البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

سورة الحجر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ

٤٦١

نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)

رب : حرف جر لا اسم خلافا للكوفيين والأخفش في أحد قوليه ، وابن الطراوة ومعناها في المشهور : التقليل لا التكثير ، خلافا لزاعمه وناسبه إلى سيبويه ، ولمن قال : لا تفيد تقليلا ولا تكثيرا ، بل هي حرف إثبات. ودعوى أبي عبد الله الرازي الاتفاق على أنها موضوعة للتقليل باطلة ، وقول الزجاج : إن رب للكثرة ضد ما يعرفه أهل اللغة ليس بصحيح ، وفيها لغات ، وأحكامها كثيرة ذكرت في النحو ، ولم تقع في القرآن إلا في هذه السورة على كثرة وقوعها في لسان العرب.

ذر : أمر استغنى غالبا عن ماضيه بترك ، وفي الحديث : «ذروا الحبشة ما وذرتكم» لوما : حرف تحضيض ، فيليها الفعل ظاهرا أو مضمرا ، وحرف امتناع لوجود فيليها الاسم مبتدأ على مذهب البصريين ومنه ، قول الشاعر :

لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما

ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري

وقال بعضهم : الميم في لو ما بدل من اللام في لو لا ، ومثله : استولى على الشيء واستوما. وخاللته وخالمته فهو خلي وخلمي أي : صديقي. وقال الزمخشري : لو ركبت مع لا وما لمعنيين ، وأما هل فلم تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض انتهى. والذي أختاره البساطة فيهما لا التركيب ، وأنّ ما ليست بدلا من لا. سلك الخيط في الإبرة وأسلكها أدخله فيها ونظمه. قال الشاعر :

حتى إذا سلكوهم في قتائدة

شلا كما تطرد الحمالة الشردا

وقال الآخر :

وكنت لزاز خصمك لم أعود

وقد سلكوك في يوم عصيب

الشهاب : شعلة النار ، ويطلق على الكوكب لبريقه شبه بالنار. وقال أبو تمام :

والعلم في شهب الأرماح لامعة

بين الخميسين لا في السبعة الشهب

اللواقح : الظاهر أنها جمع لاقح أي : ذوات لقاح كلابن وتامر ، وذلك أنّ الريح تمر على الماء ثم تمر على السحاب والشجر فيكون فيها لقاح قاله الفراء. وقال الأزهري :

٤٦٢

حوامل تحمل السحاب وتصرفه ، وناقة لاقح ، ونوق لواقح إذا حملت الأجنة في بطونها. وقال زهير :

إذا لقحت حرب عوان مضرة

ضروس تهر الناس أنيابها عصل

وقال أبو عبيدة : أي ملاقح جمع ملقحة ، لأنها تلقح السحاب بإلقاء الماء. وقال :

ومختبط مما تطيح الطوائح

أي : المطاوح جمع مطيحة. الصلصال : قال أبو عبيدة الطين إذا خلط بالرمل وجف ، وقال أبو الهيثم : الصلصال صوت اللجام وما أشبهه ، وهو مثل القعقعة في الثوب. وقيل : التراب المدقق ، وصلصل الرمل صوت ، وصلصال بمعنى مصلصل كالقضقاض أي المقضقض ، وهو فيه كثير ، ويكون هذا النوع من المضعف مصدرا فتقول : زلزل زلزالا بالفتح ، وزلزالا بالكسر ، ووزنه عند البصريين فعلال ، وهكذا جميع المضاعف حروفه كلها أصول لا قعقع ، خلافا للفراء وكثير من النحويين. ولا فعفل خلافا لبعض البصريين وبعض الكوفيين ، ولا أنّ أصله فعل بتشديد العين أبدل من الثاني حرف من جنس الحرف الأول خلافا لبعض الكوفيين. وينبني على هذه الأقوال : ورب صلصال. الحمأ : طين اسود منتن ، واحدة حمأة بتحريك الميم قاله الليث ووهم في ذلك ، وقالوا : لا نعرف في كلام العرب الحمأة إلا ساكنة الميم ، قاله أبو عبيدة والأكثرون ، كما قال أبو الأسود :

يجئك بملئها طورا وطورا

يجيء بحماة وقليل ماء

وعلى هذا لا يكون حمأ بينه وبين مفرده تاء التأنيث لاختلاف الوزن. السموم : إفراط الحر ، يدخل في المسام حتى يقتل من نار أو شمس أو ريح. وقيل : السموم بالليل ، والحر بالنهار.

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ. رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) : هذه السورة مكية بلا خلاف ، ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر في آخر السورة قبلها أشياء من أحوال القيامة من تبديل السموات والأرض ، وأحوال الكفار في ذلك اليوم ، وأنّ ما أتى به هو على حسب التبليغ والإنذار ، ابتدأ في هذه السورة بذكر القرآن الذي هو بلاغ للناس ، وأحوال الكفرة ، وودادتهم لو كانوا

٤٦٣

مسلمين. قال مجاهد وقتادة : الكتاب هنا ما نزل من الكتب قبل القرآن ، فعلى قولهما تكون تلك إشارة إلى آيات الكتاب. قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالكتاب القرآن ، وعطفت الصفة عليه ، ولم يذكر الزمخشري إلا أن تلك الإشارة لما تضمنته السورة من الآيات قال : والكتاب والقرآن المبين السورة ، وتنكير القرآن للتفخيم ، والمعنى : تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتابا ، وآي قرآن مبين كأنه قيل : والكتاب الجامع للكمال والغرابة في الشأن ، والظاهر أنّ ما في ربما مهيئة ، وذلك أنها من حيث هي حرف جر لا يليها إلا الأسماء ، فجيء بما مهيئة لمجيء الفعل بعدها. وجوزوا في ما أن تكون نكرة موصوفة ، ورب جازة لها ، والعائد من جملة الصفة محذوف تقديره : رب شيء يوده الذين كفروا. ولو كانوا مسلمين بدل من ما على أنّ لو مصدرية. وعلى القول الأول تكون في موضع نصب على المفعول ليود ، ومن لا يرى أن لو تأتي مصدرية جعل مفعول يود محذوفا. ولو في لو كانوا مسلمين حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجواب لو محذوف أي : ربما يود الذين كفروا الإسلام لو كانوا مسلمين لسروا بذلك وخلصوا من العذاب ، ولما كانت رب عند الأكثرين لا تدخل على مستقبل تأولوا يود في معنى ودّ ، لما كان المستقبل في إخبار الله لتحقق وقوعه كالماضي ، فكأنه قيل : ود ، وليس ذلك بلازم ، بل قد تدخل على المستقبل لكنه قليل بالنسبة إلى دخولها على الماضي. ومما وردت فيه للمستقبل قول سليم القشيري :

ومعتصم بالجبن من خشية الردى

سيردي وغاز مشفق سيؤب

وقول هند أم معاوية :

يا رب قائلة غدا

يا لهف أم معاوية

وقول جحدر :

فإن أهلك فرب فتى سيبكي

عليّ مهذب رخص البنان

في عدة أبيات. وقول أبي عبد الله الرازي : أنهم اتفقوا على أنّ كلمة رب مختصة بالدخول على الماضي لا يصح ، فعلى هذا لا يكون يودّ محتاجا إلى تأويل. وأما من تأول ذلك على إضمار كان أي : ربما كان يودّ فقوله ضعيف ، وليس هذا من مواضع إضمار كان. ولما كان عند الزمخشري وغيره أنّ رب للتقليل احتاجوا إلى تأويل مجيء رب هنا ، وطول

٤٦٤

الزمخشري في تأويل ذلك. ومن قال : إنها للتكثير ، فالتكثير فيها هنا ظاهر ، لأنّ ودادتهم ذلك كثيرة. ومن قال : إنّ التقليل والتكثير إنما يفهم من سياق الكلام لا من موضوع رب ، قال : دل سياق الكلام على الكثرة. وقيل : تدهشهم أهوال ذلك اليوم فيبقون مبهوتين ، فإن كانت منهم إفاقة في بعض الأوقات من سكرتهم تمنوا ، فلذلك قلل. وقرأ عاصم ، ونافع : ربما بتخفيف الباء ، وباقي السبعة بتشديدها. وعن أبي عمر : والوجهان. وقرأ طلحة بن مصرف ، وزيد بن علي ، ربتما بزيادة تاء. ومتى يودون ذلك؟ قيل : في الدنيا. فقال الضحاك : عند معاينة الموت. وقال ابن مسعود : هم كفار قريش ودّوا ذلك في يوم بدر حين رأوا الغلبة للمسلمين. وقيل : حين حل بهم ما حل من تملك المسلمين أرضهم وأموالهم ونساءهم ، ودّوا ذلك قبل أن يحل بهم ما حل. وقيل : ودوا ذلك في الآخرة إذا أخرج عصاة المسلمين من النار قاله : ابن عباس ، وأنس بن مالك ، ومجاهد ، وعطاء ، وأبو العالية ، وإبراهيم ، ورواه أبو موسى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ الرسول هذه الآية ، وقيل : حين يشفع الرسول ويشفع حتى يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة ، ورواه مجاهد عن ابن عباس. وقيل : إذا عاينوا القيامة ذكره الزجاج. وقيل : عند كل حالة يعذب فيها الكافر ويسلم المؤمن ، ذكره ابن الأنباري. ثم أمر تعالى نبيه بأن ينذرهم ، وهو أمر وعيد لهم وتهديد أي : ليسوا ممن يرعوي عن ما هو فيه من الكفر والتكذيب ، ولا ممن تنفعه النصيحة والتذكير ، فهم إنما حظهم حظ البهائم من الأكل والتمتع بالحياة الدنيا والأمل في تحصيلها ، هو الذي يلهيهم ويشغلهم عن الإيمان بالله ورسوله. وفي قوله : يأكلوا ويتمتعوا ، إشارة إلى أنّ التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للموت والتأهب له ليس من أخلاق من يطلب النجاة من عذاب الله في الآخرة ، وعن بعض العلماء : التمتع في الدنيا من أخلاق الهالكين. وقال الحسن : ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل. وانجزم يأكلوا ، وما عطف عليه جوابا للأمر. ويظهر أنه أمر بترك قتالهم وتخلية سبيلهم وبمهادنتهم وموادعتهم ، ولذلك ترتب أن يكون جوابا ، لأنه لو شغلهم بالقتال ومصالتة السيوف وإيقاع الحرب ما هنا هم أكل ولا تمتع ، وبدل على ذلك أنّ السورة مكية ، وإذا جعلت ذرهم أمرا بترك نصيحتهم وشغل باله بهم ، فلا يترتب عليه الجواب ، لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك نصيحتهم ، أم لم يتركها. فسوف يعلمون : تهديد ووعيد أي : فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وما يؤولون إليه في الدنيا من الذل والقتل والسبي ، وفي الآخرة من العذاب السرمدي. ولما توعدهم بما يحل بهم أردف ذلك بما يشعر بهلاكهم ، وأنه

٤٦٥

لا يستبطأ ، فإنّ له أجلا لا يتعداه ، والمعنى : من أهل قرية كافرين. والظاهر أن المراد بالهلاك هلاك الاستئصال لمكذبي الرسل ، وهو أبلغ في الزجر. وقيل : المراد الإهلاك بالموت ، والواو في قوله : ولها ، واو الحال. وقال بعضهم : مقحمة أي زائدة ، وليس بشيء. وقرأ ابن أبي عبلة : بإسقاطها وقال الزمخشري : الجملة واقعة صفة لقرية ، والقياس أن لا تتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) (١) وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال : جاءني زيد عليه ثوب ، وجاءني وعليه ثوب انتهى. ووافقه على ذلك أبو البقاء فقال : الجملة نعت لقرية كقولك : ما لقيت رجلا إلا عالما قال : وقد ذكرنا حال الواو في مثل هذا في البقرة في قوله : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (٢) انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري وتبعه فيه أبو البقاء لا نعلم أحدا قاله من النحويين ، وهو مبني على أنّ ما بعدا لا يجوز أن يكون صفة ، وقد منعوا ذلك. قال : الأخفش لا يفصل بين الصفة والموصوف بالإثم ، قال : ونحو ما جاءني رجل إلا راكب تقديره : إلا رجل راكب ، وفيه قبح بجعلك الصفة كالإسم. وقال أبو علي الفارسي : تقول ما مررت بأحد إلا قائما ، فقائما حال من أحد ، ولا يجوز إلا قائم ، لأنّ إلا لا تعترض بين الصفة والموصوف. وقال ابن مالك : وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشري من قوله : في نحو ما مررت بأحد إلا زيد خير منه ، أنّ الجملة بعد إلا صفة لأحد ، أنه مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي ، فلا يلتفت إليه. وأبطل ابن مالك قول الزمخشري أنّ الواو توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف. وقال القاضي منذر بن سعيد : هذه الواو هي التي تعطي أنّ الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو ، ومنه قوله تعالى : (إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) (٣) انتهى.

والظاهر أنّ الكتاب المعلوم هو الأجل الذي كتب في اللوح وبين ، ويدل على ذلك ما بعده. وقيل : مكتوب فيه أعمالهم وأعمارهم وآجال هلاكهم. وذكر الماوردي : كتاب معلوم أي : فرض محتوم ، ومن زائدة تفيد استغراق الجنس أي : ما تسبق أمة ، وأنث أجلها على لفظ أمة وجمع وذكر في وما يستأخرون حملا على المعنى ، وحذف عنه لدلالة الكلام عليه.

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢٠٨.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢١٦.

(٣) سورة الزمر : ٣٩ / ٧١.

٤٦٦

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) : قال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أمية ، والنضر بن الحرث ، ونوفل بن خويلد ، والوليد بن المغيرة. وقرأ زيد بن علي : نزل عليه الذكر ماضيا مخففا مبنيا للفاعل. وقرأ : يا أيها الذي ألقي إليه الذكر ، وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسيرا ، لأنها مخالفة لسواد المصحف. وهذا الوصف بأنه الذي نزل عليه الذكر قالوه على جهة الاستهزاء والاستخفاف ، لأنهم لا يقرون بتنزيل الذكر عليه ، وينسبونه إلى الجنون ، إذ لو كان مؤمنا برسالة موسى وما أخبر عنه بالجنون. ثم اقترحوا عليه أن يأتيهم بالملائكة شاهدين لصدقك وبصحة دعواك وإنذارك كما قال : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) (١) فيكون معه نذيرا أو معاقبين على تكذيبك ، كما كانت تأتي الأمم المكذبة. وقرأ الحرميان والعربيان : ما تنزل مضارع تنزل أي : ما تتنزل الملائكة بالرفع. وقرأ أبو بكر ، ويحيى بن وثاب : ما تنزل بضم التاء وفتح النون والزاي الملائكة بالرفع. وقرأ الأخوان ، وحفص ، وابن مصرف : ما ننزل بضم النون الأولى ، وفتح الثانية ، وكسر الزاي الملائكة بالنصب. وقرأ زيد بن علي : ما نزل ماضيا مخففا مبنيا للفاعل الملائكة بالرفع. والحق هنا العذاب قاله الحسن ، أو الرسالة قاله مجاهد ، أو قبض الأرواح عند الموت قاله ابن السائب ، أو القرآن ذكره الماوردي. وقال الزمخشري : ألا تنزلا ملتبسا بالحكمة والمصلحة ، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار. وقال ابن عطية : والظاهر أنّ معناها : كما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي أرادها الله تعالى لعباده ، لا على اقتراح كافر ، ولا باختيار معترض. ثم ذكر عادة الله في الأمم من أنه لم يأتهم بآية اقتراح إلا ومعها العذاب في أثرها إن لم يؤمنوا ، فكان الكلام ما تنزل الملائكة إلا بحق واجب لا باقتراحكم. وأيضا فلو نزلت لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب أي : تؤخروا والمعنى ، وهذا لا يكون إذ كان في علم الله أنّ منهم من يؤمن ، أو يلد من يؤمن.

وقال الزمخشري : وادن جواب وجزاء ، لأنه جواب لهم ، وجزاء بالشرط مقدر تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذبهم. ولما قالوا على سبيل الاستهزاء : يا أيها الذي نزل عليه الذكر ، رد عليهم بأنه هو المنزل عليه ، فليس من قبله ولا

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٨ (عليه بدل إليه).

٤٦٧

قبل أحد ، بل هو الله تعالى الذي بعث به جبريل عليه‌السلام إلى رسوله ، وأكد ذلك بقوله : إنا نحن ، بدخول إنّ وبلفظ نحن. ونحن مبتدأ ، أو تأكيد لاسم إنّ ثم قال : وإنا له لحافظون أي : حافظون له من الشياطين. وفي كل وقت تكفل تعالى بحفظه ، فلا يعتريه زيادة ولا نقصان ، ولا تحريف ولا تبديل ، بخلاف غيره من الكتب المتقدمة ، فإنه تعالى لم يتكفل حفظها بل قال تعالى : إن الربانيين والأحبار بما استحفظوها (١) ولذلك وقع فيها الاختلاف. وحفظه إياه دليل على أنه من عنده تعالى ، إذ لو كان من قول البشر لتطرق إليه ما تطرق لكلام البشر. وقال الحسن : حفظه بإبقاء شريعته إلى يوم القيامة. وقيل : يحفظه في قلوب من أراد بهم خيرا حتى لو غير أحد نقطة لقال له الصبيان : كذبت ، وصوابه كذا ، ولم يتفق هذا الشيء من الكتب سواه. وعلى هذا فالظاهر أنّ الضمير في له عائد على الذكر ، لأنه المصرح به في الآية ، وهو قول الأكثر : مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما. وقالت فرقة : الضمير في له عائد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : يحفظه من أذاكم ، ويحوطه من مكركم كما قال تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٢) وفي ضمن هذه الآية التبشير بحياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يظهر الله به الدين.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ. وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) : لما ذكر تعالى استهزاء الكفار به عليه‌السلام ، ونسبته إلى الجنون ، واقتراح نزول الملائكة ، سلاه تعالى بأن من أرسل من قبلك كان ديدن الرسل إليهم مثل ديدن هؤلاء معك. وتقدم تفسير الشيع في أواخر الأنعام. ومفعول أرسلنا محذوف أي : رسلا من قبلك. وقال الفراء : في شيع الأولين هو من إضافة الشيء إلى صفته كقوله : حق اليقين ، وبجانب الغربي أي الشيع الموصوف ، أي : في شيع الأمم الأولين ، والأولون هم الأقدمون. وقال الزمخشري : وما يأتيهم حكاية ماضية ، لأنّ ما لا تدخل على مضارع ، إلا وهو في موضع الحال ، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال انتهى. وهذا الذي ذكره هو قول الأكثر من أنّ ما تخلص المضارع للحال وتعينه له ، وذهب غيره إلى أنّ ما يكثر دخولها على المضارع مرادا به الحال ، وتدخل عليه مرادا به الاستقبال ، وأنشد على ذلك قول أبي ذؤيب :

__________________

(١) ليست آية قرآنية بلفظها.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٦٧.

٤٦٨

أودي بني وأودعوني حسرة

عند الرقاد وعبرة ما تقلع

وقول الأعشى يمدح الرسول عليه‌السلام :

له نافلات ما يغب نوالها

وليس عطاء اليوم مانعه غدا

وقال تعالى : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) (١) والضمير في نسلكه عائد على الذكر قاله الزمخشري ، قال : والضمير للذكر أي : مثل ذلك السلك. ونحوه : نسلك الذكر في قلوب المجرمين على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذبا مستهزأ به غير مقبول ، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت : كذلك أنزلها باللئام يعني : مثل هذا الإنزال أنزلها بهم ، مردودة غير مقصية. ومحل قوله : لا يؤمنون النصب على الحال أي : غير مؤمن به ، أو هو بيان لقوله : كذلك نسلكه انتهى. وما ذهب إليه من أنّ الضمير عائد على الذكر ذكره الغرنوي عن الحسن. قال الحسن : معناه نسلك الذكر إلزاما للحجة. وقال ابن عطية : الضمير في نسلكه عائد على الاستهزاء والشرك ونحوه ، وهو قول : الحسن ، وقتادة ، وابن جريج ، وابن زيد. ويكون الضمير في به يعود أيضا على ذلك نفسه ، وتكون باء السبب أي : لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم ، ويكون قوله : لا يؤمنون به في موضع الحال ، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائدا على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر وهو القرآن أي : مكذبا به مردودا مستهزأ به ، يدخله في قلوب المجرمين. ويكون الضمير في به عائدا عليه ، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائدا على الاستهزاء والشرك ، والضمير في به يعود على القرآن ، فيختلف على هذا عود الضميرين انتهى. وروى ابن جريج عن مجاهد تلك التكذيب ، فعلى هذا تكون الباء في به للسبب. والذي يظهر عوده على الاستهزاء المفهوم من قوله : يستهزؤون ، والباء في به للسبب. والمجرمون هنا كفار قريش ، ومن دعاهم الرسول إلى الإيمان. ولا يؤمنون إن كان إخبارا مستأنفا فهو من العام المراد به الخصوص فيمن ختم عليه ، إذ قد آمن عالم ممن كذب الرسول. وقد خلت سنة الأولين في تكذيبهم رسلهم ، أو في إهلاكهم حين كذبوا رسلهم ، واستهزأوا بهم ، وهو تهديد لمشركي قريش. والضمير في عليهم عائد على المشركين ، وذلك لفرط تكذيبهم وبعدهم عن الإيمان حتى ينكروا ما هو محسوس مشاهد بالأعين مماس بالأجساد بالحركة والانتقال ، وهذا بحسب المبالغة التامة في إنكار الحق.

__________________

(١) سورة يونس : ١٥ / ١٠.

٤٦٩

والظاهر أنّ الضمير في فظلوا عائد على من عاد عليه في قوله : عليهم ، أي : لو فتح لهم باب من السماء ، وجعل لهم معراج يصعدون فيه لقالوا : هو شيء تتخيله لا حقيقة له ، وقد سخرنا بذلك. وجاء لفظ فظلوا مشعرا بحصول ذلك في النهار ليكونوا مستوضحين لما عاينوا ، على أنّ ظل يأتي بمعنى صار أيضا. وعن ابن عباس أنّ الضمير في فظلوا يعود على الملائكة لقولهم : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) (١) أي : ولو رأوا الملائكة تصعد وتنصرف في باب مفتوح في السماء لما آمنوا.

وقرأ الأعمش ، وأبو حيوة : يعرجون بكسر الراء ، وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود. وجاء لفظ إنما مشعرا بالحصر ، كأنه قال : ليس ذلك إلا تسكيرا للأبصار. وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وابن كثير : سكرت بتخفيف الكاف مبنيا للمفعول ، وقرأ باقي السبعة : بشدها مبنيا للمفعول. وقرأ الزهري : بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنيا للفاعل ، شبهوا رؤية أبصارهم برؤية السكران لقلة تصوره ما يراه. فأما قراءة التشديد فعن ابن عباس وقتادة منعت عن رؤية الحقيقة من السكر ، بكسر السين وهو الشد والحبس. وعن الضحاك شدّت ، وعن جوهر جدعت ، وعن مجاهد حبست ، وعن الكلبي عميت ، وعن أبي عمرو غطيت ، وعن قتادة أيضا أخذت ، وعن أبي عبيد غشيت. وأما قراءة التخفيف فقيل : بالتشديد ، إلا أنه للتكثير ، والتخفيف يؤدي عن معناه. وقيل : معنى التشديد أخذت ، ومعنى التخفيف سحرت. والمشهور أن سكر لا يتعدى. قال أبو علي : ويجوز أن يكون سمع متعديا في البصر. وحكى أبو عبيد عن أبي عبيدة أنه يقال : سكرت أبصارهم إذا غشيها سهاد حتى لا يبصروا. وقيل : التشديد من سكر الماء ، والتخفيف من سكر الشراب ، وتقول العرب : سكرت الريح تسكر سكرا إذا ركدت ولم تنفذ لما انتفت بسبيله ، أولا وسكرا الرجل من الشراب سكرا إذا تغيرت حاله وركد ولم ينفذ فيما كان للإنسان أن ينفذ فيه. ومن هذا المعنى سكران لا يبت أي : لا يقطع أمرا. وتقول العرب : سكرت في مجاري الماء إذا طمست ، وصرفت الماء فلم ينفذ لوجهه. فإن كان من سكر الشراب ، أو من سكر الريح ، فالتضعيف للتعدية. أو من سكر مجاري الماء فللتكثير ، لأنّ مخففة متعد. وأما سكرت بالتخفيف فإن كان من سكر الماء ففعله متعد ، أو من سكر الشراب أو الريح فيكون من باب وجع زيد ووجعه غيره ، فتقول : سكر الرجل وسكره غيره ، وسكرت الريح وسكرها غيرها ، كما جاء سعد زيد وسعده غيره. ولخص الزمخشري في هذا فقال :

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٧.

٤٧٠

وسكرت خيرت أو حبست من السكر ، أو السكر. وقرىء بالتخفيف أي : حبست كما يحبس النهر عن الجري انتهى. وقرأ ابان بن ثعلب : سحرت أبصارنا. ويجيء قوله : بل نحن قوم مسحورون ، انتقالا إلى درجة عظمى من سحر العقل. وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسير معنى لا تلاوة ، لمخالفتها سواد المصحف. وجاء جواب ولو ، قوله : لقالوا أي أنهم يشاهدون ما يشاهدون ، ولا يشكون في رؤية المحسوس ، ولكنهم يقولون ما لا يعتقدون مواطأة على العناد ، ودفع الحجة ، ومكابرة وإيثارا للغلبة كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (١).

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) : لما ذكر حال منكري النبوة وكانت مفرعة على التوحيد ، ذكر دلائله السماوية ، وبدأ بها ثم أتبعها بالدلائل الأرضية. وقال ابن عطية : لما ذكر تعالى أنهم لو رأوا الآية المذكورة في السماء لعاندوا فيها ، عقب ذلك بهذه الآية كأنه قال : وإنّ في السماء لعبرا منصوبة عبر عن هذه المذكورة ، وكفرهم بها ، وإعراضهم عنها إصرار منهم وعتو انتهى. والظاهر أن جعلنا بمعنى خلقنا ، وفي السماء متعلق بجعلنا. ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا ، وفي السماء المفعول الثاني ، فيتعلق بمحذوف. والبروج جمع برج ، وتقدم شرحه لغة. قال الحسن وقتادة : هي النجوم. وقال أبو صالح : الكواكب السيارة. وقال علي بن عيسى : اثنا عشر برجا : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، وهي منازل الشمس والقمر. وقال ابن عطية : قصور في السماء فيها الحرس ، وهي المذكورة في قوله : (مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) (٢) وقيل : الفلك اثنا عشر برجا ، كل برج ميلان ونصف. والظاهر أن الضمير في وزيناها عائد على البروج لأنها المحدث عنها ، والأقرب في اللفظ. وقيل : على السماء ، وهو قول الجمهور. وخص بالناظرين لأنها من المحسوسات التي لا تدرك إلا بنظر العين. ويجوز أن يكون من نظر القلب لما فيها من الزينة المعنوية ، وهو ما فيها من حسن الحكم وبدائع الصنع وغرائب القدرة. والضمير في حفظناها عائد على السماء ، ولذلك قال الجمهور : إن الضمير في وزيناها عائد على السماء حتى لا تختلف الضمائر ، وحفظ السماء هو بالرجم بالشهب على

__________________

(١) سورة النمل : ١٧ / ١٤.

(٢) سورة الجن : ٧٢ / ٨.

٤٧١

ما تضمنته الأحاديث الصحاح قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الشياطين تقرب من السماء أفواجا فينفرد المارد منها فيستمع ، فيرمى بالشهاب فيقول لأصحابه. وهو يلتهب : إنه الأمر كذا وكذا ، فتزيد الشياطين في ذلك ويلقون إلى الكهنة فيزيدون على الكلمة مائة كلمة» ونحو هذا الحديث. وقال ابن عباس : إن الشهب تخرج وتؤذي ، ولا تقتل. وقال الحسن : تقتل. وفي الأحاديث ما يدل على أنّ الرجم كان في الجاهلية ولكنه اشتد في وقت الإسلام. وحفظت السماء حفظا تاما. وعن ابن عباس : كانوا لا يحجبون عن السموات ، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات ، فلما ولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا من السموات كلها. والظاهر أنّ قوله : إلا من استرق ، استثناء متصل والمعنى : فإنها لم تحفظ منه ، ذكره الزهراوي وغيره. والمعنى : أنه سمع من خبرها شيئا وألقاه إلى الشياطين. وقيل : هو استثناء منقطع والمعنى : أنها حفظت منه ، وعلى كلا التقديرين فمن في موضع نصب. وقال الحوفي : من بدل من كل شيطان ، وكذا قال أبو البقاء : حر على البدل أي : إلا ممن استرق السمع. وهذا الإعراب غير سائغ ، لأن ما قبله موجب ، فلا يمكن التفريغ ، فلا يكون بدلا ، لكنه يجوز أن يكون إلا من استرق نعتا على خلاف في ذلك. وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون من في موضع رفع على الابتداء ، وفأتبعه الخبر. وجاز دخول الفاء من أجل أنّ من بمعنى الذي ، أو شرط انتهى. والاستراق افتعال من السرقة ، وهي أخذ الشيء بخفية ، وهو أن يخطف الكلام خطفة يسيرة. والسمع المسموع ، ومعنى مبين : ظاهر للمبصرين.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ. وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) : مددناها بسطناها ليحصل بها الانتفاع لمن حلها. قال الحسن : أخذ الله طينة فقال لها : انبسطي فانبسطت. وقيل : بسطت من تحت الكعبة. ولما كانت هذه الجملة بعدها جملة فعلية ، كان النصب على الاشتغال أرجح من الرفع على الابتداء ، فلذلك نصب والأرض. والرواسي : الجبال ، وفي الحديث : «إن الأرض كانت تتكفأ بأهلها كما تتكفأ السفينة فثبتها الله بالجبال» ومن في من كل للتبعيض ، وعند الأخفش هي زائدة أي كل شيء. والظاهر أنّ الضمير في فيها يعود على الأرض الممدودة ، وقيل : يعود على الجبال ، وقيل : عليها وعلى الأرض معا. قال ابن عباس ،

٤٧٢

وابن جبير : موزون مقدر بقدر. وقال الزمخشري قريبا منه قال : وزن بميزان الحكمة ، وقدر بمقدار يقتضيه لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان. وقال ابن عطية : قال الجمهور : معناه مقدر محرر بقصد وإرادة ، فالوزن على هذا مستعار. وقال ابن زيد : المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة ، وغير ذلك مما يوزن. وقال قتادة : موزون مقسوم. وقال مجاهد : معدود ، وقال الزمخشري : أوله وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة. وبسطه غيره فقال : ما له منزلة ، كما تقول : ليس له وزن أي : قدر ومنزلة. ويقال : هذا كلام موزون ، أي منظوم غير منتثر. فعلى هذا أي : أنبتنا فيها ، ما يوزن من الجواهر والمعادن والحيوان. وقال تعالى : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) (١) والمقصود بالإنبات الإنشاء والإيجاد.

وقرأ الأعرج وخارجة عن نافع : معائش بالهمز. قال ابن عطية : والوجه ترك الهمز ، وعلل ذلك بما هو معروف في النحو. وقال الزمخشري : معايش بياء صريحة بخلاف الشمائل والخبائث ، فإنّ تصريح الياء فيها خطأ ، والصواب الهمزة ، أو إخراج الياء بين بين. وتقدم تفسير المعايش أول الأعراف (٢) والظاهر أنّ من لمن يعقل ويراد به العيال والمماليك والخدم الذين يحسبون أنهم يرزقونهم ويخطئون ، فإن الله هو الرزاق يرزقكم وإياهم. وقال معناه الفراء ، ويدخل معهم ما لا يعقل بحكم التغليب كالأنعام والدواب ، وما بتلك المثابة مما الله رازقه ، وقد سبق إلى ظنهم أنهم الرازقون ، وقال معناه الزجاج. وقال مجاهد : الدواب والأنعام والبهائم. وقيل : الوحوش والسباع والطير. فعلى هذين القولين يكون من لما لا يعقل. والظاهر أنّ من في موضع جر عطفا على الضمير المجرور في لكم ، وهو مذهب الكوفيين ويونس والأخفش. وقد استدل القائل على صحة هذا المذهب في البقرة في قوله : (وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٣) وقال الزجاج : من منصوب بفعل محذوف تقديره : وأعشنا من لستم أي : أمما غيركم ، لأنّ المعنى أعشناكم. وقيل : عطفا على معايش أي : وجعلنا لكم من لستم له برازقين من العبيد والصناع. وقيل : والحيوان. وقيل : عطفا على محل لكم. وقيل : من مبتدأ خبره محذوف لدلالة المعنى عليه أي : ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش. وهذا لا بأس به ، فقد أجازوا ضربت زيدا وعمرو بالرفع على الابتداء أي : وعمرو ضربته ، فحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه. وتقدم شرح الخزائن. وإن نافية ، ومن زائدة ، والظاهر أنّ المعنى : وما من شيء ينتفع به العباد إلا

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٣٧.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٠.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢١٧.

٤٧٣

ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والأنعام به ، فتكون الخزائن وهي ما يحفظ فيه الأشياء مستعارة من المحسوس الذي هو الجسم إلى المعقول. وقال قوم : المراد الخزائن حقيقة ، وهي التي تحفظ فيها الأشياء ، وأن للريح مكانا ، وللمطر مكانا ، ولكل مكان ملك وحفظة ، فإذا أمر الله بإخراج شيء منه أخرجته الحفظة. وقيل : المراد بالشيء هنا المطر ، قاله ابن جريج.

وقرأ الأعمش : وما نرسله مكان وما ننزله ، والإرسال أعم ، وهي قراءة تفسير معنى لا أنها لفظ قرآن ، لمخالفتها سواد المصحف. وعن ابن عباس ، والحكم بن عيينة : أنه ليس عام أكثر مطرا من عام ، ولكنّ الله تعالى ينزله في مواضع دون مواضع. ولواقح جمع لاقح ، يقال : ريح لاقح جائيات بخير من إنشاء سحاب ماطر ، كما قيل للتي لا تأتي بخير بل بشر ريح عقيم ، أو ملاقح أي : حاملات للمطر. وفي صحيح البخاري : لواقح ملاقح ملقحة. وقال عبيد بن عمير : يرسل الله المبشرة تقم الأرض قمائم المثيرة ، فتثير السحاب. ثم المؤلفة فتؤلفه ، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر. ومن قرأ بإفراد الريح فعلى تأويل الجنس كما قالوا : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، وسقى وأسقى قد يكونان بمعنى واحد. وقال أبو عبيدة : من سقى الشفة سقى فقط ، أو الأرض والثمار أسقى ، وللداعي لأرض وغيرها بالسقيا أسقى فقط. وقال الأزهري : العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام ، ومن السماء ، أو نهر يجري : أسقيته ، أي جعلته شربا له ، وجعلت له منه مسقى. فإذا كان للشفة قالوا : سقى ، ولم يقولوا أسقى. وقال أبو علي : سقيته حتى روي ، وأسقيته نهرا جعلته شربا له. وجاء الضمير هنا متصلا بعد ضمير متصل كما تقدم في قوله : (أَنُلْزِمُكُمُوها) (١) وتقدم أنّ مذهب سيبويه فيه وجوب الاتصال. وما أنتم له بخازنين أي : بقادرين على إيجاده ، تنبيها على عظيم قدرته ، وإظهار العجز. هم أي : لستم بقادرين عليه حين احتياجكم إليه. وقال سفيان : بخازنين أي بمانعين المطر. نحيي : نخرجه من العدم الصرف إلى الحياة. ونميت : نزيل حياته. ونحن الوارثون الباقون بعد فناء الخلق. والمستقدمين قال ابن عباس والضحاك : الأموات ، والمستأخرين الأحياء. وقال قتادة وعكرمة وغيرهما : المستقدمين في الخلق والمستأخرين الذين لم يخلقوا بعد. وقال مجاهد : المستقدمين من الأمم والمستأخرين أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الحسن وقتادة أيضا :

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٢٨.

٤٧٤

في الطاعة والخير ، والمستأخرين بالمعصية والشر. وقال ابن جبير : في صفوف الحرب ، والمستأخرين فيها. وقيل : من قتل في الجهاد ، والمستأخرين من لم يقتل. وقيل : في صفوف الصلاة ، والمستأخرين بسبب النساء لينظروا إليهن. وقال قتادة أيضا : السابقين إلى الإسلام والمتقاعسين عنه. والأولى حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على الحصر ، والمعنى : أنه تعالى محيط علمه بمن تقدم وبمن تأخر وبأحوالهم ، ثم أعلم تعالى أنه يحشرهم. وقرأ الأعمش : يحشرهم بكسر الشين. وقال ابن عباس ومروان بن الحكم ، وأبو الحوراء : كانت تصلي وراء الرسول امرأة جميلة ، فبعض يتقدم لئلا تفتنه وبعض يتأخر ليسرق النظر إليها في الصلاة ، فنزلت الآية فيهم. وفصل هذه الآية بهاتين الصفتين من الحكمة والعلم في غاية المناسبة.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)

لما نبه تعالى على منتهى الخلق وهو الحشر يوم القيامة إلى ما يستقرون فيه ، نبههم على مبدأ أصلهم آدم ، وما جرى لعدوه إبليس من المحاورة مع الله تعالى.

٤٧٥

وتقدم شيء من هذه القصة في أوائل البقرة عقب ذكر الإماتة والإحياء والرجوع إليه تعالى. وفي الأعراف بعد ذكر يوم القيامة ، وذكر الموازين فيه. وفي الكهف بعد ذكر الحشر ، وكذا في سورة ص بعد ذكر ما أعد من الجنة والنار لخلقه. فحيث ذكر منتهى هذا الخلق ذكر مبدأهم وقصته مع عدوه إبليس ليحذرهم من كيده ، ولينظروا ما جرى له معه حتى أخرجه من الجنة مقر السعادة والراحة ، إلى الأرض مقر التكليف والتعب ، فيتحرزوا من كيده ، ومن حمإ قال الحوفي بدل من صلصال ، بإعادة الجار. وقال أبو البقاء : من حمإ في موضع جر صفة لصلصال. وقال ابن عباس : المسنون الطين ومعناه المصبوب ، لأنه لا يكون مصبوبا إلا وهو رطب ، فكنى عن المصبوب بوصفه ، لأنه موضوع له. وقال مجاهد وقتادة ومعمر : المنتن. قال الزمخشري : من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به ، فالذي يسيل بينهما سنين ولا يكون إلا منتنا. وقال غيره : من أسن الماء إذا تغير ، ولا يصح لاختلاف المادتين. وقيل : مصبوب من سننت التراب والماء إذا صببته شيئا بعد شيء ، فكان المعنى : أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها. قال الزمخشري : وحق مسنون بمعنى مصور أن يكون صفة لصلصال ، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صلصل ثم غيره بعد. ذلك إلى جوهر آخر انتهى. وقيل : المسنون المصور من سنة الوجه ، وهي صورته. قال الشاعر :

تريك سنة وجه غير مقرفة

وقيل : المسنون المنسوب أي : ينسب إليه ذريته.

والجان : هو أبو الجن ، قاله ابن عباس. قال الزمخشري : والجان للجن كآدم للناس. وقال الحسن وقتادة : هو إبليس ، خلق قبل آدم. وقال ابن بحر : هو اسم لجنس الجن ، والإنسان المراد به آدم ، ومن قبل أي : من قبل خلق الإنسان. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : والجأن بالهمز. والسموم قال ابن عباس : الريح الحارة التي تقتل. وعنه : نار لا دخان لها ، منها تكون الصواعق. وقال الحسن : نار دونها حجاب. وعن ابن عباس : نفس النار ، وعنه : لهب النار. وقيل : نار اللهب السموم. وقيل : أضاف الموصوف إلى صفته أي : النار السموم. وسويته أكملت خلقه ، والتسوية عبارة عن الإتقان ، وجعل أجزائه مستوية فيما خلقت. ونفخت فيه من روحي أي : خلقت الحياة فيه ، ولا نفخ هناك ، ولا منفوخ حقيقة ، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيي به فيه. وأضاف الروح إليه تعالى على

٤٧٦

سبيل التشريف نحو : بيت الله ، وناقة الله ، أو الملك إذ هو المتصرف في الإنشاء للروح ، ولمودعها حيث يشاء. وقعوا له أي : اسقطوا على الأرض. وحرف الجر محذوف من أن أي : ما لك في أن لا تكون. وأي : داع دعا بك إلى إبائك السجود. ولا سجد اللام لام الجحود ، والمعنى : لا يناسب حالي السجود له. وفي البقرة نبه على العلة المانعة له وهي الاستكبار أي : رأى نفسه أكبر من أن يسجد. وفي الأعراف صرح بجهة الاستكبار ، وهي ادعاء الخيرية والأفضلية بادعاء المادة المخلوق منها كل منهما. وهنا نبه على مادة آدم وحده ، وهنا فاخرج منها وفي الأعراف : (فَاهْبِطْ مِنْها) (١) وتقدم ذكر الخلاف فيما يعود عليه ضمير منها. وقد تقدمت منها مباحث في سورة البقرة ، والأعراف ، أعادها المفسرون هنا ، ونحن نحيل على ما تقدم إلا ما له خصوصية بهذه السورة فنحن نذكره.

فنقول : وضرب يوم الدين غاية للعنة ، إما لأنه أبعد غاية يضربها الناس في كلامهم ، وإما أن يراد أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين من غير أن تعذب ، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما ينسى اللعن معه. ويوم الدين ، ويوم يبعثون ، ويوم الوقت المعلوم ، واحد. وهو وقت النفخة الأولى حتى تموت الخلائق. ووصف بالمعلوم إما لانفراد الله بعلمه كما قال : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) (٢) (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (٣) أو لأنه معلوم فناء العالم فيه ، فيكون قد عبر بيوم الدين ، وبيوم يبعثون ، ويوم الوقت المعلوم ، بما كان قريبا من ذلك اليوم. قال الزمخشري : ومعنى إغوائه إياه نسبته لغيه ، بأن أمره بالسجود لآدم عليه‌السلام ، فأفضى ذلك إلى غيه. وما الأمر بالسجود الأحسن ، وتعريض للثواب بالتواضع ، والخضوع لأمر الله ، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك ، والله تعالى بريء من غيه ومن إرادته والرضا به انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. والضمير في لهم عائد على غير مذكور ، بل على ما يفهم من الكلام ، وهو ذرية آدم. ولذلك قال في الآية الأخرى : (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (٤) والتزين تحسين المعاصي لهم ووسوسته حتى يقعوا فيها في الأرض أي : في الدنيا التي هي دار الغرور لقوله تعالى : (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) (٥) أو أراد أني أقدر على الاحتيال

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٣.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٧.

(٣) سورة لقمان : ٣١ / ٣٤.

(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ٦٢.

(٥) سورة الأعراف : ٧ / ١٧٦.

٤٧٧

لآدم ، والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء ، فأنا على التزيين لأولاده أقدر. أو أراد لأجعلن مكان التزين عندهم الأرض ، ولأرفعن رتبني فيها أي : لأزينها في أعينهم ، ولأحدثنهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها ، ونحوه : يجرح في عراقيبها نصلي قاله الزمخشري. وإلّا عبادك استثناء القليل من الكثير ، إذ المخلصون بالنسبة إلى الغاوين قليل ، واستثناؤهم إبليس ، لأنه علم أنّ تزيينه لا يؤثر فيهم ، وفيه دليل على جلالة هذا الوصف ، وأنه أفضل ما اتصف به الطائع.

وقرأ الكوفيون ، ونافع ، والحسن ، والأعرج : بفتح اللام ، ومعناه إلا من أخلصته للطاعة أنت ، فلا يؤثر فيه تزييني. وقرأ باقي السبعة والجمهور : بكسرها أي : إلا من أخلص العمل لله ولم يشرك فيه غيره. ولا راءى به ، والفاعل لقال الله أي : قال الله. والإشارة بهذا إلى ما تضمنه المخلصين من المصدر أي : الإخلاص الذي يكون في عبادي هو صراط مستقيم لا يسلكه أحد فيضل أو يزل ، لأنّ من اصطفيته أو أخلص لي العمل لا سبيل لك عليه. وقيل : لما قسم إبليس ذرية آدم إلى غاو ومخلص قال تعالى : هذا أمر مصيره إليّ ، ووصفه بالاستقامة ، أي : هو حق ، وصيرورتهم إلى هذين القسمين ليست لك. والعرب تقول : طريقك في هذا الأمر على فلان أي : إليه يصير النظر في أمرك. وقال الزمخشري : هذا طريق حق عليّ أن أراعيه ، وهو أن يكون لك سلطان على عبادي ، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته انتهى. فجعل هذا إشارة إلى انتفاء تزيينه وإغوائه. وكونه ليس له عليهم سلطان ، فكأنه أخذ الإشارة إلى ما استثناه إبليس ، وإلى ما قرره تعالى بقوله : إن عبادي. وتضمن كلامه مذهب المعتزلة. وقال صاحب اللوامح : أي : هذا صراط عهدة استقامته عليّ. وفي حفظه أي : حفظه عليّ ، وهو مستقيم غير معوج. وقال الحسن : معنى عليّ إليّ. وقيل : عليّ كأنه من مرّ عليه مرّ عليّ أي : على رضواني وكرامتي. وقرأ الضحاك ، وابراهيم. وأبو رجاء ، وابن سيرين ، ومجاهد ، وقتادة ، وقيس بن عباد ، وحميد ، وعمرو بن ميمون ، وعمارة بن أبي حفصة ، وأبو شرف مولى كندة ، ويعقوب : عليّ مستقيم أي : عال لارتفاع شأنه. وهذه القراءة تؤكد أنّ الإشارة إلى الإخلاص وهو أقرب إليه. والإضافة في قوله : إنّ عبادي ، إضافة تشريف أي : أنّ المختصين بعبادتي ، وعلى هذا لا يكون قوله : إلا من اتبعك ، استثناء متصلا ، لأنّ من اتبعه لم يندرج في قوله : إنّ عبادي : وإن كان أريد بعبادي عموم الخلق فيكون : إلّا من اتبعك استثناء من عموم ، ويكون فيه دلالة على استثناء الأكثر ، وبقاء المستثنى منه أقل ، وهي مسألة اختلف فيها النحاة. فأجاز

٤٧٨

ذلك الكوفيون وتبعهم من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن خروف ، ودلائل ذلك مسطرة في كتب النحو. والذي يظهر أنّ إبليس لما استثنى العباد المخلصين كانت الصفة ملحوظة في قوله : إنّ عبادي أي : عبادي المخلصين الذين ذكرتهم ليس لك عليهم سلطان. ومن في من الغاوين لبيان الجنس أي : الذين هم الغاوون. وقال الجبائي : هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم كما تقول العامة ، وربما نسبوا ذلك إلى السحرة. قال : وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه ، ولموعدهم مكان وعد اجتماعهم والضمير للغاوين. وقال ابن عطية : وأجمعين تأكيد ، وفيه معنى الحال انتهى. وهذا جنوح لمذهب من يزعم أنّ أجمعين تدل على اتحاد الوقت ، والصحيح أنّ مدلوله مدلول كلهم.

والظاهر أن جهنم هي واحدة ، ولها سبعة أبواب. وقيل : أبواب النار أطباقها وأدراكها ، فأعلاها للموحدين ، والثاني لليهود ، والثالث للنصارى ، والرابع للصائبين ، والخامس للمجوس ، والسادس للمشركين ، والسابع للمنافقين. وقرأ ابن القعقاع : جز بتشديد الزاي من غير همز ، ووجهه أنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي ، ثم وقف بالتشديد نحو : هذا فرج ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف. واختلف عن الزهري ، ففي كتاب ابن عطية : وقرأ ابن شهاب بضم الزاي ، ولعله تصحيف من الناسخ ، لأني وجدت في التحرير : وقرأ ابن وثاب بضمها مهموزا فيهما. وقرأ الزهري بتشديد الزاي دون همز ، وهي قراءة ابن القعقاع. وأنّ فرقة قرأت بالتشديد منهم : ابن القعقاع. وفي كتاب الزمخشري وكتاب اللوامح : أنه قرأ بالتشديد ، وفي اللوامح هو وأبو جعفر.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ

٤٧٩

مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى

٤٨٠