البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

وجيش الجن إني قد أذنت لهم

يبغون تدمر بالصفاح والعمد

والمفرد عماد وعمد ، كإهاب وأهب. وقيل : عمود وعمد كأديم وأدم ، وقضيم وقضم. والعماد والعمود ما يعمد به يقال : عمدت الحائط أعمده عمدا إذا أدعمته ، فاعتمد الحائط على العماد أي : امتسك بها. ويقال : فلان عمدة قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما يحزبهم. ويجمع عماد على عمد بضمتين كشهاب وشهب ، وعمود على عمد أيضا كرسول ورسل ، وزبور وزبر هذا في الكثرة ، ويجمعان في القلة على أعمدة.

الصنو : الفرع يجمعه وآخر أصل واحد ، وأصله المثل ومنه قيل : للعم صنو ، وجمعه في لغة الحجاز صنوان بكسر الصاد كقنو وقنوان ، وبضمها في لغة تميم وقيس ، كذئب وذؤبان. ويقال : صنوان بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع تكسير ، لأنه ليس من أبنيته.

الجديد ضد الخلق والبالي ، ويقال : ثوب جديد أي كما فرغ من عمله ، وهو فعيل بمعنى مفعول كأنه كما قطع من النسج.

المثلة : العقوبة ، ويجمع بالألف والتاء كسموة وسماوات. ولغة الحجاز مثلة بفتح الميم وسكون الثاء ، ولغة تميم بضم الميم وسكون الثاء ، وسميت العقوبة بذلك لما بين العقاب والمعاقب من المماثلة كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١) أو لأنها من المثال بمعنى القصاص. يقال : أمثلت الرجل من صاحبه ، وأقصصته. أو لأنها لعظم نكالها يضرب بها المثل.

السارب : اسم فاعل من سرب أي تصرف كيف شاء. قال الشاعر :

إني سربت وكنت غير سروب

وتقرب الأحلام غير قريب

وقال الآخر :

وكل أناس قاربوا قيد فحلهم

ونحن حللنا قيده فهو سارب

أي فهو منصرف كيف شاء ، لا يدفع عن جهة ، يفتخر بعزة قومه.

المحال : القوة والإهلاك قال الأعشى :

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٤٠.

٣٤١

فرع نبع يهش في غصن المه

د غزير الندى شديد المحال

وقال عبد المطلب :

لا يغلبن صليبهم

ومحالهم أبدا محالك

ويقال : محل الرجل بالرجل مكر به وأخذه بسعاية شديدة ، والمماحلة المكايدة والمماكرة ومنه : تمحل لكذا أي : تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه. وقال أبو زيد : المحال النقمة ، وقال ابن عرفة : المحال الجدال ما حل عن أمره أي جادل. وقال القتبي : أي شديد الكيد ، وأصله من الحيلة ، جعل ميمه كميم مكان وأصله من الكون ، ثم يقال : تمكنت. وغلطه الأزهري في زيادة الميم قال : ولو كان مفعلا لظهر من الواو مثل مرود ومحول ومحور ، وإنما هو مثال كمهاد ومراس.

الكف : عضو معروف ، وجمعه في القلة أكف كصك وأصك ، وفي الكثرة كفوف كصكوك ، وأصله مصدر كف.

ظل الشيء : ما يظهر من خياله في النور ، وبمثله في الضوء.

الزبد : قال أبو الحجاج الأعلم هو ما يطرحه الوادي إذا جاش ماؤه واضطربت أمواجه. وقال ابن عطية : هو ما يحمله السيل من غثاء ونحوه ، وما يرمي به على ضفتيه من الحباب الملتبك. وقال ابن عيسى : الزبد وضر الغليان وخبثه. قال الشاعر :

فما الفرات إذا هب الرياح له

ترمي غواربه العبرين بالزبد

الجفاء : اسم لما يجفاه السيل أي يرمي ، يقال : جفأت القدر بزبدها ، وجفأ السيل بزبده ، وأجفأ وأجفل. وقال ابن الأنباري : جفاء أي متفرقا من جفأت الريح الغيم إذا قطعته ، وجفأت الرجل صرعته. ويقال : جف الوادي إذا نشف.

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ. اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) : هذه السورة مكية في قول : الحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، وابن جبير. وعن عطاء إلا قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) (١) وعن غيره إلا قوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ٤٣.

٣٤٢

الْبَرْقَ) إلى قوله : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) (١) ومدنية في قول : الكلبي ، ومقاتل ، وابن عباس ، وقتادة ، واستثنيا آيتين قالا : نزلتا بمكة وهما (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) (٢) إلى آخرهما وعن ابن عباس إلا قوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٣) إلى آخر الآية وعن قتادة مكية إلا قوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٤) الآية حكاه المهدوي. وقيل : السورة مدنية حكاه القاضي منذر بن سعد البلوطي ومكي بن أبي طالب.

قال الزمخشري : تلك إشارة إلى آيات السورة ، والمراد بالكتاب السورة أي : تلك آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها. وقال ابن عطية : من قال حروف أوائل السور مثال لحروف المعجم قال : الإشارة هنا بتلك هي إلى حروف المعجم ، ويصح على هذا أن يكون الكتاب يراد به القرآن ، ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل. والمر على هذا ابتداء ، وتلك ابتداء ثان ، وآيات خبر الثاني ، والجملة خبر الأول انتهى. ويكون الرابط اسم الإشارة وهو تلك. وقيل : الإشارة بتلك إلى ما قص عليه من أنباء الرسل المشار إليها بقوله : تلك من أنباء الغيب ، والذي قال : ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل ، هو قريب من قول مجاهد وقتادة ، والإشارة بتلك إلى جميع كتب الله تعالى المنزلة. ويكون المعنى : تلك الآيات التي قصصت عليك خبرها هي آيات الكتاب الذي أنزلته قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك. والظاهر أن قوله : والذي مبتدأ ، والحق خبره ، ومن ربك متعلق بانزل. وأجاز الحوفي أن يكون من ربك الخبر ، والحق مبتدأ محذوف ، أو هو خبر بعد خبر ، أو كلاهما خبر واحد انتهى. وهو إعراب متكلف. وأجاز الحوفي أيضا أن يكون والذي في موضع رفع عطفا على آيات ، وأجاز هو وابن عطية أن يكون والذي في موضع خفض. وعلى هذين الإعرابين يكون الحق خبر مبتدأ محذوف أي : هو الحق ، ويكون والذي أنزل مما عطف فيه الوصف على الوصف وهما لشيء واحد كما تقول : جاءني الظريف العاقل وأنت تريد شخصا واحدا. ومن ذلك قول الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهام

وليث الكتيبة في المزدحم

وأجاز الحوفي أن يكون الحق صفة الذي يعني : إذا جعلت والذي معطوفا على آيات.

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ١٢ ـ ١٤.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٣١.

(٣) سورة الرعد : ١٣ / ٣١.

(٤) سورة الرعد : ١٣ / ٣١.

٣٤٣

وأكثر الناس قيل : كفار مكة لا يصدقون أن القرآن منزل من عند الله تعالى. وقيل : المراد به اليهود والنصارى ، والأولى أنه عام. ولما ذكر انتفاء الإيمان عن أكثر الناس ، ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وما يجذبهم إلى الإيمان فيما يفكر فيه العاقل ويشاهده من عظيم القدرة وبديع الصنع. والجلالة مبتدأ ، والذي هو الخبر بدليل قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) (١) ويجوز أن يكون صفة. وقوله : يدبر الأمر يفصل الآيات خبرا بعد خبر ، وينصره ما تقدمه من ذكر الآيات قاله الزمخشري. وقرأ الجمهور : عمد بفتحتين. وقرأ أبو حيوة ، ويحيى بن وثاب : بضمتين ، وبغير عمد في موضع الحال أي : خالية عن عمد. والضمير في ترونها عائد على السموات أي : تشاهدون السموات خالية عن عمد. واحتمل هذا الوجه أن يكون ترونها كلاما مستأنفا ، واحتمل أن يكون جملة حالية أي : رفعها مرئية لكم بغير عمد. وهي حال مقدرة ، لأنه حين رفعها لم نكن مخلوقين. وقيل : ضمير النصب في ترونها عائد على عمد أي : بغير عمد مرئية ، فترونها صفة للعمد. ويدل على كونه صفة لعمد قراءة أبي : ترونه ، فعاد الضمير مذكرا على لفظ عمد ، إذ هو اسم جمع. قال أي ابن عطية : اسم جمع عمود والباب في جمعه عمد بضم الحروف الثلاثة كرسول ورسل انتهى. وهو وهم ، وصوابه : بضم الحرفين ، لأن الثالث هو حرف الإعراب فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمع. هذا التخريج يحتمل وجهين : أحدهما : أنها لها عمد ، ولا ترى تلك العمد ، وهذا ذهب إليه مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس : وما يدريك أنها بعمد لا ترى؟ وحكى بعضهم أن العمد جبل قاف المحيط بالأرض ، والسماء عليه كالقبة. والوجه الثاني : أن يكون نفي العمد ، والمقصود نفي الرؤية عن العمد ، فلا عمد ولا رؤية أي : لا عمد لها فترى. والجمهور على أن السموات لا عمد لها البتة ، ولو كان لها عمد لا حتاجت تلك العمد إلى عمد ، ويتسلسل الأمر ، فالظاهر أنها ممسكة بالقدرة الإلهية. ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢) ونحو هذا من الآيات. وقال أبو عبد الله الرازي : العماد ما يعتمد عليه ، وهذه الأجسام واقفة في الحيز العالي بقدرة الله تعالى ، فعمدها قدرة الله تعالى ، فلها عماد في الحقيقة. إلا أن تلك العمد إمساك الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الحيز العالي ، وأنتم لا ترون ذلك التدبير ، ولا تعرفون كيفية ذلك الإمساك انتهى. وعن ابن عباس : ليست من دونها دعامة

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ٣.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٦٥.

٣٤٤

تدعمها ، ولا فوقها علاقة تمسكها. وأبعد من ذهب إلى أنّ ترونها خبر في اللفظ ومعناه الأمر أي : رها وانظروا هل لها من عمد؟ وتقدم تفسير (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (١) قال ابن عطية : ثم هنا لعطف الجمل لا للترتيب ، لأنّ الاستواء على العرش قبل رفع السموات. وفي الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كان الله ولم يكن شيء قبله ، وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض» انتهى. وسخر الشمس والقمر أي : ذللهما لما يريد منهما. وقيل : لمنافع العباد. وعبر بالجريان عن السير الذي فيه سرعة ، وكل مضافة في التقدير ، والظاهر أنّ المحذوف هو ضمير الشمس والقمر أي : كليهما يجري إلى أجل مسمى. وقال ابن عطية : والشمس والقمر في ضمن ذكرهما ذكر الكواكب ، ولذلك قال : كل يجري لأجل مسمى ، أي : كل ما هو في معنى الشمس والقمر من المسخر ، وكل لفظة تقتضي الإضافة ظاهرة أو مقدرة انتهى. وشرح كل بقوله أي : كل ما هو في معنى الشمس والقمر ما أخرج الشمس والقمر من ذكر جريانهما إلى أجل مسمى ، وتحريره أن يقول على زعمه : إن الكواكب في ضمن ذكرهما أي ، ومما هو في معناهما إلى أجل مسمى. وقال ابن عباس : منازل الشمس والقمر وهي الحدود التي لا تتعداها ، قدر لكل منهما سيرا خاصا إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء. وقيل : الأجل المسمى هو يوم القيامة ، فعند مجيئه ينقطع ذلك الجريان والتسيير كما قال تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (٢) وقال : وجمع الشمس والقمر ، ومعنى تدبير الأمر إنفاذه وإبرامه ، وعبر بالتدبير تقريبا للأفهام ، إذ التدبير إنما هو النظر في إدبار الأمور وعواقبها وذلك من صفات البشر ، والأمر أمر ملكوته وربوبيته ، وهو عام في جميع الأمور من إيجاد وإعدام وإحياء وإماتة وإنزال وحي وبعث رسل وتكليف وغير ذلك. وقال مجاهد : يدبر الأمر يقضيه وحده ، ويفصل الآيات يجعلها فصولا مبينة مميزا بعضها من بعض. والآيات هنا دلائله وعلاماته في سمواته على وحدانيته ، أو آيات الكتب المنزلة ، أو آيات القرآن أقوال.

وقرأ النخعي ، وأبو رزين ، وابان بن ثعلب ، عن قتادة : ندبر الأمر نفصل بالنون فيهما ، وكذا قال أبو عمرو الداني عن الحسن فيهما ، وافق في نفصل بالنون الخفاف ، وعبد الواحد عن أبي عمرو ، وهبيرة عن حفص. وقال صاحب اللوامح : جاء عن الحسن والأعمش نفصل بالنون فقط. وقال المهدوي : لم يختلف في يدبر ، أو ليس كما قال؟ إذ قد تقدمت قراءة ابان. ونقل الداني عن الحسن : والذي تقتضيه الفصاحة أن هاتين الجملتين

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٥٤.

(٢) سورة التكوير : ٨١ / ١.

٣٤٥

استفهام إخبار عن الله تعالى. وقيل : يدبر حال من الضمير في وسخر ، ونفصل حال من الضمير في يدبر ، والخطاب في لعلكم للكفرة ، وتوقنون بالجزاء أو بأنّ هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه.

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) : لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية. ومد الأرض : بسطها طولا وعرضا ليمكن التصرف فيها ، والاستقرار عليها. قيل : مدها ودحاها من مكة من تحت البيت ، فذهبت كذا وكذا. وقيل : كانت مجتمعة عند بيت المقدس فقال لها : اذهبي كذا وكذا. قال ابن عطية : وقوله مد الأرض ، يقتضي أنها بسيطة لا كرة ، وهذا هو ظاهر الشريعة. قال أبو عبد الله الداراني : ثبت بالدليل أنّ الأرض كرة ، ولا ينافي ذلك قوله : مد الأرض ، وذلك أنّ الأرض جسم عظيم. والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح ، والتفاوت بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله تعالى. ألا ترى أنه قال : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (١) مع أن العالم والناس يسيرون عليها فكذلك هنا. وأيضا إنما ذكر مد الأرض ليستدل به على وجود الصانع ، وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس ، فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع. فتأويل مد الأرض أنه جعلها بمقدار معين ، وكونها تقبل الزيادة والنقص أمر جائز ممكن في نفسه ، فالاختصاص بذلك المقدار المعين لا بد أن يكون بتخصيص مخصص ، وتقدير مقدر ، وبهذا يحصل الاستدلال على وجود الصانع انتهى ملخصا. وقال أبو بكر الأصم : المد البسط إلى ما لا يرى منتهاه ، فالمعنى : جعل الأرض حجما يسيرا لا يقع البصر على منتهاه ، فإن الأرض لو كانت أصغر حجما مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به انتهى. وهذا الذي ذكره من أنها لو كانت أصغر إلى آخره غير مسلم ، لأن المنتفع به من الأرض المعمور ، والمعمور أقل من غير المعمور بكثير. فلو أراد تعالى أن يجعلها مقدار المعمور المنتفع به لم يكن ذلك ممتنعا ، فتحصل في قوله : مد الأرض ثلاث تأويلات بسطها بعد أن كانت مجتمعة ، واختصاصها بمقدار معين وجعل حجمها كبيرا لا يرى منتهاه. والرواسي الثوابت ، ومنه قول الشاعر :

به خالدات ما يرمن وهامد

وأشعت أرسته الوليدة بالقهر

__________________

(١) سورة النبأ : ٧٨ / ٧.

٣٤٦

والمعنى : جبالا رواسي ، وفواعل الوصف لا يطرد إلا في الإناث ، إلا أنّ جمع التكسير من المذكر الذي لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث. وأيضا فقد غلب على الجبال وصفها بالرواسي ، وصارت الصفة تغني عن الموصوف ، فجمع جمع الاسم كحائط وحوائط وكاهل وكواهل. وقيل : رواسي جمع راسية ، والهاء للمبالغة ، وهو وصف الجبل. كانت الأرض مضطربة فثقلها الله بالجبال في أحيازها فزال اضطرابها ، والاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم. قيل : من جهة أنّ طبيعة الأرض واحدة ، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون بعض لا بد أن يكون بتخليق قادر حكيم ، ومن جهة ما يحصل منها من المعادن الجوهرية والرخامية وغيرها كالنفط والكبريت يكون الجبل واحدا في الطبع ، وتأثير الشمس واحد دليل على أنّ ذلك بتقدير قادر قاهر متعال عن مشابهة الممكنات ، ومن جهة تولد الأنهار منها. قيل : وذلك لأنّ الجبل جسم صلب ، ويتصاعد بخاره من قعر الأرض إليه ويحتبس هناك ، فلا يزال يتكامل فيه فيحصل بسببه مياه كثيرة ، فلقوتها تشق وتخرج وتسيل على وجه الأرض ، ولهذا في أكثر الأمر إذا ذكر الله تعالى الجبال ذكر الأنهار كهذه الآية. وكقوله : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) (١) (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً) (٢) فقال المفسرون : الأنهار المياه الجارية في الأرض. وقال الكرماني : مسيل الماء ، وتقدم الكلام في الأنهار في أوائل سورة البقرة. والظاهر أنّ قوله : من كل الثمرات متعلق بجعل. ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عنها وهو الثمرات ، والزوج هنا الصنف الواحد الذي هو نقيض الاثنين ، يعني أنه حين مد الأرض جعل ذلك ، ثم تكثرت وتنوعت. وقيل : أراد بالزوجين الأسود والأبيض ، والحلو والحامض ، والصغير والكبير ، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة. وقال ابن عطية : وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة موجود فيها نوعان ، فإن اتفق أن يوجد من ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية. وقال الكرماني : الزوج واحد ، والزوج اثنان ، ولهذا قيد ليعلم أنّ المراد بالزوج هنا الفرد لا التثنية ، فيكون أربعا. وخص اثنين بالذكر ، وإن كان من أجناس الثمار ما يزيد على ذلك لأنه الأقل ، إذ لا نوع تنقص أصنافه عن اثنين انتهى. ويقال : إن في كل ثمرة ذكر وأنثى ، وأشار إلى ذلك الفراء. وقال أبو عبد الله الرازي : لما خلق الله تعالى العالم وخلق فيه الأشجار ، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط. فلو قال : خلق

__________________

(١) سورة المرسلات : ٧٧ / ٢٧.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ١٥.

٣٤٧

زوجين ، لم يعلم أنّ المراد النوع أو الشخص ، فلما قال : اثنين علمنا أنه أول ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد. فالشجر والزرع كبني آدم ، حصل منهم كثرة ، وابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص وهما آدم وحواء. والاستدلال بخلق الثمرات على ما ذكر تعالى من جهة ربو الجنة في الأرض ، وشق أعلاها وأسفلها ، فمن الشق الأعلى الشجرة الصاعدة ، ومن الأسفل العروق الغائصة ، وطبيعة تلك الجنة واحدة ، وتأثيرات الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد. ثم يخرج من الأعلى ما يذهب صعدا في الهواء ، ومن الأسفل ما يغوص في الثرى ، ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان ، فعلمنا أن ذلك بتقدير قادر حكيم. ثم تلك الشجرة يكون بعضها خشبا ، وبعضها لوزا ، وبعضها ثمرا ، ثم تلك الثمرة يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع وذلك بتقدير القادر الحكيم انتهى. وفيه تلخيص. وقيل : تم الكلام عند قوله : ومن كل الثمرات ، فيكون معطوفا على ما قبله من عطف المفردات ، ويتعلق بقوله : وجعل فيها رواسي. فالمعنى : أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى اثنين ، وقيل : الزوجان الشمس والقمر ، وقيل : الليل والنهار ، يغشي الليل النهار تقدم تفسير هذه الجملة وقراءاتها في الأعراف. وخص المتفكرين لأنّ ما احتوت عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يدرك إلا بالتفكر.

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) : قطع جمع قطعة وهي الجزء. ومتجاورات متلاصقة متداينة ، قريب بعضها من بعض. قال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والضحاك : أرض طيبة وأرض سبخة ، نبتت هذه ، وهذه إلى جنبها لا تنبت. وقال ابن قتيبة وقتادة : يعني القرى المتجاورة. وقيل : متجاورة في المكان ، مختلفة في الصفة ، صلبة إلى رخوة. وسحرا إلى مرد أو مخصبة إلى مجدبة ، وصالحة للزرع لا للشجر ، وعكسها مع انتظام جميعها في الأرضية. وقيل : في الكلام حذف معطوف أي : وغير متجاورات. والمتجاورات المدن وما كان عامرا ، وغير المتجاورات الصحاري وما كان غير عامر. قال ابن عطية : والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور إنما هو من تربة واحدة ، ونوع واحد. وموضع العبرة في هذا أبين ، لأنها مع اتفاقها في الترب والماء تفضل القدرة والإرادة بعض أكلها على بعض ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سئل عن هذه الآية فقال : «الدقل ، والقارس ، والحلو ، والحامض» وقال ابن عطية : وقيد منها في هذا المثال ما جاور وقرب بعضه من بعض ، لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب.

٣٤٨

وفي بعض المصاحف : قطعا متجاورات بالنصب على جعل. وقرأ الجمهور : وجنات بالرفع ، وقرأ الحسن : بالنصب ، بإضمار فعل. وقيل : عطفا على رواسي. وقال الزمخشري : بالعطف على زوجين اثنين ، أو بالجر على كل الثمرات انتهى. والأولى إضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين في هذه التخاريج ، والفصل بينهما بجمل كثيرة. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص : وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان بالرفع في الجميع على مراعاة قطع. وقال ابن عطية : عطفا على أعناب ، وليست عبارة محررة أيضا ، لأن فيها ما ليس بعطف وهو قوله : صنوان. وقرأ باقي السبعة : بخفض الأربعة على مراعاة من أعناب قال : وجعل الجنة من الأعناب من رفع الزرع ، والجنة حقيقة إنما هي الأرض التي فيها الأعناب ، وفي ذلك تجوز ومنه قول الشاعر :

كأن عيني في غربي مقبلة

من النواضح تسقي جنة سحقه

أي نخيل جنة ، إذ لا يوصف بالسحق إلا النخل. ومن خفض الزرع فالجنات من مجموع ذلك لا من الزرع وحده ، لأنه لا يقال للمزرعة جنة إلا إذا خالطها ثمرات. وقرأ الجمهور : صنوان بكسر الصاد فيهما ، وابن مصرف والسلمي وزيد بن علي : بضمها ، والحسن وقتادة بفتحها ، وبالفتح هو اسم للجمع ، كالسعدان. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وزيد بن علي : يسقى بالياء ، أي : يسقى ما ذكر. وباقي السبعة بالتاء ، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وأهل مكة. أنثوا لعود الضمير على لفظ ما تقدم ، ولقوله : ونفضل بالنون. وحمزة والكسائي بالياء ، وابن محيصن بالياء في تسقي ، وفي نفضل. وقرأ يحيى بن يعمر ، وأبو حيوة ، والحلبي عن عبد الوارث : ويفضل بالياء ، وفتح الضاد بعضها بالرفع. قال أبو حاتم : وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر ، وهو أول من نقط المصاحف. وتقدم في البقرة خلاف القراء في ضم الكاف من الأكل وسكونها. والأكل بضم الهمزة المأكول كالنقض بمعنى المنقوض ، وبفتحها المصدر. والظاهر من تفسير أكثر المفسرين للصنوان أن يكون قوله : صنوان ، صفة لقوله : ونخيل. ومن فسره منهم بالمثل جعله وصفا لجميع ما تقدم أي : أشكال ، وغير إشكال. قيل : ونظير هذه الكلمة قنو وقنوان ، ولا يوجد لهما ثالث ونص على الصنوان لأنها بمثال التجاور في القطع ، فظهر فيها غرابة اختلاف الأكل. ومعنى بماء واحد : ماء مطر ، أو ماء بحر ، أو ماء نهر ، أو ماء عين ، أو ماء نبع لا يسيل على وجه الأرض. وخص التفضيل في الأكل وإن كانت متفاضلة في غيره ، لأنه غالب وجوه الانتفاع

٣٤٩

من الثمرات. ألا ترى إلى تقاربها في الأشكال ، والألوان ، والروائح ، والمنافع ، وما يجري مجرى ذلك؟ قيل : نبه الله تعالى في هذه الآية على قدرته وحكمته ، وأنه المدبر للأشياء كلها. وذلك أن الشجرة تخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا تتأخر عنه ولا تتقدم ، ثم يتصعد الماء في ذلك الوقت علوا علوا وليس من طبعه إلا التسفل ، يتفرق ذلك الماء في الورق والأغصان والثمر كل بقسطه وبقدر ما فيه صلاحه ، ثم تختلف طعوم الثمار والماء واحد ، والشجر جنس واحد. وكل ذلك دليل على مدبر دبره وأحكمه ، لا يشبه المخلوقات. قال الراجز :

والأرض فيها عبرة للمعتبر

تخبر عن صنع مليك مقتدر

تسقى بماء واحد أشجارها

وبقعة واحدة قرارها

والشمس والهواء ليس يختلف

وأكلها مختلف لا يأتلف

لو أن ذا من عمل الطبائع

أو أنه صنعة غير صانع

لم يختلف وكان شيئا واحدا

هل يشبه الأولاد إلا الوالدا

الشمس والهواء يا معاند

والماء والتراب شيء واحد

فما الذي أوجب ذا التفاضلا

إلا حكيم لم يرده باطلا

وقال الحسن : هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم ، كانت الأرض طينة واحدة فسطحها ، فصارت قطعا متجاورات ، فنزل عليها ماء واحد من السماء فتخرج هذه زهرة وثمرة ، وتخرج هذه سبخة وملحا وخبثا. وكذلك الناس خلقوا من آدم ، فنزلت عليهم من السماء مذكرة ، فربت قلوب وخشعت قلوب ، وقست قلوب ولهت قلوب. وقال الحسن : ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان. قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (١) انتهى ، وهو شبيه بكلام الصوفية. إنّ في ذلك قال ابن عباس : في اختلاف الألوان والروائح والطعوم ، لآيات : لحججا ودلالات لقوم يعقلون : يعلمون الأدلة فيستدلون بها على وحدانية الصانع القادر. ولما كان الاستدلال في هذه الآية بأشياء في غاية الوضوح من مشاهدة تجاور القطع ، والجنات وسقيها وتفضيلها ، جاء ختمها بقوله : لقوم يعقلون ، بخلاف الآية التي قبلها ، فإن الاستدلال بها يحتاج إلى تأمل ومزيد نظر جاء ختمها بقوله لقوم يتفكرون.

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٢.

٣٥٠

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) : ولما أقام الدلائل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه ، عجب الرسول عليه الصلاة والسلام من إنكار المشركين وجدانيته ، وتوهينهم قدرته لضعف عقولهم فنزل : وإن تعجب. قال ابن عباس : وإن تعجب من تكذيبهم إياك بعد ما كانوا حكموا عليك أنك من الصادقين ، فهذا أعجب. وقيل : وإن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا بعد ما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد ، فهذا أعجب. قال الزمخشري : وإن تعجب من قولهم يا محمد في إنكار البعث ، فقولهم عجيب حقيق بأن يتعجب منه ، لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ، ولم يعي بخلقهن ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره ، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب انتهى. وليس مدلول اللفظ ما ذكر ، لأنه جعل متعلق عجبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو قولهم في إنكار البعث ، فاتحد الجزاء والشرط ، إذ صار التقدير : وإن تعجب من قولهم في إنكار البعث فاعجب من قولهم في إنكار البعث ، وإنما مدلول اللفظ أن يقع منك عجب ، فليكن من قولهم : أءذا كنا الآية. وكان المعنى الذي ينبغي أن يتعجب منه : هو إنكار البعث ، لأنه تعالى هو المخترع للأشياء. ومن كان قادرا على إبرازها من العدم الصرف كان قادرا على الإعادة ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (١) وهو أهون عليه أي : هين عليه.

وقال ابن عطية : هذه الآية توبيخ للكفرة ، أي : إن تعجب يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق ، فهم أهل لذلك ، وعجيب وغريب أن تنكر قلوبهم العود بعد كوننا خلقا جديدا. ويحتمل اللفظ منزعا آخر : إن كنت تريد عجبا فهلم ، فإنّ من أعجب العجب قولهم انتهى. واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعا ، هنا موضع ، وكذا في المؤمنين ، وفي العنكبوت ، وفي النمل ، وفي السجدة ، وفي الواقعة ، وفي والنازعات ، وفي بني إسرائيل موضعان ، وكذا في والصافات. وقرأ نافع والكسائي بجعل الأول استفهاما ، والثاني خبرا ، إلا في العنكبوت والنمل بعكس نافع. وجمع

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٢٧.

٣٥١

الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت ، وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نونا فقرأ : إننا لمخرجون (١) وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبرا ، والثاني استفهاما ، إلا في النمل والنازعات فعكس ، وزاد في النمل نونا كالكسائي. وإلا في الواقعة فقرأهما باستفهامين ، وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب ، إلا ابن كثير وحفصا قرأ في العنكبوت بالخبر في الأول وبالاستفهام في الثاني ، وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين وتركه. وقولهم : فعجب ، هو خبر مقدم ولا بد فيه من تقدير صفة ، لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فلا بد من قيده وتقديره ـ والله أعلم ـ : فعجب أي عجب ، أو فعجب غريب. وإذا قدرناه موصوفا جاز أن يعرب مبتدأ لأنه نكرة فيها مسوغ الابتداء وهو الوصف ، وقد وقعت موقع الابتداء ، ولا يضر كون الخبر معرفة ذلك. كما أجاز سيبويه ذلك في كم مالك؟ لمسوغ الابتداء فيه وهو الاستفهام ، وفي نحو : اقصد رجلا خير منه أبوه ، لمسوغ الابتداء أيضا ، وهو كونه عاملا فيما بعده. وقال أبو البقاء : وقيل عجب بمعنى معجب ، قال : فعلى هذا يجوز أن يرتفع قولهم به انتهى. وهذا الذي أجازه لا يجوز ، لأنه لا يلزم من كون الشيء بمعنى الشيء أن يكون حكمه في العمل كحكمه ، فمعجب يعمل ، وعجب لا يعمل. ألا ترى أن فعلا كذبح ، وفعلا كقبض ، وفعلة كغرفة ، هي بمعنى مفعول ، ولا يعمل عمله ، فلا تقول : مررت برجل ذبح كبشه ، ولا برجل قبض ماله ، ولا برجل غرف ماءه ، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومعروف ماؤه. وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا في العمل عن المفعول. وقد حصر النحويون ما يرفع الفاعل ، والظاهر أن أءذا معمول لقولهم محكى به. وقال الزمخشري : أءذا كنا إلى آخر قولهم يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم انتهى. هذا إعراب متكلف ، وعدول عن الظاهر. وإذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط ، فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقريره : أنبعث ، أو أنحشر. أولئك إشارة إلى قائل تلك المقالة ، وهو تقرير مصمم على إنكار البعث ، فلذلك حكم عليهم بالكفر إذ عجزوا قدرته عن إعادة ما أنشأ واخترع ابتداء. ولما حكم عليهم بالكفر في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة على سبيل الوعيد ، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم. والظاهر أنّ الأغلال تكون حقيقة في أعناقهم كالأغلال ، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة ، كما قال : إذ الأغلال في أعناقهم

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٦٧.

٣٥٢

والسلاسل. وقيل : يحتمل أن يكون مجازا أي : هم مغلولون عن الإيمان ، فتجري إذا مجرى الطبع والختم على القلوب كما قال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) (١) وكما قال الشاعر :

لهم عن الرشد أغلال وأقياد

وقيل : الأغلال هنا عبارة عن أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال ، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة ، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم رادة عليهم ما أنكروه من البعث ، إذ لا يكون أصحاب النار إلا بعد الحشر. ولما كانوا متوعدين بالعذاب إن أصروا على الكفر ، وكانوا مكذبين بما أنذروا به من العذاب ، سألوا واستعجلوا في الطلب أن يأتيهم العذاب وذلك على سبيل الاستهزاء كما قالوا : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) (٢) وقالوا : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) (٣).

قال ابن عباس : السيئة العذاب ، والحسنة العافية. وقال قتادة : بالشر قبل الخير. وقيل : بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية ، وهذه الأقوال متقاربة. وقد خلت من قبلهم المثلات أي : يستعجلونك بالسيئة مع علمهم بما حل بغيرهم من مكذبي الرسل في الأمم السالفة ، وهذا يدل على سخف عقولهم ، إذ يستعجلون بالعذاب. والحالة هذه فلو أنه لم يسبق تعذيب أمثالهم لكانوا ربما يكون لهم عذر ، ولكنهم لا يعتبرون فيستهزؤون. قال ابن عباس : المثلات العقوبات المستأصلات ، كمثلات قطع الأنف والأذن ونحوهما. وقال السدي : النقمات. وقال قتادة : وقائع الله الفاضحة ، كمسخ القردة والخنازير. وقال مجاهد : الأمثال المضروبة. وقرأ الجمهور : بفتح الميم وضم التاء ، ومجاهد والأعمش بفتحهما. وقرأ عيسى بن عمير وفي رواية الأعمش وأبو بكر : بضمهما ، وابن وثاب : بضم الميم وسكون الثاء ، وابن مصرف بفتح الميم وسكون الثاء. ولذو مغفرة للناس على ظلمهم ترجية للغفران ، وعلى ظلمهم في موضع الحال والمعنى : أنه يغفر لهم مع ظلمهم أنفسهم باكتساب الذنوب أي : ظالمين أنفسهم. قال ابن عباس : ليس في القرآن آية أرجى من هذه. وقال الطبري : ليغفر لهم في الآخرة. وقال القاسم بن يحيى وقوم : ليغفر لهم الظلم السالف بتوبتهم في الآنف. وقيل : ليغفر السيئات الصغيرة لمجتنب الكبائر.

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٨.

(٢) سورة الأنفال : ٨ / ٣٢.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٢.

٣٥٣

وقيل : ليغفر لهم بستره وإمهاله ، فلا يعجل لهم العذاب مع تعجيلهم بالمعصية. قال ابن عطية : والظاهر من معنى المغفرة هنا هو ستره في الدنيا ، وإمهاله للكفرة. ألا ترى التيسير في لفظ مغفرة ، وأنها منكرة مقلدة وليس فيها مبالغة كما في قوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) (١) ومحط الآية يعطي هذا حكمه عليهم بالنار. ثم قال : ويستعجلونك ، فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم ، فأخبر بسيرته في الأمم ، وأنه يمهل مع ظلم الكفرة انتهى. ولشديد العقاب : تخويف وارتقاب بعد ترجية. وقال سعيد بن المسيب : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا عفو الله ومغفرته لما هنأ لأحد عيش ، ولو لا عقابه لا تكل كل أحد» وفي حديث آخر : «إن العبد لو علم قدر عفو الله لما أمسك عن ذنب ، ولو علم قدر عقوبته لقمع نفسه في عبادة الله عزوجل».

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) : عن ابن عباس : لما نزلت وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على صدره فقال : «أنا منذر» وأومأ بيده إلى منكب عليّ وقال : «أنت الهادي يا عليّ ، بك يهتدى من بعدي» ، وقال القشيري : نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليّ بن أبي طالب ، والذين كفروا مشركو العرب ، أو من أنكر نبوته من مشركيهم والكفار ، ولم يعتدوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر ، وانقياد الشجر ، وانقلاب العصا سيفا ، ونبع الماء من بين الأصابع ، وأمثال هذه. فاقترحوا عنادا آيات كالمذكورة في سبحان ، وفي الفرقان كالتفجير للينبوع ، والرقي في السماء ، والملك ، والكنز ، فقال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما أنت منذر تخوفهم من سوء العاقبة ، وناصح كغيرك من الرسل ، ليس لك الإتيان بما اقترحوا. إذ قد أتى بآيات عدد الحصا ، والآيات كلها متماثلة في صحة الدعوى ، لا تفاوت فيها. فالاقتراح إنما هو عناد ، ولم يجر الله العادة بإظهار الآيات المقترحة إلا للآية التي حتم بعذابها واستئصالها.

وهاد : يحتمل أن يكون قد عطف على منذر ، وفصل بينهما بقوله لكل قوم ، وبه قال : عكرمة ، وأبو الضحى. فإن أخذت : ولكل قوم هاد ، على العموم فمعناه : وداع إلى الهدى ، كما قال : «بعثت إلى الأسود والأحمر» فإن أخذت هاد على حقيقته فكل قوم مخصوص أي : ولكل قوم قائلين هاد. وقيل : ولكل أمة سلفت هاد أي : نبي يدعوهم. والقصد : فليس أمرك ببدع ولا منكر ، وبه قال : مجاهد ، وابن زيد ، والزجاج قال : نبي

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٨٢.

٣٥٤

يدعوهم بما يعطي من الآيات ، لا بما يتحكمون فيه من الاقتراحات. وتبعهم الزمخشري. فقال : هاد من الأنبياء يهديهم إلى الدين ، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية ، وبآية خص بها ، ولم يجعل الأشياء شرعا واحدا في آيات مخصوصة. وقالت فرقة : الهادي في هذه الآية هو الله تعالى ، روي أن ذلك عن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وهاد : على هذا مخترع للإرشاد. قال ابن عطية : وألفاظ تتعلق بهذا المعنى ، وتعرف أن الله تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع. وقال الزمخشري : في هذا القول وجه آخر : وهو أن يكون المعنى : إنهم يجحدون كون ما أنزل عليك آيات ويعاندون ، فلا يهمنك ذلك ، إنما أنت منذر ، فما عليك إلا أن تنذر ، لا أن تثبت الإيمان بالإلجاء ، والذي يثبته بالإلجاء هو الله تعالى انتهى. ودلّ كلامه على الاعتزال. وقال في معنى القول الذي تبع فيه مجاهد ، وابن زيد ما نصه : ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضايا حكمته ، أن إعطاء كل منذر آيات أمر مدبر بالعلم النافذ ، مقدر بالحكمة الربانية. ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيرا أو مصلحة لأجابهم إليه. وقال الزمخشري أيضا في معنى أن الهادي هو الله تعالى أي : بالإلجاء على زعمه ما نصه : وأما هذا الوجه الثاني فقد دل به على أنّ من هذه القدرة قدرته وهذا علمه ، هو القادر وحده على هدايتهم العالم بأي طريق يهديهم ، ولا سبيل إلى ذلك لغيره انتهى. وقالت فرقة : الهادي علي بن أبي طالب ، وإن صح ما روي عن ابن عباس مما ذكرناه في صدر هذه الآية ، فإنما جعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب مثالا من علماء الأمّة وهداتها إلى الدين ، فكأنه قال : أنت يا علي هذا وصفك ، ليدخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وسائر علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ثم كذلك علماء كل عصر ، فيكون المعنى على هذا : إنما أنت يا محمد منذر ، ولكل قوم في القديم والحديث دعاة هداة إلى الخير. وقال أبو العالية : الهادي العمل. وقال علي بن عيسى : ولكل قوم سابق سبقهم إلى الهدى إلى نبي أولئك القوم. وقيل : هاد قائد إلى الخير أو إلى الشر قال تعالى في الخير : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) (١) وقال في الشر : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٢) قاله أبو صالح. ووقف ابن كثير على هاد وواق حيث واقعا ، وعلى وال هنا وباق في النحل بإثبات الياء ، وباقي السبعة بحذفها. وفي الإقناع لأبي جعفر بن الباذش عن ابن مجاهد : الوقف على جميع الباب

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٢٤.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ٢٣.

٣٥٥

لابن كثير بالياء ، وهذا لا يعرفه المكيون. وفيه عن أبي يعقوب الأزرق عن ورش أنه خيره في الوقف في جميع الباب ، بين أن يقف بالياء ، وبين أن يقف بحذفها. والباب هو كل منقوص منون غير منصرف.

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ. سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) : مناسبة هذه الآية لما قبلها هو ما نبه عليه الزمخشري من أنه تعالى لما طلب الكفار أن ينزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية وكم آية نزلت ، أردف ذلك بذكر آيات علمه الباهر ، وقدرته النافذة ، وحكمته البليغة ، وأن ما نزل عليه من الآيات كافية لمن تبصر ، فلا يقترحون غيرها ، وأنّ نزول الآيات إنما هو على ما يقدره الله تعالى. وقيل : مناسبة ذلك أنه لما تقدم إنكارهم البعث لتفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض ، بحيث لا يتهيأ الامتياز بينها ، نبه على إحاط علمه ، وأن من كان عالما بجميع المعلومات هو قادر على إعادة ما أنشأ. وقيل : مناسبة ذلك أنهم لما استعجلوا بالسيئة نبه على علمه بجميع المعلومات ، وأنه إنما نزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة. قال ابن عطية : قص في هذا المثل المنبه على قدرة الله القاضية بتجويز البعث ، فمن ذلك الواحدة من الجنس التي هي مفاتيح الغيب يعني : التي لا يعلمها إلا هو ، وما تحمله الإناث من النطفة من كل نوع من الحيوان. وهذا البدء يبين أنه لا يتعذر على القادر عليها الإعادة. والله يعلم : كلام مستأنف مبتدأ وخبر ، ومن فسر الهادي بالله جاز أن يكون الله خبر مبتدأ محذوف أي : هو الله تعالى ، ثم ابتدأ إخبارا عنه فقال : يعلم. ويعلم هنا متعدية إلى واحد ، لأنه لا يراد هنا النسبة ، إنما المراد تعلق العلم بالمفردات. وما جوزوا أن تكون بمعنى الذي ، والعائد عليها في صلاتها محذوف ، ويكون تغيض متعديا. وأن تكون مصدرية ، فيكون تغيض وتزداد لازمان. وسماع تعديتهما ولزومهما ثابت من كلام العرب. وأن تكون استفهاما مبتدأ ، وتحمل خبره ويعلم متعلقه ، والجملة في موضع المفعول. وتحمل هنا من حمل البطن ، لا من الحمل على الظهر. وفي مصحف أبي : ما تحمل كل أنثى ، وما تضع وتحمل على التفسير ، لأنها زيادة لم تثبت في سواد المصحف.

قال ابن عباس : تغيض تنقص من الخلقة ، وتزداد تتم. وقال مجاهد : غيض الرحم

٣٥٦

أن ينهرق دما على الحمل ، فيضعف الولد في البطن ويسحب ، فإذا بقي الولد في بطنها بعد تسعة أشهر مدة كمل فيها من خمسة وصحبه ما نقص من هراقة الدم ، انتهى كلام ابن عباس. وقال عكرمة : تغيض بطهور الحيض في الحبل ، وتزداد بدم النفاس بعد الوضع. وقال قتادة : الغيض السقط ، والزيادة البقاء فوق تسعة أشهر. وقال الضحاك : غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد ، والزيادة أن تضعه لمدة كاملة تامة. وعن الضحاك أيضا : الغيض النقص من تسعة أشهر ، والزيادة إلى سنتين. وقيل : من عدد الأولاد ، فقد تحمل واحدا ، وقد تحمل أكثر. وقال الجمهور : غيض الرحم الدم على الحمل. قال الزمخشري : إن كانت ما موصولة فالمعنى : أن يعلم ما تحمل من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة ، وتمام وخدج ، وحسن وقبح ، وطول وقصر ، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة المترقبة. ويعلم ما تغيضه الأرحام تنقصه ، وما تزداد أي تأخذه زائدا تقول : أخذت منه حقي وازددت منه كذا ، ومنه : (وَازْدَادُوا تِسْعاً) (١) ويقال : زدته فزاد بنفسه وازداد. وما تنقصه الرحم وتزداده عدد الولد ، فإنها تشتمل على واحد ، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة. ويروى أن شريكا كان رابع أربعة في بطن أمه. ومنه جسد الولد ، فإنه يكون تاما ومخدجا ، ومنه مدة ولادته فإنها تكون أقل من تسعة أشهر ، فما زاد عليها إلى سنة عند أبي حنيفة ، وإلى أربع عند الشافعي ، وإلى خمس عند مالك. وقيل : إن الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حبان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرما ومنه الدم فإنه يقل ويكثر. وإن كانت مصدرية فالمعنى : أنه يعلم حمل كل أنثى ، ويعلم غيض الأرحام وازديادها ، فلا يخفى عليه شيء من ذلك من أوقاته وأحواله. ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته ، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها ، على أنّ الفعل غير متعد ويعضده قول الحسن : الغيضوضة أن يقع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك ، والازدياد أن يزيد على تسعة أشهر. وعنه : الغيض الذي يكون سقطا لغير تمام ، والازدياد ولد التمام انتهى. وهو جمع ما قاله المفسرون مفرقا. وبمقدار يقدر ، ويطلق المقدار على القدر ، وعلى ما يقدر به الشيء. والظاهر عموم قوله : وكل شيء عنده بمقدار ، أي : بحد لا يتجاوزه ولا يقتصر عنه. وقال ابن عباس : وكل شيء من الثواب والعقاب عنده بمقدار أي : بقدر الطاعة والمعصية. وقال الضحاك : من الغيض والازدياد. وقال قتادة : من الرزق والأجل. وقيل : صحة الجنين

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٢٥.

٣٥٧

ومرضه ، وموته ، وحياته ، ورزقه ، وأجله. والأحسن حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على التخصيص ، لأنه لا دليل عليه.

والمراد من العندية العلم أي : هو تعالى عالم بكمية كل شيء ، وكيفيته على الوجه المفصل المبين ، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات. وقيل : المراد بالعندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقته بعينه ، وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية. ولما ذكر أنه عالم بأشياء خفية لا يعلمها إلا هو ، وكانت أشياء جزئية من خفايا علمه ، ذكر أن علمه محيط بجميع الأشياء ، فعلمه تعالى متعلق بما يشاهده العالم تعلقه بما يغيب عنهم. وقيل : الغائب المعدوم ، والشاهد الموجود. وقيل : الغائب ما غاب عن الحس ، والشاهد ما حضر للحس. وقرأ زيد بن علي : عالم الغيب بالنصب ، الكبير العظيم الشأن الذي كل شيء دونه ، المتعال المستعلي على كل شيء بقدرته ، أو الذي كبر عن صفات المحدثين وتعالى عنها. وأثبت ابن كثير وأبو عمرو في رواية : ياء المتعال وقفا ووصلا ، وهو الكثير في لسان العرب ، وحذفها الباقون وصلا ووقفا ، لأنها كذلك رسمت في الخط. واستشهد سيبويه بحذفها في الفواصل ومن القوافي ، وأجاز غيره حذفها مطلقا. ووجه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين ، وإن تعاقب التنوين ، فحذفت مع المعاقب إجراء له مجرى المعاقب. ولما ذكر أنه تعالى عالم الغيب والشهادة على العموم ، ذكر تعالى تعلق علمه بشيء خاص من أحوال المكلفين ، فقال : سواء منكم الآية. والمعنى : سواء في علمه المسر القول ، والجاهر به لا يخفى عليه شيء من أقواله. وسواء تقدم الكلام فيه ، وفي معانيه ، وهو هنا بمعنى مستو ، وهو لا يثنى في أشهر اللغات. وحكى أبو زيد تثنيته فتقول : هما سواءان. وقيل : هو على حذف أي : سواء منكم سرّ من أسرّ القول ، وجهر من جهر به ، وأعربوا سواء خبر مبتدأ من أسر ، والمعطوف عليه مبتدأ. ويجوز أن يكون سواء مبتدأ لأنه موصوف بقوله : منكم ، ومن المعطوف الخبر. وكذا أعرب سيبويه قول العرب : سواء عليه الخير والشر. وقول ابن عطية : إن سيبويه ضعف ذلك بأنه ابتداء بنكرة ، وهو لا يصح.

وقال ابن عباس : مستخف مستتر وسارب ظاهر. وقال مجاهد : مستخف بالمعاصي. وتفسير الأخفش وقطرب : المستخفي هنا بالظاهر ، وإن كان موجودا في اللغة ينبو عنه اقترانه بالليل ، واقتران السارب بالنهار. وتقابل الوصفان في قوله : ومن هو مستخف ، إذ قابل من أسر القول. وفي قوله : سارب بالنهار إذ قابل ومن جهر به. والمعنى ـ والله أعلم ـ

٣٥٨

إنه تعالى محيط علمه بأقوال المكلفين وأفعالهم ، لا يعزب عنه شيء من ذلك. وظاهر التقسيم يقتضي تكرار من ، لكنه حذف للعلم به ، إذ تقدم قوله : من أسرّ القول ومن جهر به ، لكن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين ، وأجازه الكوفيون. ويجوز أن يكون : وسارب ، معطوفا على من ، لا على مستخف ، فيصح التقسيم. كأنه قيل : سواء شخص هو مستخف بالليل ، وشخص هو سارب بالنهار. ويجوز أن يكون معطوفا على مستخف. وأريد بمن اثنان ، وحمل على المعنى في تقسيم خبر المبتدأ الذي هو هو ، وعلى لفظ من في إفراد هو. والمعنى : سواء اللذان هما مستخف بالليل والسارب بالنهار ، هو رجل واحد يستخفي بالليل ويسرب بالنهار ، وليرى تصرفه في الناس. قال ابن عطية : فهذا قسم واحد ، جعل الله نهار راحته. والمعنى : هذا والذي أمره كله واحد بريء من الريب ، سواء في اطلاع الله تعالى على الكل. ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار من ، ولا يأتي حذفها إلا في الشعر. وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف. فالذي يسر طرف ، والذي يجهر طرف مضاد للأول ، والثالث متوسط متلون يعصي بالليل مستخفيا ويظهر البراءة بالنهار انتهى. وقيل : ومن هو مستخف بالليل بظلمته ، يريد إخفاء عمله فيه كما قال : أزورهم وسواد الليل يشفع لي. وقال :

وكم لظلام الليل عندي من يد

والظاهر عود الضمير في له على من ، كأنه قيل لمن أسرّ ، ومن جهر ، ومن استخفى ، ومن سرب : معقبات. وقال ابن عباس : هو عائد على من في قوله : ومن هو مستخف ، وكذلك في باقي الضمائر التي في الآية.

قال ابن عطية : والمعقبات على هذا حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه ، قال : والآية على هذا في الرؤساء الكافرين. واختار هذا القول الطبري ، وهو قول عكرمة وجماعة. وقال الضحاك : هو السلطان المحرس من أمر الله. وذكر الماوردي أنّ الكلام على هذا التأويل نفي تقريره لا يحفظونه من أمر الله انتهى. وحذف لا ، لا في الجواب قسم بعيد. قال المهدوي : ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى : يحفظونه من الله على ظنه وزعمه. وقيل : الضمير في له عائد على الله تعالى أي : لله معقبات ملائكة من بين يدي العبد ومن خلفه ، والمعقبات على هذا الملائكة الحفظة على العباد وأعمالهم ، والحفظة لهم أيضا. وروي فيه حديث عن عثمان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قول مجاهد والنخعي. وقيل : الضمير في له عائد على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لم يجر له ذكر قريب ، وقد

٣٥٩

جرى ذكره في قوله : يقولون : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) (١) والمعنى : أنّ الله تعالى جعل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفظة من متمردي الجن والإنس. قال أبو زيد : الآية في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزلت في حفظ الله له من أربد بن قيس ، وعامر بن الطفيل ، من القصة التي سنشير إليها بعد في ذكر الصواعق. والقول الأول في عود الضمير هو الأولى الذي ينبغي أن يحمل عليه وعليه يفسر. ويقول : لما تقدم أنّ من أسر القول ومن جهر به ، ومن استخفى بالليل وسرب بالنهار ، مستو في علم الله تعالى لا يخفى عليه من أحوالهم شيء ، ذكر أيضا أن لذلك المذكور معقبات : جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته. ومعقب : وزنه مفعل ، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر ، لأن بعضهم يعقب بعضا ، أو لأنهم يعقبون ما يتكلمون به فيكتبونه. وقال الزمخشري : والأصل معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف كقوله : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) (٢) يعني المعتذرون. ويجوز معقبات بكسر العين ، ولم يقرأ به انتهى. وهذا وهم فاحش ، لا تدغم التاء في القاف ، ولا القاف في التاء ، لا من كلمة ولا من كلمتين. وقد نص التصريفيون على أن القاف والكاف يدغم كل منهما في الآخر ، ولا يدغمان في غيرهما ، ولا يدغم غيرهما فيهما. وأما تشبيهه بقوله : وجاء المعذرون ، فلا يتعين أن يكون أصله المعتذرون ، وقد تقدم في براءة توجيهه ، وأنه لا يتعين ذلك فيه. وأما قوله : ويجوز معقبات بكسر العين ، فهذا لا يجوز لأنه بناه على أن أصله معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف. وقد ذكرنا أن ذلك وهم فاحش ، والمعقبات جمع معقبة. وقيل : الهاء في معقبة للمبالغة ، فيكون كرجل نسابة. وقيل : جمع معقبة ، وهي الجماعة التي تأتي بعد الأخرى ، جمعت باعتبار كثرة الجماعات ، ومعقبة ليست جمع معقب كما ذكر الطبري. وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات ، وليس الأمر كما ذكر ، لأنّ ذلك كجمل وجمال وجمالات ، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضارب وضاربات قاله : ابن عطية. وينبغي أن يتأول كلام الطبري على أنه أراد بقوله : جمع معقب ، أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب ، وصار مثل الواردة للجماعة الذين يردون ، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد ، من حيث أن يجمع جموع التكسير للعامل يجوز أن يعامل معاملة المفردة المؤنثة في الإخبار. وفي عود الضمير لقوله : العلماء قائلة كذا ، وقولهم الرجال وأعضادها ، وتشبيه الطبري ذلك برجل ورجال ورجالات من حيث

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ٧.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٩٠.

٣٦٠