدم الخلاف في القراءة في فأسر. وروى صاحب الإقليد فسر من السير ، وحكاها ابن عطية وصاحب اللوامح عن اليماني. وحكى القاضي منذر بن سعيد أنّ فرقة قرأت بقطع بفتح الطاء ، وتقدم الكلام في القطع وفي الالتفات في سورة هود. وخطب الزمخشري هنا فقال : (فإن قلت) : ما معنى أمره باتباع أدبارهم ، ونهيهم عن الالتفات؟ (قلت) : قد بعث الله الهلاك على قومه ونجاه وأهله ، إجابة لدعوته عليهم ، وخرج مهاجرا فلم يكن بد من الاجتهاد في شكر الله وإدامة ذكره وتفريغ باله ، لذلك فأمر بأن يقدمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه ، وليكون مطلعا عليهم وعلى أهوالهم ، فلا يفرط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحالة المهولة المحذورة ، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه ، وليكون مسيره مسير الهارب الذي تقدم سريه وتفوت به.

وحيث تؤمرون قال ابن عباس : الشام. وقيل : موضع نجاة غير معروف. وقيل : مصر. وقيل : إلى أرض الخليل بمكان يقال له اليقين. وحيث على بابها من أنها ظرف مكان ، وادعاء أنها قد تكون هنا ظرف زمان من حيث أنه ليس في الآية أمر إلا قوله : فأسر بأهلك بقطع من الليل ، ثم قيل له : حيث تؤمر ضعيف. ولفظ تؤمر يدل على خلاف ذلك ، إذ كان يكون التركيب من حيث أمرتم ، وحيث من الظروف المكانية المبهمة ، ولذلك يتعدّى إليها الفعل وهو : امضوا بنفسه ، تقول : قعدت حيث قعد زيد ، وجاء في الشعر دخول في عليها. قال الشاعر :

فأصبح في حيث التقينا شريدهم

طليق ومكتوف اليدين ومرعف

ولما ضمّن قضينا معنى أوحينا ، تعدت تعديها بإلى أي : وأوحينا إلى لوط مقضيا مبتوتا ، والإشارة بذلك إلى ما وعده تعالى من إهلاك قومه. وأنّ دابر تفخيم للأمر وتعظيم له ، وهو في موضع نصب على البدل من ذلك قاله الأخفش ، أو على إسقاط الباء أي بأنّ دابر قاله الفراء ، وجوزه الحوفي. وأنّ دابر هؤلاء مقطوع كناية عن الاستئصال. وتقدم

٤٨٨

تفسير مثله في قوله : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) (١) ومصبحين داخلين في الصباح ، وهو حال من الضمير المستكن في مقطوع على المعنى ، ولذلك جمعه وقدره الفراء وأبو عبيد : إذا كانوا مصبحين ، كما تقول : أنت راكبا أحسن منك ماشيا ، فإن كان تفسير معنى فصحيح ، وإن أراد الإعراب فلا ضرورة تدعو إلى هذا التقدير. وقرأ الأعمش وزيد بن علي : إن دابر بكسر الهمزة لما ضمن قضينا معنى أوحينا ، فكان المعنى : أعلمنا ، علق الفعل فكسر إن أو لما كان القضاء بمعنى الإيحاء معناه القول كسران ، ويؤيده قراءة عبد الله. وقلنا : إنّ دابر وهي قراءة تفسير لا قرآن ، لمخالفتها السواد. والمدينة : سدوم ، وهي التي ضرب بقاضيها المثل في الجور.

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ * قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ * قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) : استبشارهم : فرحهم بالأضياف الذين وردوا على لوط عليه‌السلام. والظاهر أنّ هذا المجيء ومحاورته مع قومه في حق أضيافه ، وعرضه بناته عليهم ، كان ذلك كله قبل إعلامه بهلاك قومه وعلمه بأنهم رسل الله ، ولذلك سماهم ضيفان خوف الفضيحة ، لأجل تعاطيهم ما لا يجوز من الفعل القبيح. وقد جاء ذلك مرتبا هكذا في هود ، والواو لا ترتب. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المجيء والمحاورة بعد علمه بهلاكهم ، وخاور تلك المحاورة على جهة التكتم عنهم ، والإملاء لهم ، والتربص بهم انتهى. ونهاهم عن فضحهم إياه لأنّ من أساء إلى ضيفه أو جاره فقد أساء إليه. ولا تخزون من الخزي وهو الإذلال ، أو من الخزاية وهو الاستحياء. وفي قولهم : أو لم ننهك دليل على تقدم نهيهم إياه عن أن يضيف ، أو يجبر أحدا ، أو يدفع عنه ، أو يمنع بينهم وبينه ، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد. وكان هو صلى الله على نبينا وعليه يقوم بالنهي عن المنكر ، والحجز بينهم وبين من تعرضوا له ، فأوعدوه بأنه إن لم ينته أخرجوه. وتقدم الكلام في قوله : بناتي ، ومعنى الإضافة في هود. وإن كنتم فاعلين شك في قبولهم لقوله : كأنه قال إن فعلتم ما أقول ، ولكم ما أظنكم تفعلون. وقيل : إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم. واللام في لعمرك لام الابتداء ، والكاف خطاب للوط عليه‌السلام ، والتقدير : قالت

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٤٥.

٤٨٩

الملائكة للوط لعمرك ، وكنى عن الضلالة والغفلة بالسكرة أي : تحيرهم في غفلتهم ، وضلالتهم منعهم عن إدراك الصواب الذي يشير به من ترك البنين إلى البنات. وقيل : الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قول الجمهور ابن عباس ، وأبو الحوراء ، وغيرهما. أقسم تعالى بحياته تكريما له. والعمر : بفتح العين وضمها البقاء ، وألزموا الفتح القسم ، ويجوز حذف اللام ، وبذلك قرأ ابن عباس : وعمرك. وقال أبو الهيثم : لعمرك لدينك الذي يعمر ، وأنشد :

أيها المنكح الثريا سهيلا

عمرك الله كيف يلتقيان

أي : عبادتك الله. وقال ابن الأعرابي : عمرت ربي أي عبدته ، وفلان عامر لربه أي عابد. قال : ويقال تركت فلانا يعمر ربه أي يعبده ، فعلى هذا لعمرك لعبادتك. وقال الزجاج : ألزموا الفتح القسم لأنه أخف عليهم ، وهم يكثرون القسم بلعمري ولعمرك فلزموا الأخف ، وارتفاعه بالابتداء ، والخبر محذوف أي : ما أقسم به. وقال بعض أصحاب المعاني : لا يجوز أن يضاف إلى الله ، لأنه لا يقال لله تعالى عمر ، وإنما يقال : هو أزلي ، وكأنه يوهم أنّ العمر لا يقال إلا فيما له انقطاع ، وليس كذلك العمر ، والعمر البقاء. قال الشاعر :

إذا رضيت عليّ بنو قشير

لعمر الله أعجبني رضاها

وقال الأعشى :

ولعمر من جعل الشهور علامة

فبين منها نقصها وكمالها

وكره النخعي أن يقال : لعمري ، لأنه حلف بحياة المقسم. وقال النابغة : لعمري وما عمري عليّ بهين والضمير في سكرتهم عائد على قوم لوط ، وقال الطبري : لقريش ، وهذا مروي عن ابن عباس. قال : ما خلق الله نفسا أكرم على الله من محمد قال له : وحياتك إنهم أي قومك من قريش لفي سكرتهم أي ضلالهم ، وجهلهم يعمهون يتردّدون. قال ابن عطية : وهذا بعيد لانقطاعه مما قبله وما بعده. وقرأ الأشهب : سكرتهم بضم السين ، وابن أبي عبلة : سكراتهم بالجمع ، والأعمش : سكرهم بغير تاء ، وأبو عمرو في رواية الجهضمي : أنهم بفتح همزة أنهم. والصيحة : صيحة الهلاك. وقيل : صوت جبريل عليه‌السلام. وقال ابن عطية : هي صيحة الوحشة ، وليست كصيحة ثمود مشرقين : داخلين في الشروق ، وهو

٤٩٠

بزوغ الشمس. وقيل : أول العذاب كان عند الصبح ، وامتد إلى شروق الشمس ، فكأنه تمام الهلاك عند ذلك. والضمير في عاليها سافلها عائد على المدينة المتقدّمة الذكر. وقال الزمخشري : لقرى قوم لوط ، ولم يتقدم لفظ القرى. وقال مقاتل وابن زيد : للمتوسمين ، للمتفكرين. وقال الضحاك : للناظرين. قال الشاعر :

أو كلما وردت عكاظ قبيلة

بعثوا إلى عريفهم يتوسم

وقال أبو عبيدة : للمتبصرين. وقال قتادة : للمعتبرين. وروي نهشل عن ابن عباس للمتوسمين قال : لأهل الصلاح والخير ، والضمير في وأنها عائد على المدينة المهلكة أي : أنها لبطريق ظاهر بين للمعتبر قاله : مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد. قيل : ويحتمل أن يعود على الآيات ، ويحتمل أن يعود على الحجارة. وقوله : لبسبيل أي ممر ثابت ، وهي بحيث يراها الناس ويعتبرون بها لم تندرس. وهو تنبيه لقريش ، وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل. وقيل : عائد على الصيحة أي : وإنّ الصيحة لبمرصد لمن يعمل عملهم لقوله : وما هي من الظالمين ببعيد. وقيل : مقيم معلوم. وقيل : معتد دائم. وقال ابن عباس : هلاك دائم السلوك إنّ في ذلك أي : في صنعنا بقوم لوط لعلامة ودليلا لمن آمن بالله.

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ * فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) : هم قوم شعيب ، والأيكة التي أضيفوا إليها كانت شجر الدوم. وقيل : المقل. وقيل : السدر. وقيل : الأيكة اسم الناحية ، فيكون علما. ويقويه قراءة من قرأ في الشعراء وص : ليكة ممنوع الصرف. كفروا فسلط الله عليهم الحر ، وأهلكوا بعذاب الظلة. ويأتي ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى في سورة الشعراء. وإن عند البصريين هي المخففة من الثقيلة ، وعند الفراء نافية ، واللام بمعنى ألا. وتقدم نظير ذلك في : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) (١) في البقرة. والظاهر قول الجمهور من أنّ الضمير في وإنهما عائد على قريتي : قوم لوط ، وقوم شعيب. أي : على أنهما ممر السائلة. وقيل : يعود على شعيب ولوط أي : وإنهما لبإمام مبين ، أي بطريق من الحق واضح ، والإمام الطريق. وقيل : وإنهما أي : الحر بهلاك قوم لوط وأصحاب الأيكة ، لفي مكتوب مبين أي : اللوح المحفوظ. قال مؤرج : والإمام الكتاب بلغة حمير. وقيل : يعود على أصحاب الأيكة ومدين ، لأنه مرسل إليهما ، فدل ذكر أحدهما على الآخر ، فعاد الضمير إليهما.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٣.

٤٩١

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ * وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) : أصحاب الحجر ثمود قوم صالح عليه‌السلام ، والحجر أرض بين الحجاز والشام ، وتقدّمت قصته في الأعراف مستوفاة. والمرسلين يعني بتكذيبهم صالحا ، لأنّ من كذب واحدا منهم فكأنما كذبهم جميعا. قال الزمخشري : أو أراد صالحا ومن معه من المؤمنين كما قيل : الخبيبيون في ابن الزبير وأصحابه. وعن جابر قال : مررنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الحجر فقال لنا : «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذر أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء ، ثم زجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم راحلته فأسرع حتى خلفها» وفي بعض طرقه ثم قال : «هؤلاء قوم صالح أهلكهم الله إلا رجلا كان في حرم الله منعه حرم الله من عذاب الله» قيل : من هو يا رسول الله؟ قال : «أبو رغال» وإليه تنسب ثقيف.

وآتيناهم آياتنا قيل : أنزل إليهم آيات من كتاب الله ، وقيل : يراد نصب الأدلة فأعرضوا عنها. وقيل : كان في الناقة آيات خمس. خروجها من الصخرة ، ودنو نتاجها عند خروجها ، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة ، وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعا. وقيل : كانت له آيات غير الناقة. وقرأ الجمهور : ينحتون بكسر الخاء. وقرأ الحسن ، وأبو حيوة بفتحها وصفهم بشدة النظر للدنيا والتكسب منها ، فذكر من ذلك مثالا وهو نقرهم بالمعاول ونحوها في الحجارة. وآمنين ، قيل : من الانهدام. وقيل : من حوادث الدنيا. وقيل : من الموت لاغترارهم بطول الأعمار. وقيل : من نقب اللصوص ، ومن الأعداء. وقيل : من عذاب الله ، يحسبون أنّ الجبال تحميهم منه. قال ابن عطية : وأصح ما يظهر في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة ، فكانوا لا يعملون بحسبها ، بل كانوا يعملون بحسب الأمن منها. ومصبحين : داخلين في الصباح. والظاهر أنّ ما في قوله فما أغنى نافية ، وتحتمل الاستفهام المراد منه التعجب. وما في كانوا يحتمل أن تكون مصدرية ، والظاهر أنها بمعنى الذي ، والضمير محذوف أي : يكسبونه من البيوت الوثيقة والأموال والعدد ، بل خروا جاثمين هلكى (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَ رَبِّكَ

٤٩٢

لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) : إلا بالحق أي : خلقا ملتبسا بالحق. لم يخلق شيء من ذلك عبثا ولا هملا ، بل ليطيع من أطاع بالتفكر في ذلك الخلق العظيم ، وليتذكر النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى. ولذلك نبه من يتنبه بقوله : وأن الساعة لآتية ، فيجازي من أطاع ومن عصى. ثم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصفح ، وذلك يقتضي المهادنة ، وهي منسوخة بآية السيف قاله قتادة. أو إظهار الحكم عنهم والإغضاء لهم.

ولما ذكر خلق السموات والأرض وما بينهما قال : إن ربك هو الخلاق ، أتى بصفة المبالغة لكثرة ما خلق ، أو الخلاق من شاء لما شاء من سعادة أو شقاوة. وقال الزمخشري : الخلاق الذي خلقك وخلقهم ، وهو العليم بحالك وحالهم ، فلا يخفى عليه ما يجري بينكم. أو إنّ ربك هو الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم ، وقد علم أنّ الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح. وقرأ زيد بن علي ، والجحدري ، والأعمش ، ومالك بن دينار : هو الخالق ، وكذا في مصحف أبي وعثمان ، من المثاني.

والمثاني جمع مثناة ، والمثنى كل شيء يثنى أي : يجعل اثنين من قولك : ثنيت الشيء ثنيا أي عطفته وضممت إليه آخر ، ومنه يقال لركبتي الدابة ومرفقيه : مثاني ، لأنه يثنى بالفخذ والعضد. ومثاني الوادي معاطفه. فتقول : سبعا من المثاني مفهوم سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى ، وهذا مجمل ، ولا سبيل إلى تعيينه إلا بدليل منفصل. قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وابن جبير : السبع هنا هي السبع الطوال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، وبراءة ، لأنهما في حكم سورة ، ولذلك لم يفصل بينهما بالتسمية. وسميت الطوال مثاني لأنّ الحدود والفرائض والأمثال ثنيت فيها قاله ابن عباس ، وعلى قوله من لبيان الجنس. وقيل : السابعة سورة يونس قاله ابن جبير ، وقيل : براءة وحدها ، قاله أبو مالك. والمثاني على قول هؤلاء وابن عباس في قوله المتقدم : القرآن. كما قال تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) (١) وسمي بذلك لأنّ القصص والأخبار تثنى فيه وتردّد. وقيل : السبع آل حميم ، أو سبع صحائف

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٢٣.

٤٩٣

وهي الأسباع. وقيل : السبع هي المعاني التي أنزلت في القرآن : أمر ، ونهي ، وبشارة ، وإنذار ، وضرب أمثال ، وتعداد النعم ، وأخبار الأمم. قاله زياد بن أبي مريم. وقال عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس أيضا ، والحسن ، وأبو العالية ، وابن أبي مليكة ، وعبيد بن عمير ، وجماعة : السبع هنا هي آيات الحمد. قال ابن عباس : وهي سبع ببسم الله الرحمن الرحيم. وقال غيره : سبع دون البسملة. وقال أبو العالية : لقد نزلت هذه السورة وما نزل من السبع الطوال شيء ، ولا ينبغي أن يعدل عن هذا القول ، بل لا يجوز العدول عنه لما في حديث أبيّ ففي آخره ، «هي السبع المثاني» وحديث أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنها السبع المثاني وأمّ القرآن وفاتحة الكتاب» وسميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة. وقيل : لأنها يثنى بها على الله تعالى جوزه الزجاج. قال ابن عطية : وفي هذا القول من جهة التصريف نظر انتهى. ولا نظر في ذلك ، لأنها جمع مثنى بضم الميم مفعل من أثنى رباعيا أي : مقر ثناء على الله تعالى أي : فيها ثناء على الله تعالى. وقال ابن عباس : لأن الله استثناها لهذه الأمة ولم يعطها لغيرها ، وقال نحوه ابن أبي مليكة. وعلى هذا التفسير الوارد في الحديث تكون من لبيان الجنس ، كأنه قيل : التي هي المثاني ، وكذا في قول من جعلها أسباع القرآن ، أو سبع المعاني. وأما من جعلها السبع الطوال أو آل حميم فمن للتبعيض ، وكذا في قول من جعل سبعا الفاتحة والمثاني القرآن. قال الزمخشري : يجوز أن تكون كتب الله كلها مثاني ، لأنها تثني عليه ، ولما فيها من المواعظ المكررة ، ويكون القرآن بعضها.

وقرأ الجمهور : والقرآن العظيم بالنصب. فإن عنى بالسبع الفاتحة أو السبع الطوال لكان ذلك من عطف العام على الخاص ، وصار الخاص مذكورا مرتين. إحداهما : بجهة الخصوص ، والأخرى : بجهة العموم. أو لأنّ ما دون الفاتحة أو السبع الطوال ينطلق عليه لفظ القرآن ، إذ هو اسم يقع على بعض الشيء ، كما يقع على كله. وإن عنى الإسباع فهو من باب عطف الشيء على نفسه ، من حيث أنّ المعنى : ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم أي : الجامع لهذين المعنيين وهو الثناء والتنبيه والعظم. وقرأت فرقة : والقرآن العظيم بالخفض عطفا على المثاني. وأبعد من ذهب إلى أنّ الواو مقحمة ، والتقدير : سبعا من المثاني القرآن العظيم. ولما ذكر تعالى ما أنعم به على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إتيانه ما آتاه ، نهاه. وقد قلنا : إنّ النهي لا يقتضي الملابسة ولا المقاربة عن طموح عينه إلى شيء من متاع الدنيا ، وهذا وإن كان خطابا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمعنى : نهى أمته عن ذلك لأنّ

٤٩٤

من أوتي القرآن شغله النظر فيه وامتثال تكاليفه وفهم معانيه عن الاشتغال بزهرة الدنيا. ومد العين للشيء إنما هو لاستحسانه وإيثاره. وقال ابن عباس : أي لا تتمنّ ما فضلنا به أحدا من متاع الدنيا أزواجا منهم ، أي رجالا مع نسائهم ، أو أمثالا في النعم ، وأصنافا من اليهود والنصارى والمشرين أقوال. ونهاه تعالى عن الحزن عليهم إن لم يؤمنوا ، وكان كثير الشفقة على من بعث إليه ، وادّا أن يؤمنوا بالله كلهم ، فكان يلحقه الحزن عليهم. نهاه تعالى عن الحزن عمن لم يؤمن ، وأمره بخفض جناحه لمن آمن ، وهي كناية عن التلطف والرفق. وأصله : أنّ الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه لم ثم قبضه على فرخه ، والجناحان من ابن آدم جانباه. ثم أمره أن يبلغ أنه هو النذير الكاشف لكم ما جئت به إليكم من تعذيبكم إن لم تؤمنوا ، وإنزال نقم الله المخوفة بكم. والكاف قال الزمخشري : فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلق بقوله : ولقد آتيناك أي : أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب ، وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين ، حيث قالوا بعنادهم وعداوتهم : بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما ، فاقتسموه إلى حق وباطل ، وعصوه. وقيل : كانوا يستهزئون به فيقول بعضهم : سورة البقرة لي ، ويقول الآخر : سورة آل عمران لي. ويجوز أن يراد بالقرآن ما يقرأونه من كتبهم ، وقد اقتسموه بتحريفهم ، وبأن اليهود أقرت ببعض التوراة وكذبت ببعض ، والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض ، وهذه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم وقولهم : سحر ، وشعر ، وأساطير ، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم. والثاني : أن يتعلق بقوله تعالى : وقل إني أنا النذير المبين ، وأنذر قريشا مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين يعني : اليهود ، هو ما جرى على قريظة والنضير ، جعل المتوقع بمنزلة الواقع ، وهو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون وقد كان. ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوبا بالنذير أي : أنذر المعضين الذين يجزؤون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم : الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم ، فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر ، ويقول الآخر : كذاب ، والآخر : شاعر ، فأهلكهم الله تعالى يوم بدر ، وقبله بآفات : كالوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن المطلب ، وغيرهم. أو مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا عليه‌السلام والاقتسام بمعنى التقاسم (فإن قلت) : إذا علقت قوله كما أنزلنا بقوله : ولقد آتيناك فما معنى توسط لا تمدن إلى آخره

٤٩٥

بينهما (قلت) : لما كان ذلك تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم اعترض بما هو مدد لمعنى التسلية من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ومن الأمر بأن يقبل بمجامعه على المؤمنين انتهى. أما الوجه الأول وهو تعلق كما بآتيناك فذكره أبو البقاء على تقدير وهو وأن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف تقديره آتيناك سبعا من المثاني إيتاء كما أنزلنا أو إنزالا كما أنزلنا لأن آتيناك بمعنى أنزلنا عليك وأما قوله أن المقتسمين هم أهل الكتاب فهو قول الحسن ومجاهد ورواه العوفي عن ابن عباس وأما قوله اقتسموا القرآن فهو قول ابن عباس فيما رواه عنه سعيد بن جبير وأما قوله اقتسموا فقال بعضهم سورة البقرة وبعضهم سورة آل عمران إلخ فقاله عكرمة. وقال السدي هم الأسود بن عبد المطلب والأسود بن عبد يغوث والوليد والعاصي والحرث بن قيس ذكروا القرآن فمن قائل البعوض لي ومن قائل النمل لي وقائل الذباب لي وقائل العنكبوت لي استهزاء فأهلك الله جميعهم.

وأما قوله أن القرآن عبارة عما يقرأونه من كتبهم إلى آخره فقاله مجاهد. وأما قوله ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوبا بالنذير أي أنذر المعضين فلا يجوز أن يكون منصوبا بالنذير كما ذكر لأنه موصوف بالمبين ولا يجوز أن يعمل إذا وصف قبل ذكر المعمول على مذهب البصريين لا يجوز هذا عليم شجاع علم النحو فتفصل بين عليم وعلم بقوله شجاع وأجاز ذلك الكوفيون وهي مسألة خلافية تذكر دلائلها في علم النحو. وأما قوله الذين يجزؤون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير فمروي عن قتادة إلا أنه قال بدل شعر كهانة. وأما قوله الذين اقتسموا مداخل مكة فهو قول السائب وفيه أن الوليد بن المغيرة قال : ليقل بعضكم كاهن وبعضكم ساحر وبعضكم شاعر وبعضكم غاو وهم حنظلة بن أبي سفيان وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاصي بن هشام وأبو قيس بن الوليد وقيس بن الفاكه وزهير بن أمية وهلال بن عبد الأسود والسائب بن صيفي والنضر بن احرث وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الحجاج وأمية بن خلف وأوس بن المغيرة تقاسموا على تكذيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأهلكوا جميعا. وأما قوله أنهم الذين تقاسموا أن يبيتوا صالحا فقول عبد الله بن زيد. وقال ابن عطية والكاف من قوله كما متعلقة بفعل محذوف تقديره وقل إني أنا النذير عذابا كالذي أنزلنا على المقتسمين فالكاف اسم في موضع نصب هذا قول المفسرين وهو عندي غير صحيح لأن كما ليس مما يقوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل هو من قول الله تعالى فينفصل الكلام وإنما يترتب هذا القول بأن يقدران الله تعالى قال له أنذر عذابا كما والذي أقول في هذا المعنى وقل أنا النذير المبين كما قال قبلك رسلنا وأنزلنا عليهم كما

٤٩٦

أنزلنا عليك ويحتمل أن يكون المعنى وقل إني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيرا وهذا على أن المقتسمين أهل الكتاب انتهى. أما قوله وهو عندي غير صحيح إلى آخره فقد استعذر بعضهم عن ذلك فقال الكاف متعلقة بمحذوف دل عليه المعنى تقديره أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا وإن كان المنزل الله كما يقول بعض خواص الملك أمرنا بكذا وإن كان الملك هو الآمر. وأما قوله والذي أقول في هذا المعنى إلى آخره فكلام مثبج ولعله من الناسخ ولعله أن يكون وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم. وقال أبو البقاء وقيل التقدير متعناهم تمتيعا كما أنزلنا والمعنى متعنا بعضهم كما عذبنا بعضهم. وقيل التقدير إنذار مثل ما أنزلنا انتهى. وقيل الكاف زائدة التقدير أنا النذير المبين ما أنزلنا على المقتسمين هذه أقوال وتوجيهات متكلفة والذي يظهر لي أنه تعالى لما أمره بأن لا يحزن على من لم يؤمن وأمره بخفض جناحه للمؤمنين أمره أن يعلم المؤمنين وغيرهم أنه هو النذير المبين لئلا يظن المؤمنون أنهم لما أمر عليه الصلاة والسلام بخفض جناحه لهم خرجوا من عهدة النذارة فأمره تعالى بأن يقول لهم إني أنا النذير المبين لكم ولغيركم كما قال تعالى إنما أنت منذر من يخشاها وتكون الكاف نعتا لمصدر محذوف تقديره وقل قولا مثل ما أنزلنا على المقتسمين إنك نذير لهم فالقول للمؤمنين في النذارة كالقول للكفار المقتسمين لئلا يظن إنذارك للكفار مخالف لإنذار المؤمنين بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة تنذر المؤمنين كما تنذر الكافرين كما قال تعالى نذير وبشير لقوم يؤمنون والظاهر أن الذين صفة للمقتسمين وجوزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن ينتصب على الذم وتقدم تجويز الزمخشري له أن يكون مفعولا بالنذير فوربك أقسم تعالى بذاته وربوبيته مضافا إلى رسوله على جهة التشريف والضمير في لنسألنهم يظهر عوده على المقتسمين وهو وعيده من سؤال تقريع ويقال أنه يعود على الجميع من كافر ومؤمن إذ قد تقدم ذكرهما والسؤال عام للخلق ويجوز أن يكون السؤال كناية عن الجزاء وعن ما كانوا يعملون عام في جميع الأعمال. وقال أبو العالية يسأل العباد عن حالتين عن ما كانوا يعبدون وعن ما أجابوا المرسلين وقال ابن عباس يقال لهم لم عملتم كذا؟ قال أنس وابن عمر ومجاهد السؤال عن لا إله إلا الله وذكره الزهراوي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإذا ثبت ذلك فيكون المعنى عن الوفاء بلا إله إلا الله والصدق لمقالها كما قال الحسن ليس الإيمان بالتحلي ولا الدين بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. وقال ابن عباس فاصدع بما تؤمر امض به. وقال الكلبي اجهر به وأظهره من الصديع وهو الفجر قال الشاعر :

٤٩٧

كأن بياض غرته صديع

وقال السدي تكلم بما تؤمر. وقال ابن زيد أعلم بالتبليغ. وقال ابن بحر جرد لهم القول في الدعاء إلى الإيمان. وقال أبو عبيدة عن رؤبة ما في القرآن أغرب من قوله فاصدع بما تؤمر وما في بما بمعنى الذي والمفعول الثاني محذوف تقديره بما تؤمره وكان أصله تؤمر به من الشرائع فحذف الحرف فتعدى الفعل إليه. وقال الأخفش ما موصولة والتقدير فاصدع بما تؤمر بصدعه فحذف المضاف ثم الجار ثم الضمير. وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون ما مصدرية أي بأمرك مصدر من المبني للمفعول انتهى. وهذا ينبني على مذهب من يجوز أن المصدر يراد به أن والفعل المبني للمفعول والصحيح أن ذلك لا يجوز وأعرض عن المشركين من آيات المهادنات التي نسختها آية السيف قاله ابن عباس ثم أخبره تعالى أنه كفاه المستهزئين بمصائب أصابتهم لم يسع فيها الرسول ولا تكلف لها مشقة. قال عروة وابن جبير هم خمسة : الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأبو زمعة والأسود بن عبد يغوث ومن بني خزاعة الحرث بن الطلاطلة. قال أبو بكر الهذلي قلت للزهري إن ابن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين فقال ابن جبير هو الحرث بن عيطلة وقال عكرمة هو الحرث بن قيس فقال الزهري صدقا إنه عيطلة وأبوه قيس وذكر الشعبي في المستهزئين هبار بن الأسود وذلك وهم لأن هبارا أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة. وعن ابن عباس أن المستهزئين كانوا ثمانية وفي رواية مكان الحرث بن قيس عدي بن قيس. وقال الشعبي وابن أبي بزة كانوا سبعة فذكر الوليد والحرث بن عدي والأسودين والأثرم وبعكك ابني الحرث بن السباق وكذا قال مقاتل إلا أنه قال مكان الحرث بن عدي الحرث بن قيس السهمي وذكر المفسرون والمؤرخون أن جبريل عليه‌السلام قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه فمنعه الكبر أن يطامن لنزعه فأصاب عرقا في عقبه. قال قتادة ومقسم وهو الأكحل فقطعه فمات وأومأ إلى أخمص العاصي فدخلت فيه شوكة. وقيل ضربته حية فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات وأومأ إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي وهلك وأشار إلى أنف الحرث بن قيس فامتخط قيحا فمات. وقيل أصابته سموم فاسودّ حتى صار كأنه حبشي فأتى أهله فلم يعرفوه وأغلقوا الباب في وجهه فصار يطوف في شعاب مكة حتى مات وفي بعض ما أصاب هؤلاء اختلاف والله أعلم. وقال مقاتل أصاب الأثرم أو بعككا الدبيلة والآخر ذات الجنب فماتا فسوف يعلمون وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وجعلهم إلها مع الله في

٤٩٨

الآخرة كما جوزوا في الدنيا وكنى بالصدر عن القلب لأنه محله وجعل سبب الضيق ما يقولون وهو ما ينطقون به من الاستهزاء والطعن فيما جاء به ثم أمره تعالى بتنزيهه عن ما نسبوا إليه من اتخاذ الشريك معه مصحوبا بحمده والثناء على ما أسدى إليه من نعمة النبوة والرسالة والتوحيد وغيرها من النعم فهذا في المعتقد والفعل القلبي وأمره بكونه من الساجدين والمراد والله أعلم من المصلين فكنى بالسجود عن الصلاة وهي أشرف أفعال الجسد وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ولما كان الصادر من المستهزئين اعتقادا وهو فعل القلب وقولا وهو ما يقولون في الرسول وما جاء به وهو فعل جارحة أمر تعالى بما يقابل ذلك من التنزيه لله ومن السجود وهما جامعان فعل القلب وفعل الجسد ثم أمره تعالى بالعبادة التي هي شاملة لجميع أنواع ما يتقرب بها إليه تعالى وهذه الأوامر معناها دم على كذا لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما زال متلبسا بها أي دم على التسبيح والسجود والعبادة والجمهور على أن المراد باليقين الموت أي ما دمت حيا فلا تخل بالعبادة وهو تفسير ابن عمر ومجاهد والحسن وقتادة وابن زيد ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عثمان بن مظعون عند موته أما هو فقد رأى اليقين ويروى فقد جاءه اليقين وليس اليقين من أسماء الموت وإنما العلم به يقين لا يمتري فيه عاقل فسمي يقينا تجوزا أي يأتيك الأمر اليقين علمه ووقوعه. وقال ابن عطية ويحتمل أن يكون المعنى حتى يأتيك اليقين في النصر الذي وعدته انتهى وقاله ابن بحر قال اليقين النصر على الكافرين انتهى وحكمة التغيية باليقين وهو الموت أنه يقتضي ديمومة العبادة ما دام حيا بخلاف الاقتصار على الأمر بالعبادة غير مغيا لأنه يكون مطلقا فيكون مطيعا بالمرة الواحدة والمقصود أن لا يفارق العبادة حتى يموت.

٤٩٩

سورة النّحل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي

٥٠٠