البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

الثاني يلزم فيه من مسه الضر في هذه الأحوال دعاؤه في هذه الأحوال ، لأنه جواب ما ذكرت فيه هذه الأحوال ، فالقيد في حيز الشرط قيد في الجواب كما تقول : إذا جاءنا زيد فقيرا أحسنا إليه ، فالمعنى : أحسنا إليه في حال فقره ، فالقيد في الشرط قيد في الجزاء. ومعنى كشف الضر : رفعه وإزالته ، كأنه كان غطاء على الإنسان ساترا له. وقال صاحب النظم : وإذا مس الإنسان وصفه للمستقبل ، وفلما كشفنا للماضي فهذا النظم يدل على أن معنى الآية : أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل ، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل ، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي انتهى. والمرور هنا مجاز عن المضي على طريقته الأول من غير ذكر لما كان عليه من البلاء والضر. وقال مقاتل : أعرض عن الدعاء. وقيل : مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه ، كأنه لا عهد له به ، وهذا قريب من القول الذي قبله. والجملة من قوله : كان لم يدعنا إلى ضر مسه في موضع الحال ، أي إلى كشف ضر مسه. قال ابن عطية : وقوله مر ، يقتضي أنّ نزولها في الكفار ، ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر وعاص يعني الآية مر في إشراكه بالله وقلة توكله عليه انتهى. والكاف من كذلك في موضع نصب أي : مثل ذلك. وذلك إشارة إلى تزيين الإعراض عن الابتهال إلى الله تعالى عند كشف الضر وعدم شكره وذكره على ذلك ، وزين مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون الفاعل الله إمّا على سبيل خلق ذلك واختراعه في قلوبهم كما يقول أهل السنة ، وإما بتخليته وخذلانه كما تقول المعتزلة ، أو الشيطان بوسوسته ومخادعته. قيل : أو النفس. وفسر المسرفون بالكافرين والكافر مسرف لتضييعه السعادة الأبدية بالشهوة الخسيسة المنقضية ، كما يضيع المنفق ماله متجاوزا فيه الحدّ ما كانوا يعملون من الإعراض عن جناب الله وعن اتباع الشهوات.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) : هذا إخبار لمعاصري الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخطاب لهم بإهلاك من سلف قبلهم من الأمم بسبب ظلمهم وهو الكفر ، على سبيل الردع لهم والتذكير بحال من سبق من الكفار ، والوعيد لهم ، وضرب الأمثال. فكما فعل بهؤلاء ، يفعل بكم. ولفظة لما مشعرة بالعلية ، وهي حرف تعليق في الماضي. ومن ذهب إلى أنها ظرف معمول لأهلكنا كالزمخشري متبعا لغيره ، فإنما يدل إذ ذاك على وقوع الفعل في حين الظلم ، فلا يكون لها

٢١

إشعار إذ ذاك بالعلية. لو قلت : جئت حين قام زيد ، لم يكن مجيئك مستببا عن قيام زيد ، وأنت ترى حيثما جاءت لما كان جوابها أو ما قام مقامه متسببا عما بعدها ، فدل ذلك على صحة مذهب سيبويه من أنها حرف وجوب لوجوب. وجاءتهم ظاهره أنه معطوف على ظلموا أي : لما حصل هذان الأمران : مجيء الرسل بالبينات ، وظلمهم أهلكوا.

وقال الزمخشري : والواو في وجاءتهم للحال أي : ظلموا بالتكذيب ، وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات انتهى. وقال مقاتل : البينات مخوفات العذاب ، والظاهر أنّ الضمير في قوله وما كانوا عائدا على القرون ، وأنه معطوف على قوله : ظلموا. وجوّز الزمخشري أن يكون اعتراضا لا معطوفا قال : واللام لتأكيد النفي بمعنى : وما كانوا يؤمنون حقا تأكيدا لنفي إيمانهم ، وأن الله تعالى قد علم أنهم مصرون على كفرهم ، وأنّ الإيمان مستبعد منهم والمعنى : أنّ السبب في إهلاكهم تعذيبهم الرسل ، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل انتهى. وقال مقاتل : الضمير في قوله : وما كانوا ليؤمنوا ، عائد على أهل مكة ، فعلى قوله يكون التفاتا ، لأنه خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة ، ويكون متسقا مع قوله : وإذا تتلى عليهم. والكاف في كذلك في موضع نصب أي : مثل ذلك الجزاء ، وهو الإهلاك. نجزي القوم المجرمين فهذا وعيد شديد لمن أجرم ، يدخل فيه أهل مكة وغيرهم. وقرأت فرقة : يجزي بالياء ، أي يجزي الله ، وهو التفات. والخطاب في جعلناكم لمن بعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : خطاب لمشركي مكة ، والمعنى : استخلفناكم في الأرض بعد القرون المهلكة لننظر أتعملون خيرا أم شرا فنعاملكم على حسب عملكم. ومعنى لننظر : لنتبين في الوجود ما عملناه أولا ، فالنظر مجاز عن هذا.

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة؟ (قلت) : هو مستعار للعلم المحقق الذي هو علم بالشيء موجود ، أشبه بنظر الناظر وعيان المعاين في حقيقته انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال ، وأنه يلزم من النظر المقابلة ، وفيه إنكار وصفه تعالى بالبصير ورده إلى معنى العلم. وقيل : لننظر ، هو على حذف مضاف أي : لينظر رسلنا وأولياؤنا. وأسند النظر إلى الله مجازا ، وهو لغيره. وقرأ يحيى بن الحرث الزماري : لنظر ، بنون واحدة وتشديد الظاء وقال : هكذا رأيته في مصحف عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، ويعني : أنه رآها بنون واحدة ، لأن النقط والشكل بالحركات والتشديدات

٢٢

إنما حدث بعد عثمان ، ولا يدل كتبه بنون واحدة على حذف النون من اللفظ ، ولا على إدغامها في الظاء ، لأن إدغام النون في الظاء لا يجوز ، ومسوغ حذفها أنه لا أثر لها في الأنف ، فينبغي أن تحمل قراءة يحيى على أنه بالغ في إخفاء الغنة ، فتوهم السامع أنه إدغام ، فنسب ذلك إليه. وكيف معموله لتعملون ، والجملة في موضع نصب لننظر ، لأنها معلقة. وجاز التعليق في نظر وإن لم يكن من أفعال القلوب ، لأنها وصلة فعل القلب الذي هو العلم.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : قال ابن عباس والكلبي : نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة قالوا : يا محمد ائت بقرآن غير هذا فيه ما نسألك. وقال مجاهد وقتادة : نزلت في جماعة من مشركي مكة. وقال مقاتل : في خمسة نفر : عبد الله بن أمية المخزومي ، والوليد بن المغيرة ، ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري ، والعاص بن وائل. وقيل : الخمسة الوليد ، والعاص ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحرث بن حنظلة ، وروي هذا عن ابن عباس.

قال الزمخشري : غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد للمشركين فقالوا : ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك. وقال ابن عطية : نزلت في قريش لأن بعض كفار قريش قال هذه المقالة على معنى : ساهلنا يا محمد ، واجعل هذا الكلام الذي من قبلك هو باختيارنا ، وأحل ما حرمته ، وحرم ما أحللته ، ليكون أمرنا حينئذ واحدا وكلمتنا متصلة انتهى. ونبه تعالى على الوصف الحامل لهم على هذه المقالة ، وهو كونهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء على ما اقترفوه ، والمعنى : وإذا تسرد عليهم آيات القرآن واضحات نيرات لا لبس فيها قالوا كيت وكيت ، وأضيفت الآيات إليه تعالى لأنها كلامه جل وعز ، والتبديل يكون في الذات بأن يجعل بدل ذات ذات أخرى ، ويكون في الصفة. والتبديل هنا هو في الصفة ، وهو أن يزال بعض نظمه بأن يجعل مكان آية العذاب آية الرحمة ، ولا يراد بالتبديل هنا أن يكون في الذات ، لأنه يلزم جعل الشيء المقتضي للتغاير هو الشيء بعينه ، لأن التبديل في الذات هو الإتيان بقرآن غير هذا. ولما كان الإتيان بقرآن غير هذا غير مقدور للإنسان ، لم يحتج إلى نفيه ونفي ما هو مقدور للإنسان ، وإن كان

٢٣

مستحيلا ذلك في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل له : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي. وانتفاء الكون هنا هو كقوله تعالى : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) (١) أي يستحيل ذلك. ويحتمل أن يكون التبديل في الذات على أن يلحظ في قوله : ائت بقرآن غير هذا ، إبقاء هذا القرآن ويؤتى بقرآن غيره ، فيكون أو بدله بمعنى أزله بالكلية وائت ببدله ، فيكون المطلوب أحد أمرين : إما إزالته بالكلية وهو التبديل في الذات ، أو الإتيان بغيره مع بقائه فيحصل التغاير بين المطلوبين. وتلقاء مصدر كالبنيان ، ولم يجيء مصدر على تفعال غيرهما ، ويستعمل ظرفا للمقابلة تقول : زيد تلقاءك. وقرىء بفتح التاء ، وهو قياس المصادر التي للمبالغة كالتطواف والتجوال والترداد والمعنى : من قبل نفسي أن أتبع فيما آمركم به وما أنهاكم عنه من غير زيادة ولا نقصان ، ولا تبديل إلا ما يجيئني خبره من السماء. واستدل بقوله : إن أتبع إلا ما يوحى إليّ على نفي الحكم بالاجتهاد ، وعلى نفي القياس ، وإنما قالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، لأنهم كانوا لا يعترفون بأنّ القرآن معجز ، أو إن كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله. ألا ترى إلى قولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا وقولهم : (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (٢) ولا يمكن أن يريدوا إئت بقرآن غير هذا أو بدله من جهة الوحي لقوله : إني أخاف.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأمكرهم في هذا الاقتراح؟ (قلت) : المكر والكيد. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه إنه من عندك ، وإنك لقادر على مثله ، فأبدل مكانه آخر. وأما اقتراح التبديل والتغيير فللطمع ولاختبار الحال ، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فننجو منه ، أو لا يهلكه فيسخروا منه ، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحا لافترائه على الله تعالى انتهى. وإن عصيت بالتبديل من تلقاء نفسي ، وتقدم اتباع الوحي ، وتركي العمل به ، وهو شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبله. واليوم العظيم : هو يوم القيامة ، ووصف بالعظم لطوله ، أو لكثرة شدائده ، أو للمجموع. وانظر إلى حسن هذا الجواب لما كان أحد المطلوبين التبديل بدأ به في الجواب ، ثم أتبع بأمر عام يشمل انتفاء التبديل وغيره ، ثم أتى بالسبب الحامل على ذلك وهو الخوف ، وعلقه بمطلق العصيان ، فبأدنى عصيان ترتب الخوف.

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٦٠.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٢١ ـ ٩٣ ـ ١٤٤. والأعراف : ٧ / ٧.

٢٤

تَعْقِلُونَ) : هذه مبالغة في التبرئة مما طلبوا منه أي : إنّ تلاوته عليهم هذا القرآن إنما هو بمشيئة الله تعالى وإحداثه أمرا عجيبا خارجا عن العادات ، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره ، ولا نشأ في بلدة فيها علماء فيقرأ عليكم كتابا فصيحا يبهر كلام كل فصيح ، ويعلو على كل منثور ومنظوم ، مشحونا بعلوم من علوم الأصول والفروع ، وإخبار ما كان وما يكون ، ناطقا بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى ، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ولا يخفي عليكم شيء من أسراره ، وما سمعتم منه حرفا من ذلك ، ولا عرّفه به أحد من أقرب الناس إليه وألصقتم به. ومفعول شاء محذوف أي ؛ قل لو شاء الله أن لا أتلوه. وجاء جواب لو على الفصيح من عدم إتيان اللام ، لكونه منفيا بما ، ويقال : دريت به ، وأدريت زيدا به ، والمعنى : ولا أعلمكم به على لساني. وقرأ قنبل والبزي من طريق النقاش عن أبي ربيعة عنه : ولأدراكم بلام دخلت على فعل مثبت معطوف على منفي ، والمعنى : ولأعلمكم به من غير طريقي وعلى لسان غيري ، ولكنه يمن على من يشاء من عباده ، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلا دون الناس.

وقراءة الجمهور : ولا أدراكم به فلا مؤكدة ، وموضحة أنّ الفعل منفي لكونه معطوفا على منفي ، وليست لا هي التي نفي الفعل بها ، لأنه لا يصح نفي الفعل بلا إذا وقع جوابا ، والمعطوف على الجواب جواب. وأنت لا تقول : لو كان كذا لا كان كذا ، إنما يكون ما كان كذا. وقرأ ابن عباس ، وابن سيرين ، والحسن ، وأبو رجاء : ولا ادرأتكم به بهمزة ساكنة ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما : أن الأصل أدريتكم بالياء فقلبها همزة على لغة من قال : لبأت بالحج ، ورثأت زوجي بأبيات ، يريد : لبيت ورثيت. وجاز هذا البدل لأنّ الألف والهمزة من واد واحد ، ولذلك إذا حركت الألف انقلبت همزة كما قالوا في العالم العألم ، وفي المشتاق المشتأق. والوجه الثاني : أن الهمزة أصل وهو من الدرء ، وهو الدفع يقال : درأته دفعته ، كما قال : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) (١) ودرأته جعلته دارئا ، والمعنى : ولأجعلنكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني. وزعم أبو الفتح إنما هي أدريتكم ، فقلب الياء ألفا لا نفتاح ما قبلها ، وهي لغة لعقيل حكاها قطرب يقولون في أعطيتك : أعطأتك. وقال أبو حاتم : قلب الحسن الياء ألفا كما في لغة بني الحرث بن

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٨.

٢٥

كعب السلام علاك ، قيل : ثم همز على لغة من قال في العالم العألم. وقرأ شهر بن خوشب والأعمش : ولا أنذرتكم به بالنون والذال من الإنذار ، وكذا هي في حرف ابن مسعود ، ونبّه على أنّ ذلك وحي من الله تعالى بإقامته فيهم عمرا وهو أربعون سنة من قبل ظهور القرآن على لساني يافعا وكهلا ، لم تجربوني في كذب ، ولا تعاطيت شيئا من هذا ، ولا عانيت اشتغالا ، فكيف أتهم باختلاقه؟ أفلا تعقلون أنّ من كان بهذه الطريقة من مكثه الأزمان الطويلة من غير تعلم ، ولا تتلمذ ، ولا مطالعة كتاب ، ولا مراس جدال ، ثم أتى بما ليس يمكن أن يأتي به أحد ، ولا يكون إلا محقا فيما أتى به مبلغا عن ربه ما أوحى إليه وما اختصه به؟ كما جاء في حديث هر قل : «هل جربتم عليه كذبا؟ قال : لا فقال : لم يكن ليدع الكذب على الخلق ويكذب على الله». وأدغم ثاء لبثت أبو عمرو ، وأظهرها باقي السبعة. وقرأ الأعمش : عمرا بإسكان الميم ، والظاهر عود الضمير في من قبله على القرآن. وأجاز الكرماني أن يعود على التلاوة ، وعلى النزول ، وعلى الوقت يعني : وقت نزوله.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) : تقدم تفسير مثل هذا الكلام ، ومساقه هنا باعتبارين : أحدهما : أنه لما قالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، كان في ضمنه أنهم ينسبونه إلى أنه ليس من عند الله وإنما هو اختلاق ، فبولغ في ظلم من افترى على الله كذبا كما قال : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ، أو قال : أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ، ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله وقد قام الدليل القاطع على أنّ هذا القرآن هو من عند الله ، وقد كذبتم بآياته ، فلا أحد أظلم منكم. والاعتبار الثاني : أنّ ذلك توطئة لما يأتي بعده من عبادة الأوثان أي : لا أحد أظلم منكم في افترائكم على الله أنّ له شريكا ، وأن له ولدا ، وفيما نسبتم إليه من التحليل والتحريم.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) : الضمير في ويعبدون عائد على كفار قريش الذين تقدمت محاورتهم. وما لا يضرهم ولا ينفعهم هو الأصنام ، جماد لا تقدر على نفع ولا ضر. قيل : إن عبدوها لم تنفعهم ، وإن تركوا عبادتها لم تضرهم. ومن حق المعبود أن يكون مثيبا على الطاعة ، معاقبا على المعصية. وكان أهل الطائف يعبدون اللات ، وأهل مكة العزى ومناة وأسافا ونائلة وهبل ، والأخبار بهذا عن الكفار هو على سبيل التجهيل والتحقير لهم ولمعبوداتهم ، والتنبيه على

٢٦

أنهم عبدوا من لا يستحق العبادة. وفي قوله : من دون الله ، دلالة على أنهم كانوا يعبدون الأصنام ولا يعبدون الله. قال ابن عباس : يعنون في الآخرة. وقال النضر بن الحرث : إذا كان يوم القيامة شفعت في اللات والعزى. وقال الحسن : شفعاؤنا في إصلاح معايشنا في الدنيا لأنهم لا يقرون بالبعث. وأ تنبئون استفهام على سبيل التهكم بما ادّعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأنّ الذي أنبئوا به باطل غير منطو تحت الصحة ، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه ، وما موصولة بمعنى الذي.

قال الزمخشري : بكونهم شفعاء عنده ، وهو إنباء ما ليس بمعلوم لله تعالى ، وإذا لم يكن معلوما له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات لم يكن شيئا لأنّ الشيء ما يعلم ويخبر عنه فكان خبرا ليس له مخبر عنه انتهى. فتكون ما واقعة على الشفاعة ، والفاعل بيعلم هو الله ، والمفعول الضمير المحذوف العائد على ما. وقوله : في السموات ولا في الأرض تأكيد لنفيه ، لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم قاله الزمخشري. وفي التحرير : أتنبئون ، معناه التهكم والتقريع والتوبيخ والإنكار ، والمعنى على هذا : أتخبرون الله بما يعلم خلافه في السموات والأرض ، فإن صفات الذات لا يجري فيها النفي. وقيل : أتخبرون الله بما لا يعلمه موجودا في السموات والأرض ، فكيف يصح وجود ما لا يعلمه الله ، وهو كما يقال للرجل : قد قلت كذا ، فيقول : ما علم الله هذا مني ، أي ما كان هذا قط ، إذ لو كان لعلمه الله انتهى.

والذي يظهر أنّ ما موصول يراد به الأصنام لا الشفاعة التي ادعوها ، والفاعل بيعلم ضمير يعود على ما لا على الله ، وذلك على حذف مضاف والمعنى : قل أتعلمون الله بشفاعة الأصنام التي انتفي علمها في السموات والأرض أي : ليست متصفة بعلم البتة ، فيكون ذلك ردا عليهم في دعواهم أنها تشفع عند الله ، لأنّ من كان منتفيا عنه العلم فكيف يشفع وهو لا يعلم من يشفع فيه ، ولا ما يشفع فيه ، ولا من تشفع عنده؟ كما رد عليهم في العبادة بقوله : ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، فانتفاء الضر والنفع قادح في العبادة ، وانتفاء العلم قادح في الشفاعة ، فتبطل العبادة ودعوى الشفاعة ، ويكون قوله : في السموات والأرض على هذا تنبيها على محال المعبودات المدعى شفاعتهم ، إذ من المعبودات السماوية الكواكب كالشمس والشعرى. وقرىء : أتنبئون بالتخفيف من أنبأ. ولما ذكر تعالى عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع ، وكان ذلك إشراكا ، استأنف تنزيها بقوله سبحانه وتعالى. وما يحتمل أن

٢٧

تكون بمعنى الذي ومصدرية أي : شركائهم الذين يشركونهم به ، أو عن إشراكهم. وقرأ العربيان والحرميان وعاصم : يشركون بالياء على الغيبة هنا ، وفي حرفي النحل ، وحرف في الروم. وذكر أبو حاتم أنه قرأها كذلك الحسن والأعرج وابن القعقاع وشيبة وحميد وطلحة والأعمش. وقرأ ابن كثير ونافع ، وابن عامر ، في النمل فقط بالياء على الخطاب ، وعاصم وأبو عمرو بالياء على الغيبة. وقرأ حمزة والكسائي الخمسة بالتاء على الخطاب ، وأتى بالمضارع ولم يأت عن ما أشركوا للدلالة على استمرار حالهم ، كما جاؤوا يعبدون وأنهم على الشرك في المستقبل ، كما كانوا عليه في الماضي.

(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) : لما ذكر تعالى الدلالة على فساد عبادة الأصنام ، ذكر الحامل على ذلك وهو الاختلاف الحادث بين الناس ، والظاهر عموم الناس. ويتصور في آدم وبينه إلى أن وقع الاختلاف بعد قتل أحد ابنيه الآخر ، وقاله : أبي بن كعب. وقال الضحاك : المراد أصحاب سفينة نوح ، اتفقوا على الحنيفية ودين الإسلام. وعن ابن عباس : من كان من ولد آدم إلى زمان إبراهيم ورد بأنه عبد في زمان نوح عليه‌السلام الأصنام كود ، وسواع. وحكى ابن القشيري أنّ الناس قوم إبراهيم إلى أن غيّر الدين عمرو بن لحي. وقال ابن زيد : هم الذين أخذ عليهم الميثاق يوم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (١) لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم. وقال الأصم : هم الأطفال المولودون كانوا على الفطرة فاختلفوا بعد البلوغ ، وأبعد من ذهب إلى أنّ المراد بالناس هنا آدم وحده ، وهو مروى عن : مجاهد ، والسدّي ، وعبر عنه بالأمة لأنه جامع لأنواع الخير. وهذه الأقوال هي على أنّ المراد بأمة واحدة في الإسلام والإيمان. وقيل : في الشرك. وأريد قوم إبراهيم كانوا مجتمعين على الكفر ، فآمن بعضهم ، واستمر بعضهم على الكفر. أو من كان قبل البعث من العرب وأهل الكتاب كانوا على الكفر والتبديل والتحريف ، حتى بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمن بعضهم ، أو العرب خاصة ، أقوال ثالثها للزجاج. والظاهر أنّ المراد بقوله : أمة واحدة في الإسلام ، لأنّ هذا الكلام جاء عقيب إبطال عبادة الأصنام ، فلا يناسب أن يقوى عباد الأصنام. فإنّ الناس كانوا على ملة الكفر ، إنما المناسب أن يقال : إنهم كانوا على الإسلام حتى تحصل النفرة من اتباع غير ما كان الناس عليه. وأيضا فقوله : ولو لا كلمة ، هو وعيد ، فصرفه إلى أقرب مذكور وهو

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٧٢.

٢٨

الاختلاف ، هو الوجه والاختلاف بسبب الكفر ، هو المقتضى للوعيد ، لا الاختلاف الذي هو بسبب الإيمان ، إذ لا يصلح أن يكون سببا للوعيد ، وقد تقدم الكلام على نحو هذا في البقرة في قوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) (١) ولكن أعدنا الكلام فيه لبعده.

والكلمة هنا هو القضاء ، والتقدير : لبني آدم بالآجال المؤقتة. قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد الكلمة في أمر القيامة ، وأنّ العقاب والثواب إنما يكون حينئذ. وقال الزمخشري : هو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة يقضي بينهم عاجلا فيما اختلفوا فيه ، وتمييز المحق من المبطل. وسبقت كلمة الله بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف ، وتلك دار ثواب وعقاب. وقال الكلبي : الكلمة أنّ الله أخبر هذه الأمة لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة ، فلو لا هذا التأخير لقضى بينهم بنزول العذاب ، أو بإقامة الساعة. وقيل : الكلمة السابقة أن لا يأخذ أحدا إلا بحجة وهو إرسال الرسل. وقيل : الكلمة قوله : سبقت رحمتي غضبي (٢) ولو لا ذلك ما أخر العصاة إلى التوبة.

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) : هذا من اقتراحهم. قال الزمخشري : وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات ، دقيقة المسلك من بين المعجزات. وجعلوا نزولها كلا نزول ، فكأنه لم ينزل عليه قط حتى قالوا : لو لا أنزل عليه آية واحدة من ربه ، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرد وانهماكهم في الغي فقل : إنما الغيب لله أي : هو المختص بعلم الغيب المستأثر به ، لا علم لي ولا لأحد به. يعني : أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو سبحانه ، فانتظروا نزول ما اقترحتموه إني معكم من المنتظرين بما يفعل الله تعالى بكم لعنادكم وجحدكم الآيات. وقال ابن عطية : آية من ربه ، آية تضطر الناس إلى الإيمان ، وهذا النوع من الآيات لم يأت بها نبي قط ، ولا من المعجزات اضطرارية ، وإنما هي معرضة النظر ليهتدي قوم ويضل آخرون ، فقل : إنما الغيب لله إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل ، لا يطلع على غيبه في ذلك أحد. وقوله : فانتظروا ، وعيد وقد صدقه الله تعالى بنصرته محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : الآية التي اقترحوا أن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١٣.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٠.

٢٩

ينزل ما تضمنه قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا) (١) الآية وقيل : آية كآية موسى وعيسى كالعصا واليد البيضاء ، وإحياء الموتى ، طلبوا ذلك على سبيل التعنت.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) : لما ذكر تعالى قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ) (٢). الآية ثم ذكر قوله : وقالوا لو لا انزل عليه آية (٣) وذلك على سبيل التعنت أخبر أنّ هؤلاء إنما يصيرون لهذه المقالات عند ما يكونون في رخاء من العيش وخلو بال ، وأنّ إحسان الله تعالى قابلوه بما لا يجوز من ابتغاء المكر لآياته ، وكان خليقا بهم أن يكونوا أول من صدق بآياته. وإعراضهم عن الآيات نظير قوله : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) (٤). وسبب نزولها أنه لما دعا على أهل مكة الرسول بالجدب قحطوا سبع سنين ، فأتاه أبو سفيان فقال : ادع لنا بالخصب ، فإنّ أخصبنا صدقنا ، فسأل الله لهم فسقوا ولم يؤمنوا ، وهذه وإن كانت في الكفار فهي تتناول من العاصين من لا يؤدّي شكر الله عند زوال المكروه عنه ، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه ، وذلك في الناس كثير. تجد الإنسان يعقد عند مس الضر التوبة والتنصل من سائر المعاصي ، فإذا زال عنه رجع إلى أقبح عاداته. والرحمة هنا الغيث بعد القحط ، والأمن بعد الخوف ، والصحة بعد المرض ، والغنى بعد الفقر ، وما أشبه ذلك. ومعنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم ، ومعنى مكر في آياتنا التكذيب بالقرآن ، والشك فيه قاله جماعة. وقال مجاهد ومقاتل : الاستهزاء والتكذيب. وقال أبو عبيدة : الرد والجحود. وحكى الماوردي النفاق لأنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، وهو شبيه بما قال الزمخشري : إنّ المكر أخفى الكيد. وقال ابن عطية : والمكر الاستهزاء والطعن عليها من الكفار ، واطراح الشكر والخوف من العصاة انتهى. والإذاقة والمس هنا مجازان ، وفي هذه الجملة دليل على سرعة تقلب ابن آدم من حالة الخير إلى حالة الشر ، وذلك بلفظ أذقنا ، كأنه قيل : أول ذوقه الرحمة قبل أن يداوم استطعامها مكروه بلفظ من المشعرة بابتداء الغاية أي : ينشىء المكر إثر كشف الضراء لا يمهل ذلك. وبلفظ إذا الفجائية الواقعة جوابا لإذا الشرطية ، أي في وقت إذاقة الرحمة

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٠.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ١٥.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ٢٠. ويقولون. وفي الأنعام : ٦ / ٣٧. وقالوا : لو لا نزل عليه آية. وفي الرعد : ١٣ / ٧. ويقول : لو لا أنزل عليه آية.

(٤) سورة يونس : ١٠ / ١٢.

٣٠

فاجأوا بالمكر. ولما كانت هذه الجملة كما قلنا تتضمن سرعة المكر منهم قيل : قل الله أسرع مكرا فجاءت أفعل التفضيل. ومعنى وصف المكر بالأسرعية : أنه تعالى قبل أن يدبروا مكائدهم قضى بعقابكم ، وهو موقعه بكم ، واستدرجكم بإمهاله. قال ابن عطية : أسرع من سرع ، ولا يكون من أسرع يسرع ، حكى ذلك أبو علي. ولو كان من أسرع لكان شاذا وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في نار جهنم لهي أسود من القار» وما حفظ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليس بشاذ انتهى. وقيل : أسرع هنا ليست للتفضيل ، وحكاية ذلك عن أبيّ على هو مذهب. وفي بناء التعجب وأفعل التفضيل من أفعل ثلاثة مذاهب : المنع مطلقا وما ورد من ذلك فهو شاذ ، والجواز مطلقا ، والتفصيل بين أن تكون الهمزة فيه للنقل فيمنع ، أو لغير النقل فيجوز ، نحو : أشكل الأمر وأظلم الليل ، وتقرير الصحيح من ذلك هو في علم النحو. وأما تنظير أسود من القار بأسرع ففاسد ، لأن أسود ليس فعله على وزن أفعل ، وإنما هو على وزن فعل نحو سود فهو أسود ، ولم يمتنع التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو : سود وحمر وأدم إلّا لكونه لونا ، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقا ، وبعضهم في السواد والبياض فقط.

والرسل هنا الحفظة بلا خلاف. والمعنى : أن ما تظنونه خافيا مطويا عن الله لا يخفى عليه ، وهو منتقم منكم. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ، وأبو عمرو : رسلنا بالتخفيف. وقرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والأعرج ، ورويت عن نافع : يمكرون على الغيبة جريا على ما سبق. وقرأ أبو رجاء ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، وطلحة ، والأعمش ، والجحدري ، وأيوب بن المتوكل ، وابن محيصن ، وشبل ، وأهل مكة ، والسبعة : بالتاء على الخطاب مبالغة لهم في الإعلام بحال مكرهم ، والتفاتا لقوله : قل الله أي : قل لهم ، فناسب الخطاب. وفي قوله : إنّ رسلنا التفات أيضا ، إذ لم يأت أنّ رسله. وقال أيوب بن المتوكل في مصحف أبي : يا أيها الناس إنّ الله أسرع مكرا ، وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون. وينبغي أن يحمل هذا على التفسير ، لأنه مخالف لما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف ، والمحفوظ عن أبي القراءة والإقراء بسواد المصحف.

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) : مناسبة هذه الآية لما

٣١

قبلها أنه لما ذكر تعالى أنّ الناس إذا أصابهم الضر لجأوا إلى الله تعالى فإذا أذاقهم الرحمة ، عادوا إلى عادتهم من إهمال جانب الله والمكر في آياته. وكان قبل ذلك قد ذكر نحوا من هذا في قوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) (١) الآية. وكان المذكور في الآيتين أمرا كليا ، أوضح تعالى ذلك الأمر الكلي بمثال جلي كاشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي ينقطع فيه رجاء الإنسان عن كل متعلق به إلا الله تعالى ، فيخلص له الدعاء وحده في كشف هذه النازلة التي لا يكشفها إلا هو تعالى ، ويتبين بطلان عبادته ما لا يضر ولا ينفع ، ودعواه أنه شفيعه عند الله ، ثم بعد كشف هذه النازلة عاد إلى عادته من بغيه في الأرض ، فإنجاؤه تعالى إياهم هو مثال من إذاقة الرحمة وما كانوا فيه قبل من إشرافهم على الهلاك هو مثال من الضر الذي مسهم. وقرأ زيد بن ثابت ، والحسن ، وأبو العالية ، وزيد بن علي ، وأبو جعفر ، وعبد الله بن جبير ، وأبو عبد الرحمن ، وشيبة ، وابن عامر : ينشركم من النشر والبث. وقرأ الحسن أيضا : ينشركم من الإنشار وهو الإحياء ، وهي قراءة عبد الله. وقرأ بعض الشاميين ينشركم بالتشديد للتكثير من النشر الذي هو مطاوعة الانتشار. وقرأ باقي السبعة والجمهور : يسيركم من التسيير. قال أبو علي : هو تضعيف مبالغة ، لا تضعيف تعدية ، لأن العرب تقول : سرت الرجل وسيرته ، ومنه قول الهذلي :

فلا تجزعن من سنة أنت سرتها

فأول راض سنة من يسيرها

قال ابن عطية : وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكون شاهدا في هذا ، وهو أن يكون الضمير كالظرف كما تقول : سرت الطريق انتهى. وما ذكره أبو علي لا يتعين ، بل الظاهر أنّ التضعيف فيه للتعدية ، لأنّ سار الرجل لازما أكثر من سرت الرجل متعديا فجعله ناشئا عن الأكثر أحسن من جعله ناشئا عن الأقل. وأما جعل ابن عطية الضمير كالظرف قال كما تقول : سرت الطريق ، فهذا لا يجوز عند الجمهور ، لأن الطريق عندهم ظرف مختص كالدار والمسجد ، فلا يصل إليه الفعل غيره. دخلت عند سيبويه ، وانطلقت ، وذهبت عند الفراء إلا بوساطة في إلا في ضرورة ، وإذا كان كذلك فضميره أحرى أن لا يتعدى إليه الفعل. وإذا كان ضمير الظرف الذي يصل إليه الفعل بنفسه يصل إليه بوساطة في إلا إن اتسع فيه فلأن يكون الضمير الذي يصل الفعل إلى ظاهره بفي أولى أن يصل إليه

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ١٢.

٣٢

الفعل بوساطة في. وزعم ابن الطراوة أن الطريق ظرف غير مختص ، فيصل إليه الفعل بغير وساطة في ، وهو زعم مردود في النحو.

ومعنى يسيركم : يجعلكم تسيرون ، والسير معروف ، وفي قوله : والبحر دلالة على جواز ركوب البحر. ولما كان الخوف في البحر أغلب على الإنسان منه في البر وقع المثال به لذلك المعنى الكلي به من التجاء العبد لربه تعالى حالة الشدة والإهمال لجانبه حالة الرخاء. قال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف جعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر ، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ (قلت) : لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير ، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في خبرها كأنه قال : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة فكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف ، وتراكم الأمواج ، والظن للهلاك ، والدعاء للانجاء انتهى. وهو حسن. وقرأ أبو الدرداء وأم الدرداء : في الفلكي بزيادة ياء النسب ، وخرج ذلك على زيادتها ، كما زادوها في الصفة في نحو : أحمرّيّ وزواريّ ، وفي العلم كقول الصلتان : أنا الصلتاني الذي قد علمتم. وعلى إرادة النسب مرادا به اللج كأنه قيل في اللج الفلكي وهو الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه ، والضمير في وجرين عائد على الفلك على معنى الجمع ، إذ الفلك كما تقدم في سورة البقرة يكون مفردا وجمعا ، والضمير في بهم عائد على الكائنين في الفلك. وهو التفات ، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة. وفائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة قال الزمخشري : المبالغة ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح انتهى. والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنّ حكمة الالتفات هنا هي أنّ قوله : هو الذي يسيركم في البر والبحر ، خطاب فيه امتنان وإظهار نعمة للمخاطبين ، والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار ، والخطاب شامل ، فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح على الشكر. ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيرجع ، فلما ذكرت حالة آل الأمر في آخرها إلى أن الملتبس بها هو باغ في الأرض بغير الحق ، عدل عن الخطاب إلى الغيبة حتى لا يكون المؤمنون يخاطبون بصدور مثل هذه الحالة التي آخرها البغي. وقال ابن عطية : بهم خروج من الحضور إلى الغيبة ، وحسن ذلك لأنه قوله : كنتم في الفلك ، هو بالمعنى المعقول ، حتى إذا حصل بعضكم في السفن انتهى. فكأنه قدر مفردا غائبا يعاد الضمير عليه فيصير كقوله تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ) (١) أي ، أو كذي ظلمات ، فعاد الضمير

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٤٠.

٣٣

غائبا على اسم غائب ، فلا يكون ذلك من باب الالتفات. والباء في بهم وبريح قال العكبري : تتعلق الباءان بجرين انتهى. والذي يظهر أن الباء في بهم متعلقة بجرين تعلقها بالمفعول نحو : مررت بزيد. وأنّ الباء في بريح يجوز أن تكون للمسبب ، فاختلف المدلول في الباءين ، فجاز أن يتعلقا بفعل واحد ، ويجوز أن تكون الباء للحال أي : وجرين بهم ملتبسة بريح طيبة ، فتتعلق بمحذوف كما تقول : جاء زيد بثيابه أي ملتبسا بها. وفرحوا بها يحتمل أن يكون معطوفا على قوله : وجرين بهم ، ويحتمل أن يكون حالا أي : وقد فرحوا بها. كما احتمل قوله : وجرين أن يكون معطوفا على كنتم ، وأن يكون حالا أي : والظاهر أنّ قوله : جاءتها ريح عاصف ، هو جواب إذا. والظاهر عود الضمير في جاءتها على الفلك ، لأنه هو المحدث عنه في قوله : وجرين بهم ، وقاله مقاتل. وجوزوا أن يعود على الريح الطيبة وقاله الفراء ، وبدأ به الزمخشري. ومعنى طيب الريح لين هبوبها وكونها موافقة.

وقرأ ابن أبي عبلة : جاءتهم ، ومعنى من كل مكان من أمكنة الموج. والظن هنا على بابه الأصلي من ترجيح أحد الجائزين. وقيل : معناها التيقن ، ومعنى أحيط بهم أي للهلاك ، كما يحيط العدو بمن يريد إهلاكه ، وهي كناية عن استيلاء أسباب الهلاك. وقرأ زيد بن علي : حيط بهم ثلاثيا والجملة من قوله : دعوا الله قال أبو البقاء : هي جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط تقديره : لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى ، وهو كلام لا يتحصل منه شيء. وقال الطبري : جواب حتى إذا كنتم في الفلك جاءتها ريح عاصف ، وجواب قوله : وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى. وهو مخالف للظاهر ، لأنّ قوله : وظنوا ظاهره العطف على جواب إذا ، لا أنه معطوف على كنتم ، لكنه محتمل. كما تقول : إذا زارك فلان فأكرمه ، وجاءك خالد فأحسن إليه ، وكأن أداة الشرط مذكورة. وقال الزمخشري : هي بدل من ظنوا لادعائهم من لوازم ظنهم الهلاك ، فهو ملتبس به انتهى. وكان أستاذنا أبو جعفر بن الزبير يخرّج هذه الآية على غير ما ذكروا ويقول : هو جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فما كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل : دعوا الله مخلصين له الدين انتهى. ومعنى الإخلاص إفراده بالدعاء من غير إشراك أصنام ولا غيرها ، قال معناه : ابن عباس وابن زيد. وقال الحسن : مخلصين لا إخلاص إيمان ، لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله ، فيكون ذلك جاريا مجرى الإيمان الاضطراري انتهى. والاعتراف بالله مركوز في طبائع العالم ، وهم مجبولون على أنه المتصرف في الأشياء ، ولذلك إذا حقت الحقائق رجعوا إليه كلهم مؤمنهم وكافرهم ، لئن أنجيتنا ثم قسم محذوف ، وذلك القسم وما بعده محكيّ بقول

٣٤

أي : قائلين. أو أجرى دعوا مجرى قالوا ، لأنه نوع من القول ، والإشارة بهذه إلى الشدائد التي هم فيها. وقال الكلبي : إلى الريح العاصف.

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : قال ابن عباس : يبغون بالدعاء إلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد. قال الزمخشري : (فإن قلت) : ما معنى قوله بغير الحق ، والبغي لا يكون بحق؟ (قلت) : بلى وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة ، وهدم دورهم ، وإحراق زروعهم ، وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببني قريظة انتهى. وكأنه قد شرح قوله : يبغون بأنهم يفسدون ، ويبعثون مترقين في ذلك ممعنين فيه من بغى الجرح إذا ترقى للفساد انتهى. قال الزجاج : البغي الترقي في الفساد. وقال الأصمعي : بغى الجرح ترقي إلى الفساد ، وبغت المرأة فجرت انتهى. ولا يصح أن يقال في المسلمين إنهم باغون على الكفرة ، إلا إن ذكر أنّ أصل البغي هو الطلب مطلقا ولا يتضمن الفساد ، فحينئذ ينقسم إلى طلب بحق ، وطلب بغير حق. ولما حمل ابن عطية البغي هنا على الفساد قال : أكد ذلك بقوله بغير الحق. وجواب لما إذا الفجائية وما بعدها ، ومجيء إذا وما بعدها جوابا لها دليل على أنها حرف يترتب ما بعدها من الجواب على ما قبله من الفعل الذي بعد لمّا ، وأنها تفيد الترتب والتعليق في المضي ، وأنها كما قال سيبويه : حرف. ومذهب غيره أنها ظرف ، وقد أوضحنا ذلك فيما كتبناه في علم النحو. والجواب بإذا الفجائية دليل على أنه لم يتأخر بغيهم عن إنجائهم ، بل بنفس ما وقع الإنجاء وقع البغي ، والخطاب بيا أيها الناس ، قال الجمهور : لأهل مكة. والذي يظهر أنه خطاب لأولئك الذين أنجاهم الله وبغوا ، ويحتمل كما قالوا : العموم ، فيندرج أولئك فيهم ، وهذا ذمّ للبغي في أوجز لفظ. ومعنى على أنفسكم. وبال البغي عليكم ، ولا يجني ثمرته إلا أنتم. فقوله : على أنفسكم ، خبر للمبتدأ الذي هو بغيكم ، فيتعلق بمحذوف. وعلى هذا التوجيه انتصب متاع في قراءة زيد بن علي وحفص ، وابن أبي إسحاق ، وهارون ، عن ابن كثير : على أنه مصدر في موضع الحال أي : متمتعين ، أو باقيا على المصدرية أي : يتمتعون به متاع ، أو نصبا على الظرف نحو : مقدم الحاج أي وقت متاع الحياة الدنيا. وكل هذه التوجيهات منقولة. والعامل في متاع إذا كان حالا أو ظرفا ما تعلق به خبر بغيكم أي : كائن على أنفسكم ، ولا ينتصبان ببغيكم ، لأنه مصدر قد فصل بينه وبين معموله بالخبر ، وهو غير جائز. وارتفع متاع في قراءة الجمهور على أنه خبر مبتدأ محذوف. وأجاز

٣٥

النحاس ، وتبعه الزمخشري ، أن يكون على أنفسكم متعلقا بقوله : بغيكم ، كما تعلق في قوله : فبغى عليهم ، ويكون الخبر متاع إذا رفعته. ومعنى على أنفسكم : على أمثالكم. والذين جنسكم جنسهم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا : متاعا الحياة الدنيا بنصب متاع وتنوينه ، ونصب الحياة. وقال سفيان بن عيينة : في هذه الجملة تعجل لكم عقوبته في الحياة الدنيا. وقرأ فرقة : فينبئكم بالياء على الغيبة ، والمراد الله تعالى.

إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (١) ضرب مثلا عجيبا غريبا للحياة الدنيا تذكر من يبغي فيها على سرعة زوالها وانقضائها ، وأنها بحال ما تعز وتسر ، تضمحل ويؤول أمرها إلى الفناء. وقال الزمخشري : هذا من التشبيه المركب ، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاما بعد ما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه انتهى. وإنما هنا ليست للحصر لا وضعا ولا استعمالا ، لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالا غير هذا ، والمثل هنا يحتمل أن يراد به الصفة ، وأن يراد به القول السائر المشبه به حال الثاني بالأول. والظاهر تشبيه صفة الحياة الدنيا بماء فيما يكون به ،

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٢٣.

٣٦

ويترتب عليه من الانتفاع ثم الانقطاع. وقيل : شبهت الحياة الدنيا بالنبات على تلك الأوصاف ، فيكون التقدير : كنبات ماء ، فحذف المضاف. وقيل : شبهت الحياة بحياة مقدرة على هذه الأوصاف ، فيكون التقدير : كحياة قوم بماء أنزلناه من السماء. قيل : ويقوي هذا قوله : وظن أهلها أنهم قادرون عليها. والسماء إما أن يراد من السحاب ، وإما أن يراد من جهة السماء ، والظاهر أن النبات اختلط بالماء. ومعنى الاختلاط : تشبثه به ، وتلقفه إياه ، وقبوله له ، لأنه يجري له مجرى الغذاء ، فتكون الباء للمصاحبة. وكل مختلطين يصح في كل منهما أن يقال : اختلط بصاحبه ، فلذلك فسره بعضهم بقوله : خالطه الماء وداخله ، فغذّى كل جزء منه. وقال الكرماني : فاختلط به اختلاط مجاورة ، لأنّ الاختلاط تداخل الأشياء بعضها في بعض انتهى. ولا يمتنع اختلاط النبات بالماء على سبيل التداخل ، فلا تقول : إنه اختلاط مجاورة. وقيل : اختلط اختلف وتنوع بالماء ، وينبو لفظ اختلط عن هذا التفسير. وقيل : معنى اختلط تركب. وقيل : امتد وطال. وقال الزمخشري : فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا. وقال ابن عطية : وصلت فرقة النبات بقوله فاختلظ أي : اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء انتهى. وعلى هذه الأقوال الباء في بماء للسببية ، وأبعد من ذهب إلى أن الفاعل في قوله : فاختلط ، هو ضمير يعود على الماء أي : فاختلط الماء بالأرض. ويقف هذا الذاهب على قوله : فاختلط ، ويستأنف به نبات على الابتداء ، والخبر المقدم. قال ابن عطية : يحتمل على هذا أن يعود الضمير في به على الماء وعلى الاختلاط الذي تضمنه الفعل انتهى. والوقف على قوله : فاختلط ، لا يجوز وخاصة في القرآن ، لأنه تفكيك للكلام المتصل الصحيح المعنى ، الفصيح اللفظ ، وذهاب إلى اللغز والتعقيد ، والمعنى الضعيف. ألا ترى أنه لو صرح بإظهار الاسم الذي الضمير في كناية عنه فقيل بالاختلاط نبات الأرض ، أو بالماء نبات الأرض ، لم يكد ينعقد كلاما من مبتدأ وخبر لضعف هذا الإسناد وقربه من عدم الإفادة ، ولو لا أنّ ابن عطية ذكره وخرّجه على ما ذكرناه عنه لم نذكره في كتابنا. ولما كان النبات ينقسم إلى مأكول وغيره ، بيّن أنّ المراد أحد القسمين بمن فقال : مما يأكل الناس ، كالحبوب والثمار والبقول والأنعام ، كالحشيش وسائر ما يرعى. قال الحوفي : من متعلقة باختلط. وقال أبو البقاء : مما يأكل حال من النبات ، فاقتضى قول أبي البقاء أن يكون العامل في الحال محذوفا لأنّ المجرور والظرف إذا وقعا حالين كان العامل محذوفا. وقول أبي البقاء : هو الظاهر ، وتقديره : كائنا مما يأكل ، وحتى غاية ، فيحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولا حتى تصحّ الغاية. فأما أن

٣٧

يقدر قبلها محذوف أي : فما زال ينمو حتى إذا ، أو يتجوز في فاختلط ، ويكون معناه فدام اختلاط النبات بالماء حتى إذا.

وقوله : أخذت الأرض زخرفها وازينت ، جملة بديعة اللفظ جعلت الأرض آخذة زخرفها متزينة ، وذلك على جهة التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون ، فاكتست وتزينت بأنواع الحلي ، فاستعير الأخذ وهو التناول باليد لاشتمال نبات الأرض على بهجة ونضارة وأثواب مختلفة ، واستعير لتلك البهجة والنضارة والألوان المختلفة لفظة الزخرف وهو الذهب ، لما كان من الأشياء البهجة المنظر السارة للنفوس. وازينت أي : بنباتها وما أودع فيه من الحبوب والثمار والأزهار ، ويحتمل أن يكون قوله : وازينت تأكيدا لقوله : أخذت الأرض زخرفها. واحتمل أن لا يكون تأكيدا ، إذ قد يكون أخذ الزخرف لا لقصد التزيين ، فقيل : وازينت ليفيد أنها قصدت التزيين. ونسبة الأخذ إلى الأرض والتزيين من بديع الاستعارة. وقرأ الجمهور : وازينت وأصله وتزينت ، فأدغمت التاء في الزاي فاجتلبت همزة الوصل لضرورة تسكين الزاي عند الإدغام. وقرأ أبي وعبد الله ، وزيد بن علي ، والأعمش : وتزينت على وزن تفعلت. وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وأبو عبد الرحمن ، وابن يعمر ، والحسن ، والشعبي ، وأبو العالية ، وقتادة ، ونصر بن عاصم ، وابن هرمز ، وعيسى الثقفي : وأزينت على وزن أفعلت ، كأحصد الزرع أي حضرت زينتها وحانت. وصحت الياء فيه على جهة الندور ، كأعبلت المرأة. والقياس : وأزانت ، كقولك وأبانت. وقرأ أبو عثمان النهدي بهمزة مفتوحة بوزن افعألت ، قاله عنه صاحب اللوامح قال : كأنه كانت في الوزن بوزن احمأرّت ، لكنهم كرهوا الجمع بين ساكنين ، فحركت الألف فانقلبت همزة مفتوحة. ونسب ابن عطية هذه القراءة لفرقة فقال : وقرأت فرقة وازيأنت وهي لغة منها قال الشاعر :

إذا ما الهوادي بالعبيط احمأرّت

وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة : وازيانت بنون مشدّدة وألف ساكنة قبلها. قال ابن عطية : وهي قراءة أبي عثمان النهدي. وقرأت فرقة : وازّاينت ، والأصل وتزاينت فأدغم ، والظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين. وقيل : بمعنى أيقنوا وليس بسديد ، ومعنى القدرة عليها التمكن من تحصيلها ومنفعتها ورفع غلتها ، وذلك لحسن نموها وسلامتها من العاهات.

والضمير في أهلها عائد على الأرض ، وهو على حذف مضاف أي : أهل نباتها. وقيل :

٣٨

الضمير عائد على الغلة. وقيل : على الزينة ، وهو ضعيف. وجواب إذا قوله : أتاها أمرنا كالريح والصر والسموم وغير ذلك من الآفات كالفار والجراد. وقيل : أتاها أمرنا بإهلاكها ، وأبهم في قوله : ليلا أو نهارا ، وقد علم تعالى متى يأتيها أمره ، أو تكون أو للتنويع ، لأنّ بعض الأرض يأتيها أمره تعالى ليلا وبعضها نهارا ، ولا يخرج كائن عن وقوعه فيهما. والحصيد : فعيل بمعنى مفعول أي : المحصود ، ولم يؤنث كما لم تؤنث امرأة جريج. وقال أبو عبيدة : الحصيد المستأصل انتهى. وعبر بحصيد عن التألف استعارة ، جعل ما هلك من الزرع بالآفة قبل أوانه حصيدا علاقة ما بينهما من الطرح على الأرض. وقيل : يجوز أن تكون تشبيها بغير الأداة والتقدير : فجعلناها كالحصيد. وقوله : كأن لم تغن بالأمس ، مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل ، ولم يقم بالأرض بهجة خضرة نضرة تسر أهلها.

وقرأ الحسن وقتادة : كأن لم يغن بالياء على التذكير. فقيل : عائد على المضاف المحذوف الذي هو الزرع ، حذف وقامت هاء التأنيث مقامه في قوله : عليها ، وفي قوله : أتاها فجعلناها. وقيل : عائد على الزخرف ، والأولى عوده على الحصيد أي : كأن لم يغن الحصيد. وكان مروان بن الحكم يقرأ على المنبر : كأن لم تتغن بتاءين مثل تتفعل. وقال الأعشى : طويل الثواء طويل التغني ، وهو من غنى بكذا أقام به. قال الزمخشري : والأمس مثل في الوقت. كأنه قيل : كأن لم تغن آنفا انتهى. وليس الأمس عبارة عن مطلق الوقت ، ولا هو مرادف كقوله : آنفا ، لأنّ آنفا معناه الساعة ، والمعنى : كأن لم يكن لها وجود فيما مضى من الزمان. ولو لا أنّ قائلا قال في غير القرآن كأن لم يكن لها وجود الساعة لم يصح هذا المعنى ، لأنه لا وجود لها الساعة ، فكيف تشبه وهي لا وجود لها حقيقة بما لا وجود لها حقيقة؟ إنما يشبه ما انتفى وجوده الآن بما قدر انتفاء وجوده في الزمان الماضي ، لسرعة انتقاله من حالة الوجود إلى حالة العدم ، فكان حالة الوجود ما سبقت له. وفي مصحف أبي : كأن لم تغن بالأمس ، وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها. وفي التحرير نفصل الآيات ، رواه عنه ابن عباس. وقيل في مصحفه : وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها. وفي التحرير : وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن يقرأ في قراءة أبيّ كأن لم تغن بالأمس ، وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها ، ولا يحسن أن يقرأ أحد بهذه القراءة لأنها مخالفة لخط المصحف الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون انتهى. كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون

٣٩

أي : مثل هذا التفصيل الذي فصلناه في الماضي ، نفصل في المستقبل. وقرأ أبو الدرداء : لقوم يتذكرون بالذال بدل الفاء.

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : لما ذكر مثل الحياة الدنيا وما يؤول إليه من الفناء والاضمحلال ، وما تضمنه من الآفات والعاهات ، ذكر تعالى أنه داع إلى دار السلامة والصحة والأمن ، وهي الجنة ، إذ أهلها سالمون من كل مكروه. ويجوز أن يكون تعالى أضافها إلى اسمه الشريف على سبيل التعظيم لها والتشريف كما قيل : بيت الله ، وناقة الله ، ويجوز أن تكون مضافة إلى السلامة بمعنى التسليم لفشوّ ذلك بينهم ، ولتسليم الملائكة عليهم كما قال : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (١). قال الحسن : إن السلام لا ينقطع عن أهل الجنة وهو تحيتهم كما قال تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (٢) وقد وردت في دعوة الله عباده أحاديث. وقال قتادة : ذكر لنا أنّ في التوراة مكتوبا يا باغي الخير هلم ، ويا باغي الشرّ انته. ولما كان الدعاء عامّا لم تتقيد بالمشيئة ، ولما كانت الهداية خاصة تقيدت بالمشيئة فقال : ويهدي من يشاء. وقال الزمخشري : ويهدي يوفق من يشاء ، وهم الذين علم أنّ اللطف يجدي عليهم ، لأن مشيئته تابعة لحكمته.

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ

٤٠