البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا

٤١

جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١)

رهقه غشيه ، وقيل : لحقه ومنه. ولا ترهقني من أمري عسرا ، ورجل مرهق يغشاه الأضياف. وقال الأزهري : الرهق اسم من الإرهاق ، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيق. يقال : أرهقته أن يصلي إذا أعجلته عن الصلاة. وقيل : أصل الرهق المقاربة ، يقال : غلام مراهق أي قارب الحلم. وفي الحديث : «أرهقوا القبلة» أي ادنوا منها. ويقال : رهقت الكلاب الصيد إذا لحقته ، وأرهقنا الصلاة أخرناها حتى تدنو من الأخرى.

__________________

(١) سورة الواقعة : ٥٦ / ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ١٠.

٤٢

القتر والقترة الغبار الذي معه سواد ، وقال ابن عرفة : الغبار. وقال الفرزدق :

متوج برداء الملك يتبعه

موج ترى فوقه الرايات والقترا

أي غبار العسكر. وقال ابن بحر : أصل القتر دخان النار ، ومنه قتار القدر انتهى. ويقال : القتر بسكون التاء الشأن والأمر ، وجمعه شؤون. وأصله الهمز بمعنى القصد من شأنت شأنه إذا قصدت قصده. عزب يعزب ويعزب بكسر الزاي وضمها غاب حتى خفي ، ومنه الروض العازب. وقال أبو تمام :

وقلقل نأى من خراسان جأشها

فقلت اطمئني أنضر الروض عازبه

وقيل للغائب عن أهله عازب ، حتى قالوه لمن لا زوجة له.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) : أحسنوا قال ابن عباس : ذكروا كلمة لا إله إلا الله. وقال الأصم : أحسنوا في كل ما تعبدوا به أي : أتوا بالمأمور به كما ينبغي ، واجتنبوا المنهي. وقيل : أحسنوا معاملة الناس. وروى أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحسنوا العمل في الدنيا» وفي الصحيح : «ما الإحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وعن عيسى عليه‌السلام : ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذلك مكافأة ، ولكنّ الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك».

والحسنى قال الأكثرون : هي الجنة ، وروي ذلك عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو صح وجب المصير إليه. وقال الطبري : الحسنى عام في كل حسن ، فهو يعم جميع ما قيل ووعد الله في جميعها بالزيادة ، ويؤيد ذلك أيضا قوله : أولئك أصحاب الجنة. ولو كان معنى الحسنى الجنة لكان في القول تكرير في المعنى. وقال عبد الرحمن بن سابط : هي النضرة. وقال ابن زيد : الجزاء في الآخرة. وقيل : الأمنية ذكره ابن الأنباري. وقال الزمخشري : المثوبة الحسنى وزيادة ، وما يزيد على المثوبة وهو التفضل ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (١) وعن علي : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة. وعن ابن عباس : الحسنى الحسنة والزيادة عشرة أمثالها. وعن الحسن : عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وعن مجاهد : الزيادة مغفرة من الله ورضوان. وعن زياد بن شجرة : الزيادة أنّ تمر السحابة بأهل الجنة

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٧٣.

٤٣

فتقول : ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم. وزعمت المشبهة والمجبرة أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى ، وجاءت بحديث موضوع : «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا يا أهل الجنة ، فيكشفون الحجاب ، فينظرون إليه ، فو الله ما أعطاهم الله تعالى شيئا هو أحب إليهم منه» انتهى. أما تفسيره أولا ونقله عمن ذكر تفسير الزيادة فهو نص الجبائي ونقله ، وأما قوله : وجاءت بحديث موضوع فليس بموضوع ، بل خرجه مسلم في صحيحه عن صهيب ، والنسائي عنه عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخرجه ابن المبارك في دقائقه موقوفا على أبي موسى وقال : بأن الزيادة هي النظر إلى الله تعالى ، أبو بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب ، في رواية وحذيفة ، وعبادة بن الصامت ، وكعب بن عجرة ، وأبو موسى ، وصهيب ، وابن عباس في رواية ، وهو قول جماعة من التابعين. ومسألة الرؤية يبحث فيها في أصول الدين. قال مجاهد : أراد ولا يلحقها خزي ، والخزي يتغير به الوجه ويسود. قال ابن ابن عباس : والذلة الكآبة. وقال غيره : الهوان. وقيل : الخيبة نفي عن المحسنين ما أثبت للكفار من قوله : (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) (١) وقوله : (عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) (٢) وكنى بالوجه عن الجملة لكونه أشرفها ، ولظهور أثر السرر والحزن فيه. وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وعيسى بن عمر ، والأعمش : قتر بسكون التاء ، وهي لغة كالقدر ، والقدر وجعلوا أصحاب الجنة لتصرفهم فيها كما يتصرف الملاك على حسب اختيارهم.

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) : لما ذكر ما أعد للذين أحسنوا وحالهم يوم القيامة ومآلهم إلى الجنة ، ذكر ما أعد لأضدادهم وحالهم ومآلهم ، وجاءت صلة المؤمنين أحسنوا ، وصلة الكافرين كسبوا السيئات ، تنبيها على أنّ المؤمن لما خلق على الفطرة وأصلها بالإحسان ، وعلى أن الكافر لما خلق على الفطرة انتقل عنها وكسب السيئات ، فجعل ذلك محسنا ، وهذا كاسبا للسيئات ، ليدل على أنّ المؤمن سلك ما ينبغي ، وهذا سلك ما لا ينبغي. والظاهر أنّ والذين مبتدأ ، وجوزوا في الخبر وجوها أحدها : أنه الجملة التي بعده وهي جزاء سيئة بمثلها ، وجزاء مبتدأ فقيل : خبره مثبت وهو بمثلها. واختلفوا في الباء فقيل : زائدة قاله ابن كيسان أي جزاء سيئة مثلها ، كما قال : وجزاء سيئة سيئة مثلها ، كما زيدت في الخبر في قوله : فمنعكها بشيء يستطاع ،

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٢٧.

(٢) سورة عبس : ٨٠ / ٤١.

٤٤

أي شيء يستطاع. وقيل : ليست بزائدة ، والتقدير : مقدر بمثلها أو مستقر بمثلها. وقيل : محذوف ، فقدّره الحوفي : لهم جزاء سيئة قال : ودل على تقدير لهم قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) (١) حتى تشاكل هذه بهذه. وقدره أبو البقاء جزاء سيئة بمثلها واقع ، والباء في قولهما متعلقة بقوله : جزاء ، والعائد من هذه الجملة الواقعة خبرا عن الذين محذوف تقديره : جزاء سيئة منهم ، كما حذف في قولهم : السمن منوان بدرهم ، أي منوان منه بدرهم. وعلى تقدير الحوفي : لهم جزاء يكون الرابط لهم. الثاني : أنّ الخبر قوله : ما لهم من الله من عاصم ، ويكون قد فصل بين المبتدأ والخبر بجملتين على سبيل الاعتراض ، ولا يجوز ذلك عند أبي علي الفارسي ، والصحيح جوازه. الثالث : أن يكون الخبر كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما. الرابع : أن يكون الخبر أولئك وما بعده ، فيكون في هذا القول فصل بين المبتدأ والخبر بأربع جمل معترضة ، وفي القول الثالث بثلاث جمل ، والصحيح منع الاعتراض بثلاث جمل وبأربع جمل ، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين في موضع جر عطفا على قوله : للذين أحسنوا ، ويكون جزاء مبتدأ خبره قوله : والذين على إسقاط حرف الجر أي : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، فيتعادل التقسيم ، كما تقول : في الدار زيد ، والقصر عمرو ، أي : وفي القصر عمرو. وهذا التركيب مسموع من لسان العرب ، فخرجه الأخفش على أنه من العطف على عاملين. وخرجه الجمهور على أنه مما حذف منه حرف الجر ، وجره بذلك الحرف المحذوف لا بالعطف على المجرور ، وهي مسألة خلاف وتفصيل يتكلم فيها في علم النحو.

والظاهر أنّ السيئات هنا هي سيئات الكفر ، ويدل عليه ذكر أوصافهم بعد. وقيل : السيئات المعاصي ، فيندرج فيها الكفر وغيره. ولهذا قال ابن عطية : وتعم السيئات هاهنا الكفر والمعاصي ، فمثل سيئة الكفر التخليد في النار ، ومثل سيئات المعاصي مصروف إلى مشيئة الله تعالى ، ومعنى بمثلها أي : لا يزاد عليها. قال الزمخشري : وفي هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة الفضل ، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله ، ودل بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله انتهى. وقيل : معنى بمثلها أي : بما يليق بها من العقوبات ، فالعقوبات تترتب على قدر السيئات ، ولهذا كانت جهنم دركات ، وكان المنافقون في الدرك

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٢٦.

٤٥

الأسفل لقبح معصيتهم. وقرىء : ويرهقهم بالياء ، لأنّ تأنيث الذلة مجاز ، وفي وصف المنافقين نفي القتر والذلة عن وجوههم ، وهنا غشيتهم الذلة ، وبولغ فيما يقابل القتر فقيل : كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ، وهذه مبالغة في سواد الوجوه. وقد جاء مصرحا في قوله : (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (١) من الله أي من سخطه وعذابه ، أو من جهته تعالى ، ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين وأغشيت : كسبت ، ومنه الغشاء. وكون وجوههم مسودة هي حقيقة لا مجاز ، فتكون ألوانهم مسودة. قال أبو عبد الله الرازي : واعلم أن حكماء الإسلام قالوا : المراد من هذا السواد هاهنا سواد الجهل وظلمة الضلال ، فإن الجهل طبعه طبع الظلمة. فقوله : وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ، المراد نور العلم وروحه وبشره وبشارته ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة ، المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة انتهى. وكثيرا ما ينقل هذا الرجل عن حكماء الإسلام في التفسير ، وينقل كلامهم تارة منسوبا إليهم ، وتارة مستندا به ويعني : بحكماء الفلاسفة الذين خلقوا في مدة الملة الإسلامية ، وهم أحق بأن يسمّوا سفهاء جهلاء من أن يسموا حكماء ، إذ هم أعداء الأنبياء والمحرفون للشريعة الإسلامية ، وهم أضر على المسلمين من اليهود والنصارى. وإذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه نهى عن قراءة التوراة مع كونها كتابا إلهيا ، فلأن ينهى عن قراءة كلام الفلاسفة أحق. وقد غلب في هذا الزمان وقبله بقليل الاشتغال بجهالات الفلاسفة على أكثر الناس ، ويسمونها الحكمة ، ويستجهلون من عرى عنها ، ويعتقدون أنهم الكلمة من الناس ، ويعكفون على دراستها ، ولا تكاد تلقى أحدا منهم يحفظ قرآنا ولا حديثا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولقد غضضت مرة من ابن سينا ونسبته للجهل فقال لي بعضهم وأظهر التعجب من كون أحد يغض من ابن سينا : كيف يكون أعلم الناس بالله ينسب للجهل؟ ولما ظهر من قاضي الجماعة أبي الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن أبي الوليد بن رشد الاعتناء بمقالات الفلاسفة والتعظيم لهم ، أغرى به علماء الإسلام بالأندلس المنصور منصور الموحدين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي ملك المغرب والأندلس حتى أوقع به ما هو مشهور من ضربه ولعنه وإهانته وإهانة جماعة منهم على رؤوس الاشهاد ، وكان مما خوطب به المنصور في حقهم قول بعض العلماء الشعراء :

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٠٦.

٤٦

خليفتنا جزاك الله خيرا

عن الإسلام والسعي الكريم

فحق جهاده جاهدت فيه

إلى أن فزت بالفتح العظيم

وصيرت الأنام بحسن هدى

على نهج الصراط المستقيم

فجاهد في أناس قد أضلوا

طريق الشرع بالعلم القديم

وحرق كتبهم شرقا وغربا

ففيها كامنا شر العلوم

يدب إلى العقائد من أذاها

سموم والعقائد كالجسوم

وفي أمثالها إذ لا دواء

يكون السيف ترياق السموم

وقال :

يا وحشة الإسلام من فرقة

شاغلة أنفسها بالسفه

قد نبذت دين الهدى خلفها

وادعت الحكمة والفلسفة

وقال :

قد ظهرت في عصرنا فرقة

ظهورها شؤم على العصر

لا تقتدي في الدين إلا بما

سن ابن سينا أو أبو نصر

ولما حللت بديار مصر ورأيت كثيرا من أهلها يشتغلون بجهالات الفلاسفة ظاهرا من غير أن ينكر ذلك أحد تعجبت من ذلك ، إذ كنا نشأنا في جزيرة الأندلس على التبرؤ من ذلك والإنكار له ، وأنه إذا بيع كتاب في المنطق إنما يباع خفية ، وأنه لا يتجاسر أن ينطق بلفظ المنطق ، إنما يسمونه المفعل ، حتى أنّ صاحبنا وزير الملك ابن الأحمر أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الحكيم كتب إلينا كتابا من الأندلس يسألني أن أشتري أو أستنسخ كتابا لبعض شيوخنا في المنطق ، فلم يتجاسر أن ينطق بالمنطق وهو وزير ، فسماه في كتابه لي بالمفعل. ولما ألبست وجوههم السواد قال : كأنما أغشيت وجوههم ، ولما كانت ظلمة الليل نهاية في السواد شبه سواد وجوههم بقطع من الليل حال اشتداد ظلمته.

وقرأ ابن كثير والكسائي قطعا بسكون الطاء ، وهو مفرد اسم للشيء المقطوع. وقال الأخفش في قوله : بقطع من الليل ، بسواد من الليل. وأهل اللغة يقولون : القطع ظلمة آخر الليل. وقال بعضهم : طائفة من الليل. وعلى هذه القراءة يكون قوله : مظلما صفة لقوله : قطعا ، كما جاء ذلك في قراءة أبي : كأنما تغشى وجوههم قطع من الليل مظلم. وقرأ ابن

٤٧

أبي عبلة كذلك إلا أنه فتح الطاء. وقيل : قطع جمع قطعة ، نحو سدر وسدرة ، فيجوز إذ ذاك أن يوصف بالمذكر نحو : نخل منقعر ، وبالمؤنث نحو نخل خاوية ، ويجوز على هذا أن يكون مظلما حالا من الليل كما أعربوه في قراءة باقي السبعة ، كأنما أغشيت وجوههم قطعا بتحريك الطاء بالفتح من الليل : مظلما بالنصب.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : إذا جعلت مظلما حالا من الليل ، فما العامل فيه؟ (قلت) : لا يخلو إما أن يكون أغشيت ، من قبل أنّ من الليل صفة لقوله : قطعا ، فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة. وإما أن يكون معنى الفعل في من الليل انتهى. أما الوجه الأوّل فهو بعيد ، لأنّ الأصل أن يكون العامل في الحال هو العامل في ذي الحال ، والعامل في الليل هو مستقر الواصل إليه بمن ، وأغشيت عامل في قوله : قطعا الموصوف بقوله : من الليل ، فاختلفا فلذلك كان الوجه الأخير أولى أي : قطعا مستقرة من الليل ، أو كائنة من الليل في حال إظلامه. وقيل : مظلما حال من قوله : قطعا ، أو صفة. وذكر في هذين التوجيهين لأنّ قطعا في معنى كثير ، فلوحظ فيه الإفراد والتذكير. وجوزوا أيضا في قراءة من سكن الطاء أن يكون مظلما حالا من قطع ، وحالا من الضمير في من. قال ابن عطية : فإذا كان نعتا يعني : مظلما نعتا لقطع ، فكان حقه أن يكون قبل الجملة ، ولكن قد يجيء بعد هذا ، وتقدير الجملة ، قطعا استقر من الليل مظلما على نحو قوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) (١) انتهى. ولا يتعين تقدير العامل في المجرور بالفعل فيكون جملة ، بل الظاهر أن يقدر باسم الفاعل ، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد والتقدير : قطعا كائنا من الليل مظلما.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) : الضمير في نحشرهم عائد على من تقدم ذكرهم من (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) (٢) (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) (٣) وقرأ الحسن وشيبة والقراء السبعة : نحشرهم بالنون ، وقرات فرقة بالياء. وقيل : يعود الضمير على الذين كسبوا السيئات ، ومنهم عابد غير الله ، ومن لا يعبد شيئا. وانتصب يوم على فعل محذوف أي : ذكرهم أو خوفهم ونحوه. وجميعا

__________________

(١) سورة الأنعام : ٣ / ٩٢.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٢٦.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ٢٧.

٤٨

حال ، والشركاء الشياطين أو الملائكة أو الأصنام أو من عبد من دون الله كائنا من كان أربعة أقوال. ومن قال : الأصنام ، قال : ينفخ فيها الروح فينطقها الله بذلك مكان الشفاعة التي علقوا بها أطماعهم. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن الكفار إذا رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب قيل لهم : اتبعوا ما كنتم تعبدون ، فيقولون والله لإياكم كنا نعبد ، فتقول الآلهة : فكفى بالله شهيدا» الآية. قال ابن عطية : فظاهر هذه الآية أنّ محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى ابن مريم ، بدليل القول لهم : مكانكم أنتم وشركاؤكم ، ودون فرعون ومن عبد من الجن بدليل قولهم : إن كنا عن عبادتكم لغافلين. وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم. ومكانكم عده النحويون في أسماء الأفعال ، وقدر بأثبتوا كما قال :

وقولي كلما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

أي اثبتي. ولكونها بمعنى اثبتي جزم تحمدي ، وتحملت ضميرا فأكد وعطف عليه في قوله : أنتم وشركاؤكم. والحركة التي في مكانك ودونك ، أهي حركة إعراب ، أو حركة بناء تبتني على الخلاف الذي بين النحويين في أسماء الأفعال؟ ألها موضع من الإعراب أم لا؟ فمن قال : هي في موضع نصب جعل الحركة إعرابا ، ومن قال : لا موضع لها من الإعراب جعلها حركة بناء. وعلى الأول عول الزمخشري فقال : مكانكم الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم. واختلفوا في أنتم ، فالظاهر ما ذكرناه من أنه تأكيد للضمير المستكن في مكانكم ، وشركاؤكم عطف على ذلك الضمير المستكن وهو قول الزمخشري قال : وأنتم أكّد به الضمير في مكانكم لسده مسد قوله : الزموا وشركاؤكم عطف عليه انتهى. يعني عطفا على الضمير المستكن ، وتقديره : الزموا ، وأنّ مكانكم قام مقامه ، فيحمل الضمير الذي في الزموا ليس بجيد ، إذ لو كان كذلك لكان مكانك الذي هو اسم فعل يتعدى كما يتعدى الزموا. ألا ترى أن اسم الفعل إذا كان الفعل لازما كان اسم الفعل لازما ، وإذا كان متعديا كان متعديا مثال ذلك : عليك زيدا لما ناب مناب ، الزم تعدى. وإليك لما ناب مناب تنح ، لم يتعد. ولكون مكانك لا يتعدى ، قدره النحويون اثبت ، واثبت لا يتعدى. قال الحوفي : مكانكم نصب بإضمار فعل أي : الزموا مكانكم أو اثبتوا. وقال أبو البقاء : مكانكم ظرف مبني لوقوعه موقع الأمر ، أي الزموا انتهى. وقد بينا أن تقدير الزموا ليس بجيد ، إذ لم تقل العرب مكانك زيدا فتعديه ، كما تعدى الزم. وقال ابن عطية :

٤٩

أنتم رفع بالابتداء ، والخبر مخزيون أو مهانون ونحوه انتهى. فيكون مكانكم قد تم ، ثم أخبر أنهم كذا ، وهذا ضعيف لفك الكلام الظاهر اتصال بعض أجزائه ببعض ، ولتقدير إضمار لا ضرورة تدعو إليه ، ولقوله : فزيلنا بينهم ، إذ يدل على أنهم ثبتوا هم وشركاؤكم في مكان واحد حتى وقع التزييل بينهم وهو التفريق. ولقراءة من قرأ أنتم وشركاءكم بالنصب على أنه مفعول معه ، والعامل فيه اسم الفعل. ولو كان أنتم مبتدأ وقد حذف خبره ، لما جاز أن يأتي بعده مفعول معه تقول : كل رجل وضيعته بالرفع ، ولا يجوز فيه النصب. وقال ابن عطية أيضا : ويجوز أن يكون أنتم تأكيدا للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه انتهى. وهذا ليس بجيد ، إذ لو كان تأكيدا لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمه على الظرف ، إذ الظرف لم يتحمل ضميرا على هذا القول فيلزم تأخيره عنه ، وهو غير جائز لا تقول : أنت مكانك ، ولا يحفظ من كلامهم. والأصح أن لا يجوز حذف المؤكد في التأكيد المعنوي ، فكذلك هذا ، لأن التأكيد ينافي الحذف. وليس من كلامهم : أنت زيدا لمن رأيته قد شهر سيفا ، وأنت تريد اضرب أنت زيد ، إنما كلام العرب زيدا تريد اضرب زيدا.

يقال زلت الشيء عن مكانه أزيله. قال الفراء : تقول العرب : زلت الضأن من المعز فلم تزل. وقال الواحدي : التزييل والتزيل والمزايلة التمييز والتفرق انتهى. وزيل مضاعف للتكثير ، وهو لمفارقة الحبث من ذوات الياء ، بخلاف زال يزول فمادتهما مختلفة. وزعم ابن قتيبة أن زيلنا من مادة زال يزول ، وتبعه أبو البقاء. وقال أبو البقاء : فزيلنا عين الكلمة وأو لأنه من زال يزول ، وإنما قلبت لأنّ وزن الكلمة فيعل أي : زيولنا مثل بيطر وبيقر ، فلما اجتمعت الواو والياء على الشرط المعروف قلبت ياء انتهى. وليس بجيد ، لأنّ فعل أكثر من فيعل ، ولأنّ مصدره تزييل. ولو كان فيعل لكان مصدره فيعله ، فكان يكون زيلة كبيطرة ، لأنّ فيعل ملحق بفعلل ، ولقولهم في قريب من معناه : زايل ، ولم يقولوا زاول بمعنى فارق ، إنما قالوه بمعنى حاول وخالط وشرح ، فزيلنا ففرقنا بينهم وقطعنا أقرانهم ، والوصل التي كانت بينهم في الدنيا ، أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف وبين شركائهم كقوله تعالى : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) (١) وقرأت فرقة : فزايلنا حكاه الفراء. قال الزمخشري : كقولك صاعر خده ، وصعر ، وكالمته وكلمته انتهى. يعني أن فاعل بمعنى فعل ، وزايل في لسان العرب بمعنى فارق. قال :

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٢٢.

٥٠

وقال العذارى إنما أنت عمنا

وكان الشباب كالخليط يزايله

وقال آخر :

لعمري لموت لا عقوبة بعده

لذي البث أشفى من هوى لا يزايله

والظاهر أن التزييل أو المزايلة هو بمفارقة الأجسام وتباعده. وقيل : فرقنا بينهم في الحجة والمذهب قاله ابن عطية ، وفزيلنا. وقال : هنا ماضيان لفظا ، والمعنى : فنزيل بينهم ونقول : لأنهما معطوفان على مستقبل ، ونفي الشركاء عبادة المشركين هو رد لقولهم : لإياكم كنا نعبد ، والمعنى : إنكم كنتم تعبدون من أمركم أن تتخذوا لله تعالى أندادا فأطعتموهم ، ولما تنازعوا استشهد الشركاء بالله تعالى. وانتصب شهيدا ، قيل : على الحال ، والأصح على التمييز لقبوله من. وتقدم الكلام في كفى وفي الياء ، وأن هي الخفيفة من الثقيلة. وعند القراء هي النافية ، واللام بمعنى إلا ، وقد تقدم الكلام في ذلك. واكتفاؤهم بشهادة الله هو على انتفاء أنهم عبدوهم. ثم استأنفوا جملة خبرية أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم أي : لا شعور لنا بذلك. وهذا يرجح أن الشركاء هي الأصنام كما قال ابن عطية ، لأنه لو كان الشركاء ممن يعقل من إنسي أو جني أو ملك لكان له شعور بعبادتهم ، ولا شيء أعظم سببا للغفلة من الجمادية ، إذ لا تحس ولا تشعر بشيء البتة.

(هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) : هنالك ظرف مكان أي : في ذلك الموقف والمقام المقتضي للحيرة والدهش. وقيل : هو إشارة إلى الوقت ، استعير ظرف المكان للزمان أي : في ذلك الوقت. وقرأ الإخوان وزيد بن علي : تتلوا بتاءين أي : تتبع وتطلب ما أسلفت من أعمالها ، قاله السدي.

ومنه قول الشاعر :

إن المريب يتبع المريبا

كما رأيت الذيب يتلو الذيبا

قيل : ويصح أن يكون من التلاوة وهي القراءة أي : تقرأ كتبها التي تدفع إليها. وقرأ باقي السبعة : تبلوا بالتاء والباء أي : تختبر ما أسلفت من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن ، أنافع أم ضار ، أمقبول أم مردود؟ كما يتعرف الرجل الشيء باختباره. وروي عن عاصم : نبلوا بنون وباء أي : نختبر. وكل نفس بالنصب ، وما أسلفت بدل من كل نفس ، أو منصوب على إسقاط الخافض أي : ما أسلفت. أو يكون نبلوا من البلاء وهو العذاب أي : نصيب كل نفس عاصية بالبلاء بسبب ما أسلفت من العمل المسيء. وعن الحسن تبلوا

٥١

تتسلم. وعن الكلبي : تعلم. وقيل : تذوق. وقرأ يحيى بن وثاب : وردوا بكسر الراء ، لمّا سكن للإدغام نقل حركة الدال إلى حركة الراء بعد حذف حركتها. ومعنى إلى الله : إلى عقابه. وقيل : إلى موضع جزائه مولاهم الحق ، لا ما زعموه من أصنامهم ، إذ هو المتولي حسابهم. فهو مولاهم في الملك والإحاطة ، لا في النصر والرحمة. وقرىء الحق بالنصب على المدح نحو : الحمد لله أهل الحمد. وقال الزمخشري : كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل ، على تأكيد قوله : ردوا إلى الله انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي : وردوا إلى الله ، جعلوا ملجأين إلى الإقرار بالإلهية بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غير الله ، ولذلك قال : مولاهم الحق. وضل عنهم أي : بطل وذهب ما كانوا يفترونه من الكذب ، أو من دعواهم أنّ أصنامهم شركاء لله شافعون لهم عنده.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) : لما بين فضائح عبدة الأوثان ، أتبعها بذكر الدلائل على فساد مذهبهم بما يوبخهم ، ويحجهم بما لا يمكن إلا الاعتراف به من حال رزقهم وحواسهم ، وإظهار القدرة الباهرة في الموت والحياة. فبدأ بما فيه قوام حياتهم وهو الرزق الذي لا بد منه ، فمن السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات. فمن لابتداء الغاية وهيىء الرزق بالعالم العلوي والعالم السفلي معالم يقتصر على جهة واحدة ، تعالى توسعة منه وإحسانا. ومن ذهب إلى أنّ التقدير من أهل السماء والأرض فتكون من للتبعيض أو للبيان. ثم ذكر ملكه لهاتين الحاستين الشريفتين : السمع الذي هو سبب مدارك الأشياء ، والبصر الذي يرى ملكوت السموات والأرض. ومعنى ملكهما أنه متصرف فيهما بما يشاء تعالى من إبقاء وحفظ وإذهاب. وقال الزمخشري : من يملك السمع والأبصار من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة ، أو من يحميهما ويعصمهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال ، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه انتهى. ولا يظهر هذان الوجهان اللذان ذكرهما من لفظ أم من يملك السمع والأبصار. وعن عليّ كرم الله وجهه : سبحان من بصر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم. وأم هنا تقتضي تقدير بل دون همزة الاستفهام لقوله تعالى : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١) فلا تتقدّر ببل ، فالهمزة لأنها دخلت

__________________

(١) سورة النمل ٢٧ / ٨٤.

٥٢

على اسم الاستفهام ، وليس إضراب إبطال به هو لانتقال من شيء إلى شيء. ونبه تعالى بالسمع والبصر على الحواس لأنهما أشرفها ، ولما ذكر تعالى سبب إدامة الحياة وسبب انتفاع الحي بالحواس ، ذكر إنشاءه تعالى واختراعه للحي من الميت ، والميت من الحي ، وذلك من باهر قدرته ، وهو إخراج الضد من ضده. وتقدم تفسير ذلك ومن يدبر الأمر شامل لما تقدم من الأشياء الأربعة المذكورة ولغيرها ، والأمور التي يدبرها تعالى لا نهاية لها ، فلذلك جاء بالأمر الكلي بعد تفصيل بعض الأمور. واعترافهم بأنّ الرازق والمالك والمخرج والمدبر هو الله أي : لا يمكنهم إنكاره ولا المنافسة فيه. ومعنى أفلا تتقون : أفلا تخافون عقوبة الله في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة؟ وقيل : أفلا تتعظون فتنتهون عن ما حذرت عنه تلك الموعظة.

(فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : فذلكم إشارة إلى من اختص بالأوصاف السابقة ، الحق الثابت الربوبية المستوجبة للعبادة ، واعتقاد اختصاصه بالألوهية لا أصنامكم المربوبة الباطلة. وماذا استفهام معناه النفي ، ولذلك دخلت إلا ، وصحبه التقرير والتوبيخ ، كأنه قيل : ما بعد الحق إلا الضلال ، فالحق والضلال لا واسطة بينهما ، إذ هما نقيضان ، فمن يخطىء الحق وقع في الضلال. وماذا مبتدأ تركبت ذا مع ما فصار مجموعهما استفهاما ، كأنه قيل : أي شيء. والخبر بعد الحق ، ويجوز أن يكون ذا موصولة ويكون خبر ما ، كأنه قيل : ما الذي بعد الحق؟ وبعد صلة كذا. ولما ذكر تعالى تلك الصفات ، وأشار إلى أنّ المتصف بها هو الله ، وأنه مالكهم وأنه هو الحق ، ثم وبخهم على اتباع الضلال بعد وضوح الحق قال تعالى : فأنى تصرفون ، أي كيف يقع صرفكم بعد وضوح الحق وقيام حججه عن عبادة من يستحق العبادة ، وكيف تشركون معه غيره وهو لا يشاركه في شيء من تلك الأوصاف. واستنباط كون الشطرنج ضلالا من قوله : فماذا بعد الحق إلا الضلال ، لا يكاد يظهر ، لأنّ الآية إنما مساقها في الكفر والإيمان وعبادة الأصنام وعبادة الله ، وليس مساقها في الأمور الفرعية التي تختلف فيها الشرائع ، وتختلف فيها أقوال علماء ملتنا. وقد تعلق الجبائي بهذه الآية في الرد على المجبرة إذ يقولون : إنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان. قال : لو كان كذلك ما قال : أنى تصرفون. كما لو أعمى بصر أحدهم لا يقول : إني عميت. كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب ، والإشارة بذلك قيل : إلى المصدر المفهوم من تصرفون ، مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به في قوله : فسيقولون الله حق

٥٣

العذاب عليهم أي : جازاهم مثل أفعالهم. وقيل : إشارة إلى الحق. قال الزمخشري : كذلك مثل ذلك الحق حقت كلمة ربك ، أي كما حق وثبت أنّ الحق بعد الضلال ، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق ، فكذلك حقت كلمة ربك. وقال ابن عطية : كذلك أي كما كانت صفات الله كما وصف ، وعبادته واجبة كما تقرر ، وانصراف هؤلاء كما قدر عليهم ، واكتسبوا كذلك حقت. ومعنى فسقوا : تمردوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه ، وأنهم لا يؤمنون بدل من كلمة ربك أي : حق عليهم انتفاء الإيمان. ويجوز أن يراد بالكلمة عدة العذاب ، ويكون أنهم لا يؤمنون تعليلا أي : لأنهم لا يؤمنون. ويوضح هذا الوجه قراءة ابن أبي عبلة : إنهم لا يؤمنون بالكسر ، وهذا إخبار منه تعالى أنّ في الكفار من حتم الله بكفره وقضى بتخليده. وقرأ أبو جعفر وشيبة والصاحبان : كلمات على الجمع هنا وفي آخر السورة. وقرأ باقي السبعة على الافراد.

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) : لما استفهمهم عن أشياء من صفات الله تعالى واعترفوا بها ، ثم أنكر عليهم صرفهم عن الحق وعبادة الله ، استفهم عن شيء هو سبب العبادة : وهو إبداء الخلق ، وهم يسلمون ذلك. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (١) ثم أعاد الخلق وهم منكرون ذلك ، لكنه عطفه على يسلمونه ليعلم أيهما سواء بالنسبة إلى قدرة الله ، وأنّ ذلك لوضوحه وقيام برهانه ، قرن بما يسلمونه إذ لا يدفعه إلا مكابر ، إذ هو من الواضحات التي لا يختلف في إمكانها العقلاء. وجاء الشرع بوجوبه ، فوجب اعتقاده. ولما كانوا لمكابرتهم لا يقرون بذلك أمر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيب فقال : قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده ، وأبرز الجواب في جملة مبتدأة مصرح بخبرها ، فعاد الخبر فيها مطابقا لخبر اسم الاستفهام ، وذلك تأكيد وتثبيت. ولما كان الاستفهام قبل هذا لا مندوحة لهم عن الاعتراف به ، جاءت الجملة محذوفا منها أحد جزءيها في قوله : فسيقولون الله ، ولم يحتج إلى التأكيد بتصريح خبرها. ومعنى تؤفكون تصرفون وتقلبون عن اتباع الحق.

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) : لما بين تعالى عجز أصنامهم عن الإبداء والإعادة اللذين هما من أقوى أسباب القدرة وأعظم دلائل

__________________

(١) سورة لقمان : ٣١ / ٢٥.

٥٤

الألوهية ، بين عجزهم عن هذا النوع من صفات الإله وهو الهداية إلى الحق وإلى مناهج الصواب ، وقد أعقب الخلق بالهداية في القرآن في مواضع قال تعالى حكاية عن الكليم : (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١) وقال : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٢) فاستدل بالخلق والهداية على وجود الصانع ، وهما حالان للجسد والروح. ولما كانت العقول يلحقها الاضطراب والغلط ، بيّن تعالى أنه لا يهديهما إلا هو بخلاف أصنامهم ومعبوداتهم ، فإنه ما كان منها لا روح فيه جماد لا تأثير له ، وما فيه روح فليس قادرا على الهداية ، بل الله تعالى هو الذي يهديه. وهدى تتعدّى بنفسها إلى اثنين ، وإلى الثاني بإلى وباللام. ويهدي إلى الحق حذف مفعوله الأول ، ولا يصح أن يكون لازما بمعنى يهتدي ، لأن مقابله إنما هو متعد ، وهو قوله قل : الله يهدي للحق أي يهدي من يشاء إلى الحق. وقد أنكر المبرد ما قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري من أن يكون هدى بمعنى اهتدى ، وقال : لا نعرف هذا. وأحق ليست أفعل تفضيل ، بل المعنى حقيق بأن يتبع. ولما كانوا معتقدين أنّ شركاءهم تهدي إلى الحق ، ولا يسلمون حصر الهداية لله تعالى أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبادر بالجواب فقال : قل الله يهدي للحق ، ثم عادل في السؤال بالهمزة وأم بين من هو حقيق بالاتباع ، ومن هو غير حقيق ، وجاء على الأفصح الأكثر من فصل أم مما عطفت عليه بالخبر كقوله : (أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) (٣) بخلاف قوله : (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) (٤) وسيأتي القول في ترجيح الوصل هنا في موضعه إن شاء الله تعالى.

وقرأ أهل المدينة إلا ورشا : أمن لا يهدي بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدال ، فجمعوا بين ساكنين. قال النحاس : لا يقدر أحد أن ينطق به. وقال المبرد : من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة ، وسيبويه يسمي هذا اختلاس الحركة. وقرأ أبو عمرو وقالون في رواية كذلك : إلا أنه اختلس الحركة. وقرأ ابن عامر ، وابن كثير ، وورش ، وابن محيصن : كذلك إلا أنهم فتحوا الهاء وأصله يهتدي ، فقلب حركة التاء إلى الهاء ، وأدغمت التاء في الدال. وقرأ حفص ، ويعقوب ، والأعمش عن أبي بكر كذلك ، إلا أنهم كسروا الهاء لما اضطر إلى الحركة حرّك بالكسر. قال أبو حاتم : هي لغة سفلى مضر. وقرأ أبو بكر في رواية يحيى بن آدم كذلك ، إلا أنه كسر الياء. ونقل عن سيبويه أنه لا يجيز يهدي ،

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٥٠.

(٢) سورة الأعلى : ٨٧ / ٢ ـ ٣.

(٣) سورة الفرقان : ٢٥ / ١٥.

(٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ١٠٩.

٥٥

ويجيز تهدي ونهدي وأهدى قال : لأن الكسرة في الياء تثقل. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش : يهدي مضارع هدى. قال الزمخشري : هذه الهداية أحق بالاتباع أم الذي لا يهدي ، أي لا يهتدي بنفسه أو لا يهدي غيره ، إلا أن يهديه الله. وقيل : معناه أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه ، إلا أن يهدي ، إلا أن ينقل أو لا يهتدي ، ولا يصح منه الاهتداء إلا بنقلة الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيوانا مطلقا فيهديه انتهى. وتقدم إنكار المبرد ما قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري : من أنّ هدى بمعنى اهتدى. وقال أبو علي الفارسي : وصف الأصنام بأنها لا تهتدي إلا أن تهدى ، ونحن نجدها لا تهتدي وإن هديت. فوجه ذلك أنه عامل في العبادة عنها معاملتهم في وصفها بأوصاف من يعقل ، وذلك مجاز وموجود في كثير من القرآن. وقال ابن عطية : والذي أقول إنّ قراءة حمزة والكسائي يحتمل أن يكون المعنى أم من لا يهدي أحدا إلا أن يهدي ذلك الأحد بهداية من عند الله ، وأما على غيرها من القراءات التي مقتضاها أم من لا يهتدي إلا أن يهدي فيتجه المعنى على ما تقدم لأبي علي الفارسي ، وفيه تجوز كثير. ويحتمل أن يكون ما ذكر الله من تسبيح الجمادات هو اهتداؤها. وقيل : تم الكلام عند قوله : أم من لا يهدي أي لا يهدي غيره ، ثم قال : إلا أن يهدي استثناء منقطع ، أي لكنه يحتاج إلى أن يهدي كما تقول : فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع ، أي لكنه يحتاج إلى أن يسمع. وقيل : أم من لا يهدي في الرؤساء المضلين انتهى. ويكون استثناء متصلا لأنه إذ ذاك يكون فيهم قابلية الهداية ، بخلاف الأصنام. فما لكم استفهام معناه التعجب والإنكار أي : أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء الشركاء إذ كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم ، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم؟ كيف تحكمون استفهام آخر أي : كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله أندادا وشركاء؟ وهاتان جملتان أنكر في الأولى ، وتعجب من اتباعهم من لا يهدي ولا يهتدي ، وأنكر في الثاني حكمهم بالباطل وتسوية الأصنام برب العالمين.

(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) : الظاهر أن أكثرهم على بابه ، لأن منهم من تبصر في الأصنام ورفضها كما قال :

أربّ يبول الثعلبان برأسه

لقد هان من بالت عليه الثعالب

وقيل : المراد بأكثرهم جميعهم ، والمعنى : ما يتبع أكثرهم في اعتقادهم في الله وفي صفاته إلا ظنا ، ليسوا متبصرين ولا مستندين إلى برهان ، إنما ذلك شيء تلقفوه من آبائهم.

٥٦

والظن في معرفة الله لا يغني من الحق شيئا أي : من إدراك الحق ومعرفته على ما هو عليه ، لأنه تجويز لا قطع. وقيل : وما يتبع أكثرهم في جعلهم الأصنام آلهة ، واعتقادهم أنها تشفع عند الله وتقرب إليه. وقرأ عبد الله : تفعلون بالتاء على الخطاب التفاتا والجملة تضمنت التهديد والوعيد على اتباع الظن ، وتقليد الآباء. وقيل : نزلت في رؤساء اليهود وقريش.

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) : لما تقدم قولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) (١) وكان من قولهم : إنه افتراه قال تعالى : وما كان هذا القرآن أن يفتري أي : ما صح ، ولا استقام أن يكون هذا القرآن المعجز مفترى. والإشارة بهذا فيها تفخيم المشار إليه وتعظيمه ، وكونه جامعا للأوصاف التي يستحيل وجودها فيه أن يكون مفتري. والظاهر أنّ أن يفترى هو خبر كان أي : افتراء ، أي : ذا افتراء ، أو مفترى. ويزعم بعض النحويين أنّ أن هذه هي المضمرة بعد لام الجحود في قولك : ما كان زيد ليفعل ، وأنه لما حذفت اللام أظهرت أن وأنّ اللام وأن يتعاقبان ، فحيث جيء باللام لم تأت بأن بل تقدرها ، وحيث حذفت اللام ظهرت أن. والصحيح أنهما لا يتعاقبان ، وأنه لا يجوز حذف اللام وإظهار أن إذ لم يقم دليل على ذلك. وعلى زعم هذا الزاعم لا يكون أن يفترى خبرا لكان ، بل الخبر محذوف. وأن يفترى معمول لذلك الخبر بعد إسقاط اللام ، ووقعت لكن هنا أحسن موقع إذ كانت بين نقيضين وهما : الكذب والتصديق المتضمن الصدق ، والذي بين يديه الكتب الإلهية المتقدمة قاله ابن عباس كما جاء مصدّقا لما معكم. وعن الزجاج الذي بين يديه أشراط الساعة ، ولا يقوم البرهان على قريش إلا بتصديق القرآن ما في التوراة والإنجيل ، مع أن الآتي به يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب ولا غيرها ، ولا هي في بلده ولا قومه ، لا بتصديق الاشراط ، لأنهم لم يشاهدوا شيئا منها. وتفصيل الكتاب تبيين ما فرض وكتب فيه من الأحكام والشرائع. وقرأ الجمهور : تصديق وتفصيل بالنصب ، فخرجه الكسائي والفراء ومحمد بن سعدان والزجاج على أنه خبر كان مضمرة أي : ولكن كان تصديق أي مصدقا ومفصلا. وقيل : انتصب مفعولا من أجله ، والعامل محذوف ، والتقدير : ولكن أنزل للتصديق. وقيل : انتصب على المصدر ، والعامل فيه فعل محذوف. وقرأ عيسى بن عمر : تفصيل وتصديق بالرفع ، وفي يوسف خبر مبتدأ محذوف أي : ولكن هو تصديق. كما قال الشاعر :

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ١٥.

٥٧

ولست الشاعر السفساف فيهم

ولكن مده الحرب العوالي

أي ولكن أنا. وزعم الفراء ومن تابعه أنّ العرب إذا قالت ولكن بالواو آثرت تشديد النون ، وإذا لم تكن الواو آثرت التخفيف. وقد جاء في السبعة مع الواو التشديد والتخفيف ، ولا ريب فيه داخل في حيز الاستدراك كأنه قيل : ولكن تصديقا وتفصيلا منتفيا عنه الريب ، كائنا من رب العالمين. قال الزمخشري : ويجوز أن يراد ولكن كان تصديقا من رب العالمين وتفصيلا منه في ذلك ، فيكون من رب العالمين متعلقا بتصديق وتفصيل ، ويكون لا ريب فيه اعتراضا كما تقول : زيد لا شك فيه كريم انتهى. فقوله : فيكون من رب العالمين متعلقا بتصديق وتفصيل ، إنما يعني من جهة المعنى ، وأما من جهة الإعراب فلا يكون إلا متعلقا بأحدهما ، ويكون من باب الأعمال وانتفاء الريب عنه على ما بيّن في البقرة في قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) (١) وجمع بينه وبين قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا) (٢).

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : لما نفى تعالى أن يكون القرآن مفترى ، بل جاء مصدقا لما بين يديه من الكتب وبيانا لما فيها ، ذكر أعظم دليل على أنه من عند الله وهو الإعجاز الذي اشتمل عليه ، فأبطل بذلك دعواهم افتراءه ، وتقدم الكلام على ذلك مشبعا في البقرة في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) (٣) الآية. وأم متضمنة معنى بل ، والهمزة على مذهب سيبويه أي : بل أيقولون اختلقه. والهمزة تقرير لالتزام الحجة عليهم ، أو إنكار لقولهم واستبعاد. وقالت فرقة : أم هذه بمنزلة همزة الاستفهام. وقال أبو عبيدة : أم بمعنى الواو ومجازه ، ويقولون افتراه. وقيل : الميم صلة ، والتقدير أيقولون. وقيل : أم هي المعادلة للهمزة ، وحذفت الجملة قبلها والتقدير : أيقرون به أم يقولون افتراه. وجعل الزمخشري قل فأتوا جملة شرط محذوفة فقال : قل إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا أنتم على وجه الافتراء بسورة مثله ، فأنتم مثله في العربية والفصاحة والألمعية ، فأتوا بسورة مثله شبيهة به في البلاغة وحسن النظم انتهى. والضمير في مثله عائد على القرآن أي : بسورة مماثلة للقرآن ، وتقدم الكلام لنا فيما وقع به الإعجاز.

وقرأ عمرو بن قائد بسورة مثله على الإضافة أي : بسورة كتاب أو كلام مثله أي : مثل

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٣.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٣.

٥٨

القرآن. وقال صاحب اللوامح : هذا مما حذف الموصوف منه وأقيمت الصفة مقامه أي : بصورة بشر مثله ، فالهاء في ذلك واقعة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي العامة إلى القرآن. وادعوا من استطعتم أن تدعوه من خلق الله إلى الاستعانة على الإتيان بمثله من دون الله أي : من غير الله ، لأنه لا يقدر على أن يأتي بمثله أحد إلا الله ، فلا تستعينوه وحده ، واستعينوا بكل من دونه إن كنتم صادقين في أنه افتراه. وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن قالوا : لأنه تحدّى به وطلب الإتيان بمثله وعجزوا ، ولا يمكن هذا إلا إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ، ولو كان قديما لكان الإتيان بمثل القديم محالا في نفس الأمر ، فوجب أن لا يصح التحدي به. وقال أبو عبد الله الرازي : مراتب التحدي بالقرآن ست تحدّ بكل القرآن في : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ) (١) الآية ، وتحد بعشر سور ، وتحدّ بسورة واحدة ، وتحد بحديث مثله في قوله : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) (٢) وفي هذه الأربع طلب أن يعارض رجل يساوي الرسول في عدم التتلمذ والتعليم ، وتحد طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان كان تعلم العلوم أو لم يتعلمها ، وفي هذه المراتب الخمس تحدى كل واحد من الخلق ، وتحد طلب من المجموع واستعانة بعض ببعض انتهى ملخصا.

(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) : قال الزمخشري : بل كذبوا ، بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن ، وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن يفهموه ويعلموا كنه أمره ، وقبل أن يتدبروه ويفقهوا تأويله ومعانيه ، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم ، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم. وقال ابن عطية : هذا اللفظ يحتمل معنيين : أحدهما : أن يريد بما الوعيد الذي توعدهم الله على الكفر ، وتأويله على هذا يريد به ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) (٣) والآية محملها على هذا التأويل يتضمن وعيدا ، والمعنى الثاني : أنه أراد بل كذبوا بهذا القرآن العظيم المنبئ بالغيوب الذي لم يتقدّم لهم به معرفة ، ولا أحاطوا بمعرفة غيوبه وحسن نظمه ، ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه. وقال أبو عبد الله الرازي : يحتمل وجوها ، الأول : كلما سمعوا شيئا من القصص قالوا (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٤) ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس نفس الحكاية ، بل قدرته تعالى على التصرف في هذا العالم ، ونقله

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٨.

(٢) سورة الطور : ٥٢ / ٣٤.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٥٣.

(٤) سورة الأنفال : ٨ / ٣١ ـ النحل : ١٦ / ٢٤ ، الفرقان : ٢٥ / ٥ ـ القلم : ٦٨ / ١٥ ـ المطففين : ٨٣ / ١٣.

٥٩

أهله من عز إلى ذل ، ومن ذل إلى عز ، وبفناء الدنيا ، فيعتبر بذلك. وأن ذلك القصص بوحي من الله ، إذ أعلم بذلك على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير تحريف مع كونه لم يتعلم ولم يتتلمذ. الثاني : كلما سمعوا خروف التهجّي ولم يفهموا منها شيئا ساء ظنهم ، وقد أجاب الله بقوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) (١) الآية. الثالث : ظهور القرآن شيئا فشيئا ، فساء ظنهم وقالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) (٢) وقد أجاب تعالى وشرح في مكانه. الرابع : القرآن مملوء من الحشر ، وكانوا ألفوا المحسوسات ، فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت ، فبين الله صحة المعاد بالدلائل الكثيرة. الخامس : أنه مملوء من الأمر بالعبادات ، وكانوا يقولون : إله العالم غني عن طاعتنا ، وهو أجل أن يأمرنا بما لا فائدة له فيه. وأجاب تعالى بقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ) (٣) الآية وبالجملة فشبه الكفار كثيرة ، فلما رأوا القرآن مشتملا على أمور ما عرفوا حقيقتها ولا اطلعوا على وجه الحكمة فيها كذبوا بالقرآن فقوله : بما لم يحيطوا بعلمه ، إشارة إلى عدم علمهم بهذه الأشياء وقوله : ولما يأتهم تأويله ، إشارة إلى عدم جهدهم واجتهادهم في طلب أسرار ما تضمنه القرآن انتهى ملخصا.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : ما معنى التوقع في قوله تعالى : ولما يأتهم تأويله؟ (قلت) : معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ، ومعرفة التأويل تقليدا للآباء ، وكذبوه بعد التدبر تمردا وعنادا فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به ، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علوّ شأنه وإعجازه لما كرر عليهم التحدي ورازوا قواهم في المعارضة ، واستيقنوا عجزهم عن مثله ، فكذبوا به بغيا وحسدا انتهى. ويحتاج كلامه هذا إلى نظر. وقال أيضا : ويجوز أن يكون المعنى : ولما يأتهم تأويله ، ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته ، حتى يتبين لهم أكذب هو أم صدق؟ يعني : أنه كتاب معجز من جهتين : من جهة إعجاز نظمه ، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب. فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز ، وقبل أن يخبروا إخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه انتهى. وبقيت جملة الإحاطة بلم ، وجملة إتيان التأويل بلما ، ويحتاج في ذلك إلى فرق دقيق. والكاف في موضع نصب أي : مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم ، يعني : قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٩٧.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٣٢.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٧.

٦٠