البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

بفتحها ، وهي لغة قيس وتميم ، وقال الكسائي : وأهل نجد. وشذ يركن بفتح الكاف ، مضارع ركن بفتحها. وقرأ ابن أبي عبلة : ولا تركنوا مبنيا للمفعول من أركنه إذا أماله ، والنهي متناول لانحطاط في هواهم ، والانقطاع إليهم ، ومصاحبتهم ، ومجالستهم ، وزيارتهم ، ومداهنتهم ، والرضا بأعمالهم ، والتشبه بهم ، والتزيي بزيهم ، ومد العين إلى زهرتهم ، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمّل قوله : ولا تركنوا ، فإن الركون هو الميل اليسير. وقوله : إلى الذين ظلموا ، أي الذين وجد منهم الظلم ، ولم يقل الظالمين ، قاله : الزمخشري. وقال ابن عطية : ومعناه السكون إلى الشيء والرضا به. قال أبو العالية : الركون الرضا. وقال ابن زيد : الركون الإدهان ، والركون يقع في قليل هذا وكثيرة. والنهي هنا يترتب من معنى الركون عن الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب ، من ترك التعيير عليهم مع القدرة ، والذين ظلموا هنا هم الكفرة ، وهو النص للمتأولين ، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي انتهى. وقال سفيان الثوري : في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون الملوك. وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء؟ فقال : لا. فقيل له : يموت ، فقال : دعه يموت. وفي الحديث : «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه» وكتب إلى الزهري حين خالط السلاطين أخ له في الدين كتابا طويلا قرّعه فيه أشد التقريع ، يوقف عليه في تفسير الزمخشري. وقرأ ابن وثاب ، وعلقمة ، والأعمش ، وابن مصرف ، وحمزة فيما روي عنه : فتمسكم بكسر التاء على لغة تميم ، والمس كناية عن الإصابة. وانتصب الفعل في جواب النهي ، والجملة بعدها حال. ومعنى من أولياء ، من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه. ثم لا تنصرون قال الزمخشري : ثم لا ينصركم هو لأنه وجب في حكمته تعذيبكم ، وترك الإبقاء عليكم. (فإن قلت) : ما معنى؟ ثم قلت : معناها الاستبعاد ، لأنّ النصرة من الله مستبعدة مع استيجابهم العذاب وقضاء حكمته له انتهى ، وهي ألفاظ المعتزلة. وقرأ زيد بن علي : ثم لا تنصروا بحذف النون ، والفعل منصوب عطفا على قوله : فتمسكم ، والجملة حال ، أو اعتراض بين المتعاطفين.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) : سبب نزولها ما في صحيح مسلم من حديث الرجل الذي عالج امرأة أجنبية منه ، فأصاب منها ما سوى إتيانها فنزلت. وقيل : نزلت قبل ذلك ، واستعملها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة هذا الرجل فقال رجل : أله خاصة؟ قال :

٢٢١

«لا ، بل للناس عامة» وانظر إلى الأمر والنهي في هذه الآيات ، حيث جاء الخطاب في الأمر ، (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (١) ، وأقم الصلاة ، موحدا في الظاهر ، وإن كان المأمور به من حيث المعنى عاما ، وجاء الخطاب في النهي : (وَلا تَرْكَنُوا) (٢) موجها إلى غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مخاطبا به أمته. فحيث كان بأفعال الخير توجه الخطاب إليه ، وحيث كان النهي عن المحظورات عدل عن الخطاب عنه إلى غيره من أمته ، وهذا من جليل الفصاحة. ولا خلاف أنّ المأمور بإقامتها هي الصلوات المكتوبة ، وإقامتها دوامها ، وقيل : أداؤها على تمامها ، وقيل : فعلها في أفضل أوقاتها ، وهي ثلاثة الأقوال التي في قوله تعالى : وأقيموا الصلاة.

وانتصب طرفي النهار على الظرف. وطرف الشيء يقتضي أن يكون من الشيء ، فالذي يظهر أنهما الصبح والعصر ، لأنهما طرفا النهار ، ولذلك وقع الإجماع ، إلا من شذ على أنّ من أكل أو جامع بعد طلوع الفجر متعمدا أنّ يومه يوم فطر وعليه القضاء والكفارة ، وما بعد طلوع الفجر من النهار. وقد ادعى الطبري والماوردي : الإجماع على أنّ أحد الطرفين الصبح ، والخلاف في ذلك على ما نذكره. وممن قال : هما الصبح والعصر الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وقال : الزلف المغرب والعشاء ، وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول ، بل هي في غيرها. وقال مجاهد ومحمد بن كعب : الطرف الأول الصبح ، والثاني الظهر والعصر ، والزلف المغرب والعشاء ، وليست الصبح في هذه الآية. وقال ابن عباس والحسن أيضا : هما الصبح والمغرب ، والزلف العشاء ، وليست الظهر والعصر في الآية. وقيل : هما الظهر والعصر ، والزلف المغرب والعشاء والصبح ، وكان هذا القائل راعى الجهر بالقراءة والإخفاء. واختار ابن عطية قول مجاهد ، وجعل الظهر من الطرف الثاني ليس بواضح ، إنما الظهر نصف النهار ، والنصف لا يسمى طرفا إلا بمجاز بعيد. ورجح الطبري قول ابن عباس : وهو أنّ الطرفين هما الصبح والمغرب ، ولا نجعل المغرب طرفا للنهار إلا بمجاز ، إنما هو طرف الليل. وقال الزمخشري : غدوة وعشية قال : وصلاة الغدوة الصبح ، وصلاة العشية الظهر والعصر ، لأنّ ما بعد الزوال عشي ، وصلاة الزلف المغرب والعشاء انتهى. ولا يلزم من إطلاق العشي على ما بعد الزوال أن يكون الظهر طرفا للنهار ، لأن الأمر إنما جاء بالإقامة للصلاة في طرفي النهار ، لا في الغداة والعشي.

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١١٢.

(٢) سورة هود : ١١ / ١١٣.

٢٢٢

وقرأ الجمهور : وزلفا بفتح اللام ، وطلحة وعيسى البصرة وابن أبي إسحاق وأبو جعفر : بضمها كأنه اسم مفرد. وقرأ ابن محيصن ومجاهد : بإسكانها ، وروي عنهما : وزلفى على وزن فعلى على صفة الواحد من المؤنث لما كانت بمعنى المنزلة. وأما القراآت الأخر من الجموع فمنزلة بعد منزلة ، فزلف جمع كظلم ، وزلف كبسر في بسر ، وزلف كبسر في بسرة ، فهما اسما جنس ، وزلفى بمنزلة الزلفة. والظاهر عطف وزلفا من الليل على طرفي النهار ، عطف طرفا على طرف. وقال الزمخشري : وقد ذكر هذه القراآت وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل. وقيل : زلفا من الليل ، وقربا من الليل ، وحقها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة أي : أقم الصلاة في النهار ، وأقم زلفى من الليل على معنى صلوات يتقرب بها إلى الله عزوجل في بعض الليل. والظاهر عموم الحسنات من الصلوات المفروضة ، وصيام رمضان ، وما أشبههما من فرائض الإسلام. وخصوص السيئات وهي الصغائر ، ويدل عليه الحديث الصحيح : «ما اجتنبت الكبائر» وذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين : إلى أنّ الحسنات يراد بها الصلوات الخمس ، وإليه ذهب عثمان عند وضوئه على المقاعد ، وهو تأويل مالك. وقال مجاهد : الحسنات قول الرجل : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وينبغي أن يحمل هذا كله على جهة المثال في الحساب ، ومن أجل أنّ الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال. والصغائر التي تذهب هي بشرط التوبة منها وعدم الإصرار عليها ، وهذا نص حذاق الأصوليين. ومعنى إذهابها : تكفير الصغائر ، والصغائر قد وجدت وأذهبت الحسنات ما كان يترتب عليها ، لا أنها تذهب حقائقها ، إذ هي قد وجدت. وقيل : المعنى إنّ فعل الحسنات يكون لطفا في ترك السيئات ، لا أنها واقعة كقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (١) والظاهر أنّ الإشارة قوله ذلك ، إلى أقرب مذكور وهو قوله : أقم الصلاة أي إقامتها في هذه الأوقات. ذكرى أي : سبب عظة وتذكرة للذاكرين أي المتعظين. وقيل : إشارة إلى الإخبار بأنّ الحسنات يذهبن السيئات ، فيكون في هذه الذكرى حضّا على فعل الحسنات. وقيل : إشارة إلى ما تقدم من الوصية بالاستقامة وإقامة الصلاة ، والنهي عن الطغيان ، والركون إلى الظالمين ، وهو قول الزمخشري. وقال الطبري : إشارة إلى الأوامر والنواهي في هذه السورة ، وقيل : إشارة إلى القرآن ، وقيل :

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٥.

٢٢٣

ذكرى معناها توبة ، ثم أمر تعالى بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات الله بعد ما تقدم من الأوامر والنواهي ، ومنبها على محل الصبر ، إذ لا يتم شيء مما وقع الأمر به والنهي عنه إلا به ، وأتى بعام وهو قوله : أجر المحسنين ، ليندرج فيه كل من أحسن بسائر خصال الإحسان مما يحتاج إلى الصبر فيه ، وما قد لا يحتاج كطبع من خلق كريما ، فلا يتكلف الإحسان إذ هو مركوز في طبعه. وقال ابن عباس : المحسنون هم المصلون ، كأنه نظر إلى سياق الكلام. وقال مقاتل : هم المخلصون ، وقال أبو سليمان : المحسنون في أعمالهم.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) : لو لا هنا للتحضيض ، صحبها معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد ، وهذا نحو قوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) (١) والقرون : قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، ومن تقدم ذكره. والبقية هنا يراد بها الخير والنظر والجزم في الدين ، وسمي الفضل والجود بقية ، لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله ، فصار مثلا في الجودة والفضل. ويقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم ، وبه فسر بيت الحماسة : إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم. ومنه قولهم : في الزوايا خبايا ، وفي الرجال بقايا. وإنما قيل : بقية لأنّ الشرائع والدول ونحوها قوتها في أولها ، ثم لا تزال تضعف ، فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول. وبقية فعيلة اسم فاعل للمبالغة. وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى ، كالتقية بمعنى التقوى أي : فلا كان منهم ذو وبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه. وقرأت فرقة : بقية بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي ، نحو : شجيت فهي شجية. وقرأ أبو جعفر ، وشيبة : بقية بضم الباء وسكون القاف ، وزن فعلة. وقرىء : بقية على وزن فعلة للمرة من بقاه يبقيه إذا رقبه وانتظره ، والمعنى : فلو لا كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله ، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم. والفساد هنا الكفر وما اقترن به من المعاصي ، وفي ذلك تنبيه لهذه الأمة وحض لها على تغيير المنكر. إلا قليلا استثناء منقطع أي : لكن قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم ، ولا يصح أن يكون استثناء متصلا مع بقاء التحضيض على ظاهره لفساد المعنى ، وصيرورته إلى أنّ الناجين لم يحرضوا على النهي عن الفساد. والكلام عند سيبويه بالتحضيض واجب ، وغيره

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٣٠.

٢٢٤

يراه منفيا من حيث معناه : أنه لم يكن فيهم أولو بقية ، ولهذا قال الزمخشري بعد أن منع أن يكون متصلا : (فإن قلت) : في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم ، فكأنه قيل : ما كان من القرون أولوا بقية إلا قليلا ، كان استثناء متصلا ، ومعنى صحيحا ، وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرجع على البدل انتهى. وقرأ زيد بن علي : إلا قليل بالرفع ، لحظ أنّ التحضيض تضمن النفي ، فأبدل كما يبدل في صريح النفي. وقال الفراء : المعنى فلم يكن ، لأنّ في الاستفهام ضربا من الجحد ، وأبي الأخفش كون الاستثناء منقطعا ، والظاهر أنّ الذين ظلموا هم تاركو النهي عن الفساد. وما أترفوا فيه أي : ما نعموا فيه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهني ، ورفضوا ما فيه صلاح دينهم. واتبع استئناف إخبار عن حال هؤلاء الذين ظلموا ، وإخبار عنهم أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا مجرمين أي : ذوي جرائم غير ذلك. وقال الزمخشري : إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفا على مضمر ، لأنّ المعنى إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد في الأرض ، واتبع الذين ظلموا شهواتهم ، فهو عطف على نهوا ، وإن كان معناه : واتبعوا جزاء الإتراف. فالواو للحال ، كأنه قيل : أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم. وقال : وكانوا مجرمين ، عطف على أترفوا ، أي اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين ، لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام انتهى. فجعل ما في قوله : ما أترفوا فيه ، مصدرية ، ولهذا قدره : اتبعوا الإتراف ، والظاهر أنها بمعنى الذي لعود الضمير في فيه عليها. وأجاز أيضا أن يكون معطوفا على اتبعوا أي : اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. قال : ويجوز أن يكون اعتراضا وحكما عليهم بأنهم قوم مجرمون انتهى. ولا يسمى هذا اعتراضا في اصطلاح النحو ، لأنه آخر آية ، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر. وقرأ جعفر بن محمد ، والعلاء بن سيابة كذا في كتاب اللوامح ، وأبو عمر في رواية الجعفي : واتبعوا ساكنة التاء مبنية للمفعول على حذف مضاف ، لأنه مما يتعدى إلى مفعولين ، أي جزاء ما أترفوا فيه. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة أنهم اتبعوا جزاء إترافهم ، وهذا معنى قوي لتقدم الإنجاء كأنه قيل : إلا قليلا ممن أنجينا منهم وهلك السائر.

وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ

٢٢٥

خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) : تقدم تفسير شبيه هذه الآية في الأنعام ، إلا أن هنا ليهلك وهي آكد في النفي ، لأنه على مذهب الكوفيين زيدت اللام في خبر كان على سبيل التوكيد ، وعلى مذهب البصريين توجه النفي إلى الخبر المحذوف المتعلق به اللام ، وهنا وأهلها مصلحون. قال الطبري : بشرك منهم وهم مصلحون أي : مصلحون في أعمالهم وسيرهم ، وعدل بعضهم في بعض أي : أنه لا بد من معصية تقترن بكفرهم ، قاله الطبري ناقلا. قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، وإنما ذهب قائله إلى نحو ما قال : إن الله يمهل الدول على الكفر ولا يمهلها على الظلم والجور ، ولو عكس لكان ذلك متجها أي : ما كان الله ليعذب أمة بظلمهم في معاصيهم وهم مصلحون في الإيمان. والذي رجح ابن عطية أن يكون التأويل بظلم منه تعالى عن ذلك. وقال الزمخشري : وأهلها مصلحون تنزيها لذاته عن الظلم ، وإيذانا بأن إهلاك المصلحين من الظلم انتهى. وهو مصادم للحديث : «أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم ، إذا كثر الخبث» وللآية : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (١).

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) : قال الزمخشري : يعني لاضطرارهم إلى أن يكونوا أهل ملة واحدة وهي ملة الإسلام كقوله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) (٢) وهذا كلام يتضمن نفي الاضطرار ، وأنه لم يقهرهم على الاتفاق على دين الحق ، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف ، فاختار بعضهم الحق ، وبعضهم الباطل ، فاختلفوا ولا يزالون مختلفين ، إلا من رحم ربك إلا ناسا

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٢٥.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٢.

٢٢٦

هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. وقال ابن عباس وقتادة : أمة واحدة مؤمنة حتى لا يقع منهم كفر ، لكنه تعالى لم يشأ ذلك. وقال الضحاك : لو شاء لجعلهم على هدى أو ضلالة ، والظاهر أن قوله : ولا يزالون مختلفين ، هو من الاختلاف الذي هو ضد الاتفاق ، وأنّ المعنى في الحق والباطل قاله : ابن عباس ، وقال مجاهد : في الأديان ، وقال الحسن : في الأرزاق والأحوال من تسخير بعضهم لبعض ، وقال عكرمة : في الأهواء ، وقال ابن بحر : المراد أن بعضهم يخلف بعضا ، فيكون الآتي خلفا للماضي. قال : ومنه قولهم : ما اختلف الجديدان ، أي خلف أحدهما صاحبه. وإلّا من رحم استثناء متصل من قوله : ولا يزالون مختلفين ، ولا ضرورة تدعو إلى أنه بمعنى لكن ، فيكون استثناء منقطعا كما ذهب إليه الحوفي. والإشارة بقوله : ولذلك خلقهم ، إلى المصدر المفهوم من قوله : مختلفين ، كما قال : إذا نهى السفيه جرى إليه. فعاد الضمير إلى المصدر المفهوم من اسم الفاعل ، كأنه قيل : وللاختلاف خلقهم ، ويكون على حذف مضاف أي : لثمرة الاختلاف من الشقاوة والسعادة خلقهم. ودل على هذا المحذوف أنه قد تقرر من قاعدة الشريعة أن الله تعالى خلق خلقا للسعادة ، وخلقا للشقاوة ، ثم يسر كلا لما خلق له ، وهذا نص في الحديث الصحيح.

وهذه اللام في التحقيق هي لام الصيرورة في ذلك المحذوف ، أو تكون لام الصيرورة بغير ذلك المحذوف ، أي : خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف. ولا يتعارض هذا مع قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) لأنّ معنى هذا الأمر بالعبادة. وقال مجاهد وقتادة : ذلك إشارة إلى الرحمة التي تضمنها قوله : إلا من رحم ربك ، والضمير في خلقهم عائد على المرحومين. وقال ابن عباس ، واختاره الطبري : الإشارة بذلك إلى الاختلاف والرحمة معا ، فيكون على هذا أشير بالمفرد إلى اثنين كقوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (٢) أي بين الفارض والبكر. والضمير في خلقهم عائد على الصنفين : المستثني ، والمستثنى منه ، وليس في هذه الجملة ما يمكن أن يعود عليه الضمير إلا الاختلاف كما قال الحسن وعطاء ، أو الرحمة كما قال مجاهد ، وقتادة ، أو كلاهما كما قال ابن عباس. وقد أبعد المتأولون في تقدير غير هذه الثلاث ، فروي أنه إشارة إلى ما بعده. وفيه تقديم وتأخير أي : وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ، ولذلك

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٦.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٦٨.

٢٢٧

خلقهم أي لملء جهنم منهم ، وهذا بعيد جدا من تراكيب كلام العرب. وقيل : إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود ، وقيل : إلى قوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (١) وقيل : إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير ، وقيل : إشارة إلى قوله : (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) (٢) وقيل : إشارة إلى العبادة ، وقيل : إلى الجنة والنار ، وقيل : للسعادة والشقاوة. وقال الزمخشري : ولذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام أولا من التمكين والاختيار الذي عنه الاختلاف ، خلقهم ليثيب مختار الحق بحسن اختياره ، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. ولو لا أن هذه الأقوال سطرت في كتب التفسير لضربت عن ذكرها صفحا.

وتمت كلمة ربك أي : نفذ قضاؤه وحق أمره. واللام في لأملأن ، هي التي يتلقى بها القسم ، أو الجملة قبلها ضمنت معنى القسم كقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) (٣) ثم قال : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) (٤) والجنة والجن بمعنى واحد. قال ابن عطية : والهاء فيه للمبالغة ، وإن كان الجن يقع على الواحد ، فالجنة جمعه انتهى. فيكون مما يكون فيه الواحد بغير هاء ، وجمعه بالهاء لقول بعض العرب : كمء للواحد ، وكمأة للجمع.

(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) : الظاهر أن كلا مفعول به ، والعامل فيه نقص ، والتنوين عوض من المحذوف ، والتقدير : وكل نبأ نقص عليك. ومن أنباء الرسل في موضع الصفة لقوله : وكلا إذ هي مضافة في التقدير إلى نكرة ، وما صلة كما هي في قوله : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٥) قيل : أو بدل ، أو خبر مبتدأ محذوف أي : هو ما نثبت ، فتكون ما بمعنى الذي ، أو مصدرية. وأجازوا أن ينتصب كلا على المصدر ، وما نثبت مفعول به بقولك نقص ، كأنه قيل : ونقص عليك الشيء الذي نثبت به فؤادك كل قص. وأجازوا أن يكون كلا نكرة بمعنى جميعا ، وينتصب على الحال من المفعول الذي هو ما ، أو من المجرور الذي هو الضمير في به على مذهب من يجوز تقديم حال المجرور بالحرف عليه ، التقدير : ونقص عليك من أنباء الرسل الأشياء التي نثبت بها فؤادك جميعا أي : المثبتة فؤادك جميعا. قال ابن عباس : نثبت نسكن ، وقال الضحاك : نشد ، وقال ابن جريج : نقوي. وتثبيت الفؤاد هو بما جرى

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١٠٥.

(٢) سورة هود : ١١ / ١١٦.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٨١.

(٤) سورة آل عمران : ٣ / ٨١.

(٥) سورة الأعراف : ٧ / ٣.

٢٢٨

للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولاتباعهم المؤمنين ، وما لقوا من مكذبيهم من الأذى ، ففي هذا كله أسوة بهم ، إذ المشاركة في الأمور الصعبة تهون ما يلقى الإنسان من الأذى ، ثم الإعلام بما جرى على مكذبيهم من العقوبات المستأصلة بأنواع من العذاب من غرق وريح ورجفة وخسف ، وغير ذلك فيه طمأنينة للنفس ، وتأنيس بأن يصيب الله من كذب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعذاب ، كما جرى لمكذبي الرسل. وإنباء له عليه الصلاة والسلام بحسن العاقبة له ولأتباعه ، كما اتفق للرسل وأتباعهم. والإشارة بقوله : في هذه ، إلى أنباء الرسل التي قصها الله تعالى عليه ، أي النبأ الصدق الحق الذي هو مطابق بما جرى ليس فيه تغيير ولا تحريف ، كما ينقل شيئا من ذلك المؤرخون. وموعظة أي : اتعاظ وازدجار لسامعه ، وذكرى لمن آمن ، إذ الموعظة والذكرى لا ينتفع بها إلا المؤمن كقوله (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (١) وقوله : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) (٢) وقال ابن عباس : الإشارة إلى السورة والآيات التي فيها تذكر قصص الأمم ، وهذا قول الجمهور. ووجه تخصيص هذه السورة بوصفها بالحق ، والقرآن كله حق ، أنّ ذلك يتضمن معنى الوعيد للكفرة والتنبيه للناظر ، أي : جاءك في هذه السورة الحق الذي أصاب الأمم الظالمة. وهذا كما يقال عند الشدائد : جاء الحق ، وإن كان الحق يأتي في غير شديدة وغير ما وجه ، ولا تستعمل في ذلك جاء الحق. وقال الحسن وقتادة : الإشارة إلى دار الدنيا. قال قتادة : والحق النبوة. وقيل : إشارة إلى السورة مع نظائرها.

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) : اعملوا صيغة أمر ومعناه : التهديد والوعيد ، والخطاب لأهل مكة وغيرها. على مكانتكم أي : جهتكم وحالكم التي أنتم عليها. وقيل : اعملوا في هلاكي على إمكانكم ، وانتظروا بنا الدوائر ، إنا منتظرون أن ينزل بكم نحو ما اقتصّ الله من النقم النازلة بأشباهكم. ويشبه أن يكون إيتاء موادعة ، فلذلك قيل : إنهما منسوختان ، وقيل : محكمتان ، وهما للتهديد والوعيد والحرب قائمة.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) : لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، ولا حظ لمخلوق في علم الغيب. وقرأ نافع وحفص : يرجع مبنيا للمفعول. الأمر كله أمرهم وأمرك ، فينتقم لك

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٥.

(٢) سورة الأعلى : ٨٧ / ١٠ ـ ١١.

٢٢٩

منهم. وقال أبو علي الفارسي : علم ما غاب في السموات والأرض ، أضاف الغيب إليهما توسعا انتهى. والجملة الأولى : دلت على أن علمه محيط بجميع الكائنات كليها وجزئيها حاضرها وغائبها ، لأنه إذا أحاط علمه بما غاب فهو بما حضر محيط ، إذ علمه تعالى لا يتفاوت. والجملة الثانية : دلت على القدرة النافذة والمشيئة. والجملة الثالثة : دلت على الأمر بإفراد من هذه صفاته بالعبادة الجسدية والقلبية ، والعبادة أولى الرتب التي يتحلى بها العبد. والجملة الرابعة : دلت على الأمر بالتوكل ، وهي آخرة الرتب ، لأنه بنور العبادة أبصر أنّ جميع الكائنات معذوقة بالله تعالى ، وأنه هو المتصرف وحده في جميعها ، لا يشركه في شيء منها أحد من خلقه ، فوكل نفسه إليه تعالى ، ورفض سائر ما يتوهم أنه سبب في شيء منها. والجملة الخامسة : تضمنت التنبيه على المجازاة ، فلا يضيع طاعة مطيع ولا يهمل حال متمرد. وقرأ الصاحبان ، وحفص ، وقتادة ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، والجحدري : تعملون بتاء الخطاب ، لأنّ قبله اعملوا على مكانتكم. وقرأ باقي السبعة : بالياء على الغيبة ، واختلف عن الحسن وعيسى بن عمر.

٢٣٠

سورة يوسف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣)

٢٣١

قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ

٢٣٢

(٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩)

الطرح للشيء رميه وإلقاؤه ، وطرح عليه الثوب ألقاه ، وطرحت الشيء أبعدته ومنه قول عروة بن الورد :

ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا

من المال يطرح نفسه كل مطرح

والنوى : الطروح البعيدة. الجب : الركية التي لم تطو ، فإذا طويت فهي بئر. قال الأعشى :

لئن كنت في جب ثمانين قامة

ورقيت أسباب السماء بسلم

ويجمع على جبب وجباب وأجباب ، وسمى جبا لأنه قطع في الأرض ، من جببت أي قطعت. الالتقاط : تناول الشيء من الطريق ، يقال : لقطه والتقطه. وقال : ومنهل لقطته التقاطا. ومنه : اللقطة واللقيط.

ارتعى افتعل من الرعي بمعنى المراعاة وهي الحفظ للشيء ، أو من الرعي وهو أكل الحشيش والنبات ، يقال : رعت الماشية الكلأ ترعاه رعيا أكلته ، والرعي بالكسر الكلأ ، ومثله ارتعى. قال الأعشى :

ترتعي السفح فالكثيب فذاقا

ر فروض القطا فذات الرمال

رتع أقام في خصب وتنعم ، ومنه قول الغضبان بن القبعثري : القيد ، والمتعة ، وقلة الرتعة. وقول الشاعر :

أكفرا بعد رد الموت عني

وبعد عطائك المائة الرتاعا

الذئب : سبع معروف ، وليس في صقعنا الأندلسي ، ويجمع على أذؤب وذئاب وذؤبان قال :

وأزور يمطو في بلاد بعيدة

تعاوى به ذؤبانه وثعالبه

وأرض مذأبة كثيرة الذئاب ، وتذاءبت الريح جاءت من هنا ومن هنا ، فعل الذئب ومنه الذؤابة من الشعر لكونها تنوس إلى هنا وإلى هنا. الكذب بالدال المهملة الكدر ، وقيل : الطري. سول من السول ، ومعناه سهل ، وقيل : زين. أدلى الدلو أرسلها ليملأها ، ودلاها يدلوها جذبها وأخرجها من البئر. قال : لا تعقلوها وادلوها دلوا. والدلو معروف ، وهي مؤنثة فتصغر على دليتة ، وتجمع على أدل ودلاء ودلى. البضاعة : القطعة من المال تجعل

٢٣٣

للتجارة ، من بضعته إذا قطعته ، ومنه المبضع. المراودة الطلب برفق ولين القول ، والرود التأني يقال : أرودني أمهلني ، والزيادة طلب النكاح. ومشى رويدا أي برفق. أغلق الباب وأصفده وأقفله بمعنى. وقال الفرزدق :

ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها

حتى أتيت أبا عمرو بن عمار

هيت اسم فعل بمعنى أسرع. قد الثوب : شقه. السيد فيعل من ساد يسود ، يطلق على المالك ، وعلى رئيس القوم. وفيعل بناء مختص بالمعتل ، وشذ بيئس وصيقل اسم امرأة. السجن : الحبس.

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) : هذه السورة مكية كلها. وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثلاث آيات من أولها. وسبب نزولها أن كفار مكة أمرتهم اليهود أن يسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فنزلت. وقيل : سببه تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما كان يفعل به قومه بما فعل إخوة يوسف به. وقيل : سألت اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحدثهم أمر يعقوب وولده ، وشأن يوسف. وقال سعد بن أبي وقاص : أنزل القرآن فتلاه عليهم زمانا فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا ، فنزلت.

ووجه مناسبتها لما قبلها وارتباطها أن في آخر السورة التي قبلها : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) (١) وكان في تلك الأنباء المقصوصة فيها ما لا قى الأنبياء من قومهم ، فاتبع ذلك بقصة يوسف ، وما لاقاه من إخوته ، وما آلت إليه حاله من حسن العاقبة ، ليحصل للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم التسلية الجامعة لما يلاقيه من أذى البعيد والقريب. وجاءت هذه القصة مطولة مستوفاة ، فلذلك لم يتكرر في القرآن إلا ما أخبر به مؤمن آل فرعون في سورة غافر. والإشارة بتلك آيات إلى الر وسائر حروف المعجم التي تركبت منها آيات القرآن ، أو إلى التوراة والإنجيل ، أو الآيات التي ذكرت في سورة هود ، أو إلى آيات السورة. والكتاب المبين السورة أي : تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة أقوال. والظاهر أنّ المراد بالكتاب القرآن. والمبين إما البين في نفسه الظاهر أمره في إعجاز العرب وتبكيتهم ، وإما المبين الحلال والحرام والحدود والأحكام وما يحتاج إليه من أمر الدين ، قاله : ابن عباس ومجاهد ، أو المبين الهدى والرشد والبركة قاله قتادة ، أو المبين ما سألت عنه اليهود ، أو ما أمرت أن يسأل من حال انتقال يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١٢٠.

٢٣٤

يوسف ، أو المبين من جهة بيان اللسان العربي وجودته ، إذ فيه ستة أحرف لم تجمع في لسان ، روي هذا عن معاذ بن جبل. قال المفسرون : وهي الطاء ، والظاء ، والضاد ، والصاد ، والعين ، والخاء انتهى. والضمير في إنا أنزلناه ، عائد على الكتاب الذي فيه قصة يوسف ، وقيل : على القرآن ، وقيل : على نبأ يوسف ، قاله الزجاج وابن الأنباري. وقيل : هو ضمير الإنزال. وقرآنا هو المعطوف به ، وهذان ضعيفان. وانتصب قرآنا ، قيل : على البدل من الضمير ، وقيل على الحال الموطئة. وسمي القرآن قرآنا لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير ، وعربيا منسوب إلى العرب. والعرب جمع عربي ، كروم ورومي ، وعربة ناحية دار إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. قال الشاعر :

وعربة أرض ما يحل حرامها

من الناس إلا اللوذعي الحلاحل

ويعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحلت له مكة. وسكن راء عربة الشاعر ضرورة. قيل : وإن شئت نسبت القرآن إليها ابتداء أي : على لغة أهل هذه الناحية. لعلكم تعقلون ما تضمن من المعاني ، واحتوى عليه من البلاغة والإعجاز فتؤمنون ، إذ لو كان بغير العربية لقيل : (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) (١).

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) : القصص : مصدر قص ، واسم مفعول إما لتسميته بالمصدر ، وإما لكون الفعل يكون للمفعول ، كالقبض والنقص. والقصص هنا يحتمل الأوجه الثلاثة. فإن كان المصدر فالمراد بكونه أحسن أنه اقتص على أبدع طريقة ، وأحسن أسلوب. ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتص في كتب الأولين ، وفي كتب التواريخ ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقاربا لاقتصاصه في القرآن ، وإن كان المفعول فكان أحسنه لما يتضمن من العبر والحكم والنكت والعجائب التي ليس في غيره. والظاهر أنه أحسن ما يقص في بابه كما يقال للرجل : هو أعلم الناس وأفضلهم ، يراد في فنه.

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٤٤.

٢٣٥

وقيل : كانت هذه السورة أحسن القصص لانفرادها عن سائرها بما فيها من ذكر الأنبياء ، والصالحين ، والملائكة ، والشياطين ، والجن ، والإنس ، والأنعام ، والطير ، وسير الملوك ، والممالك ، والتجار ، والعلماء ، والرجال ، والنساء وكيدهن ومكرهن ، مع ما فيها من ذكر التوحيد ، والفقه ، والسير ، والسياسة ، وحسن الملكة ، والعفو عند المقدرة ، وحسن المعاشرة ، والحيل ، وتدبير المعاش ، والمعاد ، وحسن العاقبة ، في العفة ، والجهاد ، والخلاص من المرهوب إلى المرغوب ، وذكر الحبيب والمحبوب ، ومرأى السنين وتعبير الرؤيا ، والعجائب التي تصلح للدين والدنيا. وقيل : كانت أحسن القصص لأنّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة. انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته وامرأة العزيز والملك أسلم بيوسف وحسن إسلامه. ومعبر الرؤيا الساقي ، والشاهد فيما يقال. وقيل : أحسن هنا ليست أفعل التفضيل ، بل هي بمعنى حسن ، كأنه قيل : حسن القصص ، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي : القصص الحسن. وما في بما أوحينا مصدرية أي : بإيحائنا. وإذا كان القصص مصدرا فمفعول نقص من حيث المعنى هو هذا القرآن ، إلا أنه من باب الإعمال ، إذ تنازعه نقص. وأوحينا فاعمل الثاني على الأكثر ، والضمير في من قبله يعود على الإيحاء. وتقدمت مذاهب النحاة في أن المخففة ومجيء اللام في ثاني الجزءين. ومعنى من الغافلين : لم يكن لك شعور بهذه القصة ، ولا سبق لك علم فيها ، ولا طرق سمعك طرف منها. والعامل في إذ قال الزمخشري وابن عطية : اذكر. وأجاز الزمخشري أن تكون بدلا من أحسن القصص قال : وهو بدل اشتمال ، لأن الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص ، فإذا قص وقته فقد قص. وقال ابن عطية : ويجوز أن يعمل فيه نقص كان المعنى : نقص عليك الحال ، إذ وهذه التقديرات لا تتجه حتى تخلع إذ من دلالتها على الوقت الماضي ، وتجرد للوقت المطلق الصالح للأزمان كلها على جهة البدلية.

وحكى مكي أنّ العامل في إذ الغافلين ، والذي يظهر أن العامل فيه قال : يا بني ، كما تقول : إذ قام زيد قام عمرو ، وتبقى إذ على وضعها الأصلي من كونها ظرفا لما مضى. ويوسف اسم عبراني ، وتقدمت ست لغات فيه. ومنعه الصرف دليل على بطلان قول من ذهب إلى أنه عربي مشتق من الأسف ، وإن كان في بعض لغاته يكون فيه الوزن الغالب ، لامتناع أن يكون أعجميا غير أعجمي. وقرأ طلحة بن مصرف بالهمز وفتح السين. وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر ، والأعرج : يا أبت بفتح التاء ، وباقي السبعة والجمهور بكسرها ، ووقف الابنان عليها بالهاء ، وهذه التاء عوض من ياء الإضافة فلا يجتمعان ، وتجامع الألف التي

٢٣٦

هي بدل من التاء قال : يا أبتا علك أو عساكا. ووجه الاقتصار على التاء مفتوحة أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف ، أو رخم بحذف التاء ، ثم أقحمت قاله أبو علي. أو الألف في أبتا للندبة ، فحذفها قاله : الفراء ، وأبو عبيد ، وأبو حاتم ، وقطرب. ورد بأنه ليس موضع ندبة أو الأصل يا أبة بالتنوين ، فحذف والنداء ناد حذف قاله قطرب ، ورد بأنّ التنوين لا يحذف من المنادى المنصوب نحو : يا ضاربا رجلا ، وفتح أبو جعفر ياء إني.

وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وطلحة بن سليمان : أحد عشر بسكون العين لتوالي الحركات ، وليظهر جعل الاسمين اسما واحدا. ورأيت هي حلمية لدلالة متعلقها على أنه منام ، والظاهر أنه رأى في منامه كواكب الشمس والقمر. وقيل : رأى إخوته وأبويه ، فعبر عنهم بذلك ، وعبر عن الشمس عن أمه. وقيل : عن خالته راحيل ، لأنّ أمه كانت ماتت. ومن حديث جابر بن عبد الله : أن يهوديا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف ، فسكت عنه ، ونزل جبريل فأخبره بأسمائها ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهودي فقال : هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك؟ فقال : نعم. قال : جريان ، والطارق ، والذيال ، وذو الكتفين ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والضروح ، والفرغ ، والضياء ، والنور. فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها. وذكر السهيلي مسندا إلى الحرث بن أبي أسامة فذكر الحديث ، وفيه بعض اختلاف ، وذكر النطح عوضا عن المصبح. وعن وهب أن يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة ، وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها ، فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لإخوتك ، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب سجودا له فقصها على أبيه فقال له : لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل ، وكان بين رؤيا يوسف ومسير إخوته إليه أربعون سنة ، وقيل : ثمانون. وروي أن رؤيا يوسف كانت ليلة القدر ليلة جمعة. والظاهر أنّ الشمس والقمر ليسا مندرجين في الأحد عشر كوكبا ، ولذلك حين عدهما الرسول لليهودي ذكر أحد عشر كوكبا غير الشمس والقمر ، ويظهر من كلام الزمخشري أنهما مندرجان في الأحد عشر.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : لم أخر الشمس والقمر؟ (قلت) : أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص إثباتا لفضلهما ، واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع ، كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة ثم عطفهما عليهما. لذلك ويجوز أن

٢٣٧

تكون الواو بمعنى مع ، أي : رأيت الكواكب مع الشمس والقمر انتهى. والذي يظهر أن التأخير إنما هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، ولم يقع الترقي في الشمس والقمر جريا على ما استقر في القرآن من أنه إذا اجتمعا قدمت عليه. قال تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (١) وقال : وجمع الشمس والقمر (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (٢) وقدمت عليه لسطوع نورها وكبر جرمها وغرابة سيرها ، واستمداده منها ، وعلو مكانها. والظاهر أنّ رأيتهم كرر على سبيل التوكيد للطول بالمفاعيل ، كما كرر أنكم في قوله (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) (٣) لطول الفصل بالظرف وما تعلق به.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : ما معنى تكرار رأيتهم؟ (قلت) : ليس بتكرار ، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جوابا له ، كان يعقوب عليه‌السلام قال له عند قوله : إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ، كيف رأيتها سائلا عن حال رؤيتها؟ فقال : رأيتهم لي ساجدين انتهى. وجمعهم جمع من يعقل ، لصدور السجود له ، وهو صفة من يعقل ، وهذا سائغ في كلام العرب ، وهو أن يعطى الشيء حكم الشيء للاشتراك في وصف ما ، وإن كان ذلك الوصف أصله أن يخص أحدهما. والسجود : سجود كرامة ، كما سجدت الملائكة لآدم. وقيل : كان في ذلك الوقت السجود تحية بعضهم لبعض. ولما خاطب يوسف أباه بقوله : يا أبت ، وفيه إظهار الطواعية والبر والتنبيه على محل الشفقة بطبع الأبوة خاطبه أبوه بقوله : يا بني ، تصغير التحبيب والتقريب والشفقة. وقرأ حفص هنا وفي لقمان ، والصافات : يا بني بفتح الياء. وابن كثير في لقمان : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ) (٤) وقنبل يا بني أقم بإسكانها ، وباقي السبعة بالكسر. وقرأ زيد بن علي : لا تقص مدغما ، وهي لغة تميم ، والجمهور بالفك وهي لغة الحجاز. والرؤيا مصدر كالبقيا. وقال الزمخشري : الرؤيا بمعنى الرؤية ، إلا أنها مختصة بما كان في النوم دون اليقظة ، فرق بينهما بحر في التأنيث كما قيل : القربة والقربى انتهى. وقرأ الجمهور : رؤياك والرؤيا حيث وقعت بالهمز من غير إمالة. وقرأ الكسائي : بالإمالة وبغير الهمز ، وهي لغة أهل الحجاز.

وإخوة يوسف هم : كاذ ، وبنيامين ، ويهوذا ، ونفتالي ، وزبولون ، وشمعون ، وروبين ، ويقال باللام كجبريل ، وجبرين ، ويساخا ، ولاوي ، وذان ، وياشير. فيكيدوا لك : منصوب

__________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٥.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٥.

(٣) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٣٥.

(٤) سورة لقمان : ٣١ / ١٣.

٢٣٨

بإضمار أن على جواب النهي ، وعدي فيكيدوا باللام ، وفي «فكيدون» (١) بنفسه ، فاحتمل أن يكون من باب شكرت زيدا وشكرت لزيد ، واحتمل أن يكون من باب التضمين ، ضمّن فيكيدوا معنى ما يتعدى باللام ، فكأنه قال : فيحتالوا لك بالكيد ، والتضمين أبلغ لدلالته على معنى الفعلين ، وللمبالغة أكد بالمصدر. ونبه يعقوب على سبب الكيد وهو : ما يزينه الشيطان للإنسان ويسوله له ، وذلك للعداوة التي بينهما ، فهو يجتهد دائما أن يوقعه في المعاصي ويدخله فيها ويحضه عليها ، وكان يعقوب دلته رؤيا يوسف عليهما‌السلام على أنّ الله تعالى يبلغه مبلغا من الحكمة ، ويصطفيه للنبوة ، وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه ، فخاف عليه من حسد إخوته ، فنهاه من أن يقص رؤياه لهم. وفي خطاب يعقوب ليوسف تنهية عن أن يقص على إخوته مخافة كيدهم ، دلالة على تحذير المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه ، والتنبيه على بعض ما لا يليق ، ولا يكون ذلك داخلا في باب الغيبة. وكذلك يجتبيك ربك أي : مثل ذلك الاجتباء ، وهو ما أراه من تلك الرؤيا التي دلت على جليل قدره ، وشريف منصبه ، ومآله إلى النبوة والرسالة والملك. ويجتبيك : يختارك ربك للنبوة والملك. قال الحسن : للنبوة ، وقال مقاتل : للسجود لك ، وقال الزمخشري : لأمور عظام. ويعلمك من تأويل الأحاديث كلام مستأنف ليس داخلا في التشبيه ، كأنه قال : وهو يعلمك. قال مجاهد والسدي : تأويل الأحاديث عبارة الرؤيا. وقال الحسن : عواقب الأمور ، وقيل : عامة لذلك ولغيره من المغيبات ، وقال مقاتل : غرائب الرؤيا ، وقال ابن زيد : العلم والحكمة.

وقال الزمخشري : الأحاديث الرؤى ، لأن الرؤى إما حديث نفس أو ملك أو شيطان ، وتأويلها عبارتها وتفسيرها ، فكان يوسف عليه‌السلام أعبر الناس للرؤيا وأصحهم عبارة. ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسير الأنبياء ، وما غمض واشتبه على الناس في أغراضها ومقاصدها ، يفسرها لهم ويشرحها ، ويدلهم على مودعات حكمها. وسميت أحاديث لأنها تحدث بها عن الله ورسله فيقال : قال الله : وقال الرسول : كذا وكذا. ألا ترى إلى قوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٢) (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) (٣) كتابا وهي اسم جمع للحديث ، وليس بجمع أحدوثة انتهى. وليس باسم جمع كما ذكر ، بل هو

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٥٥.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٥.

(٣) سورة الزمر : ٣٩ / ٢٣.

٢٣٩

جمع تكسير لحديث على غير قياس ، كما قالوا : أباطل وأباطيل ، ولم يأت اسم جمع على هذا الوزن. وإذا كانوا يقولون في عباديد ويناذير أنهما جمعا تكسير ولم يلفظ لهما بمفرد ، فكيف لا يكون أحاديث وأباطيل جمعي تكسير؟.

ويتم نعمته عليك ، وإتمامها بأنه تعالى وصل لهم نعمة الدنيا بأن جعلهم أنبياء وملوكا ، بنعمة الآخرة بأن نقلهم إلى أعلى الدرجات في الجنة. وقال مقاتل : بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك ، وقال الحسن : هذا شيء أعلمه الله يعقوب من أنه سيعطي يوسف النبوّة. وقيل : بأن يحوج إخوتك إليك ، فتقابل الذنب بالغفران ، والإساءة بالإحسان. وقيل : بإنجائك من كل مكروه. وآل يعقوب الظاهر أنهم أولاده ونسلهم أي : نجعل النبوة فيهم. وقال الزمخشري : هم نسلهم وغيرهم. وقيل : أهل دينه وأتباعهم ، كما جاء في الحديث : من آلك؟ فقال : «كل تقي» وقيل : امرأته وأولاده الأحد عشر. وقيل : المراد يعقوب نفسه خاصة. وإتمام النعمة على إبراهيم بالخلة ، والإنجاء من النار ، وإهلاك عدوه نمروذ. وعلى إسحاق بإخراج يعقوب والأسباط من صلبه. وسمي الجد وأبا الجد أبوين ، لأنهما في عمود النسب كما قال : (وَإِلهَ آبائِكَ) (١) ولهذا يقولون : ابن فلان ، وإن كان بينهما عدة في عمود النسب. إن ربك عليم بمن يستحق الاجتباء ، حكيم يضع الأشياء مواضعها. وهذان الوصفان مناسبان لهذا الوعد الذي وعده يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام في قوله : وكذلك يجتبيك ربك قيل : وعلم يعقوب عليه‌السلام ذلك من دعوة إسحاق عليه‌السلام حين تشبه له بعيصو.

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) : آيات أي : علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء للسائلين لمن سأل عنهم وعرف قصتهم. وقيل : آيات على نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للذين سألوه من اليهود عنها ، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد ، ولا قراءة كتاب. والذي يظهر أن الآيات الدلالات على صدق الرسول وعلى ما أظهر الله في قصة يوسف من عواقب البغي عليه ، وصدق رؤياه ، وصحة تأويله ، وضبط نفسه وقهرها حتى قام بحق الأمانة ، وحدوث السرور بعد اليأس. وقيل : المعنى لمن سأل ولمن لم يسأل لقوله :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٣٣.

٢٤٠