البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

والمناسب من هذه الأقوال هو الأول. ولم يذكر الزمخشري إلا ما هو قريب منه قال : نأتي الأرض أرض الكفر ننقصها من أطرافها بما يفتح على المسلمين من بلادهم ، فينقص دار الحرب ، ويزيد في دار الإسلام ، وذلك من آيات الغلبة والنصرة. ونحوه : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) (١) (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) (٢) والمعنى : عليك بالبلاغ الذي حملته ، ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ، ونتم ما وعدناك من الظفر ، ولا يضجرك تأخره ، فإنّ ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها ، ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر. ويتجه قول من قال : النقص بموت الأشراف والعلماء والخيار وتقريره : أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خرابا بعد عماره ، وموتا بعد حياة ، وذلا بعد عز ، ونقصا بعد كمال ، وهذه تغييرات مدركة بالحس. فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله الأمر عليهم ويصيرون ذليلين بعد أن كانوا قاهرين.

وقرأ الضحاك : ننقصها مثقلا ، من نقص عداه بالتضعيف من نقص اللازم ، والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله ، وحقيقته الذي يعقبه أي : بالرد والإبطال ، ومنه قيل لصاحب الحق : معقب ، لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب. قال لبيد :

طلب المعقب حقه المظلوم

والمعنى : أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال ، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس. وقيل : تتعقب أحكامه أي : ينظر في أعقابها أمصيبة هي أم لا ، والجملة من قوله : لا معقب لحكمه في موضع الحال أي : نافذ حكمه ، وهو سريع الحساب تقدم الكلام على مثل هذه الجملة. ثم أخبر تعالى أن الأمم السابقة كان يصدر منهم المكر بأنبيائهم كما فعلت قريش ، وأنّ ذلك عادة المكذبين للرسل ، مكر بإبراهيم نمروذ ، وبموسى فرعون ، وبعيسى اليهود ، وجعل تعالى مكرهم كلا مكر إذ أضاف المكر كله له تعالى. ومعنى مكره تعالى عقوبته إياهم ، سماها مكرا إذ كانت ناشئة عن المكر وذلك على سبيل المقابلة كقوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (٣) ثم فسر قوله : فلله المكر ، بقوله : يعلم ما تكسب كل نفس ، والمعنى : يجازي كل نفس بما كسبت. ثم هدد الكافر بقوله : وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار ، إذ يأتيه العذاب من حيث هو في غفلة عنه ، فحينئذ يعلم لمن هي العاقبة المحمودة.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٤٤.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٥٣.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٥.

٤٠١

وقرأ جناح بن حبيش : وسيعلم الكافر مبنيا للمفعول من أعلم أي : وسيخبر. وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو : الكافر على الإفراد والمراد به الجنس ، وباقي السبعة الكفار جمع تكسير ، وابن مسعود : الكافرون جمع سلامة وأبى الذين كفروا ، وفسر عطاء الكافر بالمستهزئين وهم خمسة ، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون. وقال ابن عباس : يريد بالكافر أبا جهل. وينبغي أن يحمل تفسيره وتفسير عطاء على التمثيل ، لأنّ الإخبار بعلم الكافر لمن عقبى الدار معنى يعم جميع الكفار ، ولما قال الكفار : لست مرسلا أي : إنما أنت مدع ما ليس لك ، أمره تعالى أن يكتفي بشهادة الله تعالى بينهم ، إذ قد أظهر على يديه من الأدلة على رسالته ما في بعضها كفاية لمن وفق ، ثم أردف شهادة الله بشهادة من عنده علم الكتاب. والكتاب هنا القرآن ، والمعنى : إنّ من عرف ما ألف فيه من المعاني الصحيحة والنظم المعجز الفائت لقدر البشر يشهد بذلك. وقيل : الكتاب التوراة والإنجيل ، والذي عنده علم الكتاب : من أسلم من علمائهم ، لأنهم يشهدون نعته عليه الصلاة والسلام في كتبهم. قال قتادة ، كعبد الله بن سلام ، وتميم الداري ، وسلمان الفارسي. وقال مجاهد : يريد عبد الله بن سلام خاصة. وهذان القولان لا يستقيمان إلا على أن تكون الآية مدنية ، والجمهور على أنها مكية. وقال محمد بن الحنفية ، والباقر : هو علي بن أبي طالب. وقيل : جبريل ، والكتاب اللوح المحفوظ. وقيل : هو الله تعالى قاله : الحسن ، وابن جبير والزجاج. وعن الحسن : لا والله ما يعني إلا الله ، والمعنى : كفى بالذي يستحق العبادة ، وبالذي لا يعلم ما في اللوح إلا هو شهيدا بيني وبينكم. قال ابن عطية : ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف ، وذلك لا يجوز ، وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض انتهى. وليس ذلك كما زعم من عطف الصفة على الموصوف ، لأنّ من لا يوصف بها ولا لشيء من الموصولات إلا بالذي والتي وفروعهما ، وذو وذوات الطائيتين. وقوله : وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض ليس على إطلاقه ، بل له شرط وهو أن تختلف مدلولاتها. ويعني ابن عطية : لا تقول مررت بزيد. والعالم فتعطف ، والعالم على الاسم وهو علم لم يلحظ منه معنى صفة ، وكذلك الله علم. ولما شعر بهذا الاعتراض من جعله معطوفا على الله قدر قوله : بالذي يستحق العبادة ، حتى يكون من عطف الصفات بعضها على بعض ، لا من عطف الصفة على الاسم. ومن في قراءة الجمهور في موضع خفض عطفا على لفظ الله ، أو في موضع رفع عطفا على موضع الله ، إذ هو في مذهب من جعل الباء زائدة فاعل بكفى. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون في موضع رفع بالابتداء ،

٤٠٢

والخبر محذوف تقديره : أعدل وأمضى قولا ونحو هذا مما يدل عليه لفظة شهيدا ، ويراد بذلك الله تعالى. وقرىء : وبمن بدخول الباء على من عطفا على بالله. وقرأ علي وأبي وابن عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وسالم بن عبد الله بن عمرو بن أبي إسحاق ، ومجاهد ، والحكم ، والأعمش : ومن عنده علم الكتاب بجعل من حرف جر ، وجر ما بعده به ، وارتفاع علم بالابتداء ، والجار والمجرور في موضع الجر. وقرأ علي أيضا وابن السميقع ، والحسن بخلاف عنه. ومن عنده بجعل من حرف جر علم الكتاب ، بجعل علم فعلا مبنيا للمفعول ، والكتاب رفع به. وقرىء ومن عنده بحرف جر علم الكتاب مشددا مبنيا للمفعول ، والضمير في عنده في هذه القراآت الثلاث عائد على الله تعالى. وقال الزمخشري في القراءة التي وقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالمقدر في الظرف فيكون فاعلا ، لأنّ الظرف إذا وقع صلة أو غل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول ، فعمل على الفعل كقولك : مررت بالذي في الدار أخوه ، فأخوه فاعل ، كما تقول : بالذي استقر في الدار أخوه انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري ليس على وجه التحتم ، لأنّ الظرف والجار والمجرور إذا وقعا صلتين أو حالين أو خبرين ، إما في الأصل ، وإما في الناسخ ، أو تقدمهما أداة نفي ، أو استفهام ، جاز فيما بعدهما من الاسم الظاهر أن يرتفع على الفاعل وهو الأجود ، وجاز أن يكون ذلك المرفوع مبتدأ ، والظرف أو الجار والمجرور في موضع رفع خبره ، والجملة من المبتدأ والخبر صلة أو صفة أو حال أو خبر ، وهذا مبني على اسم الفاعل. فكما جاز ذلك في اسم الفاعل ، وإن كان الأحسن إعماله في الاسم الظاهر ، فكذلك يجوز في ما ناب عنه من ظرف أو مجرور. وقد نص سيبويه على إجازة ذلك في نحو : مررت برجل حسن وجهه ، فأجاز حسن وجهه على رفع حسن على أنه خبر مقدم ، وهكذا تلقفنا هذه المسألة عن الشيوخ. وقد يتوهم بعض النشأة في النحو أن اسم الفاعل إذا اعتمد على شيء مما ذكرناه يتحتم إعماله في الظاهر ، وليس كذلك. وقد أعرب الحوفي عنده علم الكتاب مبتدأ وخبرا في صلة من. وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون خبرا يعني عنده ، والمبتدأ علم الكتاب انتهى. ومن قرأ : ومن عنده ، على أنه حرف جر فالكتاب في قراءته هو القرآن ، والمعنى : أنه تعالى من جهة فضله وإحسانه علم الكتاب ، أو علم الكتاب على القراءتين ، أي : علمت معانيه وكونه أعظم المعجزات الباقي على مر الأعصار ، فتشريف العبد بعلوم القرآن إنما ذلك من إحسان الله تعالى إليه وتوفيقه على كونه معجزا ، وتوفيقه لإدراك ذلك.

٤٠٣

سورة ابراهيم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا

٤٠٤

أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠)

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ. الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) : هذه السورة مكية كلها في قول الجمهور ، وعن ابن عباس وقتادة ، هي مكية إلا من قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) الآية إلى قوله (إِلَى النَّارِ) (١) وارتباط أول هذه السورة بالسورة قبلها واضح جدا ، لأنه ذكر فيها : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) (٢) ثم (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) (٣) ثم (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤) فناسب هذا قوله الر كتاب أنزلناه إليك. وأيضا فإنهم لما قالوا على سبيل الاقتراح (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) (٥) وقيل له : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (٦) أنزل الر كتاب أنزلناه إليك كأنه قيل : أو لم يكفهم من الآيات كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات هي الضلال ، إلى النور وهو الهدى.

وجوزوا في إعراب الر أن يكون في موضع رفع بالابتداء ، وكتاب الخبر ، أو في موضع رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه الر ، وفي موضع نصب على تقدير : الزم أو اقرأ الر. وكتاب أنزلناه إليك جملة مفسرة في هذين الإعرابين ، وكتاب مبتدأ. وسوغ الابتداء به كونه موصوفا في التقدير أي : كتاب أي : عظيم أنزلناه إليك. وجوزوا أن يكون كتاب خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذا كتاب ، وأنزلناه جملة في موضع الصفة. وفي قوله : أنزلناه. وإسناد الإنزال إلى نون العظمة ومخاطبته تعالى بقوله إليك ، وإسناد الإخراج إليه

__________________

(١) سورة ابراهيم : ١٤ / ٢٨ ـ ٣٠.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٣١.

(٣) سورة الرعد : ١٣ / ٣٧.

(٤) سورة الرعد : ١٣ / ٤٣.

(٥) سورة يونس : ١٠ / ٢٠.

(٦) سورة الرعد : ١٣ / ٢٧.

٤٠٥

عليه الصلاة والسلام ، تنويه عظيم وتشريف له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث المشاركة في تحصيل الهداية بإنزاله تعالى ، وبإخراجه عليه الصلاة والسلام ، إذ هو الداعي والمنذر ، وإن كان في الحقيقة مخترع الهداية هو الله تعالى. والناس عام ، إذ هو مبعوث إلى الخلق كلهم ، والظلمات والنور مستعاران للكفر والإيمان. ولما ذكر علة إنزال الكتاب وهي قوله : لتخرج قال : بإذن ربهم ، أي : ذلك الإخراج بتسهيل مالكهم الناظر في مصالحهم ، إذ هم عبيده ، فناسب ذكر الرب هنا تنبيها على منة المالك ، وكونه ناظرا في حال عبيده. وبإذن ظاهره التعلق بقوله : لتخرج. وجوز أبو البقاء أن يكون بإذن ربهم في موضع الحال قال : أي مأذونا لك. وقال الزمخشري : بإذن ربهم بتسهيله وتيسيره ، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب ، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال.

والظاهر أن قوله : إلى صراط ، بدل من قوله إلى النور ، ولا يضر هذا الفصل بين المبدل منه والبدل ، لأنّ بإذن معمول للعامل في المبدل منه وهو لتخرج. وأجاز الزمخشري أن يكون إلى صراط على وجه الاستئناف ، كأنه قيل : إلى أي نور ، فقيل : إلى صراط العزيز الحميد. وقرىء : ليخرج مضارع خرج بالياء بنقطتين من تحتها ، والناس رفع به. ولما كان قوله : إلى النور ، فيه إبهام ما أوضحه بقوله : إلى صراط. ولما تقدم شيئان أحدهما إسناد إنزال هذا الكتاب إليه. والثاني إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ، ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة وذلك من حيث إنزال الكتاب ، وصفة الحمد المتضمنة استحقاقه الحمد من حيث الإخراج من الظلمات إلى النور ، إذ الهداية إلى الإيمان هي النعمة التي يجب على العبد الحمد عليها والشكر. وتقدمت صفة العزيز ، لتقدم ما دل عليها ، وتليها صفة الحميد لتلو ما دل عليها. وقرأ نافع وابن عامر الله بالرفع فقيل : مبتدأ محذوف أي : هو الله. وهذا الإعراب أمكن لظهور تعلقه بما قبله ، وتفلته على التقدير الأول. وقرأ باقي السبعة والأصمعي عن نافع : الله بالجر على البدل في قول ابن عطية ، والحوفي ، وأبي البقاء. وعلى عطف البيان في قول الزمخشري قال : لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي يحق له العبادة ، كما غلب النجم على الثريا انتهى. وهذا التعليل لا يتم إلا على تقدير : أن يكون أصله الإله ، ثم نقلت الحركة إلى لام التعريف وحذفت الهمزة ، والتزم فيه النقل والحذف ، ومادته إذ ذاك الهمزة واللام والهاء ، وقد تقدمت الأقوال في هذا اللفظ في البسملة أول الحمد. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : لا تقدم صفة على موصوف إلا حيث سمع وذلك قليل ، وللعرب فيما وجد

٤٠٦

من ذلك وجهان : أحدهما : أن تقدم الصفة وتبقيتها على ما كانت عليه ، وفي إعراب مثل هذا وجهان : أحدهما : إعرابه نعتا مقدما ، والثاني : أن يجعل ما بعد الصفة بدلا. والوجه الثاني : أن تضيف الصفة إلى الموصوف إذا قدمتها انتهى. فعلى هذا الذي ذكره ابن عصفور يجوز أن يكون العزيز الحميد يعربان صفتين متقدمتين ، ويعرب لفظ الله موصوفا متأخرا. ومما جاء فيه تقديم ما لو تأخير لكان صفة ، وتأخير ما لو تقدم لكان موصوفا قول الشاعر :

والمؤمن العائذات الطير يمسحها

ركبان مكة بين الغيل والسعد

فلو جاء على الكثير لكان التركيب : والمؤمن الطير العائذات ، وارتفع ويل على الابتداء ، وللكافرين خبره. لما تقدم ذكر الظلمات دعا بالهلكة على من لم يخرج منها ، ومن عذاب شديد في موضع الصفة لويل. ولا يضر الفصل والخبر بين الصفة والموصوف ، ولا يجوز أن يكون متعلقا بويل لأنه مصدر ولا يجوز الفصل بين المصدر وما يتعلق به بالخبر. ويظهر من كلام الزمخشري أنه ليس في موضع الصفة. قال : (فإن قلت) : ما وجه اتصال قوله من عذاب شديد بالويل؟ (قلت) : لأن المعنى أنهم يولون من عذاب شديد ويضجون منه ، ويقولون يا ويلاه كقوله : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) (١) انتهى. وظاهره يدل على تقدير عامل يتعلق به من عذاب شديد ، ويحتمل هذا العذاب أن يكون واقعا بهم في الدنيا ، أو واقعا بهم في الآخرة. والاستحباب الإيثار والاختيار ، وهو استفعال من المحبة ، لأنّ المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه يكون أحب إليها وأفضل عندها من الآخر. ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب وأجاب ، ولما ضمن معنى الإيثار عدي بعلى. وجوزوا في إعراب الذين أن يكون مبتدأ خبره أولئك في ضلال بعيد ، وأن يكون معطوفا على الذم ، إما خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين ، وإما منصوبا بإضمار فعل تقديره أذم ، وأن يكون بدلا ، وأن يكون صفة للكافرين. ونص على هذا الوجه الأخير الحوفي والزمخشري وأبو البقاء ، وهو لا يجوز ، لأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي منهما وهو قوله : من عذاب شديد ، سواء كان من عذاب شديد في موضع الصفة لويل ، أم متعلقا بفعل محذوف أي : يضجون ويولولون من عذاب شديد. ونظيره إذا كان صفة أن تقول : الدار لزيد الحسنة القرشي ، فهذا التركيب لا يجوز ، لأنك فصلت بين زيد وصفته بأجنبي منهما وهو صفة الدار ، والتركيب الفصيح أن تقول : الدار الحسنة لزيد القرشي ، أو الدار لزيد القرشي

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ١٣.

٤٠٧

الحسنة وقرأ الحسن : ويصدون مضارع أصد ، الداخل عليه همزة النقل من صد اللازم صدودا. وتقدم الكلام على قوله تعالى : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) (١) في آل عمران ، وعلى وصف الضلال بالبعد قوله عزوجل :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) سبب نزولها أنّ قريشا قالوا : ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي؟ فنزلت. وساق قصة موسى أنه تعالى أرسله إلى قومه بلسانه ، أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ، كما أرسلك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور. والظاهر أن قوله : وما أرسلنا من رسول ، العموم فيندرج فيه الرسول عليه الصلاة والسلام. فإن كانت الدعوة عامة للناس كلهم ، أو اندرج في اتباع ذلك الرسول من ليس من قومه ، كان من لم تكن لغته لغة ذلك النبي موقوفا على تعلم تلك اللغة حتى يفهمها ، وأن يرجع في تفسيرها إلى من يعلمها. وقيل : في الكلام حذف تقديره : وما أرسلنا من رسول قبلك إلا بلسان قومه ، وأنت أرسلناك للناس كافة بلسان قومك ، وقومك يترجمون لغيرهم بألسنتهم ، ومعنى بلسان قومه : بلغة قومه.

وقرأ أبو السمال ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران الجوني : بلسن بإسكان السين ، قالوا : هو كالريش والرياش. وقال صاحب اللوامح : واللسن خاص باللغة ، واللسان قد يقع على العضو ، وعلى الكلام. وقال ابن عطية مثل ذلك قال : اللسان في هذه الآية يراد به اللغة ، ويقال : لسن ولسان في اللغة ، فأما العضو فلا يقال فيه لسن. وقرأ أبو رجاء ، وأبو المتوكل ، والجحدري : لسن بضم اللام والسين ، وهو جمع لسان كعماد وعمد. وقرىء أيضا بضم اللام وسكون السين مخفف كرسل ورسل ، والضمير في قومه عائد على رسول أي : قوم ذلك الرسول. وقال الضحاك : والضمير في قومه عائد على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : والكتب كلها نزلت بالعربية ، ثم أداها كل نبي بلغة قومه. قال الزمخشري : وليس بصحيح ، لأنّ قوله : ليبين لهم ، ضمير القوم وهم العرب ، فيؤدي إلى أنّ الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب ، وهذا معنى فاسد انتهى. وقال الكلبي : جميع الكتب أدت إلى جبريل بالعربية ، وأمره تعالى أن يأتي رسول كل قوم بلغتهم. وأورد الزمخشري هنا سؤالا وابن عطية أخرهما في كتابيهما ، ويقول : قامت الحجة على البشر بإذعان الفصحاء الذين يظن

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٤٥ وآل عمران : ٣ / ٩٩.

٤٠٨

بهم القدرة على المعارضة وإقرارهم بالعجز ، كما قامت بإذعان السحرة لموسى ، والأطباء لعيسى عليهما‌السلام. وبين تعالى العلة في كون من أرسل من الرسل بلغة قومه وهي التبيين لهم ، ثم ذكر أنه تعالى يضل من يشاء إضلاله ، ويهدي من يشاء هدايته ، فليس على ذلك الرسول غير التبليغ والتبيين ، ولم يكلف أن يهدي بل ذلك بيد الله على ما سبق به قضاؤه وهو العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم الواضع الأشياء على ما اقتضته حكمته وإرادته. وقال الزمخشري : والمراد بالإضلال التخلية ومنع الإلطاف ، وبالهداية التوفيق واللطف ، وكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان ، وهو العزيز فلا يغلب على مشيئته ، الحكيم فلا يخذل إلا أهل الخذلان ، ولا يلطف إلا بأهل اللطف انتهى. وهو على طريقة الاعتزال والجمهور على تفسير قوله : بآياتنا ، إنها تسع الآيات التي أجراها الله على يد موسى عليه‌السلام. وقيل : يجوز أن يراد بها آيات التوراة ، والتقدير : كما أرسلناك يا محمد بالقرآن بلسان عربي وهو آياتنا ، كذلك أرسلنا موسى بالتوراة بلسان قومه ، وأن أخرج يحتمل أن أن تكون تفسيرية ، وأن تكون مصدرية ، ويضعف زعم من زعم أنها زائدة. وفي قوله : قومك خصوص لرسالته إلى قومه ، بخلاف لتخرج الناس ، والظاهر أنّ قومه هم بنو إسرائيل. وقيل : القبط. فإن كانوا القبط فالظلمات هنا الكفر ، والنور الإيمان ، وإن كانوا بني إسرائيل وقلنا : إنهم كلهم كانوا مؤمنين ، فالظلمات ذل العبودية ، والنور العزة بالدين وظهور أمر الله. وإن كانوا أشياعا متفرقين في الدين ، قوم مع القبط في عبادة فرعون ، وقوم على غير شيء ، فالظلمات الكفر والنور الإيمان. قيل : وكان موسى مبعوثا إلى القبط وبني إسرائيل. وقيل : إلى القبط بالاعتراف بوحدانية الله ، وأن لا يشرك به ، والإيمان بموسى ، وأنه نبي من عند الله ، وإلى بني إسرائيل بالتكليف وبفروع شريعته إذ كانوا مؤمنين. ويحتمل وذكرهم أن يكون أمرا مستأنفا ، وأن يكون معطوفا على أن أخرج ، فيكون في حيزان. وأيام الله قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : نعم الله عليهم ، ورواه أبي مرفوعا. ومنه قول الشاعر :

وأيام لنا غرّ طوال

عصينا الملك فيها إن ندينا

وعن ابن عباس أيضا ، ومقاتل ، وابن زيد : وقائعه ونقماته في الأمم الماضية ، ويقال : فلان عالم بأيام العرب أي وقائعها وحروبها وملاحمها : كيوم ذي قار ، ويوم الفجار ، ويوم فضة وغيرها. وروي نحوه عن مالك قال : بلاؤه. وقال الشاعر :

وأيامنا مشهورة في عدونا

٤٠٩

أي وقائعنا. وعن ابن عباس أيضا : نعماؤه وبلاؤه ، واختاره الطبري ، فنعماؤه : بتظليله عليهم الغمام ، وإنزال المنّ والسلوى ، وفلق البحر. وبلاؤه : باستعباد فرعون لهم ، وتذبيح أبنائهم ، وإهلاك القرون قبلهم. وفي حديث أبيّ في قصة موسى والخضر عليهما‌السلام ، بينما موسى عليه‌السلام في قومه يذكرهم بأيام الله ، وأيام الله بلاؤه ونعماؤه ، واختار الطبري هذا القول الآخر. ولفظة الأيام تعم المعنيين ، لأنّ التذكير يقع بالوجهين جميعا. وفي هذه اللفظة تعظيم الكوائن المذكر بها. وعبر عنها بالظرف الذي وقعت فيه. وكثيرا ما يقع الإسناد إلى الظرف ، وفي الحقيقة الإسناد لغيرها كقوله : بل مكر الليل والنهار ، ومن ذلك قولهم : يوم عبوس ، ويوم عصيب ، ويوم بسام. والحقيقة وصف ما وقع فيه من شدّة أو سرور. والإشارة بقوله : إن في ذلك ، إلى التذكير بأيام الله. وصبار ، شكور ، صفتا مبالغة ، وهما مشعرتان بأنّ أيام الله المراد بهما بلاؤه ونعماؤه أي : صبار على بلائه ، شكور لنعمائه. فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم ، أو بما أفاض عليهم من النعم ، تنبه على ما يجب عليه من الصبر إذا أصابه بلاء ، من والشكر إذا أصابته نعماء ، وخص الصبار والشكور لأنهما هما اللذان ينتفعان بالتذكير والتنبيه ويتعظان به. وقيل : أراد لكل مؤمن ناظر لنفسه ، لأنّ الصبر والشكر من سجايا أهل الإيمان.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ. وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) : لما تقدم أمره تعالى لموسى بالتذكير بأيام الله ، ذكرهم بما أنعم تعالى عليهم من نجاتهم من آل فرعون ، وفي ضمنها تعداد شيء مما جرى عليهم من نقمات الله. وتقدم إعراب إذ في نحو هذا التركيب في قوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) (١) وتفسير نظير هذه الآية ، إلا أنّ هنا : ويذبحون بالواو ، وفي البقرة بغير واو ، وفي الأعراف (يُقَتِّلُونَ) فحيث لم يؤت بالواو جعل الفعل تفسيرا لقوله : يسومونكم. وحيث أتى بها دلّ على المغايرة. وأنّ سوم سوء العذاب كان بالتذبيح وبغيره ، وحيث جاء يقتلون جاء باللفظ المطلق المحتمل للتذبيح ، ولغيره من أنواع القتل. وقرأ ابن محيصن : ويذبحون مضارع ذبح ثلاثيا ، وقرأ زيد بن علي كذلك ، إلا أنه حذف الواو.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٠٣.

٤١٠

وتقدم شرح تأذن وتلقيه بالقسم في قوله في الأعراف : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَ) (١) واحتمل إذ أن يكون منصوبا باذكروا ، وأن يكون معطوفا على إذ أنجاكم ، لأنّ هذا الإعلام بالمزيد على الشكر من نعمه تعالى. والظاهر أنّ متعلق الشكر هو الإنعام أي : لئن شكرتم إنعامي ، وقاله الحسن والربيع. قال الحسن : لأزيدنكم من طاعتي. وقال الربيع : لأزيدنكم من فضلي. وقال ابن عباس : أي لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم في الثواب. وكأنه راعى ظاهر المقابلة في قوله : ولئن كفرتم إن عذابي لشديد. وظاهر الكفر المراد به الشرك ، فلذلك فسر الشكر بالتوحيد والطاعة وغيره. قال : ولئن كفرتم ، أي نعمتي فلم تشكروها ، رتب العذاب الشديد على كفران نعمة الله تعالى ، ولم يبين محل الزيادة ، فاحتمل أن يكون في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما ، وجاء التركيب على ما عهد في القرآن من أنه إذا ذكر الخبر أسند إليه تعالى. وإذ ذكر العذاب بعده عدل عن نسبته إليه فقال : لأزيدنكم ، فنسب الزيادة إليه وقال : إنّ عذابي لشديد ، ولم يأت التركيب لأعذبنكم ، وخرج في لأزيدنكم بالمفعول ، وهنا لم يذكر ، وإن كان المعنى عليه أي : إنّ عذابي لكم لشديد. وقرأ عبد الله : وإذ قال ربكم ، كأنه فسر قوله : تأذن ، لأنه بمعنى أذن أي : أعلم ، وأعلم يكون بالقول. ثم نبه موسى عليه‌السلام قومه على أنّ الباري تعالى ، وإن أوعد بالعذاب الشديد على الكفر ، فهو غير مفتقر إلى شكركم ، لأنه تعالى هو الغني عن شكركم ، الحميد المستوجب الحمد على ما أسبغ من نعمه ، وإن لم يحمده الحامدون ، فثمرة شكركم إنما هي عائدة إليكم. وأنتم خطاب لقومه وقال : ومن في الأرض يعني : الناس كلهم ، لأنّ من كان في العالم العلوي وهم الملائكة لا يدخلون في من في الأرض ، وجواب أن تكفروا محذوف لدلالة المعنى التقدير : فإنما ضرر كفركم لا حق بكم ، والله تعالى متصف بالغنى المطلق. والحمد سواء كفروا أم شكروا ، وفي خطابه لهم تحقير لشأنهم ، وتعظيم لله تعالى ، وكذلك في ذكر هاتين الصفتين.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ. قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٦٧.

٤١١

تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) : الظاهر أن هذا من خطاب موسى لقومه. وقيل : ابتداء خطاب من الله لهذه الأمة ، وخبر قوم نوح وعاد وثمود قد قصه الله في كتابه ، وتقدم في الأعراف وهود ، والهمزة في ألم للتقرير والتوبيخ. والظاهر أنّ والذين في موضع خفض عطفا على ما قبله ، إما على الذين ، وإما على قوم نوح وعاد وثمود. قال الزمخشري : والجملة من قوله : لا يعلمهم إلا الله ، اعتراض والمعنى : أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله انتهى. وليست جملة اعتراض ، لأنّ جملة الاعتراض تكون بين جزءين ، يطلب أحدهما الآخر. وقال أبو البقاء : تكون هذه الجملة حالا من الضمير في من بعدهم ، فإن عنى من الضمير المجرور في بعدهم فلا يجوز لأنه حال مما جر بالإضافة ، وليس له محل إعراب من رفع أو نصب ، وإن عنى من الضمير المستقر في الجار والمجرور النائب عن العامل أمكن. وقال أبو البقاء : أيضا ويجوز أن يكون مستأنفا ، وكذلك جاءتهم. وأجاز الزمخشري وتبعه أبو البقاء : أن يكون والذين مبتدأ ، وخبره لا يعلمهم إلا الله. وقال الزمخشري : والجملة من المبتدأ والخبر وقعت اعتراضا انتهى. وليست باعتراض ، لأنها لم تقع بين جزءين : أحدهما يطلب الآخر. والضمير في جاءتهم عائد على الذين من قبلكم ، والجملة تفسيرية للنبأ. والظاهر أنّ الأيدي هي الجوارح ، وأنّ الضمير في أيديهم وفي أفواههم عائد على الذين جاءتهم الرسل. وقال ابن مسعود ، وابن زيد أي : جعلوا ، أي : أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم ليعضوها غيظا مما جاءت به الرسل. وقال ابن زيد : عضوا عليكم الأنامل من الغيظ. والعض بسبب مشهور من البشر. وقال الشاعر :

قد أفنى أنامله أزمة

وأضحى يعض على الوظيفا

وقال آخر :

لو أن سلمى أبصرت تخددي

ودقة في عظم ساقي ويدي

وبعد أهلي وجفاء عوّدي

عضت من الوجد بأطراف اليد

وقال ابن عباس : لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم. وقال أبو صالح : لما قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا رسول الله إليكم ، وأشاروا بأصابعهم إلى أفواههم أن اسكت تكذيبا له ، وردا لقوله ، واستبشاعا لما جاء به. وقيل : ردّوا أيديهم في أفواههم ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه. وقيل : أشاروا بأيديهم إلى

٤١٢

ألسنتهم وما نطقت به من قولهم : إنا كفرنا بما أرسلتم به أي : هذا جواب لكم ليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق. وقيل : الضميران عائدان على الرسل قاله : مقاتل ، قال : أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم. وقال الحسن وغيره : جعلوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل ردّا لقولهم ، وهذا أشنع في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل والنيل منهم ، فعلى هذا الضمير في أيديهم عائد على الكفار ، وفي أيديهم عائد على الرسل. وقيل : المراد بالأيدي هنا النعم ، جمع يد المراد بها النعمة أي : ردوا نعم الأنبياء التي هي أجلّ النعم من مواعظهم ونصائحهم ، وما أوحي إليهم من الشرائع والآيات في أفواه الأنبياء ، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها فكأنهم ردوها في أفواههم ، ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل. وقيل : الضمير في أفواههم على هذا القول عائد على الكفار ، وفي بمعنى الباء أي : بأفواههم ، والمعنى : كذبوهم بأفواههم. وفي بمعنى الباء يقال : جلست في البيت ، وبالبيت. وقال الفراء : قد وجدنا من العرب من يجعل في موضع الباء فتقول : أدخلك الله الجنة ، وفي الجنة. وأنشد :

وارغب فيها من لقيط ورهطه

ولكنني عن شنبس لست أرغب

يريد : أرغب بها. وقال أبو عبيدة : هذا ضرب مثل أي : لم يؤمنوا ولم يجيبوا. والعرب تقول للرجل إذا سكت عن الجواب وأمسك : رد يده في فيه ، وقاله الأخفش أيضا. وقال القتبي : لم يسمع أحد من العرب يقول : رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به انتهى. ومن سمع حجة على من لم يسمع هذا أبو عبيدة والأخفش نقلا ذلك عن العرب ، فعلى ما قاله أبو عبيدة يكون ذلك من مجاز التمثيل ، كان الممسك عن الجواب الساكت عنه وضع يده فيه. وقد رد الطبري قول أبي عبيدة وقال : إنهم قد أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ، ولا يرد ما قاله الطبري ، لأنه يريد أبو عبيدة أنهم أمسكوا وسكتوا عن الجواب المرضي الذي يقتضيه مجيء الرسل بالبينات ، وهو الاعتراف بالإيمان والتصديق للرسل. قال ابن عطية : ويحتمل أن يتجوز في لفظة الأيدي أي : أنهم ردوا قوتهم ومدافعتهم ومكافحتهم فيما قالوا بأفواههم من التكذيب ، فكان المعنى : ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي : في أقوالهم ، وعبر عن جميع المدافعة بالأيدي ، إذ الأيدي موضع أشد المدافعة والمرادة انتهى. بادروا أولا إلى الكفر وهو التكذيب المحض ، ثم أخبروا بأنهم في شك وهو التردد ، كأنهم نظروا بعض نظر اقتضى أن انتقلوا من التكذيب المحض إلى

٤١٣

التردد ، أو هما قولان من طائفتين : طائفة بادرت بالتكذيب والكفر ، وطائفة شكت ، والشك في مثل ما جاءت به الرسل كفر. وقرأ طلحة : مما تدعونا بإدغام نون الرفع في الضمير ، كما تدغم في نون الوقاية في مثل : أتحاجوني والمعنى : مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله. ومريب صفة توكيدية ، ودخلت همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار على الظرف الذي هو خبر عن المبتدأ ، لأنّ الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه ، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه. وقدر مضاف فقيل : أفي إلاهية الله. وقيل : أفي وحدانيته ، ثم نبههم على الوصف الذي يقتضي أن لا يقع فيه شك البتة وهو كونه منشىء العالم وموجده ، فقال : فاطر السموات والأرض. وفاطر صفة لله ، ولا يضر الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ ، فيجوز أن تقول : في الدار زيد الحسنة ، وإن كان أصل التركيب في الدار الحسنة زيد. وقرأ زيد بن علي : فاطر نصبا على المدح ، ولما ذكر أنه موجد العالم ، ونبه على الوصف الذي لا يناسب أن يكون معه فيه شك ذكر ما هو عليه من اللطف بهم والإحسان إليهم فقال : يدعوكم ليغفر لكم أي : يدعوكم إلى الإيمان كما قال : إذ تدعون إلى الإيمان أو يدعوكم لأجل المغفرة ، نحو : دعوته لينصرني. وقال الشاعر :

دعوت لما نابني مسورا

فلبى فلبى يدي مسور

ومن ذنوبكم ذهب أبو عبيدة والأخفش إلى زيادة من أي : ليغفر لكم ذنوبكم. وجمهور البصريين لا يجيز زيادتها في الواجب ، ولا إذا جرت المعرفة ، والتبعيض يصبح فيها إذ المغفور هو ما بينهم وبين الله ، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم. وبطريق آخر يصح التبعيض وهو أنّ الإسلام يجب ما قبله ، ويبقى ما يستأنف بعد الإيمان من الذنوب مسكوتا عنه ، هو في المشيئة والوعد إنما هو بغفران ما تقدم ، لا بغفران ما يستأنف. وقال الزمخشري ما معناه : إنّ الاستقراء في الكافرين أن يأتي من ذنوبكم ، وفي المؤمنين ذنوبكم ، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ، ولأن لا يسوي بين الفريقين انتهى. ويقال : ما فائدة الفرق في الخطاب والمعنى مشترك ، إذ الكافر إذا آمن ، والمؤمن إذا تاب مشتركان في الغفران وما تخيلت فيه مغفرة بعض الذنوب في الكافر الذي آمن هو موجود في المؤمن الذي تاب. وقال أبو عبد الله الرازي : أما قول صاحب الكشاف المراد تمييز خطاب المؤمن من خطاب الكافر ، فهو من باب الطامات ، لأنّ هذا التبعيض إن حصل فلا

٤١٤

حاجة إلى ذكر هذا الجواب ، وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسدا. وقال : إلى أجل مسمى ، إلى وقت قد بيناه ، أو بينا مقداره إن آمنتم ، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت انتهى. وهذا بناء على القول بالأجلين ، وهو مذهب المعتزلة. وتقدم الكلام في طرف من هذا في سورة الأعراف في قوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) (١) وقيل هنا : ويؤخركم إلى أجل مسمى قبل الموت فلا يعاجلكم بالعذاب ، إن أنتم إلا بشر مثلنا لا فضل بيننا وبينكم ، ولا فضل لكم علينا ، فلم تخصون بالنبوة دوننا؟ قال الزمخشري : ولو أرسل الله إلى البشر رسلا لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة انتهى. وهذا على مذهب المعتزلة في تفضيل الملائكة على من سواهم. وقال ابن عطية : في قولهم استبعاد بعثة البشر. وقال بعض الناس : بل أرادوا إحالته ، وذهبوا مذهب البراهمة ، أو من يقول من الفلاسفة أن الأجناس لا يقع فيها هذا القياس. فظاهر كلامهم لا يقتضي أنهم أغمضوا هذا الإغماض ، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم حجة ، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو على جهة التعجيز أي : بعثتكم محال ، وإلا فأتوا بسلطان مبين أي : إنكم لا تفعلون ذلك أبدا ، فتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلى مذهب الفلاسفة انتهى. والذي يظهر أنّ طلبهم السلطان المبين وقد أتتهم الرسل بالبينات إنما هو على سبيل التعنت والاقتراح ، وإلا فما أتوا به من الدلائل والآيات كاف لمن استبصر ، ولكنهم قلدوا آباءهم فيما كانوا عليه من الضلال. ألا ترى إلى أنهم لما ذكروا أنهم مماثلوهم قالوا : تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا أي : ليس مقصودكم إلا أن نكون لكم تبعا ، ونترك ما نشأنا عليه من دين آبائنا. وقرأ طلحة : إن تصدونا بتشديد النون ، جعل إن هي المخففة من الثقيلة ، وقدر فصلا بينها وبين الفعل ، وكان الأصل أنه تصدوننا ، فأدغم نون الرفع في الضمير ، والأولى أن تكون أن الثنائية التي تنصب المضارع ، لكنه هنا لم يعملها بل ألغاها ، كما ألغاها من قرأ (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) (٢) برفع يتم حملا على ما المصدرية أختها.

قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٣٤.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٣.

٤١٥

عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)

سلموا لهم في أنهم يماثلونهم في البشرية وحدها ، وأما ما سوى ذلك من الأوصاف التي اختصوا بها ؛ فلم يكونوا مثلهم ، ولم يذكروا ما هم عليه من الوصف الذي تميزوا به تواضعا منهم ، ونسبة ذلك إلى الله. ولم يصرحوا بمنّ الله عليهم وحدهم ، ولكن أبرزوا ذلك في عموم من يشاء من عباده. والمعنى : يمن بالنبوة على من يشاء تنبئته. ومعنى بإذن الله : بتسويغه وإرادته ، أي الآية التي اقترحتموها ليس لنا الإتيان بها ، ولا هي في استطاعتنا ، ولذلك كان التركيب : وما كان لنا ، وإنما ذلك أمر متعلق بالمشيئة. فليتوكل أمر منهم للمؤمنين بالتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا وأمروها به كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم ، وما يجري علينا منكم. ألا ترى إلى قولهم وما لنا أن لا نتوكل على الله ومعناه : وأي عذر لنا في أن لا نتوكل على الله وقد هدانا ، فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه ، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يوجب عليه سلوكه في الدين. والأمر الأول وهو قوله : فليتوكل المؤمنون لاستحداث التوكل ، والثاني للثبات على ما استحدثوا من توكيلهم. ولنصبرن جواب قسم ، ويدل على سبق ما يجب فيه الصبر وهو الأذى. وما مصدرية ، وجوزوا أن يكون بمعنى الذي. والضمير محذوف أي : ما آذيتموناه وكان أصله به ، فهل حذف به أو الباء فوصل الفعل إلى الضمير قولان؟ وقرأ الحسن : بكسر لام الأمر في ليتوكل وهو الأصل ، وأو لأحد الأمرين أقسموا على أنه لا بد من إخراجهم ، أو عودهم في ملتهم كأنهم قالوا : ليكونن أحد هذين. وتقدير أو هنا بمعنى حتى ، أو بمعنى إلا أن قول من لم ينعم النظر في ما بعدها ، لأنه لا يصح تركيب حتى ، ولا تركيب إلا أن مع قوله : لتعودن بخلاف لألزمنك ، أو تقضيني حقي والعود هنا بمعنى الصيرورة. أو يكون خطابا للرسل ومن آمنوا بهم. وغلب حكم من آمنوا بهم لأنهم كانوا قبل ذلك في ملتهم ، فيصح إبقاء

٤١٦

لتعودن على المفهوم منها أولا إذ سبق كونهم كانوا في ملتهم ، وأما الرسل فلم يكونوا في ملتهم قط. أو يكون المعنى في عودهم إلى ملتهم سكوتهم عنهم ، وكونهم إغفالا عنهم لا يطالبونهم بالإيمان بالله وما جاءت به الرسل.

وقرأ أبو حيوة : ليهلكن الظالمين وليسكننكم ، بياء الغيبة اعتبارا بقوله : فأوحى إليهم ربهم ، إذ لفظه لفظ الغائب. وجاء ولنسكننكم بضمير الخطاب تشريفا لهم بالخطاب ، ولم يأت بضمير الغيبة كما في قوله : فأوحى إليهم ربهم. ولما أقسموا بهم على إخراج الرسل والعودة في ملتهم ، أقسم تعالى على إهلاكهم. وأي إخراج أعظم من الإهلاك ، بحيث لا يكون لهم عودة إليها أبدا ، وعلى إسكان الرسل ومن آمن بهم وذرياتهم أرض أولئك المقسمين على إخراج الرسل. قال ابن عطية : وخص الظالمين من الذين كفروا ، إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا المقالة ناس ، وإنما توعد لإهلاك من خلص للظلم. وقال غيره : أراد بالظالمين المشركين ، قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١) والإشارة بذلك إلى توريث الأرض الأنبياء ومن آمن بهم بعد إهلاك الظالمين كقوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٢). ومقام يحتمل المصدر والمكان. فقال الفراء : مقامي مصدر أضيف إلى الفاعل أي : قيامي عليه بالحفظ لأعماله ، ومراقبتي إياه لقوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٣). وقال الزجاج : مكان وقوفه بين يدي للحساب ، وهو موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة كقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٤) وعلى إقحام المقام أي لمن خافني. والظاهر أن الضمير في واستفتحوا عائد على الأنبياء : أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) (٥) ويجوز أن يكون الفتاحة وهي الحكومة ، أي : استحكموا الله طلبوا منه القضاء بينهم. واستنصار الرسل في القرآن كثير كقول نوح : (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي) (٦) وقول لوط : (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) (٧) وقول شعيب : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) (٨) وقول موسى : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ) (٩) الآية. وقال ابن زيد : الضمير عائد على الكفار أي : واستفتح الكفار

__________________

(١) سورة لقمان : ٣١ / ١٣.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٢٨.

(٣) سورة الرعد : ١٣ / ٣٣.

(٤) سورة الرحمن : ٥٥ / ٤٦.

(٥) سورة الأنفال : ٨ / ١٩.

(٦) سورة الشعراء : ٢٦ / ١١٨.

(٧) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٦٩.

(٨) سورة الأعراف : ٧ / ٨٩.

(٩) سورة يونس : ١٠ / ٨٨.

٤١٧

على نحو ما قالت قريش : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) (١) وقول أبي جهل : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة. وكأنهم لما قوي تكذيبهم وأذاهم ولم يعاجلوا بالعقوبة ، ظنوا أن ما جاؤوا به باطل فاستفتحوا على سبيل التهكم والاستهزاء كقول قوم نوح : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) (٢) وقوم شعيب : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً) (٣) وعاد : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٤) وبعض قريش : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) (٥). وقيل : الضمير عائد على الفريقين : الأنبياء ، ومكذبيهم ، لأنهم كانوا كلهم سألوا أن ينصر المحق ويبطل المبطل. ويقوي عود الضمير على الرسل خاصة قراءة ابن عباس ، ومجاهد ، وابن محيصن : واستفتحوا بكسر التاء ، أمرا للرسل معطوفا على ليهلكن أي : أوحى إليهم ربهم وقال لهم : ليهلكن ، وقال لهم : استفتحوا أي : اطلبوا النصر وسلوه من ربكم. وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أي استمطروا ، والفتح المطر في سني القحط التي أرسلت عليهم بدعوة الرسول فلم يسقوا ، فذكر سبحانه ذلك ، وأنه خيّب رجاء كل جبار عنيد ، وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر وهو صديد أهل النار. واستفتحوا على هذا التفسير كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم انتهى. وخاب معطوف على محذوف تقديره : فنصروا وظفروا. وخاب كل جبار عنيد وهم قوم الرسل ، وتقدم شرح جبار. والعنيد : المعاند كالخليط بمعنى المخالط على قول من جعل الضمير عائدا على الكفار ، كأن وخاب عطفا على واستفتحوا. ومن ورائه قال أبو عبيدة وابن الأنباري أي : من بعده. وقال الشاعر :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مهرب

وقال أبو عبيدة أيضا ، وقطرب ، والطبري ، وجماعة : ومن ورائه أي ومن أمامه ، وهو معنى قول الزمخشري : من بين يديه. وأنشد :

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراء فرج قريب

وهذا وصف حاله في الدنيا ، لأنه مرصد لجهنم ، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها ، أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف. وقال الشاعر :

أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقوم تميم والفلاة ورائيا

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ١٦.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٧٠.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٨٧.

(٤) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٣٨.

(٥) سورة الأنفال : ٨ / ٣٢.

٤١٨

وقال آخر :

أليس ورائي إن تراخت منيتي

لزوم العصا نحني عليها الأصابع

ووراء من الأضداد قاله : أبو عبيدة والأزهري. وقيل : ليس من الأضداد. وقال ثعلب : اسم لما توارى عنك ، سواء كان أمامك أم خلفك. وقيل : بمعنى من خلفه أي : في طلبه كما تقول الأمر من ورائك أي : سوف يأتيك. ويسقى معطوف على محذوف تقديره : يلقى فيها ويسقى ، أو معطوف على العامل في من ورائه ، وهو واقع موقع الصفة. وارتفاع جهنم على الفاعلية ، والظاهر إرادة حقيقة الماء. وصديد قال ابن عطية : هو نعت لماء ، كما تقول : هذا خاتم حديد وليس بماء ، لكنه لما كان بدل الماء في العرف عندنا يعني أطلق عليه ماء. وقيل : هو نعت على إسقاط أداة التشبيه كما تقول : مررت برجل أسد التقدير : مثل صديد. فعلى قول ابن عطية هو نفس الصديد وليس بماء حقيقة ، وعلى هذا القول لا يكون صديدا ولكنه ما يشبه بالصديد. وقال الزمخشري : صديد عطف بيان لماء قال : ويسقى من ماء ، فأبهمه إبهاما ، ثم بينه بقوله : صديد انتهى. والبصريون لا يجيزون عطف البيان في النكرات ، وأجازه الكوفيون وتبعهم الفارسي ، فأعرب (زَيْتُونَةٍ) (١) عطف بيان ل (شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) (٢) فعلى رأي البصريين لا يجوز أن يكون قوله : صديد ، عطف بيان. وقال الحوفي : صديد نعت لماء. وقال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك : هو ما يسيل من أجساد أهل النار. وقال محمد بن كعب والربيع : هو غسالة أهل النار في النار. وقيل : هو ما يسيل من فروج الزناة والزواني. وقيل : صديد بمعنى مصدود عنه أي : لكراهته يصد عنه ، فيكون مأخوذا عنه من الصد. وذكر ابن المبارك من حديث أبي أمامة عن الرسول قاله في قوله : (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ) قال : «يقرب إليه فيتكرهه ، فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ، وإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره» يتجرعه يتكلف جرعه. ولا يكاد يسيغه أي : ولا يقارب أن يسيغه ، فكيف تكون الإساغة. والظاهر هنا انتفاء مقاربة إساغته إياه ، وإذا انتفت انتفت الإساغة ، فيكون كقوله : (لَمْ يَكَدْ يَراها) (٣) أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها؟ والحديث : «جاءنا ثم يشربه» فإن صح الحديث كان المعنى : ولا يكاد يسيغه قبل أن يشربه ثم شربه ، كما جاء (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) (٤) أي وما

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٣٥.

(٢) سورة النور : ٢٤ / ٣٥.

(٣) سورة النور : ٢٤ / ٤٠.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٧١.

٤١٩

كادوا يفعلون قبل الذبح. وتجرع تفعل ، ويحتمل هنا وجوها أن يكون للمطاوعة أي جرعه فتجرع كقولك : علمته فتعلم. وأن يكون للتكلف نحو : تحلم ، وأن يكون لمواصلة العمل في مهلة نحو : تفهم أي يأخذه شيئا فشيئا. وأن يكون موافقا للمجرد أي : تجرعه كما تقول : عدا الشيء وتعدّاه. ويتجرعه صفة لما قبله ، أو حال من ضمير ويسقى ، أو استئناف. ويأتيه الموت أي : أسبابه. والظاهر أنّ قوله : من كل مكان معناه من الجهات الست ، وذلك لفظيع ما يصيبه من الآلام. وقال إبراهيم التيمي : من كل مكان من جسده ، حتى من أطراف شعره. وقيل : حتى من إبهام رجليه ، والظاهر أنّ هذا في الآخرة. وقال الأخفش : أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا ، سماها موتا وهذا بعيد ، لأنّ سياق الكلام يدل على أنّ هذا من أحوال الكافر في جهنم. وقوله : وما هو بميت لتطاول شدائد الموت ، وامتداد سكراته. ومن ورائه الخلاف في من ورائه كالخلاف في من ورائه جهنم. وقال الزمخشري : ومن بين يديه عذاب غليظ أي : في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشد مما قبله وأغلظ. وعن الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد انتهى. وقيل : الضمير في ورائه هو يعود على العذاب المتقدم لا على كل جبار.

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

٤٢٠