البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

بحب تحصيل المال. ونبه على حالتي الإنفاق ، فالسر أفضل حالات إنفاق التطوع كما جاء في «السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها» والعلانية أفضل حالات إنفاق الفروض ، لأنّ الإظهار فيها أفضل. وقال الزمخشري : مما رزقناهم من الحلال ، لأنّ الحرام لا يكون رزقا ، ولا يسند إلى الله انتهى. وهذا على طريق المعتزلة. وللسلف هنا في الصبر أقوال متقاربة. قال ابن عباس : صبروا على أمر الله. وقال أبو عمران الجوني : صبروا على دينهم. وقال عطاء : صبروا على الرزايا والمصائب. وقال ابن زيد : صبروا على الطاعة وعن المعصية ، ويدرؤون يدفعون. قال ابن زيد : الشر بالخير. وقال قتادة : ردوا عليهم معروفا كقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (١) وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا. وقال القتبي : إذا سفه عليهم حلموا. وقال ابن جبير : يدفعون المنكر بالمعروف. وقال ابن كيسان : إذا أذنبوا تابوا ، وإذا هربوا أنابوا ليدفعوا عن أنفسهم بالتوبة معرّة الذنب ، وهذا المعنى قول ابن عباس في رواية الضحاك عنه. وقيل : يدفعون بلا إله إلا الله شركهم. وقيل : بالسلام غوائل الناس. وقيل : من رأوا منه مكروها بالتي هي أحسن. وقيل : بالصالح من العمل السيّء ، ويؤيده ما روي في الحديث أن معاذا قال : أوصني يا رسول الله فقال : «إذا عملت سيئة فاعمل إلى جنبها حسنة تمحها السر بالسرّ والعلانية بالعلانية». وقيل العذاب : بالصدقة. وقيل : إذا هموا بالسيئة فكروا ورجعوا عنها واستغفروا. وهذه الأقوال كلها على سبيل المجاز. وبالجملة لا يكافئون الشر بالشر كما قال الشاعر :

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة

ومن إساءة أهل السوء إحسانا

وهذا بخلاف خلق الجاهلية كما قال :

جريء متى يظلم يعاقب بظلمه

سريعا وإن لا يبد بالظلم يظلم

وروي أنّ هذه الآية نزلت في الأنصار ، ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات. وعقبى الدار : عاقبة الدنيا ، وهي الجنة. لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا وموضع أهلها. وجنات عدن بدل من عقبى الدار ، ويحتمل أن يراد عقبى دار الآخرة لدار الدنيا في العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم ، ويحتمل أن يكون جنات خبر ابتداء

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦٣.

٣٨١

محذوف. وقرأ الجمهور : جنات ، والنخعي : جنة بالإفراد. وروي عن ابن كثير ، وأبي عمرو : يدخلونها مبنيا للمفعول. وقرأ ابن أبي عبلة : ومن صلح بضم اللام ، والجمهور بفتحها ، وهو أفصح. وقرأ عيسى الثقفي : وذريتهم بالتوحيد ، والجمهور بالجمع. وقرأ ابن يعمر : فنعم بفتح النون وكسر العين وهي الأصل ، كما قال الراجز :

نعم الساعون في اليوم الشطر

وقرأ ابن وثاب : فنعم بفتح النون وسكون العين ، وتخفيف فعل لغة تميميمة ، والجمهور نعم بكسر النون وسكون العين ، وهي أكثر استعمالا. قال مجاهد وغيره : ومن صلح أي عمل صالحا وآمن انتهى. وهذا يدل على أن مجرد النسب من الصالح لا ينفع ، إنما تنفع الأعمال الصالحة. وقيل : يحتمل قوله : ومن صلح أي لذلك بقدر الله تعالى وسابق علمه. قال ابن عباس : هذا الصلاح هو الإيمان بالله وبالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه بشارة بنعمة اجتماعهم مع قراباتهم في الجنة. والظاهر أنّ ومن معطوف على الضمير في يدخلونها وقد فصل بينهما بالمفعول. وقيل : يجوز أن يكون مفعولا معه أي : يدخلونها مع من صلح. ويشتمل قوله : من آبائهم ، أبوي كل واحد والده ووالدته ، وغلب الذكور على الإناث ، فكأنه قيل : ومن صلح من آبائهم وأمهاتهم. والملائكة يدخلون عليهم من كل باب أي : بالتحف والهدايا من الله تعالى تكرمة لهم. قال أبو بكر الورّاق : هذه ثمانية أعمال تشير إلى ثمانية أبواب الجنة ، من عملها دخلها من أي باب شاء. قال الأصم : نحو هذا قال : من كل باب باب الصلاة ، وباب الزكاة ، وباب الصبر. ولأبي عبد الله الرازي كلام عجيب في الملائكة ذكر : أن الملائكة طوائف منهم روحانيون ، ومنهم كروبيون ، فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ، فلكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يحفظ لتلك الصفة مزيد اختصاص ، فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السمائية ما يناسبها من الصفة المخصوصة ، فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر ، ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر ، وهكذا القول في جميع المراتب انتهى. وهذا كلام فلسفي لا تفهمه العرب ، ولا جاءت به الأنبياء ، فهو كلام مطرح لا يلتفت إليه المسلمون. قال ابن عطية : وحكى الطبري رحمه‌الله في صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطول بها لضعف أسانيدها انتهى.

٣٨٢

وارتفع سلام على الابتداء ، وعليكم الخبر ، والجملة محكية بقول محذوف أي : يقولون سلام عليكم. والظاهر أن قوله تعالى : سلام عليكم تحية الملائكة لهم ، ويكون قوله تعالى : بما صبرتم ، خبر مبتدأ محذوف أي : هذا الثواب بسبب صبركم في الدنيا على المشاق ، أو تكون الباء بمعنى بدل أي : بدل صبركم أي : بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ، هذه الملاذ والنعم. وقيل : سلام جمع سلامة أي : إنما سلمكم الله تعالى من أهوال يوم القيامة بصبركم في الدنيا. وقال الزمخشري : ويجوز أن يتعلق بسلام أي : يسلم عليكم ويكرمكم بصبركم ، والمخصوص بالمدح محذوف أي : فنعم عقبى الدار الجنة من جهنم ، والدار : تحتمل الدنيا وتحتمل الآخرة. وقالت فرقة : المعنى أن عقبوا الجنة من جهنم. قال ابن عطية : وهذا التأويل مبني على حديث ورد وهو : «أن كل رجل في الجنة قد كان له مقعد معروف في النار ، فصرفه الله تعالى عنه إلى النعيم فيعرض عليه ويقال له : هذا مكان مقعدك ، فبدّلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك» انتهى. ولما كان الصبر هو الذي نشأ عنه تلك الطاعات السابقة ، ذكرت الملائكة أن النعيم السرمدي إنما هو حاصل بسبب الصبر ، ولم يأت التركيب بالإيفاء بالعهد ، ولا بغير ذلك.

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ. اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) : قال مقاتل نزلت : والذين ينقضون في أهل الكتاب. وقال ابن عباس : نزلت الله يبسط في مشركي مكة ، ولما ذكر تعالى حال السعداء وما ترتب لهم من الأمور السنية الشريفة ، ذكر حال الأشقياء وما ترتب لهم من الأمور المخزية. وتقدم تفسير الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل الآية في أوائل البقرة (١) وترتب للسعداء هناك التصريح بعقبى الدار وهي الجنة ، وإكرام الملائكة لهم بالسلام ، وذلك غاية القرب والتأنيس. وهنا ترتب للأشقياء الإبعاد من رحمة الله. وسوء الدار أي : الدار السوء وهي النار ، وسوء عاقبة الدار ، وتكون دار الدنيا. ولما كان كثير من الأشقياء فتحت عليهم نعم الدنيا ولذاتها أخبر تعالى أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، والكفر والإيمان لا تعلق لهما بالرزق. قد يقدر على المؤمن ليعظم أجره ، ويبسط للكافر إملاء لازدياد آثامه. ويقدر مقابل يبسط ، وهو التضييق من قوله :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٧.

٣٨٣

(وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) (١) وعليه يحمل (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) (٢) وقول ذلك الذي أحرق وذري في البحر : «لئن قدر الله على» أي لئن ضيق. وقيل : يقدر يعطي بقدر الكفاية. وقرأ زيد بن علي : ويقدر بضم الدال ، حيث وقع والضمير في فرحوا عائد على الذين ينقضون ، وهو استئناف إخبار عن جهلهم بما أوتوا من بسطة الدنيا عليهم ، وفرحهم فرح بطر وبسط لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم ، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة بفضل الله به ، واستجهلهم بهذا الفرح إذ هو فرح بما يزول عن قريب وينقضي. ويبعد قول من ذهب إلى أنه معطوف على صلات. والذين ينقضون أي : يفسدون في الأرض ، وفرحوا بالحياة الدنيا. وفي الكلام تقديم وتأخير. ومتاع : معناه ذاهب مضمحل يستمتع به قليلا ثم يفنى. كما قال الشاعر :

تمتع يا مشعث إن شيئا

سبقت به الممات هو المتاع

وقال آخر :

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى

غير أن لا بقاء للإنسان

وقال آخر :

تمتع من الدنيا فإنك فان

من النشوات والنساء الحسان

قال الزمخشري : خفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئا نذرا ، يتمتع به كعجالة الراكب ، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك انتهى. وهذا معنى قول الحسن : أعلم الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الحياة الدنيا في جنب ما أعد الله لأوليائه في الآخرة نذر ليس يتمتع به كعجالة الراكب ، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك. وقال ابن عباس : زاد كزاد الرعي. وقال مجاهد : قليل ذاهب من متع النهار إذا ارتفع فلا بد له من زوال.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) : نزلت : ويقول الذين كفروا ، في مشركي مكة ، طلبوا مثل آيات الأنبياء. والملتمس ذلك هو عبد الله بن أبي أمية وأصحابه ، رد تعالى

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ / ٧.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٧.

٣٨٤

على مقترحي الآيات من كفار قريش كسقوط السماء عليهم كسفا. وقولهم : سير علينا الأخشبين ، واجعل لنا البطاح محارث ومغترسا كالأردن ، وأحي لنا مضينا وأسلافنا ، ولم تجر عادة الله في الإتيان بالآيات المقترحة إلا إذا أراد هلاك مقترحها ، فرد تعالى عليهم بأن نزول الآية لا يقتضي ضرورة إيمانكم وهداكم ، لأنّ الأمر بيد الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف يطابق قولهم : لو لا أنزل عليه آية من ربه ، قل إن الله يضل من يشاء؟ (قلت) : هو كلام يجري مجرى التعجب من قولهم ، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يؤتها نبي قبله ، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية ، فإذا جحدوها ولم يعتدوا بها وجعلوه كأنه لم ينزل عليه قط كان موضع التعجب والاستنكار ، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم إن الله يضل من يشاء ، فمن كان على صفتكم من التصميم وشدة التسليم في الكفر فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن أنزلت كل آية ، ويهدي إليه من كان على خلاف صفتكم. وقال أبو علي الجبائي : يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره ، ويهدي إليه من أناب أي : إلى جنته من أناب أي : من تاب. والهدى تعلقه بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه ، وذلك يدل على أنه يضل عن الثواب بالعقاب ، لا عن الدين بالكفر ، على ما ذهب إليه من خالفنا انتهى. وهي على طريقة الاعتزال.

والضمير في إليه عائد على القرآن ، أو على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والظاهر أنه عائد على الله تعالى على حذف مضاف أي : إلى دينه وشرعه. وأناب أقبل إلى الحق ، وحقيقته دخل في توبة الخير. والذين آمنوا : بدل من أناب. واطمئنان القلوب سكونها بعد الاضطراب من خشيته. وذكر الله ذكر رحمته ومغفرته ، أو ذكر دلائله على وحدانيته المزيلة لعلف الشبه. أو تطمئن بالقرآن ، لأنه أعظم المعجزات تسكن به القلوب وتنتبه. ثم ذكر الحض على ذكر الله وأنه به تحصل الطمأنينة ترغيبا في الإيمان ، والمعنى : أنه بذكره تعالى تطمئن القلوب لا بالآيات المقترحة ، بل ربما كفر بعدها ، فنزل العذاب كما سلف في بعض الأمم. وجوزوا في الذين أن يكون بدلا من الذين ، وبدلا من القلوب على حذف مضاف أي : قلوب الذين ، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين ، وأن يكون مبتدأ خبره ما بعده.

وطوبى : فعل من الطيب ، قلبت ياؤه واوا لضمة ما قبلها كما قلبت في موسر ،

٣٨٥

واختلفوا في مدلولها : فقال أبو الحسن الهنائي : هي جمع طيبة قالوا في جمع كيسة كوسى ، وصيفة صوفى. وفعلى ليست من ألفاظ الجموع ، فلعله يعني بها اسم جمع. وقال الجمهور : هي مفرد مصدر كبشرى وسقيا ورجعى وعقبى ، واختلف القائلون بهذا في معناها. فقال الضحاك : المعنى غبطة لهم. وعنه أيضا : أصبت خيرا. وقال عكرمة : نعمى لهم. وقال ابن عباس : فرح وقرة عين. وقال قتادة : حسنى لهم. وقال النخعي : خير لهم ، وعنه أيضا كرامة لهم. وعن سميط بن عجلان : دوام الخير. وهذه أقوال متقاربة ، والمعنى العيش الطيب لهم. وعن ابن عباس ، وابن جبير : طوبى اسم للجنة بالحبشية. وقيل : بلغة الهند. وقال أبو هريرة ، وابن عباس أيضا ، ومعتب بن سمي ، وعبيد بن عمير ، ووهب بن منبه : هي شجرة في الجنة. وروي مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث عتبة بن عبيد السلمي أنه قال ، وقد سأله أعرابي : يا رسول الله أفي الجنة فاكهة؟ قال : «نعم فيها شجرة تدعى طوبى» وذكر الحديث. قال القرطبي : الصحيح أنها شجرة للحديث المرفوع حديث عتبة ، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي ، وذكره أبو عمر في التمهيد والثعلبي. وطوبى : مبتدأ ، وخبره لهم. فإن كانت علما لشجرة في الجنة فلا كلام في جواز الابتداء ، وإن كانت نكرة فمسوغ الابتداء بها ما ذهب إليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم : سلام عليك ، إلا أنه التزم فيه الرفع على الابتداء ، فلا تدخل عليه نواسخه هكذا قال : ابن مالك. ويرده أنه قرىء : وحسن مآب بالنصب ، قرأه كذلك عيسى الثقفي ، وخرج ذلك ثعلب على أنه معطوف على طوبى ، وأنها في موضع نصب ، وحسن مآب معطوف عليها. قال ثعلب : وطوبى على هذا مصدر كما قالوا : سقيا. وخرجه صاحب اللوامح على النداء قال : بتقدير يا طوبى لهم ، ويا حسن مآب. فحسن معطوف على المنادى المضاف في هذه القراءة ، فهذا نداء للتحنين والتشويق كما قال : يا أسفى على الفوت والندبة انتهى. ويعني بقوله : معطوف على المنادى المضاف ، أنّ طوبى مضاف للضمير ، واللام مقحمة كما أقحمت في قوله : يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام ، وقول الآخر : يا بؤس للحرب التي ، ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل : يا طوباهم وحسن مآب أي : ما أطيبهم وأحسن مآبهم ، كما تقول : يا طيبها ليلة أي : ما أطيبها ليلة. وقرأ بكرة الأعرابي طيبى بكسر الطاء ، لتسلم الياء من القلب ، وإن كان وزنها فعلى ، كما كسروا في بيض لتسلم الياء ، وإن كان وزنها فعلا كحمر. وقال الزمخشري : أصبت خيرا وطيبا ، ومحلها النصب أو الرفع كقولك : طيبا لك ، وطيب لك ، وسلاما لك ، وسلام لك ، والقراءة في قوله : وحسن مآب بالرفع والنصب

٣٨٦

بذلك على محلها ، واللام في لهم للبيان مثلها في سقيا لك. وقرىء : وحسن مآب بفتح النون ، ورفع مآب. فحسن فعل ماض أصله وحسن نقلت ضمة سينه إلى الحاء ، وهذا جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا : حسن ذا أدبا.

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) : قال قتادة ، وابن جريج ، ومقاتل : لما رأوا كتاب الصلح يوم الحديبية وقد كتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو : ما يعرف الرحمن إلا مسيلمة ، فنزلت. وقيل : سمع أبو جهل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : يا رحمن ، فقال : إن محمدا ينهانا عن عبادة آلهة وهو يدعو إلهين فنزلت. ذكر هذا علي بن أحمد النيسابوري ، وعن ابن عباس : لما قيل لكفار قريش اسجدوا للرحمن قالوا : وما الرحمن فنزلت. قال الزمخشري مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني : أرسلناك إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات انتهى. ولم يتقدم إرسال يشار إليه بذلك ، إلا إن كان يفهم من المعنى فيمكن ذلك. وقال الحسن : كإرسالنا الرسل أرسلناك ، فذلك إشارة إلى إرساله الرسل. وقيل : الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (١) كما أنفذ الله هذا كذلك أرسلناك. وقال ابن عطية : والذي يظهر لي أنّ المعنى كما أجرينا العادة بأنّ الله يضل من يشاء ويهدي بالآيات المقترحة ، فكذلك فعلنا في هذه الأمة أرسلناك إليهم بوحي ، لا بالآيات المقترحة ، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء انتهى. وقال الحوفي : الكاف للتشبيه في موضع نصب أي : كفعلنا الهداية والإضلال ، والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسه من أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقال أبو البقاء : كذلك التقدير الأمر كذلك. قد خلت من قبلها أمم أي : تقدمتها أمم كثيرة ، والمعنى : أرسلت فيهم رسل فمثل ذلك الإرسال أرسلناك. ودل هذا المحذوف الذي يقتضيه المعنى على أنّ الإشارة بذلك إلى إرساله تعالى الرسل كما قال الحسن ، ولتتلو أي : لتقرأ عليهم الكتاب المنزل عليك. وعلة الإرسال هي الإبلاغ للدين الذي أتى به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يكفرون أي : وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن جملة حالية أي : أرسلناك في أمة رحمة لها مني وهم يكفرون بي أي : وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن بالبليغ الرحمة. والظاهر أنّ الضمير في قوله : وهم ، عائد على أمة المرسل إليهم الرسول

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ٢٧.

٣٨٧

إعادة على المعنى ، إذ لو أعاد على اللفظ لكان التركيب وهي تكفر ، والمعنى : أرسلناك إليهم وهم يدينون دين الكفر ، فهدى الله بك من أراد هدايته. وقيل : يعود على الذين قالوا : الأمم السالفة أرسلت إليهم الرسل والأمة التي أرسلت إليها جميعهم جاءتهم الرسل وهم يدينون دين الكفر ، فيكون في ذلك تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ أمته مثل الأمم السالفة. ونبه على الوصف الموجب لإرسال الرسول وهو الرحمة الموجبة لشكر الله على إنعامه عليهم ببعثة الرسول والإيمان به. قل : هو أي الرحمن الذي كفروا به هو ربي الواحد المتعال عن الشركاء ، عليه توكلت في نصرتي عليكم ، وجميع أموري ، وإليه مرجعي ، فيثبتني على مجاهدتكم.

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) : قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : إن الكفار قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سير جبلي مكة فقد ضيقا علينا ، واجعل لنا أرضا قطعا غراسا ، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا ، وفلانا وفلانا ، فنزلت معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله. ولما ذكر تعالى علة إرساله وهي تلاوة ما أوحاه إليه ، ذكر تعظيم هذا الموحى وأنه لو كان قرآنا تسير به الجبال عن مقارها ، أو تقطع به الأرض حتى تتزايل قطعا قطعا ، أو تكلم به الموتى فتسمع وتجيب ، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ، ونهاية في الإنذار والتخويف. كما قال : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) (٢) الآية فجواب لو محذوف وهو ما قدرناه ، وحذف جواب لو لدلالة المعنى عليه جائز نحو قوله تعالى : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) (٣) (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) (٤) وقال الشاعر :

وجدك لو شيء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد عنك مدفعا

وقيل : تقديره لما آمنوا به كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) (٥) قال الزجاج. وقال الفراء : هو

__________________

(٢) سورة الحشر : ٥٩ / ٢١.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٦٥.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٢٧.

(٥) سورة الأنعام : ٦ / ١١١.

٣٨٨

متعلق بما قبله ، والمعنى : وهم يكفرون بالرحمن. ولو أن قرآنا سيرت به الجبال وما بينهما اعتراض ، وعلى قول الفراء : يترتب جواب لو أن يكون لما آمنوا ، لأنّ قولهم وهم يكفرون بالرحمن ليس جوابا ، وإنما هو دليل على الجواب. وقيل : معنى قطعت به الأرض شققت فجعلت أنهارا وعيونا. ويترتب على أن يكون الجواب المحذوف لما آمنوا قوله : بل لله الأمر جميعا أي : الإيمان والكفر ، إنما يخلقهما الله تعالى ويريدهما. وأما على تقدير لكان هذا القرآن ، فيحتاج إلى ضميمة وهو أن يقدر : لكان هذا القرآن الذي أوحينا إليك المطلوب فيه إيمانهم وما تضمنه من التكاليف ، ثم قال : بل لله الأمر جميعا أي : الإيمان والكفر بيد الله يخلقهما فيمن يشاء. وقال الزمخشري : بل لله الأمر جميعا على معنيين : أحدهما : بل لله القدرة على كل شيء ، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها ، إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة. والثاني : بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان وهو قادر على الإلجاء. لو لا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار ، ويعضده قوله تعالى : أفلم يايئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله ، مشيئة الإلجاء والقسر لهدى الناس جميعا انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. واليأس القنوط في الشيء ، وهو هنا في قول الأكثرين بمعنى العلم ، كأنه قيل : ألم يعلم الذين آمنوا. قال القاسم بن معن هي : لغة هوازن ، وقال ابن الكلبي : هي لغة في من النخع وأنشدوا على ذلك لسحيم بن وثيل الرياحي وقال ابن الكلبي :

أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني

ألم تيأسوا إني ابن فارس زهدم

وقال رباح بن عدي :

ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه

وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

وقال آخر :

حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا

غضفا دواجن قافلا أعصامها

أي إذا علموا أنّ ليس وجد إلا لذي وارا. وأنكر الفراء أن يكون يئس بمعنى علم ، وزعم أنه لم يسمع أحد من العرب يقول : يئست بمعنى علمت انتهى. وقد حفظ ذلك غيره ، وهذا القاسم بن معن من ثقاة الكوفيين وأجلائهم نقل أنها لغة هوازن ، وابن الكلبي نقل أنها لغة لحي من النخع ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. وقيل : إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه ، لأنّ اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون ، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في معنى الترك. وحمل جماعة هنا اليأس على المعروف فيه

٣٨٩

في اللغة وهو : القنوط من الشيء ، وتأولوا ذلك. فقال الكسائي : المعنى أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش المعاندين لله ورسوله؟ وذلك أنه لما سألوا هذه الآيات اشتاق المؤمنون إليها وأحبوا نزولها ليؤمن هؤلاء الذين علم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون ، فقال الذين آمنوا من إيمانهم. وقال الفراء : وقع للمؤمنين أن لو يشاء هدى الناس جميعا فقال : أفلم ييأسوا؟ علمنا بقول آبائهم ، فالعلم مضمر كما تقول في الكلام : يئست منك أن لا تفلح كأنه قال : علمته علما قال : فيئست بمعنى علمت وإن لم يكن قد سمع ، فإنه يتوجه إلى ذلك بالتأويل. وقال أبو العباس : أفلم ييأسوا بعلمهم أن لا هداية إلا بالمشيئة؟ وإيضاح هذا المعنى أن يكون : أن لو يشاء الله متعلقا بآمنوا أي : أفلم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ، ولهداهم إلى الإيمان أو الجنة. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه ، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله : ولو أن قرآنا الآية على التأويل في المحذوف المقدر. قال في هذه : أفلم ييأس المؤمنون انتهى. وهذا قول الفراء الذي ذكرناه ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يتعلق أن لو يشاء الله بآمنوا على أو لم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا انتهى. وهذا قول أبي العباس ، ويحتمل عندي وجه آخر غير ما ذكروه ، وهو أن الكلام تام عند قوله : أفلم ييأس الذين آمنوا ، إذ هو تقرير أي : قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعاندين. وأن لو يشاء جواب قسم محذوف أي : وأقسموا لو شاء الله لهدى الناس جميعا ، ويدل على إضمار هذا القسم وجود أن مع لو كقول الشاعر :

أما والله أن لو كنت حرا

وما بالحر أنت ولا القمين

وقول الآخر :

فاقسم أن لو التقينا وأنتم

لكان لنا يوم من الشر مظلم

وقد ذكر سيبويه أنّ أن تأتي بعد القسم ، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم المقسم بالجملة عليها ، وأما على تأويل الجمهور فإن عندهم هي المخففة من الثقيلة أي : أنه لو يشاء الله. وقرأ علي وابن عباس قال الزمخشري وجماعة من الصحابة والتابعين ، وقال غيره ، وعكرمة ، وابن أبي مليكة ، والجحدري ، وعلي بن الحسين ، وابنه زيد ، وأبو زيد المزني ، وعلي بن نديمة ، وعبد الله بن يزيد : أفلم يتبين من بينت كذا إذا عرفته. وتدل هذه القراءة على أنّ معنى أفلم ييأس هنا معنى العلم ، كما تظافرت النقول أنها لغة لبعض العرب.

٣٩٠

وهذه القراءة ليست قراءة تفسير لقوله : أفلم ييأس ، كما يدل عليه ظاهر كلام الزمخشري ، بل هي قراءة مسندة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليست مخالفة للسواد إذ كتبوا ييئس بغير صورة الهمزة ، وهذا كقراءة : (فَتَبَيَّنُوا) (١) و (فَثَبِّتُوا) (٢) وكلتاهما في السبعة. وأما قول من قال : إنما كتبه الكاتب وهو ناعس ، فسوى أسنان السين فقول زنديق ملحد. وقال الزمخشري : وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتا بين دفتي الإمام ، وكان متقلبا في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهتمين عليه ، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه ، خصوصا عن القانون الذي إليه المرجع ، والقاعدة التي عليها البناء ، هذه والله فرية ما فيها مرية انتهى. وقال الفراء : لا يتلى إلا كما أنزل : أفلم ييأس انتهى.

والكفار عام في جميع الكفار ، وهذا الأمر مستمر فيهم إلى يوم القيامة قاله : الحسن ، وابن السائب ، أو هو ظاهر اللفظ. وقال ابن عطية : كفار قريش ، والعرب لا تزال تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغزواته. وقال مقاتل والزمخشري : كفار مكة. قال الزمخشري : تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في أنفسهم وأولادهم وأموالهم ، أو تحل القارعة قريبا منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شررها ، وتتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد الله وهو موتهم ، أو القيامة انتهى. وقال الحسن : حال الكفرة هكذا هو أبدا ، ووعد الله قيام الساعة. والظاهر أنّ الضمير في تحل عائد على قارعة قاله الحسن. وقالت فرقة : التاء للخطاب ، والضمير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم بجيشك كما حلّ بالحديبية ، وعزاه الطبري إلى : ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وقاله عكرمة. ويكون وعد الله فتح مكة ، وكان الله قد وعده ذلك ، وقاله ابن عباس ومجاهد. وقرأ مجاهد ، وابن جبير : أو يحل بالياء على الغيبة ، واحتمل أن يكون عائدا على معنى القارعة راعى فيه التذكير لأنها بمعنى البلاء ، أو تكون الهاء في قارعة للمبالغة ، فذكر واحتمل أن يكون عائدا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : ويحل الرسول قريبا. وقرأ أيضا من ديارهم على الجمع. وقال ابن عباس : القارعة العذاب من السماء. وقال عكرمة : السرايا والطلائع. وفي قوله : ولقد استهزىء الآية ، تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام ، وأنّ حالك حال من تقدمك من الرسل ، وأنّ المستهزئين يملى لهم أي : يمهلون ثم يؤخذون. وتنبيه على أنّ

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٩٤.

(٢) سورة الأنفال : ٨ / ١٢.

٣٩١

حال من استهزأ بك ، وإن أمهل حال أولئك في أخذهم ووعيد لهم. وفي قوله : فكيف كان عقاب استفهام معناه التعجب بما حل ، وفي ضمنه وعيد معاصري الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكفار.

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ. لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) : من موصولة صلتها ما بعدها ، وهي مبتدأ والخبر محذوف تقديره : كمن ييئس ، كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع ، كما حذف من قوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (١) تقديره : كالقاسي قلبه الذي هو في ظلمة. ودل عليه قوله تعالى : وجعلوا لله شركاء ، كما دل على القاسي (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) (٢) ويحسن حذف هذا الخبر كون المبتدأ يكون مقابله الخبر المحذوف ، وقد جاء مثبتا كثيرا كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) (٣) (أَفَمَنْ يَعْلَمُ) (٤) ثم قال : (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) (٥). والظاهر أنّ قوله تعالى : وجعلوا لله شركاء ، استئناف إخبار عن سوء صنيعهم ، وكونهم أشركوا مع الله ما لا يصلح للألوهية. نعى عليهم هذا الفعل القبيح ، هذا والباري تعالى هو المحيط بأحوال النفوس جليها وخفيها. ونبه على بعض حالاتها وهو الكسب ، ليتفكر الإنسان فيما يكسب من خير وشر ، وما يترتب على الكسب في الجزاء ، وعبر بقائم عن الإحاطة والمراقبة التي لا يغفل عنها. وقال الزمخشري : ويجوز أن يقدر ما يقع خبرا للمبتدأ ، ويعطف عليه وجعلوا لله أي : وجعلوا ، وتمثيله : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه ، وجعلوا له شركاء ، وهو الله الذي يستحق العبادة وحده انتهى. وفي هذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله : وجعلوا لله أي : وجعلوا له ، وفيه حذف الخبر عن المقابل ، وأكثر ما جاء هذا الخبر مقابلا. وفي تفسير أبي عبد الله الرازي قال : الشديد صاحب العقد ، الواو في قوله تعالى : وجعلوا واو الحال ، والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجود ، والحال أنهم جعلوا له شركاء ، ثم أقيم الظاهر وهو لله مقام المضمر تقديرا لألوهيته وتصريحا بها ، كما تقول : معطي الناس ومغنيهم موجود ، ويحرم مثلي انتهى. وقال ابن عطية : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تضر ولا

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٢٢.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٢٢.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ١٧.

(٤) سورة الرعد : ١٣ / ١٩.

(٥) سورة الرعد : ١٣ / ١٩.

٣٩٢

تنفع؟ هذا تأويل. ويظهر أنّ القول مرتبط بقوله : وجعلوا لله شركاء ، كأنّ المعنى : أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك ، هل ينتقم ويعاقب أم لا؟ وأبعد من ذهب إلى أنّ قوله : أفمن هو قائم المراد به الملائكة الموكلون ببني آدم ، حكاه القرطبي عن الضحاك. والخبر أيضا محذوف تقديره : كغيره من المخلوقين. وأبعد أيضا من ذهب إلى أن قوله : وجعلوا معطوفا على استهزىء ، أي : استهزؤوا وجعلوا ، ثم أمره تعالى أن يقول لهم : سموهم أي : اذكروهم بأسمائهم ، والمعنى : أنهم ليسوا ممن يذكر ويسمى ، إنما يذكر ويسمى من هو ينفع ويضرّ ، وهذا مثل من يذكر لك أن شخصا يوقر ويعظم وهو عندك لا يستحق ذلك فتقول لذاكره : سمه حتى أبين لك زيفه وأنه ليس كما تذكر. وقريب من هذا قول من قال في قوله : قل سموهم ، إنما يقال ذلك في الشيء المستحقر الذي يبلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم ، فعند ذلك يقال له : سمه إن شئت أي : هو أخس من أن يذكر ويسمى. ولكن إن شئت أن تضع له اسما فافعل ، فكأنه قال : سموهم بالآلهة على جهة التهديد. والمعنى : سواء سميتموهم بهذا الاسم أم لم تسموهم به فإنها في الحقارة بحيث لا يستحق أن يلفت العاقل إليها. وقيل : سموهم إذا صنعوا وأماتوا وأحيوا لتصح الشركة. وقيل : طالبوهم بالحجة على أنها آلهة. وقيل : صفوهم وانظروا هل يستحقون الإلهية؟ وقال الزمخشري : جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ، وبينوهم بأسمائهم. وقيل : هذا تهديد كما تقول لمن تهدده على شرب الخمر : سم الخمر بعد هذا. وأم في قوله : أم تنبؤونه منقطعة ، وهو استفهام توبيخ. قال الزمخشري : بل أتنبؤونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض ، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم ، والمراد نفي أن يكون له شركاء ، ونحوه : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) (١) انتهى. فجعل الفاعل في قوله : بما لا يعلم ، عائدا على الله. والعائد على بما محذوف أي : بما لا يعلمه الله. وكنا قد خرجنا تلك الآية على الفاعل في قوله : بما لا يعلم ، عائد على ما ، وقررنا ذلك هناك ، وهو يتقرر هنا أيضا. أي : أتنبؤون الله بشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم البتة. وذكر نفي العلم في الأرض ، إذ الأرض هي مقر تلك الأصنام ، فإذا انتفى علمها في المقر التي هي فيه ، فانتفاؤه في السموات أحرى. وقرأ الحسن : تنبؤونه من أنبأ. وقيل : المراد تقدرون أن تعلموه بأمر تعلمونه أنتم وهو لا يعلمه ، وخص الأرض بنفي الشريك بأنه لم يكن له شريك البتة ، لأنهم

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ١.

٣٩٣

ادّعوا أنّ لله شريكا في الأرض لا في غيرها. والظاهر في أم في قوله : أم ، بظاهر أنها منقطعة أيضا أي : بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة أي : أنكم تنطقون بتلك الأسماء وتسمونها آلهة ولا حقيقة لها ، إذ أنتم لا تعلمون أنها لا تتصف بشيء من أوصاف الألوهية كقوله : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) (١) وقال مجاهد : أم بظاهر من القول. وقال قتادة : بباطل من القول ، لا باطن له في الحقيقة. ومنه قول الشاعر :

أعيرتنا ألبانها ولحومها

وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر

أي باطل. وقيل : أم متصلة ، والتقدير : أم تنبئونه بظاهر من القول لا حقيقة له كقوله : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) (٢) ثم قال بعد هذا الحجاج على وجه التحقير لما هم عليه : بل زين للذين كفروا مكرهم. وقال الواحدي : لما ذكر الدلائل على فساد قولهم وقال : دع ذلك الدليل لأنهم لا ينتفعون به ، لأنه زيّن لهم مكرهم. وقرأ مجاهد : بل زين على البناء للفاعل مكرهم بالنصب. والجمهور : زين على البناء للمفعول مكرهم بالرفع أي : كيدهم للإسلام بشركهم ، وما قصدوا بأقوالهم وأفعالهم من مناقضة الشرع. وقرأ الكوفيون : وصدّوا هنا ، وفي غافر بضم الصاد مبنيا للمفعول ، فالفعل متعد. وقرأ باقي السبعة : بفتحها ، فاحتمل التعدّي واللزوم أي : صدوا أنفسهم أو غيرهم. وقرأ ابن وثاب : وصدوا بكسر الصاد ، وهي كقراءة ردت إلينا بكسر الراء. وفي اللوامح الكسائي لابن يعمر : وصدوا بالكسر لغة ، وفي الضم أجراه بحرف الجر نحو قبل ، فأما في المؤمن فبالكسر لابن وثاب انتهى. وقرأ ابن أبي إسحاق : وصد بالتنوين عطفا على مكرهم. قال الزمخشري : ومن يضلل الله ، ومن يخذله يعلمه أنه لا يهتدي ، فما له من هاد فما له من واحد يقدر على هدايته انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. والعذاب في الدنيا هو ما يصيبهم بسبب كفرهم من القتل والأسر والنهب والذلة والحروب والبلايا في أجسامهم ، وغير ذلك مما يمتحن به الكفار. وكان عذاب الآخرة أشق على النفوس ، لأنه إحراق بالنار دائما (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (٣) ومن واق : من ساتر يحفظهم من العذاب ويحميهم ، ولما ذكر ما أعد للكفار في الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين فقال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٤٠.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٣٠.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٥٦.

٣٩٤

الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) : مثل الجنة أي : صفتها التي هي في غرابة المثل ، وارتفع مثل على الابتداء في مذهب سيبويه ، والخبر محذوف أي : فيما قصصنا عليكم مثل الجنة ، وتجري من تحتها الأنهار تفسير لذلك المثل. تقول : مثلت الشيء إذا وصفته وقربته للفهم ، وليس هنا ضرب مثل لها فهو كقوله تعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) (١) أي الصفة العليا ، وأنكر أبو عليّ أن يكون مثل بمعنى صفة قال : إنما معناه التنبيه. وقال الفراء : أي صفتها أنها تجري من تحتها الأنهار ، ونحو هذا موجود في كلام العرب انتهى. ولا يمكن حذف أنّها ، وإنما فسر المعنى ولم يذكر الإعراب. وتأول قوم على القرآن مثل مقحم ، وأنّ التقدير : الجنة التي وعد المتقون تجري ، وإقحام الأسماء لا يجوز. وحكوا عن الفراء أنّ العرب تقحم كثيرا المثل والمثل ، وخرج على ذلك : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٢) أي : كهو شيء. فقال غيرهما : الخبر تجري ، كما تقول : صفة زيد أسمر ، وهذا أيضا لا يصح أن يكون تجري خبرا عن الصفة ، وإنما يتأول تجري على إسقاط أن ورفع الفعل ، والتقدير : أن تجري خبر ثان الأنهار. وقال الزجاج : معناه مثل الجنة جنة تجري على حذف الموصوف تمثيلا لما غاب عنا بما نشاهد انتهى. وقال أبو علي : لا يصح ما قال الزجاج ، لا على معنى الصفة ، ولا على معنى الشبه ، لأن الجنة التي قدرها جنة ولا تكون الصّفة ، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين وهو حدث ، والجنة جنة فلا تكون المماثلة. وقرأ علي وابن مسعود : مثال الجنة على الجمع أي : صفاتها. وفي اللوامح على السلمى أمثال الجنة جمع ، ومعناه : صفات الجنة. وذلك لأنها صفات مختلفة ، فلذلك جمع نحو الحلقوم والإسعال. والأكل ما يؤكل فيها ، ومعنى دوامه : أنه لا ينقطع أبدا ، كما قال تعالى : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) (٣) وقال إبراهيم التيمي : أي لذاته دائمة لا تزاد بجوع ولا تمل من شبع. وظلها أي : دائم البقاء والراحة ، لا تنسخة شمس ، ولا يميل لبرد كما في الدنيا. أي : تلك الجنة عاقبة الذين اتقوا أي : اجتنبوا الشرك.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ. وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) : نزلت في مؤمني أهل الكتابين ، ذكره الماوردي ، واختاره الزمخشري فقال : من أسلم من اليهود كعبد الله بن

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٢٧.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ١١.

(٣) سورة الواقعة : ٥٦ / ٣٣.

٣٩٥

سلام وكعب وأصحابهما ، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلا : أربعون من نجران ، وثمانية من اليمن ، واثنان وثلاثون من الحبشة. ومن الأحزاب يعني : ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعداوة نحو : كعب بن الأشرف وأصحابه ، والسيد والعاقب أسقفي نجران وأشياعهما ، ومن ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم غير محرف ، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام ، ونعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما حرفوه وبدلوه انتهى. وعن ابن عباس ، وابن زيد : في مؤمني اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه ، وعن قتادة في أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مدحهم الله تعالى بأنهم يسرون بما أنزل إليك من أمر الدين. وعن مجاهد ، والحسن ، وقتادة : أن المراد بأهل الكتاب جميعهم يفرحون بما أنزل من القرآن ، إذ فيه تصديق كتبهم ، وثناء على أنبيائهم وأحبارهم ورهبانهم الذين هم على دين موسى وعيسى عليهما‌السلام. وضعف هذا القول بأنّ همهم به أكثر من فرحهم ، فلا يعتد بفرحهم. وأيضا فإنّ اليهود والنصارى ينكرون بعضه ، وقد قذف تعالى بين الذين ينكرون بعضه وبين الذين آتيناهم الكتاب. والأحزاب قال مجاهد : هم اليهود ، والنصارى ، والمجوس. وقالت فرقة : هم أحزاب الجاهلية من العرب. وقال مقاتل : الأحزاب بنو أمية ، وبنو المغيرة ، وآل أبي طلحة. ولما كان ما أنزل إليه يتضمن عبادة الله ونفي الشريك ، أمر بجواب المنكرين ، فقيل له : قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ، فإنكاركم لبعض القرآن الذي أنزل لعبادة الله وتوحيده ، وأنتم تدعون وجوب العبادة ونفي الشريك إليه ، أدعوا إلى شرعه ودينه ، وإليه مرجعي عند البعث يوم القيامة في جميع أحوالي في الدنيا والآخرة. وقرأ أبو جليد عن نافع : ولا أشرك بالرفع على القطع أي : وأنا لا أشرك به. وجوز أن يكون حالا أي : أن أعبد الله غير مشرك به. وكذلك أي : مثل إنزالنا الكتاب على الأنبياء قبلك ، لأن قوله : والذين آتيناهم الكتاب ، يتضمن إنزاله الكتاب ، وهذا الذي أنزلناه هو بلسان العرب ، كما أن الكتب السابقة بلسان من نزلت عليه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (١) وأراد بالحكم أنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم. وقال ابن عطية : وقوله : وكذلك المعنى : كما يسرنا لهؤلاء الفرح ولهؤلاء الإنكار لبعض كذلك أنزلناه حكما عربيا انتهى. وانتصب حكما على الحال من ضمير النصب في أنزلناه ، والضمير عائد على القرآن ، والحكم ما تضمنه القرآن من المعاني. ولما كانت العبارة عنه بلسان العرب نسبه

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٤.

٣٩٦

إليها. ولئن اتبعت : الخطاب لغير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه معصوم من اتباع أهوائهم. وقال الزمخشري : هذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه. أن لا يزال زال عند الشبه بعد استمساكه بالحجة ، وإلا فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شدة الشكيمة بمكان.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ. يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ. وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) : قال الكلبي : عيرت اليهود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح ، ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء ، فنزلت هذه الآية. قيل : وكانوا يقترحون عليه الآيات وينكرون النسخ ، فرد الله تعالى عليهم بأنّ الرسل قبله كانوا مثله ذوي أزواج وذرية ، وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ، ولا يأتون بما يقترح عليهم. ومن الشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات ، فلكل وقت حكم يكتب فيه على العباد أي : يفرض عليهم ما يريده تعالى. وقوله : لكل أجل كتاب ، لفظ عام في الأشياء التي لها آجال ، لأنه ليس منها شيء إلا وله أجل في بدئه وفي خاتمته ، وذلك الأجل مكتوب محصور. وقال الضحاك والفراء : المعنى لكل كتاب أجل ، ولا يجوز ادعاء القلب إلا في ضرورة الشعر وأما هنا فالمعنى في غاية الصحة بلا عكس ولا قلب بل ادعاء القلب هنا لا يصح المعنى عليه ، إذ ثم أشياء كتبها الله تعالى أزلية كالجنة ونعيم أهلها ، لا أجل لها. والظاهر أنّ المحو عبارة عن النسخ من الشرائع والأحكام ، والإثبات عبارة عن دوامها وتقررها وبقائها أي : يمحو ما يشاء محوه ، ويثبت ما يشاء إثباته. وقيل : هذا عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة ، ونسب هذا إلى : عمر ، وابن مسعود ، وأبي وائل ، والضحاك ، وابن جريج ، وكعب الأحبار ، والكلبي. وروي عن عمر ، وابن مسعود ، وأبي وائل في دعائهم ما معناه إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم ، أو في الأشقياء فامحني منهم. وإن صح عنهم فينبغي أن يتأول على أن المعنى : إن كنت أشقيتنا بالمعصية فامحها عنا بالمغفرة. ومعلوم أنّ الشقاء والسعادة والرزق والخلق والأجل لا يتغير شيء منها. وقال ابن عباس : يمحوا الله ما يشاء من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال ، فإنه لا محو فيها. وقال الحسن وفرقة : هي آجال بني آدم تكتب في ليلة القدر. وقيل : في ليلة نصف شعبان آجال الموتى ، فتمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الأموات. وقال قيس بن عباد : في العاشر من رجب يمحو

٣٩٧

الله ما يشاء ويثبت. وقال ابن عباس ، والضحاك : يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة ، لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ، ويثبت غيره. وقيل : يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة ، ويثبت إيمانهم وطاعتهم. وقيل : يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضا من الأناسي ، وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها. وقال الزمخشري : يمحو الله ما يشاء ، ينسخ ما يستصوب نسخه ، ويثبت به له ما يرى المصلحة في إثباته ، أو يتركه غير منسوخ ، والكلام في نحو هذا واسع المجال انتهى. وهو وقول : قتادة ، وابن جبير ، وابن زيد قالوا : يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه. وقال مجاهد : يحكم الله أمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، إلا الحياة والموت والشقاوة والسعادة. وقال الكلبي : يمحو من الرزق ويزيد فيه. وقال ابن جبير أيضا : يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ، ويترك ما يشاء فلا يغفره. وقال عكرمة : يمحو يعني بالتوبة جميع الذنوب ، ويثبت بدل الذنوب حسنات. قال تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (١) وقيل : ينسى الحفظة من الذنوب ولا ينسى. وقال الحسن : يمحو الله ما يشاء أجله ، ويثبت من يأتي أجله. وقال السدي : يمحو الله يعني القمر ، ويثبت يعني الشمس بيانه (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) (٢) الآية.

وقال ابن عباس : إنّ لله لوحا محفوظا وذكر وصفه في كتاب التحبير ، ثم قال : لله تعالى فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة ، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء. وقال الربيع : هذا في الأرواح حالة النوم يقبضها عند النوم إذا أراد موته فجأة أمسكه ، ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه ، بيانه قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٣) الآية. وقال علي بن أبي طالب : يمحو الله ما يشاء من القرون لقوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) (٤) ويثبت ما يشاء منها لقوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) (٥) فيمحو قرنا ويثبت قرنا. وقال ابن عباس : يمحو يميت الرجل على ضلالة وقد عمل بالطاعة الزمن الطويل ، يختمه بالمعصية ويثبت عكسه. وقيل : يمحو الدنيا ويثبت الآخرة. وفي الحديث عن أبي الدرداء : «أنه تعالى يفتح الذكر في ثلاث ساعات بقين من الليل فينظر ما

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٧.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ١٢.

(٣) سورة الزمر : ٣٩ / ٤٢.

(٤) سورة يس : ٣٦ / ٣١.

(٥) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٤٢.

٣٩٨

في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء» وقال الغزنوي : ما في اللوح المحفوظ خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة ، فيحتمل التبديل وإحاطة الخلق بجميع علم الله تعالى ، وما في علمه تعالى من تقدير الأشياء لا يبدل انتهى. وقيل : غير ذلك مما يطول نقله. وقد استدلت الرافضة بقوله : يمحو الله ما يشاء ويثبت ، على أنّ البدء جائز على الله تعالى ، وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أنّ الأمر خلاف ما اعتقده ، وهذا باطل لأنّ علمه تعالى من لوازم ذاته المخصوصة ، وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محالا. وأما الآية فقد احتملت تلك التأويلات المتقدمة ، فليست نصا فيما ادعوه ، ولو كانت نصا وجب تأويله.

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم : ويثبت مخففا من أثبت ، وباقي السبعة مثقلا من ثبت. وأما قوله : أم الكتاب فقال ابن عباس : أم الكتاب الذكر ، وقال أيضا هو وكعب : هو علم ما هو خالق ، وما خلقه عاملون. وقالت فرقة : الحلال والحرام ، وهو قول الحسن. وقال الزمخشري : أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه انتهى. وما جرى مجرى الأصل للشيء تسميه العرب ، أمّا كقولهم : أم الرأس للدماغ ، وأم القرى مكة. وقال ابن عطية : وأصوب ما يفسر به أم الكتاب أنه ديوان الأمور المحدثة التي قد سبق في القضاء أن تبدل وتمحى ، أو تثبت. وقال نحوه قتادة : إنّ جواب الشرط الأول محذوف ، وكلام ابن عطية في ما ونون التوكيد. وقال الزمخشري : وإما نرينك ، وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم ، وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم ، أو نتوفينك قبل ذلك ، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة ، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم ، فلا يهمنك إعراضهم ، ولا تستعجل بعذابهم انتهى. وقال الحوفي وغيره : فإنما عليك البلاغ جواب الشرط ، والذي تقدم شرطان ، لأنّ المعطوف على الشرط شرط. فأما كونه جوابا للشرط الأول فليس بظاهر ، لأنه لا يترتب عليه ، إذ يصير المعنى : وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب فإنما عليك البلاغ. وأما كونه جوابا للشرط الثاني هو أو نتوفينك فكذلك ، لأنه يصير التقدير : إن ما نتوفينك فإنما عليك البلاغ ، ولا يترتب وجوب التبليغ عليه على وفاته عليه‌السلام ، لأنّ التكليف ينقطع بعد الوفاة فيحتاج إلى تأويل وهو : أن يتقدر لكل شرط منهما ما يناسب أن يكون جزاء مترتبا عليه. وذلك أن يكون التقدير ـ والله أعلم ـ وأنّ ما نرينك بعض الذي نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك ، ودليل على صدقك ، إذا أخبرت بما يحل بهم. ولم يعين زمان حلوله بهم ، فاحتمل أن يقع ذلك في حياتك ،

٣٩٩

واحتمل أن يقع بهم بعد وفاتك أو نتوفينك أي : أو أن نتوفينك قبل حلوله بهم ، فلا لوم عليك ولا عتب ، إذ قد حل بهم بعض ما وعد الله به على لسانك من عذابهم ، فإنما عليك البلاغ لا حلول العذاب بهم. إذ ذاك راجع إليّ ، وعلينا جزاؤهم في تكذيبهم إياك ، وكفرهم بما جئت به.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ. وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ. وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) : الضمير في أو لم يروا عائد على الذين وعدوا ، وفي ذلك اتعاظ لمن اتعظ ، نبهوا على أن ينظروا بعض الأرض من أطرافها. ونأتي يعني بالأمر والقدرة كقوله : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ) (١) والأرض أرض الكفار المذكورين ، ويعني بنقضها من أطرافها للمسلمين : من جوانبها. كان المسلمون يغزون من حوالى أرض الكفار مما يلي المدينة ، ويغلبون على جوانب أرض مكة ، والأطراف : الجوانب. وقيل : الطرف من كل شيء خياره ، ومنه قول علي بن أبي طالب : العلوم أودية ، في أي واد أخذت منها خسرت ، فخذوا من كل شيء طرفا يعني : خيارا قاله ابن عطية ، والذي يظهر أن معنى طرفا جانبا وبعضا ، كأنه أشار إلى أنّ الإنسان يكون مشاركا في أطراف من العلوم ، لأنه لا يمكنه استيعاب جميعها ، ولم يشر إلى أنه يستغرق زمانه في علم واحد.

وقال ابن عباس والضحاك : نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك ، فننقصها بما يدخل في دينك من القبائل والبلاد المجاورة لهم ، فما يؤمنهم أن يمكنه منهم. وهذا التفسير لا يتأتى إلا أن قدر نزول هذه الآية بالمدينة. وقيل : الأرض اسم جنس ، والانتقاص من الأطراف بتخريب العمران الذي يحله الله بالكفرة. وروي هذا عن ابن عباس أيضا ، ومجاهد ، وعنهما أيضا : الانتقاص هو بموت البشر ، وهلاك الثمرات ، ونقص البركة. وعن ابن عباس أيضا : موت أشرافها وكبرائها ، وذهاب الصلحاء والأخيار ، فعلى هذا الأطراف هنا الأشراف. وقال ابن الأعرابي : الطرف والطرف الرجل الكريم. وعن عطاء بن أبي رباح : ذهاب فقهائها وخيار أهلها. وعن مجاهد : موت الفقهاء والعلماء. وقال عكرمة والشعبي : هو نقص الأنفس. وقيل : هلاك من أهلك من الأمم قبل قريش ، وهلاك أرضهم بعدهم.

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٢٦.

٤٠٠