البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

(سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (١) أي سواء لمن سأل ولمن لم يسأل. وحسن الحذف لدلالة قوة الكلام عليه لقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٢) أي والبرد. وقال ابن عطية : وقوله للسائلين ، يقتضي تحضيضا للناس على تعلم هذه الأنباء لأنه إنما المراد آيات للناس ، فوصفهم بالسؤال ، إذ كل أحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذه القصص ، إذ هي مقر العبر والاتعاظ. وتقدم لنا ذكر أسماء إخوة يوسف منقولة من خط الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني ، ونقلها من خط الشريف النقيب النسابة أبى البركات محمد بن أسعد الحسيني الجوّاني محرّرة بالنقط ، وتوجد في كتب التفسير محرفة مختلفة ، وكان روبيل أكبرهم ، وهو ويهوذا ، وشمعون ، ولاوي ، وزبولون ، ويساخا ، شقائق أمهم ليا بنت ليان بن ناهر بن آزر وهي : بنت خال يعقوب ، وذان ونفتالي ، وكاذ وياشير ، أربعة من سريتين كانتا لليا وأختها راحيل ، فوهبتاهما ليعقوب ، فجمع بينهما ولم يحل الجمع بين الأختين لأحد بعده. وأسماء السريتين فيما قيل : ليا ، وتلتا ، وتوقيت أم السبعة فتزوج بعدها يعقوب أختها راحيل ، فولدت له يوسف وبنيامين ، وماتت من نفاسه.

وقرأ مجاهد ، وشبل وأهل مكة ، وابن كثير : آية على الإفراد. والجمهور آيات ، وفي مصحف أبي عبرة للسائلين مكان آية. والضمير في قالوا عائد على إخوة يوسف وأخوه هو بنيامين ، ولما كانا شقيقين أضافوه إلى يوسف. واللام في ليوسف لام الابتداء ، وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أي : كثرة حبه لهما ثابت لا شبهة فيه. وأحب أفعل تفضيل ، وهي مبني من المفعول شذوذا ، ولذلك عدى بإلى ، لأنه إذا كان ما تعلق به فاعلا من حيث المعنى عدى إليه بإلى ، وإذا كان مفعولا عدى إليه بفي ، تقول : زيد أحب إلى عمرو من خالد ، فالضمير في أحب مفعول من حيث المعنى ، وعمرو هو المحب. وإذا قلت : زيد أحب إلى عمرو من خالد ، كان الضمير فاعلا ، وعمرو هو المحبوب. ومن خالد في المثال الأول محبوب ، وفي الثاني فاعل ، ولم يبن أحب لتعدّيه بمن. وكان بنيامين أصغر من يوسف ، فكان يعقوب يحبهما بسبب صغرهما وموت أمهما ، وحب الصغير والشفقة عليه مركوز في فطرة البشر. وقيل لابنة الحسن : أي بنيك أحب إليك؟ قالت : الصغير حتى يكبر ، والغائب حتى يقدم ، والمريض حتى يفيق. وقد نظم الشعراء في محبة الولد الصغير

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ١٠.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٨١.

٢٤١

قديما وحديثا ، ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري في قصيدته التي بعث بها إلى أولاده وهو في السجن :

وصغيركم عبد العزيز فإنني

أطوي لفرقته جوى لم يصغر

ذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا

كفؤا لكم في المنتمى والعنصر

إن البنان الخمس أكفاء معا

والحلي دون جميعها للخنصر

وإذا الفتى بعد الشباب سما له

حب البنين ولا كحب الأصغر

ونحن عصبة جملة حالية أي : تفضلهما علينا في المحبة ، وهما ابنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة ، ونحن جماعة عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقة ، فنحن أحق بزيادة المحبة منهما. وروى النزال بن سبرة عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : ونحن عصبة. وقيل : معناه ونحن نجتمع عصبة ، فيكون الخبر محذوفا وهو عامل في عصبة ، وانتصب عصبة على الحال ، وهذا كقول العرب : حكمك مسمطا حذف الخبر. قال المبرد : قال الفرزدق :

يا لهذم حكمك مسمطا

أراد لك حكمك مسمطأ ، واستعمل هذا فكثر حتى حذف استخفا ، فالعلم السامع ما يريد القائل كقولك : الهلا والله أي : هذا الهلال ، والمسمط المرسل غير المردود. وقال ابن الأنباري : هذا كما تقول العرب : إنما العامري عمته ، أي يتعمم عمته انتهى. وليس مثله ، لأنّ عصبة ليس مصدرا ولا هيئة ، فالأجود أن يكون من باب حكمك مسمطا. وقدره بعضهم : حكمك ثبت مسمطا.

وعن ابن عباس : العصبة ما زاد على العشرة ، وعنه : ما بين العشرة إلى الأربعين ، وعن قتادة : ما فوق العشرة إلى الأربعين ، وعن مجاهد : من عشرة إلى خمسة عشر ، وعن مقاتل : عشرة ، وعن ابن جبير : ستة أو سبعة ، وقيل : ما بين الواحد إلى العشرة ، وقيل : إلى خمسة عشر ، وعن الفراء : عشرة فما زاد ، وعن ابن زيد ، والزجاج ، وابن قتيبة : العصبة ثلاثة نفر ، فإذا زادوا فهم رهط إلى التسعة ، فإذا زادوا فهم عصبة ، ولا يقال لأقل من عشرة عصبة. والضلال هنا هو الهوى قاله ابن عباس ، أو الخطأ من الرأي قاله ابن زيد ، أو الجور في الفعل قاله ابن كامل ، أو الغلط في أمر الدنيا. روي أنه بعد إخباره لأبيه بالرؤيا كان يضمه كل ساعة إلى صدره ، وكأن قلبه أيقن بالفراق فلا يكاد يصبر عنه والظاهر أنّ

٢٤٢

اقتلوا يوسف من جملة قولهم ، وقيل : هو من قول قوم استشارهم إخوة يوسف فيما يفعل به فقالوا ذلك. والظاهر أو اطرحوه هو من قولهم أن يفعلوا به أحد الأمرين ، ويجوز أن تكون أو للتنويع أي : قال بعض : اقتلوا يوسف ، وبعض اطرحوه. وانتصب أرضا على إسقاط حرف الجر قاله الحوفي وابن عطية ، أي : في أرض بعيدة من الأرض التي هو فيها ، قريب من أرض يعقوب. وقيل : مفعول ثان على تضمين اطرحوه معنى أنزلوه ، كما تقول : أنزلت زيدا الدار. وقالت فرقة : ظرف ، واختاره الزمخشري ، وتبعه أبو البقاء. قال الزمخشري : أرضا منكورة مجهولة بعيدة من العمران ، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الناس ، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة. وقال ابن عطية : وذلك خطأ بمعنى كونها منصوبة على الظرف قال : لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهما ، وهذه ليست كذلك ، بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك ، فزال بذلك إبهامها. ومعلوم أنّ يوسف لم يخل من الكون في أرض فتبين أنهم أرادوا أرضا بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه انتهى. وهذا الردّ صحيح ، لو قلت : جلست دارا بعيدة ، أو قعدت مكانا بعيدا لم يصح إلا بوساطة في ، ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة شعر ، أو مع دخلت على الخلاف في دخلت أهي لازمة أو متعدية. والوجه هنا قيل : الذات ، أي يخل لكم أبوكم. وقيل : هو استعارة عن شغله بهم ، وصرف مودته إليهم ، لأنّ من أقبل عليك صرف وجهه إليك وهذا كقول نعامة حين أحبته أمه لما قتل إخوته وكانت قبل لا تحبه. قال : الثكل أرامها أي : عطفها ، والضمير في بعده عائد على يوسف ، أو قتله ، أو طرحه. وصلاحهم إما صلاح حالهم عند أبيهم وهو قول مقاتل ، أو صلاحهم بالتوبة والتنصل من هذا الفعل وهذا أظهر ، وهو قول الجمهور منهم الكلبي. واحتمل تكونوا أن يكون مجزوما عطفا على مجزوم ، أو منصوبا على إضمار أن. والقائل : لا تقتلوا يوسف ، روبيل قاله قتادة وابن إسحاق ، أو شمعون قاله مجاهد ، أو يهوذا وكان أحلمهم وأحسنهم فيه رأيا وهو الذي قال : فلن أبرح الأرض قال لهم : القتل عظيم ، قاله السدي ، أو ذان. أربعة أقوال ، وهذا عطف منهم على أخيهم. لما أراد الله من إنفاذ قضائه وإبقاء على نفسه ، وسبب لنجاتهم من الوقوع في هذه الكبيرة وهو إتلاف النفس بالقتل. قال الهروي : الغيابة في الجب شبه لحف ، أو طاق في البئر فويق الماء يغيب ما فيه عن العيون. وقال الكلبي : الغيابة كمون في قعر الجب ، لأن أسفله واسع ورأيه ضيق ، فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه. وقال الزمخشري : غوره وهو ما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله انتهى. منه قيل للقبر : غيابة ، قال المتنحل السعدي.

٢٤٣

فإن أنا يوما غيبتني غيابتي

فسيروا بسيري في العشيرة والأهل

وقرأ الجمهور : غيابة على الإفراد ، ونافع : غيابات على الجمع ، جعل كل جزء مما يغيب فيه غيابة. وقرأ ابن هرمز : غيابات بالتشديد والجمع ، والذي يظهر أنه سمى باسم الفاعل الذي للمبالغة ، فهو وصف في الأصل ، وألحقه أبو علي بالاسم الجائي على فعال نحو ما ذكر سيبويه من الغياد. قال أبو الفتح : ووجدت من ذلك المبار المبرح والفخار الخزف. وقال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون على فعالات كحمامات ، ويجوز أن يكون على فيعالات كشيطانات في جمع شيطانة ، وكل للمبالغة. وقرأ الحسن : في غيبة ، فاحتمل أن يكون في الأصل مصدرا كالغلبة ، واحتمل أن يكون جمع غائب كصانع وصنعة. وفي حرف أبي في غيبة بسكون الياء ، وهي ظلمة الركية. وقال قتادة في جماعة : الجب بئر بيت المقدس ، وقال وهب : بأرض الأردن ، وقال مقاتل : على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب ، وقيل : بين مدين ومصر. وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو رجاء : تلتقطه بتاء التأنيث ، أنث على المعنى كما قال :

إذا بعض السنين تعرفتنا

كفى الأيتام فقد أبى اليتيم

والسيارة جمع سيار ، وهو الكثير السير في الأرض. والظاهر أن الجب كان فيه ماء ، ولذلك قالوا : يلتقطه بعض السيارة. وقيل : كان فيه ماء كثير يغرق يوسف ، فنشز حجر من أسفل الجب حتى ثبت يوسف عليه. وقيل : لم يكن ماء فأخرجه الله فيه حتى قصده الناس. وروي : أنهم رموه بحبل في الجب ، فتماسك بيديه حتى ربطوا يديه ونزعوا قميصه ورموه حينئذ ، وهموا بعد برضخه بالحجارة فمنعهم أخوهم المشير بطرحه من ذلك. ومفعول فاعلين محذوف أي : فاعلين ما يحصل به غرضكم من التفريق بينه وبين أبيه.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ. أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) : لما تقرر في أذهانهم التفريق بين يوسف وأبيه ، أعملوا الحيلة على يعقوب وتلطفوا في إخراجه معهم ، وذكروا نصحهم له وما في إرساله معهم من انشراح صدره بالارتعاء واللعب ، إذ هو مما يشرح الصبيان ، وذكروا حفظهم له مما يسوؤه. وفي قولهم : ما لك لا تأمنا ، دليل على أنهم تقدم منهم سؤال في أن يخرج معهم ، وذكروا سبب الأمن وهو النصح أي : لم لا تأمنا عليه

٢٤٤

وحالتنا هذه؟ والنصح دليل على الأمانة ، ولهذا قرنا في قوله : ناصح أمين ، وكان قد أحس منهم قبل ما أوجب أن لا يأمنهم عليه. ولا تأمنا جملة حالية ، وهذا الاستفهام صحبة التعجب.

وقرأ زيد بن علي ، وأبو جعفر ، والزهري ، وعمرو بن عبيد : بإدغام نون تأمن في نون الضمير من غير إشمام ومجيئه بعد ما لك ، والمعنى : يرشد إلى أنه نفي لا نهي ، وليس كقولهم : ما أحسننا في التعجب ، لأنه لو أدغم لا لتبس بالنفي. وقرأ الجمهور : بالإدغام والإشمام للضم ، وعنهم إخفاء الحركة ، فلا يكون إدغاما محضا. وقرأ ابن هرمز : بضم الميم ، فتكون الضمة منقولة إلى الميم من النون الأولى بعد سلب الميم حركتها ، وإدغام النون في النون. وقرأ أبي ، والحسن ، وطلحة بن مصرف ، والأعمش : لا تأمننا بالإظهار ، وضم النون على الأصل ، وخط المصحف بنون واحدة. وقرأ ابن وثاب ، وأبو رزين : لا يتمنا على لغة تميم ، وسهل الهمزة بعد الكسرة ابن وثاب. وفي لفظة : أرسله ، دليل على أنه كان يمسكه ويصحبه دائما. وانتصب غدا على الظرف ، وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك ، وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد باليوم الذي يلي يومك. وأصله : غدو ، فحذفت لامه وقد جاء تاما. وقرأ الجمهور : يرتع ويلعب بالياء والجزم ، والابنان وأبو عمرو بالنون والجزم وكسر العين الحرميان ، واختلف عن قنبل في إثبات الياء وحذفها. وروي عن ابن كثير : ويلعب بالياء ، وهي قراءة جعفر بن محمد. وقرأ العلاء بن سيابة : يرتع بالياء وكسر العين مجزوما محذوف اللام ، ويلعب بالياء وضم الباء خبر مبتدأ محذوف أي : وهو يلعب. وقرأ مجاهد ، وقتادة ، وابن محيصن : بنون مضمومة من أرتعنا ونلعب بالنون ، وكذلك أبو رجاء ، إلا أنه بالياء فيهما يرتع ويلعب ، والقراءتان على حذف المفعول أي : يرتع المواشي أو غيرها. وقرأ النخعي : نرتع بنون ، ويلعب بياء ، بإسناد اللعب إلى يوسف وحده لصباه ، وجاء كذلك عن أبي إسحاق ، ويعقوب. وكل هذه القراآت الفعلان فيها مبنيان للفاعل. وقرأ زيد بن علي : يرتع ويلعب بضم الياءين مبنيا للمفعول ، ويخرجها على أنه أضمر المفعول الذي لم يسم فاعله وهو ضمير غد ، وكان أصله يرتع فيه ويلعب فيه ، ثم حذف واتسع ، فعدى الفعل للضمير ، فكان التقدير : يرتعه ويلعبه ، ثم بناه للمفعول فاستكن الضمير الذي كان منصوبا لكونه ناب عن الفاعل. واللعب هنا هو الاستباق والانتضال ، فيدربون بذلك لقتال العدو ، سموه لعبا لأنه بصورة اللعب ، ولم يكن ذلك للهو بدليل قولهم : إنا ذهبنا نستبق ، ولو كان لعب لهو ما أقرهم عليه

٢٤٥

يعقوب. ومن كسر العين من يرتع فهو يفتعل. قال مجاهد : هي من المراعاة أي : يراعي بعضنا بعضا ويحرسه. وقال ابن زيد : من رعى الإبل أي يتدرب في الرعي ، وحفظ المال ، أو من رعى النبات والكلأ ، أي : يرتع على حذف مضاف أي : مواشينا. ومن أثبت الياء ، فقال ابن عطية : هي قراءة ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر كقول الشاعر :

ألم يأتيك والأنباء تنمى

بما لاقت لبون بني زياد

انتهى. وقيل : تقدير حذف الحركة في الياء لغة ، فعلى هذا لا يكون ضرورة. ومن قرأ بسكون العين فالمعنى : نقم في خصب وسعة ، ويعنون من الأكل والشرب. وإنا له لحافظون جملة حالية ، والعامل فيه الأمر أو الجواب ، ولا يكون ذلك من باب الإعمال ، لأن الحال لا تضمر ، وبأنّ الإعمال لا بد فيه من الإضمار إذا أعمل الأول ، ثم اعتذر لهم يعقوب بشيئين : أحدهما : عاجل في الحال ، وهو ما يلحقه من الحزن لمفارقته وكان لا يصبر عنه. والثاني : خوفه عليه من الذئب إن غفلوا عنه برعيهم ولعبهم ، أو بقلة اهتمامهم بحفظه وعنايتهم ، فيأكله ويحزن عليه الحزن المؤبد. وخص الذئب لأنه كان السبع الغالب على قطره ، أو لصغر يوسف فخاف عليه هذا السبع الحقير ، وكان تنبيها على خوفه عليه ما هو أعظم افتراسا. ولحقارة الذئب خصه الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يخشاه لما بلغ من السن في قوله :

والذئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرياح والمطرا

وكان يعقوب بقوله : وأخاف أن يأكله الذئب لقنهم ما يقولون من العذر إذا جاؤوا وليس معهم يوسف ، فلقنوا ذلك وجعلوه عدة للجواب ، وتقدّم خلاف القراء في يحزن. وقرأ زيد بن علي ، وابن هرمز ، وابن محيصن : ليحزني بتشديد النون ، والجمهور بالفك. وليحزنني مضارع مستقبل لا حال ، لأن المضارع إذا أسند إلى متوقع تخلص للاستقبال ، لأنّ ذلك المتوقع مستقبل وهو المسبب لأثره ، فمحال أن يتقدم الأثر عليه ، فالذهاب لم يقع ، فالحزن لم يقع. كما قال :

يهولك أن تموت وأنت ملغ

لما فيه النجاة من العذاب

وقرأ زيد بن علي : تذهبوا به من أذهب رباعيا ، ويخرج على زيادة الباء في به ، كما خرج بعضهم تنبت بالدهن. في قراءة من ضم التاء وكسر الباء أي : تنبت الدهن وتذهبوه. وقرأ الجمهور : والذئب بالهمز ، وهي لغة الحجز. وقرأ الكسائي ، وورش ، وحمزة : إذا

٢٤٦

وقف بغير همز. وقال نصر : سمعت أبا عمر ولا يهمز. وعدل إخوة يوسف عن أحد الشيئين وهو حزنه على ذهابهم به لقصر مدة الحزن ، وإيهامهم أنهم يرجعون به إليه عن قريب ، وعدلوا إلى قضية الذئب وهو السبب الأقوى في منعه أن تذهبوا به ، فحلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم ، وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفى الخطوب ، إنهم إذا لقوم خاسرون أي : هالكون ضعفاء وجورا وعجزا ، أو مستحقون أن يهلكوا ، لأنهم لا غنى عندهم ولا جدوى في حياتهم ، أو مستحقون بأن يدعى عليهم بالخسار والدمار ، وأن يقال : خسرهم الله ودمرهم حين أكل الذئب بعضهم وهم حاضرون. وقيل : إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا ، إذا وخسرنا. وروي أن يعقوب رأى في منامه كأنه على ذروة جبل ، وكان يوسف في بطن الوادي ، فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته يردن أكله ، فدرأ عنه واحد ، ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام.

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ. قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ. وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ. وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) : حكي أنهم قالوا ليوسف : اطلب من أبيك أن يبعثك معنا ، فأقبل على يوسف فقال : أتحب ذلك؟ قال : نعم. قال يعقوب : إذا كان غدا أذنت لك ، فلما أصبح يوسف لبس ثيابه وشد عليه منطقته ، وخرج مع إخوته فشيعهم يعقوب وقال : يا بني أوصيكم بتقوى الله وبحبيبي يوسف ، ثم أقبل على يوسف وضمه إلى صدره وقبل بين عينيه ثم قال : استودعتك الله رب العالمين ، وانصرف. فحملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم ، ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدو معهم إضرارا به. وذكر المفسرون أشياء كثيرة تتضمن كيفية إلقائه في غيابة الجب ومحاورته لهم بما يلين الصخر ، وهم لا يزدادون إلا قساوة. ولم يتعرض القرآن ولا الحديث الصحيح لشيء منها ، فيوقف عليها في كتب التفسير. وبين هذه الجملة والجمل التي قبلها محذوف يدل عليه المعنى تقديره : فأجابهم إلى ما سألوه وأرسل معهم يوسف ، فلما ذهبوا به وأجمعوا أي : عزموا واتفقوا على إلقائه في الجب ، وأن يجعلوه مفعول أجمعوا ، يقال : أجمع الأمر وأزمعه بمعنى العزم عليه ، واحتمل

٢٤٧

أن يكون الجعل هنا بمعنى الإلقاء ، وبمعنى التصيير. واختلفوا في جواب لمّا أهو مثبت؟ أم محذوف؟ فمن قال : مثبت ، قال : هو قولهم قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق أي : لما كان كيت وكيت ، قالوا وهو تخريج حسن. وقيل : هو أوحينا ، والواو زائدة ، وعلى هذا مذهب الكوفيين يزاد عندهم بعد لما ، وحتى إذا. وعلى ذلك خرجوا قوله : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أي : ناديناه وقوله : حتى إذا جاؤوها وفتحت أي : فتحت. وقول امرئ القيس :

فلما أحربا ساحة الحي وانتحى

أي : انتحى. ومن قال : هو محذوف ، وهو رأي البصريين ، فقدره الزمخشري : فعلوا به ما فعلوا من الأذى ، وحكى الحكاية الطويلة فيما فعلوا به ، وما حاوروه وحاورهم به. قدره بعضهم : فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب عظمت فتنتهم ، وقدّره بعضهم جعلوه فيها ، وهذا أولى إذ يدل عليه قوله : وأجمعوا أن يجعلوه والظاهر أنّ الضمير في وأوحينا إليه عائد على يوسف ، وهو وحي إلهام قاله مجاهد. وروي عن ابن عباس : أو منام. وقال الضحاك وقتادة : نزل عليه جبريل في البئر. وقال الحسن : أعطاه الله النبوة في الجب وكان صغيرا ، كما أوحى إلى يحيى وعيسى عليهما‌السلام ، وهو ظاهر أوحينا ، ويدل على أنّ الضمير عائد على يوسف قوله لهم قال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون. وقيل : الضمير في إليه عائد على يعقوب ، وإنما أوحي إليه ليأنس في الظلمة من الوحدة ، وليبشر بما يؤول إليه أمره ، ومعناه : لتتخلص مما أنت فيه ، ولتحدثن إخوتك بما فعلوا بك. وهم لا يشعرون جملة حالية من قوله : لتنبئنهم بهذا أي : غير عالمين أنك يوسف وقت التنبئة قاله ابن جريج ، وذلك لعلو شأنك وعظمة سلطانك ، وبعد حالك عن أذهانهم ، ولطول العمر المبدل للهيئات والأشكال. وذكر أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون ، دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له : يوسف ، وكان يدنيه دونكم ، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم : أكله الذئب. وبيع بثمن بخس ، ويجوز أن يكون وهم لا يشعرون حالا من قوله : وأوحينا أي : وهم لا يشعرون ، قاله قتادة. أي : بإيحائنا إليك وما أخبرناك به من نجاتك وطول عمرك ، إلى أن تنبئهم بما فعلوا بك. وقرأ الجمهور : لتنبئنهم بتاء الخطاب ، وابن عمر بياء الغيبة ، وكذا في بعض مصاحف البصرة. وقرأ سلام بالنون.

٢٤٨

والذي يظهر من سياق الأخبار والقصص أن يوسف كان صغيرا ، فقيل : كان عمره إذ ذاك سبع سنين. وقيل : ست ، قاله الضحاك. وأبعد من ذهب إلى أنه اثنتا عشرة سنة ، وثمان عشرة سنة ، وكلاهما عن الحسن ، أو سبع عشرة سنة قاله ابن السائب. ويدل على أنه كان صغيرا بحيث لا يدفع نفسه قوله : وأخاف أن يأكله الذئب ويرتع ويلعب وإنا له لحافظون ، وأخذ السيارة له ، وقول الوارد : هذا غلام ، وقول العزيز : عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ، وما حكى من حملهم إياه واحدا بعد واحد ، ومن كلامه لأخيه يهوذا : ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني ، وارحم قلب أبيك يعقوب. ومن هو ابن ثمان عشرة سنة لا يخاف عليه من الذئب ولا سيما إن كان في رفقة ، ولا يقال فيه : وإنا له لحافظون ، لأنه إذ ذاك قادر على التحيل في نجاة نفسه ، ولا يسمى غلاما إلا بمجاز ، ولا يقال فيه : أو نتخذه ولدا. وعشاء نصب على الظرف ، أو من العشوة. والعشوة : الظلام ، فجمع على فعال مثل راع ورعاء ، ويكون انتصابه على الحال كقراءة الحسن عشا على وزن دجى ، جمع عاش ، حذف منه الهاء كما حذفت في مالك ، وأصله مالكة. وعن الحسن عشيا على التصغير. قيل : وإنما جاؤوا عشاء ليكون أقدر على الاعتذار في الظلمة ، ولذا قيل : لا تطلب الحاجة بالليل فإنّ الحياء في العينين ، ولا تعتذر في النهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار. وفي الكلام حذف تقديره : وجاؤوا أباهم دون يوسف عشاء يبكون ، فقال : أين يوسف؟ قالوا : إنا ذهبنا. وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال : ما لكم ، أجرى في الغنم شيء؟ قالوا : لا. قال : فأين يوسف؟ قالوا : إنا ذهبنا نستبق فأكله الذئب ، فبكى ، وصاح ، وخر مغشيا عليه ، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ، ونادوه فلم يجب ، ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفسه ولا تحرك له عرق فقال : ويل لنا من ديان يوم الدين الذي ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا ، فلم يفق إلا ببرد السحر. قال الأعمش : لا يصدق باك بعد إخوة يوسف. ونستبق ، أي : نترامى بالسهام ، أو نتجارى على الأقدام أينا أشد عدوا ، أو نستبق في أعمال نتوزعها من سقي ورعي واحتطاب ، أو نتصيد. أربعة أقوال. عند متاعنا أي : عند ثيابنا ، وما تجردنا له حالة الاستباق. وهذا أيضا يدل على صغر يوسف ، إذ لو كان ابن ثمان عشرة سنة أو سبع عشرة لكان يستبق معهم ، فأكله الذئب قد ذكرنا أنهم تلقنوا هذا الجواب من قول أبيهم ، وأخاف أن يأكله الذئب ، لأن أكل الذئب إياه كان أغلب ما كان خاف عليه. وما أنت بمؤمن لنا أي : بمصدق لنا الآن ولو كنا صادقين. أو لست مصدقا لنا على كل حال حتى في حالة الصدق ، لما غلب عليك من تهمتنا وكراهتنا في يوسف ، وأنا

٢٤٩

نرتاد له الغوائل ، ونكيد له المكائد ، وأوهموا بقولهم : ولو كنا صادقين أنهم صادقون في أكل الذئب يوسف ، فيكون صدقهم مقيدا بهذه النازلة. أو من أهل الصدق والثقة عند يعقوب قبل هذه النازلة ، لشدّة محبتك ليوسف ، فكيف وأنت سيىء الظن بنا في هذه النازلة ، غير واثق بقولنا فيه؟.

روي أنهم أخذوا سخلة أو جديا فذبحوه ، ولطخوا قميص يوسف بدمه ، وقالوا ليعقوب : هذا قميص يوسف فأخذه ، ولطخ به وجهه وبكى ، ثم تأمله فلم ير خرقا ولا ارتاب ، فاستدل بذلك على خلاف ما زعموا وقال لهم : متى كان الذئب حليما يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟ قيل : كان في قميص يوسف ثلاث آيات ، كان دليلا ليعقوب على أن يوسف لم يأكله الذئب ، وألقاه على وجهه فارتد بصيرا ، ودليلا على براءة يوسف حين قدّ من دبر. قال الزمخشري : (فإن قلت) : على قميصه ما محله؟ (قلت) : محله النصب على الظرف ، كأنه قيل : وجاؤوا فوق قميصه بدم كما تقول : جاء على جماله بأحمال. (فإن قلت) : هل يجوز أن يكون حالا مقدمة؟ (قلت) : لا ، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه انتهى. ولا يساعد المعنى على نصب على على الظرف بمعنى فوق ، لأن العامل فيه إذ ذاك جاؤوا ، وليس الفوق ظرفا لهم ، بل يستحيل أن يكون ظرفا لهم. وقال الحوفي : على متعلق بجاءوا ، ولا يصح أيضا. وأما المثال الذي ذكره الزمخشري وهو جاء على جماله بأحمال فيمكن أن يكون ظرفا للجائي ، لأنه تمكن الظرفية فيه باعتبار تبدله من جمل على جمل ، ويكون بأحمال في موضع الحال أي : مصحوبا بأحمال. وقال أبو البقاء : على قميصه في موضع نصب حالا من الدم ، لأن التقدير : جاؤوا بدم كذب على قميصه انتهى.

وتقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد في جوازه خلاف ، ومن أجاز استدل على ذلك بأنه موجود في لسان العرب ، وأنشد على ذلك شواهد هي مذكورة في علم النحو ، والمعنى : يرشد إلى ما قاله أبو البقاء.

وقرأ الجمهور : كذب وصف لدم على سبيل المبالغة ، أو على حذف مضاف أي : ذي كذب ، لما كان دالا على الكذب وصف به ، وإن كان الكذب صادرا من غيره. وقرأ زيد بن علي : كذبا بالنصب ، فاحتمل أن يكون مصدرا في موضع الحال ، وأن يكون مفعولا من أجله. وقرأت عائشة ، والحسن : كدب بالدال غير معجمة ، وفسر بالكدر ، وقيل : الطري ، وقيل : اليابس ، وقال صاحب اللوامح : ومعناه ذي كذب أي : أثر لأن الكذب هو بياض يخرج في أظافير الشبان ويؤثر فيها ، كالنقش ، ويسمى ذلك البياض

٢٥٠

الفوف ، فيكون هذا استعارة لتأثيره في القميص ، كتأثير ذلك في الأظافير. قال : بل سولت هنا محذوف تقديره : لم يأكله الذئب ، بل سولت. قال ابن عباس : أمرتكم أمرا ، وقال قتادة : زينت ، وقيل : رضيت أمرا أي : صينعا قبيحا. وقيل : سهلت. فصبر جميل أي : فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أمثل. وقرأ أبي ، والأشهب ، وعيسى بن عمر : فصبرا جميلا بنصبهما ، وكذا هي في مصحف أبيّ ، ومصحف أنس بن مالك. وروي كذلك عن الكسائي. ونصبه على المصدر الخبري أي : فاصبر صبرا جميلا. قيل : وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ، ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر ، وكذلك يحسن النصب في قوله :

شكا إلي جملي طول السرى

صبرا جميلا فكلانا مبتلى

ويروى صبر جميل في البيت. وإنما تصح قراءة النصب على أن يقدر أنّ يعقوب رجع إلى مخاطبة نفسه فكأنه قال : فاصبري يا نفس صبرا جميلا. وفي الحديث : «أن الصبر الجميل أنه الذي لا شكوى فيه» أي : إلى الخلق. ألا ترى إلى قوله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) (١) وقيل : أتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه ، وعبوس الجبين ، بل على ما كنت عليه معكم. وقال الثوري : من الصبر أن لا تحدث بما يوجعك ولا بمصيبتك ولا تبكي نفسك. والله المستعان أي : المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف ، والصبر على الرزية. وجاءت سيارة قيل : كانوا من مدين قاصدين إلى مصر ، وقيل : في الكلام حذف تقديره : وأقام يوسف في الجب ثلاثة أيام ، وكان أخوه يهوذا يأتيه بالطعام خفية من إخوته. وقيل : جاءت السيارة في اليوم الثاني من طرحه في الجب. وقيل : كان التسبيح غذاءه في الجب. قيل : وكانت السيارة تائهة تسير من أرض إلى أرض ، وقيل : سيارة في الطريق أخطؤوه فنزلوا قريبا من الجب ، وكان في قفرة بعيدة من العمران لم تكن إلا للرعاة ، وفيهم مالك بن دعر الخزاعي فأرسلوه ليطلب لهم الماء. والوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم ، وإضافة الوارد للضمير كإضافته في قوله : ألقيت كاسبهم. ليست إضافة إلى المفعول ، بل المعنى الذي يرد عليهم والذي يكسب لهم. والظاهر أن الوارد واحد. وقال ابن عطية : والوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى جماعة انتهى. وحمل على معنى السيارة في قوله : فأرسلوا ، ولو حمل على اللفظ لكان الترتيب فأرسلت واردها. فأدلى دلوه أي : أرسلها ليستقي الماء قال : يا بشراي. في

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٨٦.

٢٥١

الكلام حذف تقديره : فتعلق يوسف بحبل الدلو ، فلما بصر به المدلي قال : يا بشراي. وتعلقه بالحبل يدل على صغره ، إذ لو كان ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر لم يحمله الحبل غالبا ، ولفظه غلام ترجح ذلك ، إذ يطلق عليه ما بين الحولين إلى البلوغ حقيقة ، وقد يطلق على الرجل الكامل لقول ليلى الأخيلية في الحجاج بن يوسف :

غلام إذا هز القناة سقاها

وقوله : يا بشراي هو على سبيل السرور والفرح بيوسف ، إذ رأى أحسن ما خلق. وأبعد السدّي في زعمه أنّ بشرى اسم رجل ، وأضاف البشرى إلى نفسه فكأنه قال تعالى : فهذا من آونتك. وقرأ يا بشرى بغير إضافة الكوفيون ، وروى ورش عن نافع : يا بشراي : بسكون ياء الإضافة ، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة وتقدم تقرير مثله في (وَمَحْيايَ) (١) وقرأ أبو الطفيل ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، والجحدري : يا بشرى بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء الإضافة ، وهي لغة لهذيل. ولناس غيرهم تقدم الكلام عليها في البقرة ، في (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) (٢) قيل : ذهب به الوارد ، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك ، فبشرهم به وأسروه. الظاهر أنّ الضمير للسيارة التي الوارد منهم أي : أخفوه من الرفقة ، أو كتموا أمره من وجدانهم له في الجب وقالوا : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. وقال ابن عباس : الضمير في وأسروه وشروه لإخوة يوسف ، وأنهم قالوا للرفقة : هذا غلام قد أبق لنا فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه ، وذلك أنه روي أن بعضهم رجع إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف ويقفوا على الحقيقة من فقده ، فلما علموا أن الوارد قد أخذوه ، جاؤوهم وقالوا تلك المقالة. وانتصب بضاعة على الحال أي : متجرا لهم ومكسبا. والله عليم بما يعملون أي : لم تخف عليه أسرارهم ، وهو وعيد لهم حيث استبضعوا ما ليس لهم ، أو والله عليم بعمل إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنع ، وفي ذلك أعظم تذكار بما فعلوا بيوسف قيل : أوحى الله إليه في الجب أن لا يطلع أباه ولا غيره على حاله ، لحكمة أراد إمضاءها ، وظهر بعد ذلك ما جرى له من جعله على خزائن الأرض ، وإحواج إخوته إليه ، ورفع أبويه على العرش ، وما جرى مجرى ذلك مما كان مكنونا في القدر.

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ. وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٦٢.

(٢) سورة البقرة : ٣ / ٣٨.

٢٥٢

مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) : شرى بمعنى باع ، وبمعنى اشترى قال يزيد بن مفرع الحميري :

وشريت بردا ليتني

من بعد برد كنت هامه

أي بعت بردا ، وبرد غلامه. وقال الآخر :

ولو أن هذا الموت يقبل فدية

شريت أبا زيد بما ملكت يدي

أي اشتريت أبا زيد. والظاهر أن الضمير في وشروه عائد على السيارة ، أي : وباعوا يوسف. ومن قال : إن الضمير في وأسروه عائد على إخوة يوسف جعله عائدا عليهم أي : باعوا أخاهم يوسف بثمن بخس. وبخس مصدر وصف به بمعنى مبخوس. وقال مقاتل : زيف ناقص العيار. وقال عكرمة ، والشعبي : قليل. وهو معنى الزمخشري : ناقص عن القيمة نقصا ظاهرا. وقال ابن قتيبة : البخس الخسيس الذي بخس به البائع. وقال قتادة : بخس ظلم ، لأنهم ظلموه في بيعه. وقال ابن عباس وقتادة أيضا في آخرين : بخس حرام. وقال ابن عطاء : إنما جعله بخسا لأنه عوض نفس شريفة لا تقابل بعوض وإن جل انتهى. وذلك أن الذين باعوه إن كانوا الواردة فإنهم لم يعطوا به ثمنا ، فما أخذوا فيه ربح كله وإن كانوا إخوته ، فالمقصود خلو وجه أبيهم منه لا ثمنه. ودراهم بدل من ثمن ، فلم يبيعوه بدنانير. ومعدودة إشارة إلى القلة ، وكانت عادتهم أنهم لا يزنون إلا ما بلغ أوقية وهي أربعون درهما ، لأنّ الكثيرة يعسر فيها العد ، بخلاف القليلة. قال عكرمة في رواية عن ابن عباس وابن إسحاق : أربعون درهما. وقيل : ثلاثون درهما ، ونعلان وحلة. وقال السدي : كانت اثنين وعشرين درهما ، كذا نقله الزمخشري عنه ، ونقله ابن عطية عن مجاهد : أخذها إخوته درهمين درهمين ، وصاحب التحرير عنه ، وعن ابن عباس. وقال ابن مسعود وابن عباس في رواية ، وعكرمة في رواية ، ونوف الشامي ، ووهب ، والشعبي ، وعطية ، والسدي ، ومقاتل في آخرين : عشرون درهما. وعن ابن عباس أيضا : عشرون ، وحلة ، ونعلان. وقيل : ثمانية عشر درهما اشتروا بها أخفافا ونعالا. وقيل : عشرة دراهم ، والظاهر عود الضمير في فيه إلى يوسف أي : لم يعلموا مكانه من الله تعالى قاله : الضحاك ، وابن جريج. وقيل : يعود على الثمن ، وزهدهم فيه لرداءة الثمن ، أو لقصد إبعاد يوسف

٢٥٣

لا الثمن. وهذا إذا كان الضمير في وشروه وكانوا عائدا على إخوة يوسف ، فأما إذا كان عائدا على السيارة فزهدهم فيه لكونهم ارتابوا فيه ، أو لوصف إخوته له بالخيانة والإباق ، أو لعلمهم أنه حر. وقال الزمخشري : من الزاهدين ، ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن ، لأنهم التقطوه ، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بما باعه ، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق فينزعه من يده فيبيعه من أول مساوم بأوكس الثمن. ويجوز أن يكون معنى وشروه اشتروه ، يعني الرفقة من إخوته. وكانوا فيه من الزاهدين لأنهم اعتقدوا فيه أنه آبق ، فخافوا أن يخاطروا بمالهم فيه. ويروى أنّ إخوته اتبعوهم يقولون : استوثقوا منه لا يأبق انتهى. وفيه تقدم نظيره في (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (١) وأنه خرج تعلق الجار إما باعني مضمرة ، أو بمحذوف يدل عليه من الزاهدين : أي : وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين ، أو بالزاهدين لأنه يتسامح في الجار والظرف. فجوز فيهما ما لا يجوز في غيرهما.

وقال الذي اشتراه من مصر : ذكروا أقوالا متعارضة فيمن اشتراه ، وفي الثمن الذي اشتراه به ، ولا يتوقف تفسير كتاب الله على تلك الأقوال المتعارضة. فقيل : اشتراه رجل من العماليق وقد آمن بيوسف ، ومات في حياة يوسف : قيل : وهو إذ ذاك الملك بمصر ، واسمه الريان بن الوليد بن بروان بن أراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح ، فملك بعده قابوس بن مصعب بن تمر بن السلواس بن فاران بن عمرو المذكور في نسب الريان ، فدعاه يوسف إلى الإيمان فأبى ، فاشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره الريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة ، وآتاه الله الحكمة والعلم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى عاش أربعمائة سنة ، بدليل قوله : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) (٢) وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف ، وقيل : عرض في السوق وكان أجمل الناس ، فوقعت فيه مزايدة حتى بلغ ثمنا عظيما. فقيل : وزنه من ذهب ومن فضة ومن حرير ، فاشتراه العزيز وهو كان صاحب الملك وخازنه ، واسم الملك الريان بن الوليد. وقيل : مصعب بن الريان ، وهو أحد الفراعنة ، واسم العزيز قطفير ، قاله ابن عباس ، وقيل : طفير ، وقيل : قنطور ، واسم امرأته راعيل ، وقيل : زليخا. قال ابن عطية : وظاهر أمر العزيز

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٢١.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ٣٤.

٢٥٤

أنه كان كافرا ، ويدل على ذلك كون الصنم في بيته حسبما يذكر. وقال مجاهد : كان مسلما ، واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل. وقال السدي : العزيز هو الملك ، واسم امرأته زليخا بنت تمليخا ، ومثواه مكان إقامته وهو كناية عن الإحسان إليه في مأكل ومشرب وملبس. ولام لامرأته تتعلق بقال فهي للتبليغ ، نحو قلت لك : لا باشتراه. عسى أن ينفعنا ، لعله إذا تدرب وراض الأمور وعرف مجاريها نستعين به على بعض ما نحن بصدده ، فينفعنا بكفايته ، أو نتبناه ونقيمه مقام الولد ، وكان قطفير عقيما لا يولد له ، فتفرس فيه الرشد فقال ذلك. وكذلك أي : مثل ذلك التمكين من قلب العزيز حتى عطف عليه ، وأمر امرأته بإكرام مثواه. مكنا ليوسف في الأرض أي : أرض مصر يتصرف فيها بأمره ونهيه ، أي : حكمناه فيها. ولام ولنعلمه متعلقة بمحذوف ، إما قبله لنملكه ولنعلمه ، وإما بعده أي ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك الإنجاء والتمكين ، أو الواو مقحمة أي : مكنا ليوسف في الأرض لنعلمه وكل مقول. والأحاديث : الرّؤيا ، قاله مجاهد. وقيل : أحاديث الأنبياء والأمم. والضمير في على أمره الظاهر عوده على الله قاله ابن جبير ، لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد ، ويقضي. أو على يوسف قاله الطبري ، أي : يديره ولا يكله إلى غيره. قد أراد إخوته به ما أرادوا ، ولم يكن إلا ما أراد الله ودبره ، وأكثر الناس المنفي عنهم العلم هم الكفار قاله ابن عطية. وقال الزمخشري : لا يعلمون أن الأمر بيد الله ، وقيل : المراد بالأكثر الجميع أي : لا يطلعون على غيبه. وقيل : المراد بأكثر الناس أهل مصر ، وقيل : أهل مكة. والأشد عند سيبويه جمع واحدة شدة وأشد كنعمة وأنعم. وقال الكسائي : شد وأشد نحو صك وأصك ، وقال الشاعر :

عهدي به شد النهار كأنما

خضب البنان ورأسه بالعظلم

وزعم أبو عبيدة أنه لا واحد له من لفظه عند العرب والأشد بلوغ الحلم قاله : الشعبي ، وربيعة ، وزيد بن أسلم ، أو سبعة عشر عاما إلى نحو الأربعين قاله الزجاج ، أو ثمانية عشر إلى ستين أو ثمانية عشر قاله عكرمة ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، أو عشرون قاله الضحاك ، أو إحدى وعشرون سنة أو ثلاثون أو ثلاثة وثلاثون قاله مجاهد وقتادة ، ورواه ابن جبير عن ابن عباس ، أو ثمان وثلاثون حكاه ابن قتيبة ، أو أربعون قاله الحسن. وسئل الفاضل النحوي مهذب الدين محمد بن علي بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه الخيمي عن الأشد فقال : هو خمس وثلاثون ، وتمامه أربعون. وقيل : أقصاه اثنان وستون. والحلم الحكم ، والعلم النبوّة. وقيل : الحكم بين الناس ، والعلم : الفقه في

٢٥٥

الدين. وهذا أشبه لمجيء قصة المراودة بعد هذه القصة ، وكذلك أي : مثل ذلك الجزاء لمن صبر ورضي بالمقادير نجزي المحسنين. وفيه تنبيه على أن يوسف كان محسنا في عنفوان شبابه فآتاه الله الحكم والعلم جزاء على إحسانه. وعن الحسن : من أحسن عبادة الله في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله. وقال ابن عباس : المحسنين المهتدين ، وقال الضحاك : الصابرين على النوائب.

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) : المراودة : المطالبة برفق ، من راد يرود إذا ذهب وجاء ، وهي مفاعلة من واحد نحو : داويت المريض ، وكنى به عن طلب النكاح والمخادعة لأجله. كان المعنى وخادعته عن نفسه ، ولذلك عداه بعن. وقال التي هو في بيتها ، ولم يصرح باسمها ، ولا بامرأة العزيز ، سترا على الحرم. والعرب تضيف البيوت إلى النساء فتقول : ربة البيت ، وصاحبة البيت. قال الشاعر :

يا ربة البيت قومي غير صاغرة

وغلقت الأبواب هو تضعيف تكثير بالنسبة إلى وقوع الفعل بكل باب باب. قيل : وكانت سبعة أبواب. هيت اسم فعل بمعنى أسرع. ولك للتبيين أي : لك أقول ، أمرته بأن يسرع إليها. وزعم الكسائي والفراء أنها لغة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها ومعناها : تعال ، وقاله عكرمة. وقال أبو زيد : هي عبرانية ، هيتلخ أي تعاله فأعربه القرآن ، وقال ابن عباس والحسن : بالسريانية ، وقال السدي : بالقبطية هلمّ لك ، وقال مجاهد وغيره : عربية تدعوه بها إلى نفسها ، وهي كلمة حث وإقبال انتهى. ولا يبعد اتفاق اللغات في لفظ ، فقد وجد ذلك في كلام العرب مع لغات غيرهم. وقال الجوهري : هوت وهيت به صاح به فدعاه ، ولا يبعد أن يكون مشتقا من اسم الفعل ، كما اشتقوا من الجمل نحو سبح وحمدك. ولما كان اسم فعل لم يبرز فيه الضمير ، بل يدل على رتبة الضمير بما يتصل باللام من الخطاب نحو : هيت لك ، وهيت لك ، وهيت لكما ، وهيت لكم ، وهيت لكن. وقرأ نافع ، وابن ذكوان ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر : هيت بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وفتح التاء ، والحلواني عن هشام كذلك إلا أنه همز وعلى ، وأبو وائل ، وأبو رجاء ، ويحيى ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وطلحة ، والمقري ، وابن عباس ، وأبو عامر في رواية

٢٥٦

عنهما ، وأبو عمرو في رواية ، وهشام في رواية كذلك ، إلا أنهم ضموا التاء. وزيد بن عليّ وابن أبي إسحاق كذلك ، إلا أنهما سهلا الهمزة. وذكر النحاس : أنه قرىء بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة ، وكسر التاء. وقرأ ابن كثير وأهل مكة : بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء ، وباقي السبعة أبو عمرو ، والكوفيون ، وابن مسعود ، والحسن ، والبصريون ، كذلك ، إلا أنهم فتحوا التاء. وابن عباس وأبو الأسود ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وعيسى البصرة كذلك. وعن ابن عباس : هييت مثل حييت ، فهذه تسع قراءات هي فيها اسم فعل ، إلا قراءة ابن عباس الأخيرة فإنها فعل مبني للمفعول مسهل الهمزة من هيأت الشيء ، وإلا من ضم التاء وكسر الهاء سواء همز أم لم يهمز ، فإنه يحتمل أن يكون اسم فعل كحالها عند فتح التاء أو كسرها ، ويحتمل أن يكون فعلا واقعا ضمير المتكلم من هاء الرجل يهيىء إذا أحسن هيئته على مثال : جاء يجيء ، أو بمعنى تهيأت. يقال : هيت وتهيأت بمعنى واحد. فإذا كان فعلا تعلقت اللام به ، وفي هذه الكلمة لغات أخر. وانتصب معاذ الله على المصدر أي : عياذا بالله من فعل السوء ، والضمير في إنه الأصح أنه يعود على الله تعالى أي : إن الله ربي أحسن مثواي إذ نجاني من الجب ، وأقامني في أحسن مقام. وإما أن يكون ضمير الشأن وغني بربه سيده العزيز فلا يصلح لي أن أخونه ، وقد أكرم مثواي وائتمنني قاله : مجاهد ، والسدي ، وابن إسحاق. ويبعد جدا ، إذ لا يطلق نبي كريم على مخلوق أنه ربه ، ولا بمعنى السيد ، لأنه لم يكن في الحقيقة مملوكا له. إنه لا يفلح الظالمون أي المجازون الإحسان بالسوء. وقيل : الزناة ، وقيل : الخائنون. وقرأ أبو الطفيل والجحدري مثويّ ، كما قرأ يا بشريّ ، وما أحسن هذا التنصل من الوقوع في السوء. استعاذ أولا بالله الذي بيده العصمة وملكوت كل شيء ، ثم نبه على أنّ إحسان الله أو إحسان العزيز الذي سبق منه لا يناسب أن يجازى بالإساءة ، ثم نفى الفلاح عن الظالمين وهو الظفر والفوز بالبغية فلا يناسب أن أكون ظالما أضع الشيء غير موضعه ، وأتعدى ما حده الله تعالى لي.

ولقد همت به وهم بها لو لا أن رأى برهان ربه طول المفسرون في تفسير هذين الهمين ، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق. والذي أختاره أن يوسف عليه‌السلام لم يقع منه همّ بها البتة ، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول : لقد قارفت لو لا أن عصمك الله ، ولا تقول : إنّ جواب لو لا متقدم عليها وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك ، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها ، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون ، ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري ، وأبو العباس

٢٥٧

المبرد. بل نقول : إن جواب لو لا محذوف لدلالة ما قبله عليه ، كما تقول جمهور البصريين في قول العرب : أنت ظالم إن فعلت ، فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم ، ولا يدل قوله : أنت ظالم على ثبوت الظلم ، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل. وكذلك هنا التقدير لو لا أن رأى برهان ربه لهم بها ، فكان موجدا الهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان ، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم. ولا التفات إلى قول الزجاج. ولو كان الكلام ولهم بها كان بعيدا ، فكيف مع سقوط اللام؟ لأنه يوهم أن قوله : وهمّ بها هو جواب لو لا ، ونحن لم نقل بذلك ، وإنما هو دليل الجواب. وعلى تقدير أن يكون نفس الجواب فاللام ليست بلازمة لجواز أن ما يأتي جواب لو لا إذا كان بصيغة الماضي باللام ، وبغير لام تقول : لو لا زيد لأكرمتك ، ولو لا زيد أكرمتك. فمن ذهب إلى أن قوله : وهم بها هو نفس الجواب لم يبعد ، ولا التفات لقول ابن عطية إنّ قول من قال : إن الكلام قد تم في قوله : ولقد همت به ، وإن جواب لو لا في قوله : وهم بها ، وإن المعنى لو لا أن رأى البرهان لهمّ بها فلم يهم يوسف عليه‌السلام قال ، وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف انتهى. أما قوله : يرده لسان العرب فليس كما ذكر ، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب قال الله تعالى : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١) فقوله : إن كادت لتبدي به ، إما أن يتخرج على أنه الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل ، وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب ، والتقدير : لو لا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدى به. وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك ، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا ، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين ، فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة. والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب ، لأنهم قدروا جواب لو لا محذوفا ، ولا يدل عليه دليل ، لأنهم لم يقدروا لهم بها. ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط ، لأنّ ما قبل الشرط دليل عليه ، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه. وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره ، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب ، ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة ، وبراءة يوسف عليه‌السلام من كل ما يشين. ومن أراد أن يقف على ما نقل عن المفسرين في هذه الآية فليطالع ذلك في تفسير الزمخشري ، وابن عطية ، وغيرهما.

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ١٠.

٢٥٨

والبرهان الذي رآه يوسف هو ما آتاه الله تعالى من العلم الدال على تحريم ما حرمه الله ، والله لا يمكن الهم به فضلا عن الوقوع فيه. كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء. قال الزمخشري : الكاف منصوب المحل أي : مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو مرفوعة أي : الأمر مثل ذلك. وقال ابن عطية : والكاف من قوله كذلك ، متعلقة بمضمر تقديره : جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف. ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير عصمته ، كذلك لنصرف. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : همت به وهم بها كذلك ، ثم قال : لو لا أن رأى برهان ربه ، لنصرف عنه ما هم به انتهى. وقال الحوفي : كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب أي : أريناه البراهين كذلك. وقيل : في موضع رفع أي : أمر البراهين كذلك ، والنصب أجود لمطالبة حروف الجر للأفعال أو معانيها. وقال أبو البقاء : كذلك في موضع رفع أي الأمر كذلك. وقيل : في موضع نصب أي : نراعيه كذلك ، انتهى. وأقول : إن التقدير مثل تلك الرؤية ، أو مثل ذلك الرأي ، نرى براهيننا لنصرف عنه ، فتجعل الإشارة إلى الرأي أو الرؤية ، والناصب للكاف ما دل عليه قوله : لو لا أن رأى برهان ربه. ولنصرف متعلق بذلك الفعل الناصب للكاف. ومصدر رأى رؤية ورأي قال :

ورأى عيني الفتى أباكا

يعطي الجزيل فعليك ذاكا

وقرأ الأعمش : ليصرف ، بياء الغيبة عائدا على ربه. وقرأ العربيان ، وابن كثير : المخلصين إذا كان فيه إلى حيث وقع بكسر اللام ، وباقي السبعة بفتحها. وفي صرف السوء والفحشاء عنه وكونه من المخلصين دليل على عصمته.

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ. قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) : أي واستبق يوسف وامرأة العزيز إلى الباب هذا للخروج والهروب منها ، وهذه لمنعه ومراودته. وأصل استبق أن يتعدى بإلى ، فحذف اتساعا. وتقدم أنّ الأبواب سبعة ، فكان تنفتح له الأبواب بابا بابا من غير مفتاح ، على ما نقل عن كعب أن فراش القفل كان يتناثر ويسقط ، حتى خرج من الأبواب. ويحتمل أن تكون الأبواب المغلقة ليست على الترتيب بابا فبابا ، بل تكون في جهات مختلفة كلها منافذ للمكان الذي كانا فيه ، فاستبقا إلى باب يخرج منه. ولا يكون

٢٥٩

السابع على الترتيب ، بل أحدها. وقدت يحتمل أن يكون معطوفا على واستبقا ، ويحتمل أن يكون حالا أي : وقد قدّت جذبته من خلفه بأعلى القميص من طوقه ، فانخرق إلى أسفله. والقدّ : القطع والشق ، وأكثر استعماله فيما كان طولا قال :

تقدّ السلوقي المضاعف نسجه

وتوقد بالصفاح نار الحباحب

والقط : يستعمل فيما كان عرضا ، وقال المفضل بن حرب : رأيت في مصحف قط من دبر أي شق. قال يعقوب : الشق في الجلد في الصحيح ، والثوب الصحيح. وقال ابن عطية : وقرأت فرقة قط. وألفيا سيدها أي : وجدا وصادفا زوجها وهو قطفير. والمرأة تقول لبعلها : سيدي ، ولم يضف إليهما ، لأن قطفير ليس سيد يوسف على الحقيقة. ويقال : ألفاه ووارطه وصادفه ووالطه ولاظه ، كله بمعنى واحد. قيل : ألفياه مقبلا يريد أن يدخل ، وقيل : مع ابن عم المرأة. وفي الكلام حذف تقديره : فرابه أمرهما وقال : ما لكما؟ فلما سأل وقد خافت لومه ، أو سبق يوسف بالقول ، بادرت أن جاءت بحيلة جمعت فيها بين تبرئة ساحتها من الريبة ، وغضبها على يوسف وتخويفه طمعا في مواقعتها خيفة من مكرها ، كرها لما آيست أن يواقعها طوعا ألا ترى إلى قولها : ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن؟ ولم تصرح باسم يوسف ، بل أتت بلفظ عام وهو قولها : ما جزاء من أراد ، وهو أبلغ في التخويف. وما الظاهر أنها نافية ، ويجوز أن تكون استفهامية أي : أيّ شيء جزاؤه إلا السجن؟ وبدأت بالسجن إبقاء على محبوبها ، ثم ترقت إلى العذاب الأليم ، قيل : وهو الضرب بالسوط. وقولها : ما جزاء أي : إن الذنب ثابت متقرر في حقه ، وأتت بلفظ بسوء أي : بما يسوء ، وليس نصا في معصية كبرى ، إذ يحتمل خطابه لها بما يسوؤها ، أو ضربه إياها. وقولها : إلا أن يسجن أو عذاب ، يدل على عظم موقع السجن من ذوي الأقدار حيث قرنته بالعذاب الأليم.

وقرأ زيد بن علي : أو عذابا أليما ، وقدره الكسائي أو يعذب عذابا أليما. ولما أغرت بيوسف وأظهرت تهمته احتاج إلى إزالة التهمة عن نفسه فقال : هي راودتني عن نفسي ، ولم يسبق إلى القول أولا سترا عليها ، فلما خاف على نفسه وعلى عرضه الطاهر قال : هي ، وأتى بضمير الغيبة ، إذ كان غلب عليه الحياء أن يشير إليها ويعينها بالإشارة فيقول : هذه راودتني ، أو تلك راودتني ، لأنّ في المواجهة بالقبيح ما ليس في الغيبة. ولما تعارض قولاهما عند العزيز وكان رجلا فيه إناءة ونصفة ، طلب الشاهد من كل منهما ، فشهد شاهد

٢٦٠