البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)

الرماد معروف ، وقال ابن عيسى : هو جسم يسحقه الإحراق سحق الغبار ، ويجمع على رمد في الكثرة وأرمدة في القلة ، وشذ جمعه على أفعلاء قالوا : أرمداء ، ورماد رمدد إذا صار هباء أرق ما يكون. الجزع : عدم احتمال الشدة ، وهو نقيض الصبر. قال الشاعر :

جزعت ولم أجزع من البين مجزعا

وعذبت قلبا بالكواعب مولعا

المصرخ : المغيث. قال الشاعر :

فلا تجزعوا إني لكم غير مصرخ

وليس لكم عني غناء ولا نصر

٤٢١

والصارخ المستغيث ، صرخ يصرخ صرخا وصراخا وصرخة. قال سلامة بن جندل :

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع

كان الصراخ له قرع الظنابيب

واصطرخ بمعنى صرخ ، وتصرخ تكلف الصراخ ، واستصرخ استغاث فقال : استصرخني فاصرخته والصريخ مصدر كالتريخ ويوصف به المغيث والمستغيث من الأضداد. الفرع الغصن من الشجرة. ويطلق على ما يولد من الشيء ، والفرع الشعر يقال : رجل أفرع وامرأة فرعاء لمن كثر شعره. وقال الشاعر : وهو امرؤ القيس بن حجر :

وفرع يغشى المتن أسود فاحم

اجتث الشيء اقتلعه ، وجث الشيء قلعه ، والجثة شخص الإنسان قاعدا وقائما. وقال لقيط الأياري :

هو الجلاء الذي يجتث أصلكم

فمن رأى مثل ذا آت ومن سمعا

البوار : الهلاك. قال الشاعر :

فلم أر مثلهم أبطال حرب

غداة الحرب إذ خيف البوار

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) : ارتفاع مثل على الابتداء ، وخبره محذوف تقديره عند سيبويه. فيما يتلى عليكم ، أو يقص. والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة ، وأعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال كأنه قيل : كيف مثلهم؟ فقيل : أعمالهم كرماد ، كما تقول : صفة زيد عرضه مصون ، وماله مبذول. وقال ابن عطية : ومذهب الكسائي والفراء أنه على إلغاء مثل ، وأنّ المعنى : الذين كفروا أعمالهم كرماد. وقال الحوفي : مثل رفع بالابتداء ، وأعمالهم بدل من مثل بدل اشتمال. كما قال الشاعر :

ما للجمال مشيها وئيدا

أجندلا يحملن أم حديدا

وكرماد الخبر. وقال الزمخشري : أو يكون أعمالهم بدلا من مثل الذين كفروا على تقدير : مثل أعمالهم ، وكرماد الخبر. وقال ابن عطية : وقيل هو ابتداء ، وأعمالهم ابتداء ثان ، وكرماد خبر للثاني ، والجملة خبر الأول. وهذا عندي أرجح الأقوال ، وكأنك قلت : المتحصل مثالا في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة وهي أعمالهم في فسادها وقت الحاجة ، وتلاشيها كالرماد الذي تذروه الريح ، وتفرقه بشدتها حتى لا يبقى له أثر ، ولا

٤٢٢

يجتمع منه شيء انتهى. وهذا القول الذي رجحه ابن عطية قال الحوفي ، وهو لا يجوز ، لأن الجملة الواقعة خبرا عن المبتدأ الأول الذي هو مثل عارية من رابط يعود على المثل ، وليست نفس المبتدأ في المعنى ، فلا تحتاج إلى رابط. وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام ، وعتق الرقاب ، وفداء الأسارى ، وعقر الإبل للأضياف ، وإغاثة الملهوفين ، والإجارة ، وغير ذلك. شبهها في حبوطها وذهابها هباء منثورا لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به ، وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاصف. وقرأ نافع ، وأبو جعفر : الرياح على الجمع ، والجمهور على الأفراد. ووصف اليوم بقوم عاصف ، وإن كان من صفة الريح على سبيل التجوز ، كما قالوا : يوم ما حل وكيل نائم. وقال الهروي : التقدير في يوم عاصف الريح ، فحذف لتقدم ذكرها كما قال الشاعر :

إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف

يريد كاسف الشمس. وقيل : عاصف من صفة الريح ، إلا أنه لما جاء بعد اليوم اتبع إعرابه كما قيل : جحر ضب خرب ، يعني : إنه خفض على الجوار. وقرأ ابن أبي إسحاق ، وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن : في يوم عاصف على إضافة اليوم لعاصف ، وهو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، تقديره : في يوم ريح عاصف. وتقدم تفسير العصوف في يونس في قوله : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) (١) وعلى قول من أجاز إضافة الموصوف إلى صفته يجوز أن تكون القراءة منه : لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء ، أي : لا يرون له أثرا من ثواب ، كما لا يقدر من الرماد المطير بالريح على شيء. وقيل : لا يقدرون من ثواب ما كسبوا ، فهو على حذف مضاف. وفي الصحيح عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : يا رسول الله ، إنّ ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، هل ذلك نافعه؟ قال : «لا ينفعه لأنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وفي الصحيح أيضا : «إن الكافر ليطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله منها» ذلك إشارة إلى كونهم بهذه الحال. وعلى مثل هذا الغرر البعيد الذي يعمق فيه صاحبه ، وأبعد عن طريق النجاة ، والبعيد عن الحق ، أو الثواب. وفي البقرة : (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا) (٢) على شيء من التفنن في الفصاحة ، والمغايرة في التقديم والتأخير ، والمعنى واحد.

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٢٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٤.

٤٢٣

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ. وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) : قرأ السلمي ألم تر بسكون الراء ، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وتوجيه آخر وهو أن ترى حذفت العرب ألفها في قولهم : قام القوم ولو تر ما زيد ، كما حذفت ياء لا أبالي في لا أبال ، فلما دخل الجازم تخيل أنّ الراء هي آخر الكلمة فسكنت للجازم كما قالوا في : لا أبالي لم أبل ، تخيلوا اللام آخر الكلمة. والرؤية هنا بمعنى العلم ، فهي من رؤية القلب. وقرأ الإخوان : خالق اسم فاعل ، والأرض بالخفض. قرأ باقي السبعة : خلق فعلا ماضيا ، والأرض بالفتح. ومعنى بالحق قال الزمخشري : بالحكمة ، والغرض الصحيح ، والأمر العظيم ، ولم يخلقها عبثا ولا شهوة. وقال ابن عطية : بالحق أي بما يحق من جهة مصالح عباده ، وإنفاذ سابق قضائه ، وليدل عليه وعلى قدرته. وقيل : بقوله وكلامه. وقيل : بالحق حال أي محقا ، والظاهر أن قوله : يذهبكم ، خطاب عام للناس. وعن ابن عباس : خطاب للكفار. ويأت بخلق جديد : يحتمل أن يكون المعنى : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بناس آخرين من جنسكم آدميين ، ويحتمل من غير جنسكم. والأول قول جمهور المفسرين ، وتقدم نحو هذين الاحتمالين للمفسرين في قوله في النساء : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) (١) وبينا في ذلك أنه لا يحتمل إلا الوجه الأول. وما ذلك أي : وما ذهابكم والإتيان بخلق جديد بممتنع ولا متعذر عليه تعالى ، لأنه تعالى هو القادر على ما يشاء. وقال الزمخشري : لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ، فإذا خلص له الداعي إلى شيء ، وانتفى الصارف ، تكون من غير توقف كتحريك أصبعك. وإذا دعا إليه داع ولم يعترض من دونه صارف انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال لقوله : القادر ، لأنهم يثبتون القادرية وينفون القدرة ، ولتشبيه فعله تعالى بفعل العبد في قوله : كتحريك أصبعك. وعندنا أن تحريك أصبعنا ليس إلا بقدرة الله تعالى ، وأنّ ما نسب إلينا من القدرة ليس مؤثرا في إيجاد شيء.

وقال الزمخشري أيضا : وهذه الآية بيان لإبعادهم في الضلال ، وعظيم خطبهم في الكفر بالله ، لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة ، وحكمته البالغة ، وأنه هو

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٣٣.

٤٢٤

الحقيق بأن يعبد ويخاف عقابه ، ويرجى ثوابه في دار الجزاء انتهى. وبرزوا : أي ظهروا من قبورهم إلى جزاء الله وحسابه. وقال الزمخشري : ومعنى بروزهم لله ، والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ، ويظنون أنّ ذلك خاف على الله ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم ، وعلموا أن الله لا تخفى عليه خافية. وقال ابن عطية : وبرزوا معناه صاروا بالبراز وهي الأرض المتسعة ، فاستعير ذلك لجميع يوم القيامة. وقال أبو عبد الله الرازي : تأويل الحكماء أنّ النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها ، وذلك هو البروز لله تعالى. وهذا الرجل كثيرا ما يورد كلام الفلاسفة وهم مباينون لأهل الشرائع في تفسير كلام الله تعالى المنزل بلغة العرب ، والعرب لا تفهم شيئا من مفاهيم أهل الفلسفة ، فتفسيرهم كاللغز والأحاجي ، ويسميهم هذا الرجل حكماء ، وهم من أجهل الكفرة بالله تعالى وبأنبيائه. والضمير في وبرزوا عائد على الخلق المحاسبين ، وعبر بلفظ الماضي لصدق المخبر به ، فكأنه قد وقع. وقرأ زيد بن علي : وبرزوا مبنيا للمفعول ، وبتشديد الراء. والضعفاء : الأتباع ، والعوام. وكتب بواو في المصحف قبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ، ومثله علمؤا بني إسرائيل. والذين استكبروا : هم رؤساؤهم وقاداتهم ، استغووا الضعفاء واستتبعوهم. واستكبروا تكبروا ، وأظهروا تعظيم أنفسهم. أو استكبروا عن اتباع الرسل وعبادة الله. وتبعا : يحتمل أن يكون اسم جمع لتابع ، كخادم وخدم ، وغائب وغيب. ويحتمل أن يكون مصدرا كقوله : عدل ورضا. وهل أنتم مغنون؟ استفهام معناه توبيخهم إياهم وتقريعهم ، وقد علموا أنهم لن يغنوا والمعنى : إنا اتبعناكم فيما كنتم فيه من الضلال كما أمرتمونا وما أغنيتم عنا شيئا ، فلذلك جاء جوابعهم : لو هدانا الله لهديناكم ، أجابوا بذلك على سبيل الاعتذار والخجل ورد الهداية لله تعالى ، وهو كلام حق في نفسه. وقال الزمخشري : من الأولى للتبيين ، والثانية للتبعيض ، كأنه قيل : هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله؟ ويجوز أن يكونا للتبعيض معا بمعنى : هل أنتم مغنون عنا بعض شيء ، هو بعض عذاب الله أي : بعض بعض عذاب الله انتهى. وهذان التوجيهان اللذان وجههما الزمخشري في من في المكانين يقتضي أولهما التقديم في قوله : من شيء على قوله : من عذاب الله ، لأنه جعل من شيء هو المبين بقوله : من عذاب الله. ومن التبيينية يتقدم عليها ما تبينه ، ولا يتأخروا لتوجيه لثاني ، وهو بعض شيء ، هو بعض العذاب يقتضي أن يكون بدلا ، فيكون بدل عام

٤٢٥

من خاص ، لأنّ من شيء أعم من قوله : من عذاب الله ، وإن عنى بشيء شيئا من العذاب فيؤول المعنى إلى ما قدر ، وهو بعض بعض عذاب الله. وهذا لا يقال ، لأنّ بعضية الشيء مطلقة ، فلا يكون لها بعض. ونص الحوفي ، وأبو البقاء : على أنّ من في قوله : من شيء ، زائدة. قال الحوفي : من عذاب الله متعلق بمغنون ، ومن في من شيء لاستغراق الجنس ، زائدة للتوكيد. وقال أبو البقاء : ومن زائدة أي : شيئا كائنا من عذاب الله ، ويكون محمولا على المعنى تقديره : هل تمنعون عنا شيئا؟ ويجوز أن يكون شيء واقعا موقع المصدر أي : غنى فيكون من عذاب الله متعلقا بمغنون انتهى. ومسوغ الزيادة كون الخبر في سياق الاستفهام ، فكان الاستفهام دخل عليه وباشره ، وصارت الزيادة هنا كالزيادة في تركيب : فهل تغنون. وقال الزمخشري : أجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم بأنّ الله لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم ، ولم يضلوهم إما موركين الذنب في ضلالهم ، وإضلالهم على الله كما حكى الله عنهم. وقالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ، ولو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ، يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا ، ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) (١) انتهى. وحكى أبو عبد الله الرازي عن الزمخشري أنهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه ، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء. قال أبو عبد الله الرازي : واعلم أنّ المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب على أهل القيامة ، فكان هذا القول منه مخالفا لأصول مشايخه ، لا يقبل منه. وقال الزمخشري أيضا : ويجوز أن يكون المعنى : لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا. واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان. قال أبو عبد الله الرازي : وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأن قال : لا يجوز حمل هذا على اللطف ، لأن ذلك قد فعله الله. وقيل : لو خلصنا الله من العذاب وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم. وقال الزمخشري في بسط هذا القول : لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم أي : لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة ، كما سلكنا بكم سبيل الهلكة انتهى. وقيل : ويدل على أنّ المراد بالهدى الهدى إلى طريق الجنة ، أنه هو الذي التمسوه وطلبوه ، فوجب أن يكون المراد. وقال ابن عباس : لو أرشدنا الله لأرشدناكم. والظاهر أنّ قوله : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا إلى

__________________

(١) سورة المجادلة : ٥٨ / ١٨.

٤٢٦

آخره ، داخل تحت قول المستكبرين ، وجاءت جملة بلا واو عطف ، كأن كل جملة أنشئت مستقلة غير معطوفة ، وإن كانت مرتبطا بعضها ببعض من جهة المعنى لأنّ سؤالهم : هل أنتم مغنون عنا؟ إنما كان لجزعهم مما هم فيه فقالوا ذلك : سوّوا بينهم ، وبينهم في ذلك لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها ، يقولون : ما هذا الجزع والتوبيخ ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر. ولما قالوا : لو هدانا الله ، أتبعوا ذلك بالإقناط من النجاة فقالوا : ما لنا من محيص : أي منجى ومهرب ، جزعنا أم صبرنا. وقيل : سواء علينا من كلام الضعفاء والذين استكبروا والتقدير : قالوا جميعا سواء علينا يخبرون عن حالهم. وتقدم الكلام في مثل هذه التسوية في أول البقرة ، والظاهر أن هذه المحاورة بين الضعفاء والرؤساء هي في موضع العرض وقت البروز بين يدي الله. وعن محمد بن كعب ، وابن زيد : أن قولهم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ، بعد صبرهم في النار خمسمائة عام ، وبعد جزعهم مثلها.

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر محاورة الاتباع لرؤسائهم الكفرة ، ذكر محاورة الشيطان وأتباعه من الإنس ، وذلك لاشتراك الرؤساء والشياطين في التلبس بالإضلال. والشيطان هنا إبليس ، وهو رأس الشياطين. وفي حديث الشفاعة من حديث عقبة بن عامر : «أن الكافرين يقولون : وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشع لنا ، فيقولون : ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ، فقم أنت فاشفع لنا ، فإنّك أضللتنا ، فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمه أحد ويقول عند ذلك : إن الله قد وعدكم» الآية. وعن الحسن : يقف إبليس خطيبا في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعا فيقول : إنّ الله وعدكم وعد الحق ، يعني : البعث ، والجنة ، والنار ، وثواب المطيع ، وعقاب العاصي ، فصدقكم وعده ، ووعدتكم أن لا بعث ولا جنة ولا نار ، ولا ثواب ولا عقاب ، فأخلفتكم. قضي الأمر تعين قوم للجنة وقوم للنار ، وذلك كله في الموقف ، وعليه يدل حديث الشفاعة أو بعد حصول أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، ويدل عليه ما ذكرناه عن الحسن ، وهو تأويل الطبري. وقيل : قضي الأمر قطع وفرغ منه ، وهو الحساب ، وتصادر الفريقين إلى مقربهما. ووعد الحق يحتمل أن يكون من

٤٢٧

إضافة الموصوف إلى صفته أي : الوعد الحق ، وإن يكون الحق صفة الله أي : وعده ، وأن يكون الحق الشيء الثابت وهو البعث والجزاء على الأعمال أي : فوفى لكم بما وعدكم ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم ، وإلا أنّ دعوتكم الظاهر أنه استثناء منقطع ، لأنّ دعاءه إياهم إلى الضلالة ووسوسته ليس من جنس السلطان ، وهو الحجة البينة. قيل : ويحتمل أن يريد بالسلطان الغلبة والتسليط والقدرة أي : ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة مني ، بل عرضت عليكم شيئا فأتى رأيكم عليه. وقيل : هو استثناء متصل ، لأنّ القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة يكون بالقهر من الحامل ، وتارة يكون بتقوية الداعية في قلبه وذلك بإلقاء الوسواس إليه ، فهذا نوع من أنواع التسليط. وقيل : وظاهر هذا الكلام يدل على أنّ الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه ، وإزالة عقله ، فلا تلوموني. وقرىء : فلا يلوموني بالياء على الغيبة ، وهو التفات يريد في ما آتيتموه من الضلال ، ولوموا أنفسكم في سوء نظركم واستجابتكم لدعائي من غير تثبت ولا حجة. وقال الزمخشري : ولوموا أنفسكم حيث اغتررتم ، وأطعتموني إذ دعوتكم ، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم ، وهذا دليل على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة والسعادة ويحصلها لنفسه ، وليس من الله إلا التمكين ، ولا من الشيطان إلا التزيين ، ولو كان الأمر كما يزعم المجبرة لقال : فلا تلوموني ولا أنفسكم ، فإنّ الله قد قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه انتهى. وهو على طريق الاعتزال.

ما أنا بمصرخكم قال ابن عباس : بنافعكم. وقال ابن جبير : بمنقذكم ، وقال الربيع : بمنجيكم ، وقال مجاهد : بمغيثكم ، وكلها أقوال متقاربة. وقرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش ، وحمزة : بمصرخي بكسر الياء ، وطعن كثير من النحاة في هذه القراءة. قال الفراء : لعلها من وهم القراء ، فإنه قل من سلم منهم من الوهم ، ولعله ظن أنّ الباء في بمصرخي خافضة للفظ كله ، والباء للمتكلم خارجة من ذلك. وقال أبو عبيد : نراهم غلطوا ، ظنوا أنّ الباء تكسر لما بعدها. وقال الأخفش : ما سمعت هذا من أحد من العرب ، ولا من النحويين. وقال الزجاج : هذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة ، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف. وقال النحاس : صار هذا إجماعا ، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله على الشذوذ. وقال الزمخشري : هي ضعيفة ، واستشهدوا لها ببيت مجهول :

قال لها هل لك يا تافيّ

قالت له ما أنت بالمرضي

٤٢٨

وكأنه قدر ياء الإضافة ساكنة ، وقبلها ياء ساكنة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين ، ولكنه غير صحيح ، لأنّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو : عصاي فما بالها ، وقبلها باء. (فإن قلت) : جرت الياء الأولى مجرى الحر الصحيح لأجل الإدغام ، كأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن ، فحركت بالكسر على الأصل. (قلت) : هذا قياس حسن ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات انتهى. أما قوله : واستشهدوا لها ببيت مجهول ، قد ذكر غيره أنه للأغلب العجلى ، وهي لغة باقية في أفواه كثير من الناس إلى اليوم ، يقول القائل : ما فيّ أفعل كذا بكسر الياء. وأما التقدير الذي قال : فهو توجيه الفراء ، ذكره عنه الزجاج. وأما قوله ، في غضون كلامه حيث قبلها ألف ، فلا أعلم حيث يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف نحو : قعد زيد حيث أمام عمر وبكر ، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع. وأما قوله : لأن ياء الإضافة إلى آخره ، قد روى سكون الياء بعد الألف. وقرأ بذلك القراء نحو : محياي ، وما ذهب إليه من ذكرنا من النحاة لا ينبغي أن يلتفت إليه. واقتفى آثارهم فيها الخلف ، فلا يجوز أن يقال فيها : إنها خطأ ، أو قبيحة ، أو رديئة ، وقد نقل جماعة من أهل اللغة أنها لغة ، لكنه قلّ استعمالها. ونص قطرب على أنها لغة في بني يربوع. وقال القاسم بن معن وهو من رؤساء النحويين الكوفيين : هي صواب ، وسأل حسين الجعفي أبا عمرو بن العلاء وذكر تلحين أهل النحو فقال : هي جائزة. وقال أيضا : لا تبالي إلى أسفل حركتها ، أو إلى فوق. وعنه أنه قال : هي بالخفض حسنة. وعنه أيضا أنه قال : هي جائزة. وليست عند الاعراب بذلك ، ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم على أبي عمرو تحسينها ، فأبو عمرو إمام لغة ، وإمام نحو ، وإمام قراءة ، وعربي صريح ، وقد أجازها وحسنها ، وقد رووا بيت النابغة :

عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة

لوالده ليست بذات عقارب

بخفض الياء من عليّ. وما في بما أشركتموني مصدرية ، ومن قبل متعلق بأشركتموني أي : كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم أي : في الدنيا ، كقوله : (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) (١) وقال : ويوم القيامة يكفرون بشرككم. وقيل : موصولة

__________________

(١) سورة الممتحنة : ٦٠ / ٤.

٤٢٩

بمعنى الذي ، والتقدير : كفرت بالصنم الذي أشركتمونيه ، فحذف العائد. وقيل : من قبل متعلق بكفرت ، وما بمعنى الذي أي : كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله عزوجل. تقول : شركت زيدا ، فإذا أدخلت همزة النقل قلت : أشركت زيدا عمرا ، أي جعلته له شريكا. إلا أن في هذا القول إطلاق ما على الله تعالى ، وما الأصح فيها أنها لا تطلق على آحاد من يعلم. وقال الزمخشري : ونحو ما هذه يعني في إطلاقها على الله ما في قولهم : سبحان ما سخركن لنا انتهى. ومن منع ذلك جعل سبحان علما على معنى التسبيح ، كما جعل برة علما للمبرة. وما مصدرية ظرفية ، ويكون ذلك من إبليس إقرارا على نفسه بكفره الأقدم أي : خطيئتي قبل خطيئتكم. فلا إصراخ عندي أنّ الظالمين لهم عذاب أليم ، الظاهر أنه من تمام كلام إبليس ، حكى الله عنه ما سيقوله في ذلك الوقت ليكون تنبيها للسامعين علي النظر في عاقبتهم ، والاستعداد لما لا بد منه. وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان ما يقول ، يخافوا ، ويعلموا ما يخلصهم منه ، وينجيهم. وقيل : هو من كلام الخزنة يوم ذاك. وقيل : من كلام الله تعالى. ولأبي عبد الله الرازي كلام هنا في الشيطان والملائكة يوقف عليه من تفسيره.

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) : لما جمع الفريقين في قوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) (١) وذكر شيئا من أحوال الكفار ، ذكر ما آل إليه أمر المؤمنين من إدخالهم الجنة. وقرأ الجمهور : وأدخل ماضيا مبنيا للمفعول. وقرأ الحسن ، وعمرو بن عبيد : وأدخل بهمزة المتكلم مضارع أدخل أي : وأدخل أنا. وعلى قراءة الجمهور يحتمل أن يكون الفاعل الملائكة ، والظاهر تعلق بإذن ربهم بأدخل. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : فبم يتعلق يعني بإذن ربهم في القراءة الأخرى ، وقولك وأدخلهم أنا بإذن ربهم كلام غير ملئتم؟ (قلت) : الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله بإذن ربهم بما بعده أي : تحيتهم فيها سلام. بإذن ربهم يعني : أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم انتهى. فظاهر كلامه أنّ بإذن ربهم معمول لقوله : تحيتهم ، ولذلك قال : يعني أنّ الملائكة يحيونهم بإذن ربهم ، وهذا لا يجوز ، لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل بحرف مصدري والفعل عليه ، وهو غير جائز. وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي الحسن : أدخل برفع اللام على الاستقبال بإخبار الله

__________________

(١) سورة ابراهيم : ١٤ / ٢١.

٤٣٠

تعالى عن نفسه ، فيصير بذلك بإذن ربهم ألطف لهم وأحنى عليهم ، وتقدم تفسير (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (١) في أوائل سورة يونس.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ. يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) : تقدم الكلام في ضرب مع المثل في أوائل البقرة ، فكان يغني ذلك عن الكلام فيه هنا ، إلا أنّ المفسرين أبدوا هنا تقديرات ، فأعرب الحوفي والمهدوي وأبو البقاء مثلا مفعولا بضرب ، وكلمة بدل من مثلا. وإعرابهم هذا تفريع ، على أنّ ضرب مثل لا يتعدى لا إلى مفعول واحد. وقال ابن عطية : وأجازه الزمخشري مثلا مفعول بضرب ، وكلمة مفعول أول تفريعا على أنها مع المثل تتعدى إلى اثنين ، لأنها بمعنى جعل. وعلى هذا تكون شجرة خبر مبتدأ محذوف أي : جعل كلمة طيبة مثلا هي أي : الكلمة كشجرة طيبة ، وعلى البدل تكون كشجرة نعتا للكلمة. وأجاز الزمخشري : وبدأ به أن تكون كلمة نصبا بمضمر أي : جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، وهو تفسير لقوله : ضرب الله مثلا ، كقولك : شرف الأمير زيدا كساه حلة ، وحمله على فرس انتهى. وفيه تكلف إضمار لا ضرورة تدعو إليه.

وقرىء شاذا كلمة طيبة بالرفع. قال أبو البقاء : على الابتداء ، وكشجرة خبره انتهى. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير : هو أي المثل كلمة طيبة كشجرة ، وكشجرة نعت لكلمة ، والكلمة الطيبة هي : لا له إلا الله قاله ان عباس ، أو الإيمان قاله مجاهد وابن جريج ، أو المؤمن نفسه قال عطية العوفي والربيع ، أو جميع طاعاته أو القرآن قاله الأصم ، أو دعوة الإسلام قاله ابن بحر ، أو الثناء على الله أو التسبيح والتنزيه والشجرة الطيبة المؤمن قاله ابن عباس ، أو جوزة الهند قاله علي وابن عباس ، أو شجرة في الجنة قاله ابن عباس أيضا ، أو النخلة وعليه أكثر المتأولين وهو قول : ابن مسعود ، وابن عباس ، وأنس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وابن زيد ، وجاء ذلك نصا من حديث ابن عمر مما خرجه الدار قطني عنه قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر الآية فقال : «أتدرون ما هي فوقع في نفسي أنها النخلة» الحديث. وقال أبو العالية : أتيت أنس بن مالك فجيء بطبق عليه رطب فقال

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ١٠.

٤٣١

أنس : كل يا أبا العالية ، فإنها الشجرة الطيبة التي ذكرها الله في كتابه ثم قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصاع بسر فتلا هذه الآية. وفي الترمذي من حديث أنس نحو هذا. وقال لزمخشري : كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة ، وشجرة التين ، والعنب ، والرمان ، وغير ذلك انتهى.

وقد شبه الرسول المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة ، فلا يبعد أن يشبه أيضا بشجرتها. أصلها ثابت أي : في الأرض ضارب بعروقه فيها. وقرأ نس بن مالك : كشجرة طيبة ثابت أصلها ، أجريت الصفة على الشجرة لفظا وإن كانت في الحقيقة للسببي. وقراءة الجماعة فيها إسناد الثبوت إلى السببي لفظا ومعنى ، وفيها حسن التقسيم ، إذ جاء أصلها ثابت وفرعها في السماء ، يريد بالفرع أعلاها ورأسها ، وإن كان المشبه به ذا فروع ، فيكون من باب الاكتفاء بلفظ الجنس. ومعنى في السماء : جهة العلو والصعود لا المظلة. وفي الحديث : «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعا» ولما شبهت الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة كانت الكلمة أصلها ثابت في قلوب أهل الإيمان ، وما يصدر عنها من الأفعال الزكية والأعمال الصالحة هو فرعها يصعد إلى السماء إلى الله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (١) وما يترتب على ذلك العمل وهو ثواب الله هو جناها ، ووصف هذه الشجرة بأربعة أوصاف : الأول قوله : طيبة ، أي كريمة المنبت ، والأصل في الشجرة له لذة في المطعم. قال الشاعر :

طيب الباءة سهل ولهم

سبل إن شئت في وحش وعر

أي ساحتهم سهلة طيبة. الثاني : رسوخ أصلها ، وذلك يدل على تمكنها ، وأنّ الرياح لا تقصفها ، فهي بطيئة الفناء ، وما كان كذلك حصل الفرح بوجدانه. والثالث : علو فرعها ، وذلك يدل على تمكن الشجرة ورسوخ عروقها ، وعلى بعدها عن عفونات الأرض ، وعلى صفائها من الشوائب. الرابع : ديمومة وجود ثمرتها وحضورها في كل الأوقات. والحين في اللغة قطعة من الزمان قال الشاعر :

تناذرها الراقون من سوء سمها

تطلقه حينا وحينا تراجع

والمعنى : تعطي جناها كل وقت وقته الله له. وقال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ،

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ١٠.

٤٣٢

والحسن ، أي كل سنة ، ولذلك قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والحكم ، وحماد ، وجماعة من الفقهاء : من حلف أن لا يفعل شيئا حينا فإنه لا يفعله سنة ، واستشهدوا بهذه الآية. وقيل : ثمانية أشهر قاله علي ومجاهد ، ستة أشهر وهي مدة بقاء الثمر عليها.

وقال ابن المسيب : الحين شهران ، لان النخلة تدوم مثمرة شهرين. وقيل : لا تتعطل من ثمر تحمل في كل شهر ، وهي شجرة جوز الهند. وقال ابن عباس أيضا والضحاك ، والربيع : كل حين أي كل غدوة وعشية ، ومتى أريد جناها ويتخرج على أنها شجرة في الجنة. والتذكر المرجو بضرب المثل هو التفهم والتصور للمعاني المدركة بالعقل ، فمتى أبرزت بالمحسوسات لم ينازع فيها الحس والخيال والوهم ، وانطبق المعقول على المحسوس ، فحصل الفهم والوصول إلى المطلوب. والكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر على قول الجمهور. وقال مسروق : الكذب ، وقال : إن تجر دعوة الكفر وما يعزى إليه الكافر. وقيل : كل كلام لا يرضاه الله تعالى. وقرأ أبي : وضرب الله مثلا كلمة خبيثة ، وقرىء : ومثل كلمة بنصب مثل عطفا على كلمة طيبة. والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل قاله الأكثرون : ابن عباس ، ومجاهد ، وأنس بن مالك ، ورواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الزجاج وفرقة : شجرة الثوم. وقيل : شجرة الكشوت ، وهي شجرة لا ورق لها ولا أصل قال : وهي كشوت فلا أصل ولا ثمر. وقال ابن عطية : ويرد على هذه الأقوال أن هذه كلها من النجم وليست من الشجر ، والله تعالى إنما مثل بالشجر فلا تسمى هذه شجرة إلا بتحوّز ، فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الثوم والبصل «من أكل من هذه الشجرة» وقيل : الطحلبة. وقيل : الكمأة. وقيل : كل شجر لا يطيب له ثمر. وعن ابن عباس : هي الكافر ، وعنه أيضا : شجرة لم تخلق على الأرض. وقال ابن عطية : والظاهر عندي أنّ التشبيه وقع بشجرة غير معينة ، إذا وجدت منها هذه الأوصاف هو أن يكون كالعضاة أو شجرة السموم ونحوها إذا اجتثت أي : اقتلعت جثها بنزع الأصول وبقيت في غاية الوهي والضعف ، فتقلبها أقل ريح. فالكافر يرى أنّ بيده شيئا وهو لا يستقر ولا يغني عنه كهذه الشجرة التي يظن بها على بعد الجاهل أنها شيء نافع ، وهي خبيثة الجني غير نافعة انتهى. واجتثت من فوق الأرض مقابل لقوله : أصلها ثابت أي : لم يتمكن لها أصل ولا عرق في الأرض ، وإنما هي نابتة على وجه الأرض. ما لها من قرار أي : استقرار. يقال : أقر الشيء قرارا ثبت ثباتا ، شبه بهذه الشجرة القول الذي لم يعضد بحجة ، فهو لا يثبت بل يضمحل عن قريب لبطلانه ، والقول الثابت هو الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه ، واطمأنت إليه

٤٣٣

نفسه. وتثبيتهم به في الدنيا كونهم لو فتنوا عن دينهم في الدنيا لثبتوا عليه وما زلوا ، كما جرى لأصحاب الأخدود ، والذين نشروا بالمناشير ، وكشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، كما ثبت جرجيس وشمعون وبلال حتى كان يعذب بالرمضاء وهو يقول : أحد أحد. وتثبيتهم في الآخرة كونهم إذا سئلوا عند توافق الإشهاد عن معتقدهم ولم يتلعثموا ، ولم يبهتوا ، ولم تحيرهم أهوال الحشر. والذين آمنوا عام من لدن آدم إلى يوم القيامة. وقال طاووس وقتادة وجمهور من العلماء : أن تثبيتهم في الدنيا هو مدة حياة الإنسان ، وفي الآخرة هو وقت سؤاله في قبره ، ورجح هذا القول الطبري. وقال البراء بن عازب وجماعة : في الحياة الدنيا هي وقت سؤاله في قبره ، ورواه البراء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الآخرة هو يوم القيامة عند العرض. وقيل : معنى تثبيته في الحياة الدنيا وفي الآخرة هو حياته على الإيمان ، وحشره عليه. وقيل : التثبيت في الدنيا الفتح والنصر ، وفي الآخرة الجنة والثواب. وما صح عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث البراء من تلاوته عند إيعاد المؤمن في قبره ، وسئل وشهد شهادة الإخلاص قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا الآية ، لا يظهر منه يعني : أن الحياة الدنيا هي حياة الإنسان ، وأن الآخرة في القبر ، ولا أن الحياة الدنيا هي في القبر ، وأن الآخرة هي يوم القيامة ، بل اللفظ محتمل. ومعنى يثبت : يديمهم عليه ، ويمنعهم من الزلل. ومنه قول عبد الله بن رواحة :

فثبت الله ما آتاك من حسن

تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا

والظاهر أنّ بالقول الثابت متعلق بقوله : يثبت. وقيل : يتعلق بآمنوا. وسؤال العبد في قبره معتقد أهل السنة. ويضل الله الظالمين أي : الكافرين لمقابلتهم بالمؤمنين ، وإضلالهم في الدنيا كونهم لا يثبتون في مواقف الفتن ، وتزل أقدامهم وهي الحيرة التي تلحقهم ، إذ ليسوا متمسكين بحجة. وفي الآخرة هو اضطرابهم في جوابهم. ولما تقدم تشبيه الكلمة الطيبة على تشبيه الكلمة الخبيثة ، تقدم في هذا الكلام من نسبت إليه الكلمة الطيبة وتلاه من نسبت إليه الكلمة الخبيثة. ولما ذكر تعالى ما فعل بكل واحد من القسمين ذكر أنه لا يمكن اعتراض فيما خص به كل واحد منهما ، إذ ذاك راجع إلى مشيئته تعالى ، إنّ الله يفعل ما يشاء ، لا يسئل عما يفعل. وقال الزمخشري : ويفعل الله ما يشاء أي : توجيه الحكمة ، لأنّ مشيئة الله تابعة للحكمة من تثبيت المؤمنين وتأييدهم وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم ، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال.

٤٣٤

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ. وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) : لما ذكر حال المؤمنين وهداهم ، وحال الكافرين وإضلالهم ، ذكر السبب في إضلالهم. والذين بدلوا ظاهره أنه عام في جميع المشركين قاله الحسن ، بدلوا بنعمة الإيمان الكفر. وقال مجاهد : هم أهل مكة ، أنعم الله تعالى عليهم ببعثه رسولا منهم يعلمهم أمر دينه وشرفهم به ، وأسكنهم حرمه ، وجعلهم قوام بيته ، فوضعوا مكان شكر هذه النعمة كفرا. وسأل ابن عباس عمر عنهم فقال : هما الأعراب من قريش أخوالي أي : بني مخزوم ، واستؤصلوا ببدر. وأعمامك أي : بني أمية ، ومتعوا إلى حين. وعن علي نحو من ذلك. وقال قتادة : هم قادة المشركين يوم بدر. وعن علي : هم قريش الذين تحزبوا يوم بدر. وعلى أنهم قريش جماعة من الصحابة والتابعين. وعن علي أيضا : هم منافقو قريش أنعم عليهم بإظهار علم الإسلام بأن صان دماءهم وأموالهم وذراريهم ، ثم عادوا إلى الكفر. وعن ابن عباس : في جبلة بن الأيهم ، ولا يريد أنها نزلت فيه ، لأن نزول الآية قبل قصته ، وقصته كانت في خلافة عمر ، وإنما يريد ابن عباس أنها تخص من فعل فعل جبلة إلى يوم القيامة.

ونعمة الله على حذف مضاف أي : بدلوا شكر نعمة الله كقوله : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (١) أي شكر رزقكم ، كأنه وجب عليهم الشكر فوضعوا مكانه كفرا ، وجعلوا مكان شكرهم التكذيب. قال الزمخشري : ووجه آخر وهو أنهم بدلوا نفس النعمة بالكفر حاصلا لهم الكفر بدل النعمة ، وهم أهل مكة أسكنهم الله حرمه ، وجعلهم قوام بيته ، وأكرمهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكفروا نعمة الله بدل ما ألزمهم من الشكر العظيم ، أو أصابهم الله بالنعمة والسعة لإيلافهم الرحلتين ، فكفروا نعمته ، فضربهم الله بالقحط سبع سنين ، فحصل لهم الكفر بدل النعمة ، وبقي الكفر طوقا في أعناقهم انتهى. ونعمة الله هو المفعول الثاني ، لأنه هو الذي يدخل عليه حرف الجر أي : بنعمة الله ، وكفرا هو المفعول الأول كقوله : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (٢) أي بسيئاتهم حسنات. فالمنصوب هو الحاصل ، والمجرور بالباء أو المنصوب على إسقاطها هو الذاهب ، على هذا لسان العرب ، وهو على خلاف ما يفهمه العوام ، وكثير ممن ينتمي إلى العلم. وقد أوضحنا هذه المسألة في قوله في البقرة : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) (٣) وإذا قدرت مضافا محذوفا وهو

__________________

(١) سورة الواقعة : ٥٦ / ٨٢.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٧٠.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٠٨.

٤٣٥

شكر نعمة الله ، فهو الذي دخلت عليه الباء ثم حذفت ، وإذا لم يقدر مضاف محذوف فالباء دخلت على نعمة ثم حذفت. وأحلوا قومهم أي : من تابعهم على الكفر. وزعم الحوفي وأبو البقاء أنّ كفرا هو مفعول ثان لبدلوا ، وليس بصحيح ، لأنّ بدل من أخوات اختار ، فالذي يباشره حرف الجر هو المفعول الثاني ، والذي يصل إليه الفعل بنفسه لا بواسطة حرف الجر هو المفعول الأول. وأعرب الحوفي وأبو البقاء : جهنم بدلا من دار البوار ، والزمخشري عطف بيان ، فعلى هذا يكون الإحلال في الآخرة. ودار البوار جهنم ، وقاله : ابن زيد. وقيل : عن علي يوم بدر ، وعن عطاء بن يسار : نزلت في قتلى بدر ، فيكون دار البوار أي : الهلاك في الدنيا كقليب بدر وغيره من المواضع التي قتلوا فيه. وعلى هذا أعرب ابن عطية وأبو البقاء : جهنم منصوب على الاشتغال أي : يصلون جهنم يصلونها. ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن أبي عبلة : جهنم بالرفع على أنه يحتمل أن يكون جهنم مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهذا التأويل أولى ، لأنّ النصب على الاشتغال مرجوح من حيث أنه لم يتقدم ما يرجحه ، ولا ما يكون مساويا ، وجمهور القراء على النصب. ولم يكونوا ليقرأوا بغير الراجح أو المساوي ، إذ زيد ضربته أفصح من زيدا ضربته ، فلذلك كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في قراءة ابن أبي عبلة راجحا ، وعلى تأويل الاشتغال يكون يصلونها لا موضع له من الإعراب ، وعلى التأويل الأول جوزوا أن يكون حالا من جهنم ، أو حالا من دار البوار ، أو حالا من قومهم ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : وبئس القرار هي أي : جهنم. وجعلوا لله أندادا أي زادوا إلى كفرهم نعمته أن صيروا له أندادا وهي الأصنام التي اتخذوا آلهة من دون الله.

وقرأ ابن كثير وأبو عمر : وليضلوا هنا ، و (لِيُضِلَّ) (١) في الحج ولقمان والروم بفتح الياء ، وباقي السبعة بضمها. والظاهر أنّ اللام لام الصيرورة والمآل. لما كانت نتيجة جعل الأنداد آلهة الضلال أو الإضلال ، جرى مجرى لام العلة في قولك : جئتك لتكرمني ، على طريقة التشبيه. وقيل : قراءة الفتح لا تحتمل أن تكون اللام لام العاقبة ، وأما بالضم فتحتمل العاقبة. والعلة والأمر بالتمتع أمر تهديد ووعيد على حد قوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٢) قال الزمخشري : تمتعوا إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر ، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه ، مأمورون به ، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ، ولا

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٩ وسورة لقمان : ٣١ / ٦.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٤٠.

٤٣٦

يملكوه لأنفسهم أمرا دونه ، وهو آمر الشهوة والمعنى : إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فإنّ مصيركم إلى النار. ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) (١) انتهى ومصيركم مصدر صار التامة بمعنى رجع. وخبر إنّ هو قوله : إلى النار ، ولا يقال هنا صار بمعنى انتقل ، ولذلك تعدى بإلى أي : فإنّ انتقالكم إلى النار ، لأنه تبقى إنّ بلا خبر ، ولا ينبغي أن يدعي حذفه ، فيكون التقدير : فإن مصيركم إلى النار واقع لا محالة أو كائن ، لأنّ حذف الخبر في مثل هذا التركيب قليل ، وأكثر ما يحذف إذا كان اسم إنّ نكرة ، والخبر جار ومجرور. وقد أجاز الحوفي : أن يكون إلى النار متعلقا بمصيركم ، فعلى هذا يكون الخبر محذوفا.

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ. اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) : لما ذكر تعالى حال الكفار وكفرهم نعمته ، وجعلهم له أندادا ، وتهددهم أمر المؤمنين بلزوم الطاعة والتيقظ لأنفسهم ، وإلزام عمودي الإسلام الصلاة والزكاة قبل مجيء يوم القيامة. ومعمول قل ، محذوف تقديره : أقيموا الصلاة يقيموا. ويقيموا مجزوم على جواب الأمر ، وهذا قول : الأخفش ، والمازني. ورد بأنه لا يلزم من القول إن يقيموا ، ورد هذا الردّ بأنه أمر المؤمنين بالإقامة لا الكافرين ، والمؤمنون متى أمرهم الرسول بشيء فعلوه لا محالة. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون يقيموا جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله : قل وذلك أن تجعل قل في هذه الآية بمعنى بلّغ وأدّ الشريعة يقيموا الصلاة انتهى. وهذا قريب مما قبله ، إلا أن في ما قبله معمول القول : أقيموا ، وفي هذه الشريعة على تقدير بلّغ الشريعة. وذهب الكسائي والزجاج وجماعة إلى أن معمول قل هو قوله : يقيموا ، وهو أمر مجزوم بلام الأمر محذوفة على حد قول الشاعر :

محمد تفد نفسك كل نفس

أنشده سيبويه إلا أنه قال : إنّ هذا لا يجوز إلا في الشعر. وقال الزمخشري في هذا القول :

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٨.

٤٣٧

وإنما جاز حذف اللام لأن الأمر الذي هو قل ، عوض منه. ولو قيل : يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام ، لم يجز انتهى. وذهب المبرد إلى أنّ التقدير : قل لهم أقيموا يقيموا ، فيقيموا المصرح به جواب أقيموا المحذوف قيل. وهو فاسد لوجهين : أحدهما : أنّ جواب الشرط يخالف الشرط إما في الفعل ، أو في الفاعل ، أو فيهما. فأما إذا كان مثله فيهما فهو خطأ كقولك : قم يقم ، والتقدير على هذا الوجه : أن يقيموا يقيموا. والوجه الثاني : أن الأمر المقدر للمواجهة ويقيموا على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحدا. وقيل : التقدير أن تقل لهم أقيموا يقيموا قاله سيبويه فيما حكاه ابن عطية. وقال الفراء : جواب الأمر معه شرط مقدر تقول : أطع الله يدخلك الجنة ، أي إن تطعه يدخلك الجنة. ومخالفة هذا القول للقول قبله أنّ الشرط في هذا مقدر بعد فعل الأمر ، وفي الذي قبله الأمر مضمن معنى الشرط. وقيل : هو مضارع بلفظ الخبر صرف عن لفظ الأمر ، والمعنى : أقيموا ، قاله أبو علي وفرقة. ورد بأنه لو كان مضارعا بلفظ الخبر ومعناه الأمر ، لبقي على إعرابه بالنون كقوله : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) (١) ثم قال : (تُؤْمِنُونَ) (٢) والمعنى : آمنوا. واعتل أبو علي لذلك بأنه لما كان بمعنى الأمر بني يعني : على حذف النون ، لأن المراد أقيموا ، وهذا كما بني الاسم المتمكن في النداء في قولك : يا زيد ، يعني على الضمة لما شبه بقبل وبعد انتهى ، ومتعلق القول الملفوظ به أو المقدر في هذه التخاريج هو الأمر بالإقامة والإنفاق ، إلا في قول ابن عطية فمتعلقه الشريعة فهو أعم ، إذ قدر قل بمعنى بلّغ وأدّ الشريعة. قال ابن عطية : ويظهر أن المقول هو الآية التي بعد أعني قوله : الله الذي خلق السموات والأرض انتهى. وهذا الذي ذهب إليه من كون معمول القول هو قوله تعالى الله الذي الآية تفكيك للكلام ، يخالفه ترتيب التركيب ، ويكون قوله : يقيموا الصلاة كلاما مفلتا من القول ومعموله ، أو يكون جوابا فصل به بين القول ومعموله ، ولا يترتب أن يكون جوابا ، لأن قوله : الله الذي خلق السموات والأرض ، لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جدا. واحتمل الصلاة أن يراد بها العموم أي : كل صلاة فرض وتطوع ، وأن يراد بها الخمس ، وبذلك فسرها ابن عباس : وفسر الإنفاق بزكاة الأموال. وتقدم إعراب (سِرًّا وَعَلانِيَةً) (٣) وشرحها في أواخر البقرة.

__________________

(١) سورة الصف : ٦١ / ١٠.

(٢) سورة الصف : ٦١ / ١١.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٧٤.

٤٣٨

وقال أبو عبيدة : البيع هنا البذل ، والخلال المخالة ، وهو مصدر من خاللت خلالا ومخالة وهي المصاحبة انتهى. ويعني بالبذل مقابل شيء. وقال امرؤ القيس :

صرفت الهوى عنهن من خشية الردى

ولست بمقلي الخلال ولا قال

وقال الأخفش : الخلال جمع خلة. وتقدم الخلاف في قراءة (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) (١) بالفتح أو بالرفع في البقرة ، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة. قال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال؟ (قلت) : من قبل أنّ الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات ، فيعطون بدلا ليأخذوا مثله ، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستخرجوا بهداياهم أمثالها أو خيرا منها ، وأما الإنفاق لوجه الله خالصا كقوله : وما لا حد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص ، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال أي : لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة ، ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات ، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله انتهى. ولما أطال تعالى الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء ، وكان حصول السعادة بمعرفة الله وصفاته ، والشقاوة بالجهل ، بذلك ختم وصفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته فقال : الله الذي خلق السموات والأرض وذكر عشرة أنواع من الدلائل فذكر أولا إبداعه وإنشاء السموات والأرض ، ثم أعقب بباقي الدلائل ، وأبرزها في جمل مستقلة ليدل وينبّه على أنّ كل جملة منها مستقلة في الدلالة ، ولم يجعل متعلقاتها معطوفات عطف المفرد على المفرد ، والله مرفوع على الابتداء ، والذي خبره. قال ابن عطية : ومن أخبر بهذه الجملة وتقررت في نفسه آمن وصلى وأنفق انتهى. يشير إلى ما تقدم من قوله : إنّ معمول قل هو قوله تعالى الله الذي خلق السموات والأرض الآية. فكأنه يقول : يقيموا الصلاة ، جواب لقوله : قل لعبادي الله الذي خلق السموات والأرض. والظاهر أن مفعول أخرج هو رزقا لكم ، ومن للتبعيض. ولما تقدّم على النكرة كان في موضع الحال ، ويكون المعنى : إن الرزق هو بعض جني الأشجار ، ويخرج منها ما ليس برزق كالمجرد للمضرات. ويجوز أن تكون من لبيان الجنس قاله ابن عطية والزمخشري ، وكأنه قال : فأخرج به رزقا لكم هو الثمرات. وهذا ليس بجيد ، لأنّ من التي لبيان الجنس إنما تأتي بعد المبهم الذي تبينه. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول

__________________

(١) سورة ابراهيم : ١٤ / ٣١.

٤٣٩

أخرج ، ورزقا حالا من المفعول ، أو نصبا على المصدر من أخرج ، لأنه في معنى رزق. وقيل : من زائدة ، وهذا لا يجوز عند جمهور البصريين ، لأنّ ما قبلها واجب ، وبعدها معرفة ، ويجوز عند الأخفش. والفلك هنا جمع فلك ، ولذلك قال : لتجري. ومعنى بأمره : راجع إلى الأمر القائم بالذات. وقال الزمخشري : لقوله ، كن.

وانطوى في تسخير الفلك تسخير البحار ، وتسخير الرياح. وأما تسخير الأنهار فبجريانها وبتفجيرها للانتفاع بها. وانتصب دائبين على الحال والمعنى : يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات ، عن مقاتل بن حبان يرفعه إلى ابن عباس أنه قال : معناه دائبين في طاعة الله. قال ابن عطية : وهذا قول إن كان يراد به أنّ الطاعة انقياد منهما في التسخير ، فذلك موجود في قوله : سخر ، وإن كان يراد أنها طاعة مقصودة كطاعة العبادة من البشر فهذا جيد ، والله أعلم انتهى. وتسخير الليل والنهار كونهما يتعاقبان خلفة للمنام والمعاش. وقال المتكلمون : تسخير الليل والنهار مجاز ، لأنّهما عرضان ، والاعراض لا تسخر. ولما ذكر تعالى تلك النعم العظيمة ، ذكر أنه لم يقتصر عليها فقال : وآتاكم من كل ما سألتموه ، والخطاب للجنس من البشر أي : أن الإنسان قد أوتي من كل ما شأن أن يسأل وينتفع به ، ولا يطرد هذا في كل واحد واحد من الناس ، وإنما تفرقت هذه النعم في البشر فيقال : بحسب هذا الجميع أوتيتم كذا على جهة التقرير للنعمة.

وقرأ ابن عباس ، والضحاك ، والحسن ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وعمرو بن قائد ، وقتادة ، وسلام ، ويعقوب ، ونافع في رواية : من كل بالتنوين ، أي : من كل هذه المخلوقات المذكورات. وما موصولة مفعول ثان أي : ما شأنه أن يسأل بمعنى يطلب الانتفاع به. وقيل : ما نافية ، والمفعول الثاني هو من كل كقوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (١) أي غير سائليه. أخبر بسبوغ نعمته عليهم بما لم يسألوه من النعم ، ولم يعرض لما سألوه. والجملة المنفية في موضع نصب على الحال ، وهذا القول بدأ به الزمخشري ، وثنى به ابن عطية وقال : إنه تفسير الضحاك. وهذا التفسير يظهر أنه مناف لقراءة الجمهور من كل ما سألتموه بالإضافة ، لأنّ في تلك القراءة على ذلك التخريج تكون ما نافية ، فيكونون لم يسألوه. وفي هذه القراءة يكونون قد سألوه ، وما بمعنى الذي. وأجيز أن تكون

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٢٣.

٤٤٠