البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

الوقف. والأحسن من هذه الأقوال أن يكون يتقي مجزوما على لغة ، وإن كانت قليلة ، ولا يرجع إلى قول أبي علي قال : وهذا مما لا يحمل عليه ، لأنه إنما يجيء في الشعر لا في الكلام ، لأن غيره من رؤساء النحويين قد نقلوا أنه لغة.

والمحسنين : عام يندرج فيه من تقدم ، أو وضع موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين كأنه قيل : لا يضيع أجرهم. وآثرك : فضلك بالملك ، أو بالصبر ، والعلم قالهما ابن عباس ، أو بالحلم والصفح ذكره أبو سليمان الدمشقي ، أو بحسن الخلق والخلق ، والعلم ، والحلم ، والإحسان ، والملك ، والسلطان ، وبصبرك على أذانا قاله : صاحب الغنيان. أو بالتقوى ، والصبر وسيرة المحسنين قاله : الزمخشري ، وهو مناسب لقوله : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ) (١) الآية وخطابهم إياه بذلك استنزال لإحسانه ، واعتراف بما صدر منهم في حقه. وخاطئين : من خطىء إذا تعمد. وأما أخطأ فقصد الصواب ولم يوفق له. ولا تثريب : لا لوم ولا عقوبة. وتثريب اسم لا ، وعليكم الخبر ، واليوم منصوب بالعامل في الخبر أي : لا تثريب مستقر عليكم اليوم. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : بم تعلق اليوم؟ (قلت) : بالتثريب ، أو بالمقدر في عليكم من معنى الاستقرار ، أو بيغفر. والمعنى : لا أثربكم اليوم ، وهذا اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره من الأيام! ثم ابتدأ فقال : يغفر الله لكم ، فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم. يقال : غفر الله لك ، ويغفر الله لك على لفظ الماضي والمضارع جميعا ، ومنه قول المشمت : يهديكم الله ويصلح بالكم. أو اليوم يغفر الله لكم بشارة بعاجل الغفران ، لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم انتهى. أما قوله : إن اليوم يتعلق بالتثريب ، فهذا لا يجوز ، لأنّ التثريب مصدر ، وقد فصل بينه وبين معموله بقوله : وعليكم إما أن يكون خبرا ، أو صفة لتثريب ، ولا يجوز الفصل بينهما ، لأنّ معمول المصدر من تمامه. وأيضا لو كان اليوم متعلقا بتثريب لم يجز بناؤه ، وكان يكون من قبيل المشبه بالمضاف ، وهو الذي يسمى المطول ، ويسمى الممطول ، فكان يكون معربا منونا. وأما تقديره الثاني فتقدير حسن ، ولذلك وقف على قوله اليوم أكثر القراء. وابتدأوا بيغفر الله لكم على جهة الدعاء ، وهو تأويل ابن إسحاق والطبري. وأما تقديره الثالث وهو أن يكون اليوم متعلقا بيغفر فمقول ، وقد وقف بعض القراء على عليكم ، وابتدأ اليوم يغفر الله لكم. قال ابن عطية : والوقف على اليوم أرجح في المعنى ، لأنّ الآخر فيه حكم على مغفرة الله ، اللهم إلا أن يكون ذلك بوحي. وأما قوله :

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٩٠.

٣٢١

فبشارة إلى آخره ، فعلى طريق المعتزلة ، فإنّ الغفران لا يكون إلا لمن تاب. قال ابن الأنباري : إنما أشار إلى ذلك اليوم لأنه أول أوقات العفو ، وسبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة. وأجاز الحوفي أن يكون عليكم في موضع الصفة لتثريب ، ويكون الخبر اليوم ، وهو وجه حسن. وقيل : عليكم بيان كلك في قولهم : سقيا لك ، فيتعلق بمحذوف. ونصوا على أنه لا يجوز أن يتعلق عليكم بتثريب ، لأنه كان يعرب ، فيكون منونا لأنه يصير من باب المشبه بالمضاف. ولو قيل : إن الخبر محذوف ، وعليكم متعلق بمحذوف يدل عليه تثريب ، وذلك المحذوف هو العامل في اليوم وتقديره : لا تثريب يثرب عليكم اليوم ، كما قدروا في (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (١) أي : يعصم اليوم ، لكان وجها قويا ، لأنّ خبر لا إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز ، ولم يلفظ به بنو تميم. ولما دعا لهم بالمغفرة أخبر عن الله بالصفة التي هي سبب الغفران ، وهو أنه تعالى أرحم الرحماء ، فهو يرجو منه قبول دعائه لهم بالمغفرة.

والباء في بقميصي الظاهر أنها للحال أي : مصحوبين أو ملتبسين به. وقيل : للتعدية أي : اذهبوا بقميصي ، أي احملوا قميصي. قيل : هو القميص الذي توارثه يوسف وكان في عنقه ، وكان من الجنة ، أمره جبريل عليه‌السلام أن يرسله إليه فإن فيه ريح الجنة ، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي. وقيل : كان لابراهيم كساه الله إياه من الجنة حين خرج من النار ، ثم لإسحاق ، ثم ليعقوب ، ثم ليوسف. وقيل : هو القميص الذي قدّ من دبر ، أرسله ليعلم يعقوب أنه عصم من الفاحشة. والظاهر أنه قميص من ملبوس يوسف بمنزلة قميص كل واحد ، قال ذلك : ابن عطية. وهكذا تتبين الغرابة في أن وجد يعقوب ريحه من بعد ، ولو كان من قمص الجنة ما كان في ذلك غرابة ولوجده كل أحد. وقوله : فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ، يدل على أنه علم أنه عمى من الحزن ، إما بإعلامهم ، وإما بوحي. وقوله : يأت بصيرا ، يظهر أنه بوحي. وأهلوه الذين أمر بأن يؤتى بهم سبعون ، أو ثمانون ، أو ثلاثة وتسعون ، أو ستة وتسعون ، أقوال أولها للكلبي وثالثها لمسروق. وفي واحد من هذا العدد حلوا بمصر ونموا حتى خرج من ذريتهم مع موسى عليه‌السلام ستمائة ألف. ومعنى : يأت ، يأتيني ، وانتصب بصيرا على الحال.

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ. قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ

_________________

(١) سورة هود : ١١ / ٤٣.

٣٢٢

لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ. قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ. قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) : فصل من البلد يفصل فصولا انفصل منه وجاوز حيطانه ، وهو لازم. وفصل الشيء فصلا فرق ، وهو متعد. ومعنى فصلت العير : انفصلت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب ، وكان قريبا من بيت المقدس. وقيل : بالجزيرة ، وبيت المقدس هو الصحيح ، لأنّ آثارهم وقبورهم هناك إلى الآن. وقرأ ابن عباس : ولما انفصل العير ، قال ابن عباس : وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام ، هاجت ريح فحملت عرفه. وقال الحسن وابن جريج : من ثمانين فرسخا ، وكان مدة فراقه منه سبعا وسبعين سنة. وعن الحسن أيضا : وجده من مسيرة ثلاثين يوما ، وعنه : مسيرة عشر ليال. وعن أبي أيوب المهروي : أن الريح استأذنت في إيصال عرف يوسف إلى يعقوب ، فأذن لها في ذلك. وقال مجاهد : صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا ، واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة ، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص. ومعنى لأجد : لأشمّ فهو وجود حاسة الشم. وقال الشاعر :

وإني لأستشفي بكل غمامة

يهب بها من نحو أرضك ريح

ومعنى تفندون قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : تسفهون. وعن ابن عباس أيضا : تجهلون ، وعنه أيضا : تضعفون. وقال عطاء وابن جبير : تكذبون. وقال الحسن : تهرمون. وقال ابن زيد ، والضحاك ومجاهد أيضا : تقولون ذهب عقلك وخرفت. وقال أبو عمرو : تقبحون. وقال الكسائي : تعجزون. وقال أبو عبيد : تضللون. وقيل : تخطئون. وهذه كلها متقاربة في المعنى ، وهي راجعة لاعتقاد فساد رأي المفند إما لجهله ، أو لهوى غالب عليه ، أو لكذبه ، أو لضعفه وعجزه لذهاب عقله بهرمه. وقال منذر بن سعيد البلوطي : يقال شج مفند أي : قد فسد رأيه ، ولا يقال : عجوز مفندة ، لأن المرأة لم يكن لها رأي قط أصيل فيدخله التفنيد. وقال معناه الزمخشري قال : التفنيد النسبة إلى الفند وهو الخوف وإنكار العقل ، من هرم يقال : شيخ مفند ، ولا يقال عجوز مفندة ، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها. ولو لا هنا حرف امتناع لوجود ، وجوابها محذوف. قال الزمخشري : المعنى لو لا تفنيدكم إياي لصدقتموني انتهى. وقد يقال : تقديره لو لا أن تفندوني لأخبرتكم بكونه حيا لم يمت ، لأن وجداني ريحه دال على حياته. والمخاطب

٣٢٣

بقوله : تفندون ، الظاهر من تناسق الضمائر أنه عائد على من كان بقي عنده من أولاده غير الذين راحوا يمتارون ، إذ كان أولاده جماعة. وقيل : المخاطب ولد ولده ومن كان بحضرته من قرابته. والضلال هنا لا يراد به ضد الهدى والرّشاد ، قال ابن عباس : المعنى إنك لفي خطئك ، وكان حزن يعقوب قد تجدد بقصة بنيامين ، ولذلك يقال له : ذو الحزنين. وقال مقاتل : الشقاء والعناء. وقال ابن جبير : الجنون ، ويعني والله أعلم غلبة المحبة. وقيل : الهلاك والذهاب من قولهم : ضل الماء في اللبن أي : ذهب فيه. وقيل : الحب ، ويطلق الضلال على المحبة. وقال ابن عطية : ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به ، وقد تأوله بعض الناس على ذلك ، ولهذا قال قتادة : قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ، ولا لنبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الزمخشري : لفي ذهابك عن الصواب قدما في إفراط محبتك ليوسف ، ولهجك بذكره ، ورجائك لقاءه ، وكان عندهم أنه قد مات. روي عن ابن عباس أنّ البشير كان يهوذا ، لأنه كان جاء بقميص الدم. وقال أبو الفضل الجوهري : قال يهوذا لإخوته : قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص القرحة ، فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه ، وقال هذا المعنى : السدي. وأن تطرد زيادتها بعد لما ، والضمير المستكن في ألقاه عائد على البشير ، وهو الظاهر ، هو لقوله : فألقوه. وقيل : يعود على يعقوب ، والظاهر أنه أريد الوجه كله كما جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئا يعتقد فيه البركة مسح به وجهه. وقيل : عبر بالوجه عن العينين لأنهما فيه. وقيل : عبر بالكل عن البعض. وارتدّ عدّه بعضهم في أخوات كان ، والصحيح أنها ليست من أخواتها ، فانتصب بصيرا على الحال والمعنى : أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر. ففي الكلام ما يشعر أنّ بصره عاد أقوى مما كان عليه وأحسن ، لأنّ فعيلا من صيغ المبالغة ، وما عدل من مفعل إلى فعيل إلا لهذا المعنى انتهى. وليس كذلك لأنّ فعيلا هنا ليس للمبالغة ، إذ فعيل الذي للمبالغة هو معدول عن فاعل لهذا المعنى. وأما بصيرا هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء ، فهو جار على قياس فعل نحو ظرف فهو ظريف ، ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضا ، لأنّ فعيلا بمعنى مفعل ليس للمبالغة نحو : أليم وسميع بمعنى مؤلم ومسمع. وروي أن يعقوب سأل البشير كيف يوسف؟ قال : ملك مصر. قال : ما أصنع بالملك؟ قال : على أي دين تركته؟ قال : على الإسلام ، قال : الآن تمت النعمة. وقال الحسن : لم يجد البشير عند يعقوب شيئا يبيته به وقال : ما خبرنا شيئا منذ سبع ليال ، ولكن هون الله عليك سكرات الموت. وقال الضحاك : رجع إليه بصره بعد العمى ، والقوة بعد الضعف ،

٣٢٤

والشباب بعد الهرم ، والسرور بعد الكرب. والظاهر أن قوله : إني أعلم ، محكي بالقول ويريد به إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله ، وأعلم من الله ما لا تعلمون. فقيل : ما لا تعلمون من حياة يوسف ، وأن الله يجمع بيننا وبينه. وقيل : من صحة رؤيا يوسف عليه‌السلام ، وقيل : من بلوى الأنبياء بالحزن ، ونزول الفرج ، وقيل : من إخبار ملك الموت إياي ، وكان أخبره أنه لم يقبض روحه. وقال ابن عطية : ما لا تعلمون هو انتظاره لتأويل الرؤيا ، ويحتمل أن يشير إلى حسن ظنه بالله فقط. وقال الزمخشري : ألم أقل لكم يعني قوله : إني لأجد ريح يوسف ، أو قوله : ولا تيأسوا من روح الله. وقوله : إني أعلم ، كلام مبتدأ لم يقع عليه القول انتهى. وهو خلاف الظاهر الذي قدمناه. ولما رجع إليه بصره وقرت عينه بالمسير إلى ابنه يوسف ، وقررهم على قوله : ألم أقل لكم؟ طلبوا منه أن يستغفر لهم الله لذنوبهم ، واعترفوا بالخطأ السابق منهم ، وسوف أستغفر لكم : عدة لهم بالاستغفار بسوف ، وهي أبلغ في التنفيس من السين. فعن ابن مسعود : أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر. وعن ابن عباس : إلى ليلة الجمعة ، وعنه : إلى سحرها. قال السدي ، ومقاتل ، والزجاج : أخر لإجابة الدعاء ، لا ضنة عليهم بالاستغفار. وقالت فرقة : سوف إلى قيام الليل. وقال ابن جبير وفرقة : إلى الليالي البيض ، فإن الدعاء فيها يستجاب. وقال الشعبي : أخره حتى يسأل يوسف ، فإن عفا عنهم استغفر لهم. وقيل : أخرهم ليعلم حالهم في صدق التوبة وإخلاصها. وقيل : أراد الدوام على الاستغفار لهم. ولما وعدهم بالاستغفار رجاهم بحصول الغفران بقوله : إنه هو الغفور الرحيم.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) : في الكلام حذف تقديره : فرحل يعقوب بأهله أجمعين ، وساروا حتى تلقوا يوسف. قيل : وجهز يوسف إلى أبيه جهازا ، ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه ، وخرج يوسف قيل : والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم ، فتلقوا يعقوب عليه‌السلام وهو يمشي يتوكأ على يهوذا ، فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا أهذا فرعون مصر؟ فقال : لا ، هذا ولدك. فلما لقيه يعقوب عليه‌السلام

٣٢٥

قال : السلام عليك يا مذهب الأحزان. وقيل : إن يوسف قال له لما التقيا : يا أبت ، بكيت عليّ حتى ذهب بصرك ، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال : بلى ، ولكن خشيت أن تسلب دينك ، فيحال بيني وبينك. آوى إليه أبويه أي : ضمهما إليه وعانقهما ، والظاهر أنهما أبوه وأمه راحيل. فقال الحسن وابن إسحاق : كانت أمه بالحياة. وقيل : كانت ماتت من نفاس بنيامين ، وأحياها له ليصدق رؤياه في قوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (١) حكي هذا عن الحسن وابن إسحاق أيضا. وقيل : أبوه وخالته ، وكان يعقوب تزوجها بعد موت راحيل ، والخالة أم. روي عن ابن عباس ، وكانت ربت يوسف ، والرابة تدعى أمّا. وقال بعضهم : أبوه وجدته أم أمه ، حكاه الزهراوي. وفي مصحف عبد الله آوى إليه أبويه وإخوته.

وظاهر قوله : ادخلوا مصر ، إنه أمر بإنشاء دخول مصر. قال السدي : قال لهم ذلك وهم في الطريق حين تلقاهم انتهى. فيبقى قوله : فلما دخلوا على يوسف كأنه ضرب له مضرب ، أو بيت حالة التلقي في الطريق فدخلوا عليه فيه. وقيل : دخلوا عليه في مصر. ومعنى ادخلوا مصر أي : تمكنوا منها واستقروا فيها. والظاهر تعلق الدخول على مشيئة الله لما أمرهم بالدخول ، علق ذلك على مشيئة الله ، لأن جميع الكائنات إنما تكون بمشيئة الله ، وما لا يشاء لا يكون. وقال الزمخشري : التقدير ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ، إن شاء الله دخلتم آمنين ، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام ، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال. ومن بدع التفاسير أن قوله : إن شاء الله ، من باب التقديم والتأخير ، وأن موضعه بعد قوله : سوف أستغفر لكم ربي في كلام يعقوب انتهى. وهذا البدع من التفسير مروي عن ابن جريج ، وهو في غاية البعد ، بل في غاية الامتناع.

والعرش سرير الملك. ولما دخل يوسف مصر وجلس في مجلسه على سريره ، واجتمعوا إليه ، أكرم أبويه فرفعهما معه على السرير. ويحتمل أن يكون الرفع والخرور قبل دخول مصر بعد قوله : ادخلوا مصر ، فكان يكون في قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال أو الإبل ، فحين دخلوا إليه آوى إليه أبويه وقال : ادخلوا مصر ، ورفع أبويه. وخروا له ، والضمير في وخروا عائد على أبويه وعلى إخوته. وقيل : الضمير في وخروا عائد على إخوته وسائر من كان يدخل عليه لأجل هيبته ، ولم يدخل في الضمير أبواه ، بل رفعهما على

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٤.

٣٢٦

سرير ملكه تعظيما لهما. وظاهر قوله : وخروا له سجدا أنه السجود المعهود ، وأن الضمير في له عائد على يوسف لمطابقة الرؤيا في قوله : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) (١) الآية وكان السجود إذ ذاك جائزا من باب التكريم بالمصافحة ، وتقبيل اليد ، والقيام مما شهر بين الناس في باب التعظيم والتوقير. وقال قتادة : كانت تحية الملوك عندهم ، وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة. وقيل : هذا السجود كان إيماء بالرأس فقط. وقيل : كان كالركوع البالغ دون وضع الجبهة على الأرض. ولفظة وخروا تأبى هذين التفسيرين. قال الحسن : الضمير في له عائد على الله أي : خرّوا لله سجدا شكرا على ما أوزعهم من هذه النعمة ، وقد تأول قوله : رأيتهم لي ساجدين ، على أن معناه رأيتهم لأجلي ساجدين. وإذا كان الضمير ليوسف فقال المفسرون : كان السجود تحية لا عبادة. وقال أبو عبد الله الداراني : لا يكون السجود إلا لله لا ليوسف ، ويبعد من عقله ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته من صون أولاده ، والشيخوخة ، والعلم ، والدين ، وكمال النبوة. وقيل : الضمير وإن عاد على يوسف فالسجود كان لله تعالى ، وجعلوا يوسف قبلة كما تقول : صليت للكعبة ، وصليت إلى الكعبة ، وقال حسان :

ما كنت أعرف أن الدهر منصرف

عن هاشم ثم عنها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتكم

وأعرف الناس بالأشياء والسنن

وقيل : السجود هنا التواضع ، والخرور بمعنى المرور لا السقوط على الأرض لقوله : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) (٢) أي لم يمروا عليها. وقال ثابت : هذا تأويل رؤياي من قبل أي : سجودكم هذا تأويل ، أي : عاقبة رؤياي أنّ تلك الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين. ومن قبل متعلق برؤياي ، والمحذوف في من قبل تقديره : من قبل هذه الكوائن والحوادث التي جرت بعد رؤياي. ومن تأول أنّ أبويه لم يسجدا له زعم أن تعبير الرؤيا لا يلزم أن يكون مطابقا للرؤيا من كل الوجوه ، فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس. ولا شك أن ذهاب يعقوب عليه‌السلام مع ولده من كنعان إلى مصر لأجل يوسف نهاية في التعظيم له ، فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا وعن ابن عباس : أنه لما رأى سجود أبويه وإخوته هاله ذلك واقشعر جلده منه. وقال ليعقوب : هذا تأويل رؤياي من قبل ، ثم ابتدأ يوسف عليه‌السلام بتعديد نعم الله عليه

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٤.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٧٣.

٣٢٧

فقال : قد جعلها ربي حقا أي : صادقة ، رأيت ما يقع لي في المنام يقظة ، لا باطل فيها ولا لغو. وفي المدة التي كانت بين رؤياه وسجودهم خلاف متناقض. قيل : ثمانون سنة ، وقيل : ثمانية عشر عاما. وقيل : غير ذلك من رتب العدد. وكذا المدة التي أقام يعقوب فيها بمصر عند ابنه يوسف خلاف متناقض ، وأحسن أصله أن يتعدى بإلى قال : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) (١) وقد يتعدى بالباء قال تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (٢) كما يقال أساء إليه ، وبه قال الشاعر :

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقلية إن تقلت

وقد يكون ضمن أحسن معنى لطف ، فعداه بالباء ، وذكر إخراجه من السجن وعدل عن إخراجه من الجب صفحا عن ذكر ما تعلق بقول إخوته ، وتناسيا لما جرى منهم إذ قال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) (٣) وتنبيها على طهارة نفسه ، وبراءتها مما نسب إليه من المراودة. وعلى ما تنقل إليه من الرياسة في الدنيا بعد خروجه من السجن بخلاف ما تنقل إليه بالخروج من الجب ، إلى أن بيع مع العبيد ، وجاء بكم من البدو من البادية. وكان ينزل يعقوب عليه‌السلام بأطراف الشام ببادية فلسطين ، وكان رب إبل وغنم وبادية. وقال الزمخشري : كانوا أهل عمد وأصحاب مواش يتنقلون في المياه والمناجع. قيل : كان تحول إلى بادية وسكنها ، فإنّ الله لم يبعث نبيا من أهل البادية. وقيل : كان خرج إلى بدا وهو موضع وإياه عني جميل بقوله :

وأنت التي حببت شعبا إلى بدا

إليّ وأوطاني بلاد سواهما

وليعقوب عليه‌السلام بهذا الموضع مسجد تحت جبل. يقال : بدا القوم بدوا ، إذا أتوا بدا كما يقال : غاروا غورا ، إذا أتوا الغور. والمعنى : وجاء بكم من مكان بدا ، ذكره القشيري ، وحكاه الماوردي عن الضحاك ، وعن ابن عباس. وقابل يوسف عليه‌السلام نعمة إخراجه من السجن بمجيئهم من البدو ، والإشارة بذلك إلى الاجتماع بابيه وإخوته ، وزوال حزن أبيه. ففي الحديث : «من يرد الله به خيرا ينقله من البادية إلى الحاضرة» من بعد أن نزغ أي أفسد ، وتقدم الكلام على نزغ ، وأسند النزغ إلى الشيطان لأنه الموسوس كما قال : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) (٤) وذكر هذا القدر من أمر إخوته ، لأنّ النعمة إذا جاءت

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٧٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٨٣.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ٩٢.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٣٦.

٣٢٨

إثر شدة وبلاء كانت أحسن موقعا. إن ربي لطيف ، أي : لطيف التدبير لما يشاء من الأمور ، رفيق. ومن في قوله من الملك ، وفي من تأويل للتبعيض ، لأنه لم يؤته إلا بعض ملك الدنيا ، ولا علمه إلا بعض التأويل. ويبعد قول من جعل من زائدة ، أو جعلها لبيان الجنس ، والظاهر أن الملك هنا ملك مصر. وقيل : ملك نفسه من إنفاذ شهوته. وقال عطاء : ملك حساده بالطاعة ، ونيل الأماني من الملك. وقرأ عبد الله ، وعمرو بن ذر : آتيتن ، وعلمتن بحذف الياء منهما اكتفاء بالكسرة عنهما ، مع كونهما ثابتتين خطا. وحكى ابن عطية عن ابن ذرانة : قرأ رب آتيتني بغير قد ، وانتصب فاطر على الصفة ، أو على النداء. وأنت وليي تتولاني بالنعمة في الدارين ، وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي. وذكر كثير من المفسرين أنه لما عد نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولحاقه بصالحي سلفه ، ورأى أنّ الدنيا كلها فانية فتمنى الموت. وقال ابن عباس : لم يتمن الموت حي غير يوسف ، والذي يظهر أنه ليس في الآية تمنى الموت ، وإنما عدد نعمه عليه ، ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي أمره أي : توفني إذا حان أجلي على الإسلام ، واجعل لحاقي بالصالحين. وإنما تمنى الوفاة على الإسلام لا الموت ، والصالحين أهل الجنة أو الأنبياء ، أو آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وعلماء التاريخ يزعمون أنّ يوسف عليه‌السلام عاش مائة عام وسبعة أعوام ، وله من الولد : إفرائيم ، ومنشا ، ورحمة زوجة أيوب عليه‌السلام. قال الذهبي : وولد لافراثيم نون ، ولنون يوشع ، وهو فتى موسى عليه‌السلام. وولد لمنشا موسى ، وهو قبل موسى بن عمران عليه‌السلام. ويزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر ، وكان ابن عباس ينكر ذلك. وثبت في الصحيح أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران ، وتوارثت الفراعنة ملك مصر ، ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف عليه‌السلام إلى أن بعث موسى عليه‌السلام.

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ

٣٢٩

(١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ. وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ. أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) قال ابن الأنباري : سألت قريش واليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصة يوسف فنزلت مشروحة شرحا وافيا ، وأمل أن يكون ذلك سببا لإسلامهم ، فخالفوا تأميله ، فعزاه الله تعالى بقوله : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين الآيات. وقيل : في المنافقين ، وقيل : الثنوية ، وقيل : في النصارى. وقال ابن عباس : في تلبية المشركين. وقيل : في أهل الكتاب آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، فجمعوا بين الإيمان والشرك. والإشارة بذلك إلى ما قصه الله من قصة يوسف وإخوته. وما كنت لديهم أي : عند بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم على أن يجعلوه في الجب ، ولا حين ألقوه فيه ، ولا حين التقطته السيارة ، ولا حين بيع. وهم يمكرون أي : يبغون الغوائل ليوسف ، ويتشاورون فيما يفعلون به. أو يمكرون بيعقوب حين أتوا بالقميص ملطخا بالدم ، وفي هذا تصريح لقريش بصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا النوع من علم البيان يسمى بالاحتجاج النظري ، وبعضهم يسميه المذهب الكلامي ، وهو أن يلزم الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج ، وتقدم نظير ذلك في آل عمران ، وفي هود. وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه ، لأنه لا يخفى على أحد أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه ، ولا لقي فيها أحدا ولا سمع منه ، ولم يكن من علم قومه ، فإذا أخبر به وقصه هذا القصص

٣٣٠

الذي أعجز حملته ورواته لم تقع شبهة في أنه ليس منه ، وإنما هو من جهة القرون الخالية ونحوه (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) (١). فقوله : وما كنت ، هنا تهكم بهم ، لأنه قد علم كل أحد أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان معهم. وأجمعوا أمرهم أي : عزموا على إلقاء يوسف في الجب ، وهم يمكرون جملة حالية. والمكر : أن يدبر على الإنسان تدبيرا يضره ويؤذيه والناس ، الظاهر العموم لقوله : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. وعن ابن عباس : أنهم أهل مكة. ولو حرصت : ولو بالغت في طلب إيمانهم لا يؤمنون لفرط عنادهم وتصميمهم على الكفر. وجواب لو محذوف أي : ولو حرصت لم يؤمنوا ، إنما يؤمن من يشاء الله إيمانه. والضمير في عليه عائد على دين الله أي : ما تبتغي عليه أجرا على دين الله ، وقيل : على القرآن ، وقيل : على التبليغ ، وقيل : على الإنباء بمعنى القول. وفيه توبيخ للكفرة ، وإقامة الحجة عليهم. أو وما تسألهم على ما تحدثهم به وتذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى ، كما يعطى حملة الأحاديث والأخبار إن هو إلا موعظة وذكر من الله للعالمين عامة ، وحث على طلب النجاة على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ بشر بن عبيد : وما نسألهم بالنون. ثم أخبر تعالى أنهم لفرط كفرهم يمرون على الآيات التي تكون سببا للإيمان ولا تؤثر فيهم ، وأن تلك الآيات هي في العالم العلوي وفي العالم السفلي وتقدم قراءة ابن كثير وكأين. قال ابن عطية وهو اسم فاعل من كان فهو كائن ومعناها معنى كم في التكثير انتهى. وهذا شيء يروى عن يونس ، وهو قول مرجوح في النحو. والمشهور عندهم أنه مركب من كاف التشبيه ومن أي ، وتلاعبت العرب به فجاءت به لغات. وذكر صاحب اللوامح أن الحسن قرأ وكي بياء مكسورة من غير همز ولا ألف ولا تشديد ، وجاء كذلك عن ابن محيصن ، فهي لغة انتهى. من آية علامة على توحيد الله وصفاته ، وصدق ما جيء به عنه. وقرأ عكرمة وعمرو بن قائد : والأرض بالرفع على الابتداء ، وما بعده خبر. ومعنى يمرون عليها فيشاهدون ما فيها من الآيات. وقرأ السدي : والأرض بالنصب ، وهو من باب الاشتغال أي : ويطوون الأرض يمرون عليها على آياتها ، وما أودع فيها من الدلالات. والضمير في عليها وعنها في هاتين القراءتين يعود على الأرض ، وفي قراءة الجمهور وهي بجر الأرض ، يعود الضمير على آية أي : يمرون على تلك الآيات ويشاهدون تلك الدلالات ، ومع ذلك لا يعتبرون. وقرأ عبد الله : والأرض برفع

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٤٤.

٣٣١

الضاد ، ومكان يمرون يمشون ، والمراد : ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر. وهم مشركون جملة حالية أي : إيمانهم ملتبس بالشرك. وقال ابن عباس : هم أهل الكتاب ، أشركوا بالله من حيث كفروا بنبيه ، أو من حيث ما قالوا في عزير والمسيح. وقال عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : هم كفار العرب أقروا بالخالق الرازق المحيي المميت ، وكفروا بعبادة الأوثان والأصنام. وقال ابن عباس : هم الذين يشبهون الله بخلقه. وقيل : هم أهل مكة قالوا : الله ربنا لا شريك له ، والملائكة بناته ، فأشركوا ولم يوحدوا. وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، وقتادة أيضا ذلك في تلبيتهم يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. وفي الحديث كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سمع أحدهم يقول : لبيك لا شريك لك يقول له : «قط قط» أي قف هنا ولا تزد إلا شريك هو لك. وقيل : هم الثنوية قالوا بالنور والظلمة. وقال عطاء : هذا في الدعاء ينسى الكفار ربهم في الرخاء ، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء. وقيل : هم المنافقون ، جهروا بالإيمان وأخفوا الكفر. وقيل : على بعض اليهود عبدوا عزيرا ، والنصارى عبدوا عيسى. وقيل : قريش لما غشيهم الدخان في سني القحط قالوا : إنا مؤمنون ، ثم عادوا إلى الشرك بعد كشفه. وقيل : جميع الخلق مؤمنهم بالرسول وكافرهم ، فالكفار تقدم شركهم ، والمؤمنون فيهم الشرك الخفي ، وأقربهم إلى الكفر المشبهة. ولذلك قال ابن عباس : آمنوا محملا ، وكفروا مفصلا. وثانيها من يطيع الخلق بمعصية الخالق ، وثالثها من يقول : نفعني فلان وضرّني فلان.

أفأمنوا : استفهام إنكار فيه توبيخ وتهديد ، غاشية نقمة تغشاهم أي ، تغطيهم كقوله : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (١) وقال الضحاك : يعني الصواعق والقوارع انتهى. وإتيان الغاشية يعني في الدنيا ، وذلك لمقابلته بقوله أو تأتيهم الساعة أي يوم القيامة ، بغتة أي : فجأة في الزمان من حيث لا يتوقع ، وهم لا يشعرون : تأكيد لقوله بغتة. قال الكرماني : لا يشعرون بإتيانها أي : وهم غير مستعدين لها. قال ابن عباس : تأخذهم الصيحة على أسواقهم ومواضعهم. وقرأ أبو حفص ، وبشر بن عبيد : أو يأتيهم الساعة.

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٥٥.

٣٣٢

الْمُشْرِكِينَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ. حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) : لما تقدم من قول يوسف عليه‌السلام : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) (١) وكان قوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (٢) دالا على أنه حارص على إيمانهم ، مجتهد في ذلك ، داع إليه ، مثابر عليه. وذكر (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) (٣) أشار إلى ما فيهم من ذلك وهو شريعة الإسلام والإيمان ، وتوحيد الله. فقال : قل يا محمد هذه الطريقة والدعوة طريقي التي سلكتها وأنا عليها ، ثم فسر تلك السبيل فقال : أدعو إلى الله يعني : لا إلى غيره من ملك أو إنسان أو كوكب أو صنم ، إنما دعائي إلى الله وحده. قال ابن عباس : سبيلي أي دعوتي. وقال عكرمة : صلاتي ، وقال ابن زيد : سنتي ، وقال مقاتل والجمهور : ديني.

وقرأ عبد الله : قل هذا سبيلي على التذكير. والسبيل يذكر ويؤنث ، ومفعول أدعو هو محذوف تقديره : أدعو الناس. والظاهر تعلق على بصيرة بأدعو ، وأنا توكيد للضمير المستكن في ادعو ، ومن معطوف على ذلك الضمير والمعنى : أدعو أنا إليها من اتبعني. ويجوز أن يكون على بصيرة خبرا مقدما ، وأنا مبتدأ ، ومن معطوف عليه. ويجوز أن يكون على بصيرة حالا من ضمير ادعو ، فيتعلق بمحذوف ، ويكون أنا فاعلا بالجار والمجرور النائب عن ذلك المحذوف ، ومن اتبعني معطوف على أنا. وأجاز أبو البقاء أن يكون : ومن اتبعني مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك أي : داع إلى الله على بصيرة. ومعنى بصيرة حجة واضحة وبرهان متيقن من قوله : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) (٤) وسبحان الله داخل تحت قوله قل : أي قل ، وتبرئة الله من الشركاء أي : براءة الله من أن يكون له شريك. ولما أمر بأن يخبر عن نفسه أنه يدعو هو ومن اتبعه إلى الله ، وأمر أن يخبر أنه ينزه الله عن الشركاء ، أمر أن يخبر أنه في خاصة نفسه منتف عن الشرك ، وأنه ليس ممن أشرك. وهو نفي عام في الأزمان لم يكن منهم ، ولا في وقت من الأوقات. إلا رجالا حصر في الرسل دعاة إلى الله ، فلا يكون ملكا. وهذا رد على من قال : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) (٥)

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ١٠١.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٣.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٤.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٤.

(٥) سورة فصلت : ٤١ / ١٤.

٣٣٣

وكذلك قال : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) (١) وقال ابن عباس : يعني رجالا لا نساء ، فالرسول لا يكون امرأة ، وهل كان في النساء نبية فيه خلاف؟ والنبي أعم من الرسول ، لأنه منطلق على من يأتيه الوحي سواء أرسل أو لم يرسل ، قال الشاعر في سجاح المتنبئة :

أمست نبيتنا أنثى نطيف بها

ولم تزل أنبياء الله ذكرانا

فلعنة الله والأقوام كلهم

على سجاح ومن بالإفك أغرانا

أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت

أصداؤه ماء مزن أينما كانا

وقرأ أبو عبد الرحمن ، وطلحة ، وحفص : نوحي بالنون وكسر الحاء ، موافقا لقوله : وما أرسلنا. وقرأ الجمهور بالياء وفتح الحاء مبنيا للمفعول. والقرى المدن. قال ابن زيد : أهل القرى أعلم وأحلم من أهل البادية ، فإنهم قليل نبلهم ، ولم ينشىء الله قط منهم رسولا. وقال الحسن : لم يبعث الله رسولا من أهل البادية ، ولا من النساء ، ولا من الجن. والتبدي مكروه إلا في الفتن ، ففي الحديث : «من بدا جفا» ثم استفهم استفهام توبيخ وتقريع. والضمير في يسيروا عائد على من أنكر إرسال الرسل من البشر ، ومن عاند الرسول وأنكر رسالته كفر أي : هلا يسيرون في الأرض فيعلمون بالتواتر أخبار الرسل السابقة ، ويرون مصارع الأمم المكذبة ، فيعتبرون بذلك؟ ولدار الآخرة خير ، هذا حض على العمل لدار الآخرة والاستعداد لها ، واتقاء المهلكات. ففي هذه الإضافة تخريجان : أحدهما : أنها من إضافة الموصوف إلى صفته ، وأصله : ولدار الآخرة. والثاني : أن يكون من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه ، وأصله : ولدار المدة الآخرة أو النشأة الآخرة. والأول : تخريج كوفي ، والثاني : تخريج بصرى.

وقرأ الجمهور : أفلا يعقلون بالياء رعيا لقوله : أفلم يسيروا. وقرأ الحسن ، وعلقمة ، والأعرج ، وعاصم ، وابن عامر ، ونافع : بالتاء على خطاب هذه الأمة تحذيرا لهم مما وقع فيه أولئك ، فيصيبهم ما أصابهم. قال الكرماني : أفلا يعقلون أنها خير ، فيتوسلوا إليها بالإيمان انتهى. والاستيئاس من النصر ، أو من إيمان قومهم قولان. وحتى غاية لما قبلها ، وليس في اللفظ ما يكون له غاية ، فاحتيج إلى تقدير فقدره الزمخشري : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ، فتراخى نصرهم حتى إذا استيأسوا عن النصر. وقال ابن عطية : ويتضمن قوله : أفلم يسيروا إلى ما قبلهم ، أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوهم فلم

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٩٠.

٣٣٤

يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات ، فصاروا في حيز من يعتبر بعاقبته ، فلهذا المضمن حسن أن يدخل حتى في قوله : حتى إذا استيأس الرسل انتهى. ولم يتحصل لنا من كلامه شيء يكون ما بعد حتى غاية له ، لأنه علق الغاية بما ادعى أنه فهم ذلك من قوله : أفلم يسيروا الآية. وقال أبو الفرج بن الجوزي : المعنى متعلق بالآية الأولى فتقديره : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يدعوا قومهم فكذبوهم ، وصبروا وطال دعاؤهم ، وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الرسل. وقال القرطبي في تفسيره : المعنى وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا ، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتى إذا استيأس الرسل. وقرأ أبي ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وطلحة ، والأعمش ، والكوفيون : كذبوا بتخفيف الذال ، وباقي السبعة ، والحسن وقتادة ، ومحمد بن كعب ، وأبو رجاء ، وابن أبي مليكة ، والأعرج وعائشة بخلاف عنها بتشديدها. وهما مبنيان للمفعول ، فالضمائر على قراءة التشديد عائدة كلها على الرسل ، والمعنى : إن الرسل أيقنوا أنهم كذبهم قومهم المشركون. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الظن على بابه يعني من ترجيح أحد الجائزين قال : والضمير للرسل ، والمكذبون مؤمنون أرسل إليه أي : لما طالت المواعيد حسبت الرسل أنّ المؤمنين أولا قد كذبوهم وارتابوا بقولهم. وعلى قراءة التخفيف ، فالضمير في وظنوا عائد على المرسل إليهم لتقدمهم في الذكر في قوله : كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، ولأنّ الرسل تستدعي مرسلا إليهم ، وفي أنهم. وفي قد كذبوا عائد على الرسل ، والمعنى : وظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبهم من ادعوا أنه جاءهم بالوحي عن الله وبنصرهم ، إذ لم يؤمنوا به. ويجوز في هذه القراءة أن تكون الضمائر الثلاثة عائدة على المرسل إليهم أي : وظن المرسل إليهم أنهم قد كذبهم الرسل فيما ادعوه من النبوّة ، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العذاب. وهذا مشهور قول ابن عباس ، وتأويل عبد الله وابن جبير ومجاهد. ولا يجوز أن تكون الضمائر في هذه القراءة عائدة على الرسل ، لأنهم معصومون ، فلا يمكن أن يظن أحد منهم أنه قد كذبه من جاءه بالوحي عن الله. وقال الزمخشري في هذه القراءة : حتى إذا استيأسوا من النصر وظنوا أنهم قد كذبوا أي : كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم أنهم ينصرون أو رجاهم كقوله : رجاء صادق ورجاء كاذب. والمعنى : أنّ مدة التكذيب والعداوة من الكفار ، وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت ، حتى استشعروا القنوط ، وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا ، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب انتهى. فجعل الضمائر كلها للرسل ، وجعل الفاعل الذي صرف من قوله : قد كذبوا ، إما أنفسهم ، وإما

٣٣٥

رجاؤهم. وفي قوله : إخراج الظن عن معنى الترجيح ، وعن معنى اليقين إلى معنى التوهم ، حتى تجري الضمائر كلها في القراءتين على سنن واحد. وروي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير : أن الضمير في وظنوا ، وفي قد كذبوا ، عائد على الرسل والمعنى : كذبهم من تباعدهم عن الله والظن على بابه قالوا : والرسل بشر ، فضعفوا وساء ظنهم. وردت عائشة وجماعة من أهل العلم هذا التأويل ، وأعظموا أن يوصف الرسل بهذا.

قال الزمخشري : إن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ، ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية. وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين ، فما بال رسل الله الذين هم أعرف بربهم ، وأنه متعال عن خلف الميعاد ، منزه عن كل قبيح انتهى. وآخره مذهب الاعتزال. فقال أبو علي : إن ذهب ذاهب إلى أنّ المعنى ظن الرسل أن الذي وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا فيه ، فقد أتى عظيما لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء ، ولا إلى صالحي عباد الله قال : وكذلك من زعم أن ابن عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا وظنوا أنهم قد أخلفوا ، لأن الله لا يخلف الميعاد ، ولا مبدل لكلماته. وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : قد كذبوا بتخفيف الذال مبنيا للفاعل أي : وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما قالوا عن الله من العذاب والظن على بابه. وجواب إذ جاءهم نصرنا ، والظاهر أن الضمير في جاءهم عائد على الرسل. وقيل : عائد عليهم وعلى من آمن بهم. وقرأ عاصم ، وابن عامر : فنجى بنون واحدة وشدّ الجيم وفتح الياء مبنيا للمفعول. وقرأ مجاهد ، والحسن ، والجحدري ، وطلحة بن هرمز كذلك ، إلا أنهم سكنوا الياء ، وخرج على أنه مضارع أدغمت فيه النون في الجيم ، وهذا ليس بشيء ، لأنه لا تدغم النون في الجيم. وتخريجه على أنه ماض كالقراءة التي قبلها سكنت الياء فيه لغة من يستثقل الحركة صلة على الياء ، كقراءة من قرأ ما تطعمون أهاليكم (١) بسكون الياء. ورويت هذه القراءة عن الكسائي ونافع ، وقرأهما في المشهور ، وباقي السبعة فننجي بنونين مضارع أنجى. وقرأت فرقة : كذلك إلا أنهم فتحوا الياء. قال ابن عطية : رواها هبيرة عن حفص عن عاصم ، وهي غلط من هبيرة انتهى. وليست غلطا ، ولها وجه في العربية وهو أنّ الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوبا بإضمار أن بعد الفاء ، كقراءة من قرأ : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ) (٢)

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٨٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٤.

٣٣٦

بنصب يغفر بإضمار أن بعد الفاء. ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة ، أو غير جازمة. وقرأ نصر بن عاصم ، والحسن ، وأبو حيوة ، وابن السميقع ، ومجاهد ، وعيسى ، وابن محيصن : فنجى ، جعلوه فعلا ماضيا مخفف الجيم. وقال أبو عمرو الداني : وقرأت لابن محيصن فنجى بشد الجيم فعلا ماضيا على معنى فنجى النصر. وذكر الداني أنّ المصاحف متفقة على كتبها بنون واحدة. وفي التحبير أنّ الحسن قرأ فننجي بنونين ، الثانية مفتوحة ، والجيم مشددة ، والياء ساكنة. وقرأ أبو حيوة : من يشاء بالياء أي : فنجى من يشاء الله نجاته. ومن يشاء هم المؤمنون لقوله : ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ، والبأس هنا الهلاك. وقرأ الحسن : بأسه بضمير الغائب أي : بأس الله. وهذه الجملة فيها وعيد وتهديد لمعاصري الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) : الضمير في قصصهم عائد على الرسل ، أو على يوسف وأبويه وإخوته ، أو عليهم وعلى الرسل ثلاثة أقوال.

الأول : اختاره الزمخشري قال : وينصره قراءة من قرأ قصصهم بكسر القاف انتهى. ولا ينصره إذ قصص يوسف وأبيه وإخوته مشتمل على قصص كثيرة وأنباء مختلفة. والذي قرأ بكسر القاف هو أحمد بن جبير الانطاكي عن الكسائي ، والقصبي عن عبد الوارث عن أبي عمرو جمع قصة. واختار ابن عطية الثالث ، بل لم يذكره غيره. والعبرة الدلالة التي يعبر بها عن العلم. وإذا عاد الضمير على يوسف عليه‌السلام وأبويه وإخوته ، فالاعتبار بقصصهم من وجوه إعزاز يوسف عليه‌السلام بعد إلقائه في الجب ، وإعلاؤه بعد حبسه في السجن ، وتملكه مصر بعد استعباده ، واجتماعه مع والديه وإخوته على ما أحب بعد الفرقة الطويلة. والإخبار بهذا القصص إخبارا عن الغيب ، والإعلام بالله تعالى من العلم والقدرة والتصرف في الأشياء على ما لا يخطر على بال ولا يجول في فكر. وإنما خص أولو الألباب لأنهم هم الذين ينتفعون بالعبر ، ومن له لب وأجاد النظر ، ورأى ما فيها من امتحان ولطف وإحسان ، علم أنه أمر من الله تعالى ، ومن عنده تعالى. والظاهر أنّ اسم كان مضمر يعود على القصص أي : ما كان القصص حديثا مختلقا ، بل هو حديث صدق ناطق بالحق جاء به من لم يقرأ الكتب ، ولا تتلمذ لأحد ، ولا خالط العلماء ، فمحال أن يفتري هذه القصة بحيث تطابق ما ورد في التوراة من غير تفاوت. وقيل : يعود على القرآن أي : ما كان القرآن

٣٣٧

الذي تضمن قصص يوسف عليه‌السلام وغيره حديثا يختلق ، ولكن كان تصديق الكتب المتقدمة الإلهية ، وتفصيل كل شيء واقع ليوسف مع أبويه وإخوته إن كان الضمير عائدا على قصص يوسف ، أو كل شيء مما يحتاج إلى تفصيله في الشريعة إن عاد على القرآن. وقرأ حمران بن أعين ، وعيسى الكوفي فيما ذكر صاحب اللوامح ، وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية : تصديق وتفصيل وهدى ورحمة برفع الأربعة أي : ولكن هو تصديق ، والجمهور بالنصب على إضمار كان أي : ولكن تصديق أي : كان هو ، أي الحديث ذا تصديق الذي بين يديه. وينشد قول ذي الرمة :

وما كان مالي من تراب ورثته

ولا دية كانت ولا كسب ماثم

ولكن عطاء الله من كل رحلة

إلى كل محجوب السوارق خضرم

بالرفع في عطاء ونصبه أي : ولكن هو عطاء الله ، أو ولكن كان عطاء الله. ومثله قول لوط بن عبيد العائي اللص :

وإني بحمد الله لا مال مسلم

أخذت ولا معطي اليمين محالف

ولكن عطاء الله من مال فاجر

قصى المحل معور للمقارف

وهدى أي سبب هداية في الدنيا ، ورحمة أي : سبب لحصول الرحمة في الآخرة. وخص المؤمنون بذلك لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك كما قال تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (١) وتقدم أول السورة قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (٢) وقوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (٣) وفي آخرها : ما كان حديثا يفترى إلى آخره ، فلذلك احتمل أن يعود الضمير على القرآن ، وأن يعود على القصص والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٢.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ٣.

٣٣٨

سورة الرعد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ

٣٣٩

الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨)

العمد : اسم جمع ، ومن أطلق عليه جمعا فلكونه يفهم منه ما يفهم من الجمع ، وهي الأساطين. قال الشاعر :

٣٤٠