البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

وحديث بعث نوح عليه‌السلام الغراب والحمامة ليأتياه بخبر كمال الغرق الله أعلم بما كان من ذلك.

وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة على الجودي بسكون الياء مخففة. قال ابن عطية : وهما لغتان ، وقال صاحب اللوامح : هو تخفيف ياءي النسب ، وهذا التخفيف بابه الشعر لشذوذه ، والظاهر أن قوله : وقيل بعدا من قول الله تعالى كالأفعال السابقة ، وبنى الجميع للمفعول للعلم بالفاعل ، وقيل : من قول نوح والمؤمنين ، قيل : ويحتمل أن يكون من قول الملائكة ، قيل : ويحتمل أن يكون ذلك عبارة عن بلوغ الأمر ذلك المبلغ وإن لم يكن ، ثم قول محسوس. ومعنى بعدا هلاكا يقال : بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك ، واللام في للقوم من صلة المصدر. وقيل : تتعلق بقوله : وقيل ، والتقدير وقيل لأجل الظالمين ، إذ لا يمكن أن يخاطب الهالك إلا على سبيل المجاز. ومعنى ونادى نوح ربه أي : أراد أن يناديه ، ولذلك أدخل الفاء ، إذ لو كان أراد حقيقة النداء والإخبار عن وقوعه منه لم تدخل الفاء في فقال ، ولسقطت كما لم تدخل في قوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِ) (١) والواو في هذه الجملة لا ترتب أيضا ، وذلك أن هذه القصة كانت أول ما ركب نوح السفينة ، ويظهر من كلام الطبري أن ذلك من بعد غرق الابن. وفي قوله : إن ابني من أهلي ، ظهور أنه ولده لصلبه. ومعنى من أهلي أي : الذي أمرت أن أحملهم في السفينة لقوله : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) (٢) ولم يظن أنه داخل فيمن استثناه الله بقوله : إلا من سبق عليه القول منهم لظنه أنه مؤمن وعموم قوله : ومن آمن يشمل من آمن من أهله ومن غير أهله ، وحسن الخطاب بقوله : وإن وعدك الحق ، أي الوعد الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به ، وقد وعدتني أن تنجي أهلي ، وأنت أعلم الحكام وأعدلهم.

قال الزمخشري : ويجوز أن تكون من الحكمة حاكم بمعنى النسبة ، كما يقال : دارع من الدرع ، وحائض وطالق على مذهب الخليل انتهى. ومعنى ليس من أهلك على قول من قال : إنه ابنه لصلبه أي الناجين ، أو الذين عمهم الوعد. ومن زعم أنه ربيبه فهو ليس من أهله حقيقة ، إذ لا نسبة بينه وبينه بولادة ، فعلى هذا نفى ما قدّر أنه داخل في قوله : وأهلك ، ثم علل انتفاء كونه ليس من أهله بأنه عمل غير صالح. والظاهر أنّ الضمير في أنه عائد على ابن نوح لا على النداء المفهوم من قوله : ونادى المتضمن سؤال ربه ، وجعله

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٣.

(٢) سورة هود : ١١ / ٤٠.

١٦١

نفس العمل مبالغة في ذمه كما قال : فإنما هي إقبال وإدبار ، هذا على قراءة جمهور السبعة. وقرأ الكسائي : عمل غير صالح جعله فعلا ناصبا غير صالح ، وهي قراءة : علي ، وأنس ، وابن عباس ، وعائشة ، وروتها عائشة وأم سلمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا يرجح أن الضمير يعود على ابن نوح. قيل : ويرجح كون الضمير في أنه عائد على نداء نوح المتضمن السؤال أنّ في مصحف ابن مسعود أنه عمل غير صالح إن تسألني ما ليس لك به علم. وقيل : يعود على الضمير في هذه القراءة على ركوب ولد نوح معهم الذي تضمنه سؤال نوح المعنى : أن كونه مع الكافرين وتركه الركوب مع المؤمنين عمل غير صالح ، وكون الضمير في إنه عائدا على غير ابن نوح عليه‌السلام تكلف وتعسف لا يليق بالقرآن. قال الزمخشري : (فإن قلت) : فهلا قيل إنه عمل فاسد؟ (قلت) : لما نفاه من أهله نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستنفي معها لفظ المنفي وأذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله بصلاحهم ، لا لأنهم أهلك وأقاربك ، وإن هذا لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوّتك. وقرأ الصاحبان : تسألنّ بتشديد النون مكسورة ، وقرأ أبو جعفر وشيبة وزيد بن علي كذلك ، إلا أنهم أثبتوا الياء بعد النون ، وابن كثير بتشديدها مفتوحة وهي قراءة ابن عباس. وقرأ الحسن وابن أبي مليكة : تسألني من غير همز ، من سال يسال ، وهما يتساولان ، وهي لغة سائرة. وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها ، وأثبت الياء في الوصل ورش وأبو عمرو ، وحذفها الباقون. قال الزمخشري : فلا تلتمس ملتمسا ، أو التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب حتى تقف على كنهه ، وذكر المسألة دليل على أنّ النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه. (فإن قلت) : لم سمى نداءه سؤالا ولا سؤال فيه؟ (قلت) : قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به ، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة الغرق فقد استنجز ، وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلا وغباوة ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين. (فإن قلت) : قد وعد الله أن ينجي أهله ، وما كان عنده أنّ ابنه ليس منهم دينا ، فلما أشفي على الغرق تشابه عليه الأمر ، لأنّ العدة قد سبقت له ، وقد عرف الله حكيما لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد ، فطلب إماطة الشبهة وطلب إماطة الشبهة واجب ، فلم زجر وجعل سؤاله جهلا؟ (قلت) : إن الله عزوجل قدم له الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم ، فكان عليه أن يعتقد أن في جملة أهله من هو مستوجب العذاب لكونه غير صالح ، وأن كلهم ليسوا بناجين ، وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم ، فعوتب

١٦٢

على أن اشتبه عليه ما يجب بما يجب أن لا يشتبه. وقال ابن عطية : معنى قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم ، أي إذ وعدتك فاعلم يقينا أنه لا خلف في الوعد ، فإذا رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أنّ ذلك لحق واجب عند الله ، ولكنّ نوحا عليه‌السلام حملته شفقة البنوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير ، وعلى هذا القدر وقع عقابه ، ولذلك جاء بتلطف وترج في قوله : إني أعظك أن تكون من الجاهلين. ويحتمل قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم ، أي : لا تطلب مني أمرا لا تعلم المصلحة فيه علم يقين ، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي وقال : إن به يجوز أن يتعلق بلفظ عام كما قال الشاعر :

كأن جزائي بالعصا أن أجلدا

ويجوز أن يكون به بمنزلة فيه ، فتتعلق الباء بالمستقر. واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي ، والمعنى في الآية واحد. وذكر الطبري عن ابن زيد تأويلا في قوله : إني أعظك أن تكون من الجاهلين لا يناسب النبوة تركناه ، ويوقف عليه في تفسير ابن عطية. وقيل : سأل نوح ربه حين صار عنه ابنه بمعزل ، وقيل : قبل أن عرف هلاكه ، وقيل : بعد أن عرف هلاكه سأل الله له المغفرة. أن أسألك من أن أطلب في المستقبل ما لا علم لي بصحته تأديبا بأدبك ، واتعاظا بموعظتك ، وهذه إنابة من نوح عليه‌السلام وتسليم لأمر الله. قال ابن عطية : والسؤال الذي وقع النهي عنه والاستعاذة والاستغفار منه هو سؤال العزم الذي معه محاجة ، وطلبه ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه. وأما السؤال في الأمور على جهة التعلم والاسترشاد فغير داخل في هذا ، وظاهر قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم ، يعم النحوين من السؤال ، ولذلك نبهت على أنّ المراد أحدهما دون الآخر ، والخاسرون هم المغبونون حظوظهم من الخير انتهى. ونسب نوح النقص والذنب إلى نفسه تأدبا مع ربه فقال : وإلا تغفر لي ، أي ما فرط من سؤالي وترحمني بفضلك ، وهذا كما قال آدم عليه‌السلام.

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ. تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) : بني الفعل للمفعول ، فقيل : القائل هو الله تعالى ، وقيل : الملائكة تبليغا عن الله تعالى. والظاهر الأول لقوله : منا ، وسنمتعهم. أمر عند نزوله بالهبوط من السفينة ومن الجبل مع أصحابه للانتشار في الأرض ، والباء للحال أي :

١٦٣

مصحوبا بسلامة وأمن وبركات ، وهي الخيرات النامية في كل الجهات. ويجوز أن تكون اللام بمعنى التسليم أي : اهبط مسلما عليك مكرما. وقرىء اهبط بضم الباء ، وحكى عبد العزيز بن يحيى وبركة على التوحيد عن الكسائي وبشر بالسلامة إيذانا له بمغفرة ربه له ورحمته إياه ، وبإقامته في الأرض آمنا من الآفات الدنيوية ، إذ كانت الأرض قد خلت مما ينتفع به من النبات والحيوان ، فكان ذلك تبشيرا له بعود الأرض إلى أحسن حالها ، ولذلك قال : وبركات عليك أي دائمة باقية عليك. والظاهر أنّ من لابتداء الغاية أي : ناشئة من الذين معك ، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر. قال الزمخشري : ويحتمل أن تكون من للبيان فتراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات. وقيل لهم : أمم ، لأنّ الأمم تشعبت منهم انتهى. وهذا فيه بعد تكلف ، إذ يصير التقدير : وعلى أمم هم من معك ، ولو أريد هذا المعنى لا غنى عنه ، وعلى أمم معك أو على من معك ، فكان يكون أخضر وأقرب إلى الفهم ، وأبعد عن اللبس. وارتفع أمم على الابتداء. قال الزمخشري : وسنمتعهم صفة ، والخبر محذوف تقديره وممن معك أمم سنمتعهم ، وإنما حذف لأن قوله : ممن معك ، يدل عليه ، والمعنى : أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك ، وأمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار انتهى. ويجوز أن يكون أمم مبتدأ ، ومحذوف الصفة وهي المسوغة لجواز الابتداء بالنكرة ، والتقدير : وأمم منهم أي ممن معك ، أي ناشئة ممن معك ، وسنمتعهم هو الخبر كما قالوا : السمن منوان بدرهم ، أي منوان منه ، فحذف منه وهو صفة لمنوان ، ولذلك جاز الابتداء بمنوان وهو نكرة. ويجوز أن يقدر مبتدأ ولا يقدر صفة الخبر سنمتعهم ، ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل ، فكان مثل قول الشاعر :

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له

بشق وشق عندنا لم يحول

وقال القرطبي : ارتفعت وأمم على معنى : ويكون أمم انتهى. فإن كان أراد تفسير معنى فحسن ، وإن أراد الإعراب ليس بجيد ، لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون ، وقال الأخفش : هذا كما تقول : كلمت زيدا وعمرو جالس انتهى. فاحتمل أن يكون من باب عطف الجمل ، واحتمل أن تكون الواو للحال ، وتكون حالا مقدرة لأنه وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة. وقال أبو البقاء : وأمم معطوف على الضمير في اهبط تقديره : اهبط أنت وأمم ، وكان الفصل بينهما مغنيا عن التأكيد ، وسنمتعهم نعت لأمم انتهى. وهذا التقدير والمعنى لا يصلحان ، لأنّ الذين كانوا مع نوح في السفينة إنما كانوا مؤمنين لقوله : ومن آمن ، ولم يكونوا قسمين كفارا ومؤمنين ، فتكون الكفار مأمورين بالهبوط مع نوح ، إلا

١٦٤

إن قدر أن من أولئك المؤمنين من يكفر بعد الهبوط ، وأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها فيمكن على بعد ، والذي ينبغي أن يفهم من الآية أنّ من معه ينشأ منهم مؤمنون وكافرون ، ونبه على الإيمان بأن المتصفين به من الله عليهم سلام وبركة ، وعلى الكفر بأن المتصفين به يمتعون في الدنيا ثم يعذبون في الآخرة ، وذلك من باب الكناية كقولهم : فلان طويل النجاد كثير الرماد. وظاهر قوله : ممن معك يدل على أنّ المؤمنين والكافرين نشأوا ممن معه ، والذين كانوا معه في السفينة إن كانوا أولاده الثلاثة فقط ، أو معهم نساؤهم ، انتظم قول المفسرين أنّ نوحا عليه‌السلام هو أبو الخلق كلهم ، وسمي آدم الأصغر لذلك. وإن كانوا أولاده وغيرهم على الاختلاف في العدد ، فإن كان غير أولاده مات ولم ينسل صح أنه أبو البشر بعد آدم ، ولم يصح أنه نشأ ممن معه مؤمن وكافر ، إلا إن أريد بالذين معه أولاده ، فيكون من إطلاق العام ويراد به الخاص. وإن كانوا نسلوا كما عليه أكثر المفسرين فلا ينتظم أنه أبو البشر بعد آدم بل الخلق بعد الطوفان منه ، وممن كان معه في السفينة والأمم الممتعة ليسوا معينين ، بل هم عبارة عن الكفار. وقيل : هم قوم هود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، عليهم الصلاة والسلام.

تلك إشارة إلى قصة نوح ، وتقدمت أعاريب في مثل هذا التركيب في قوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) (١) في آل عمران ، وتلك إشارة للبعيد ، لأنّ بين هذه القصة والرسول مددا لا تحصى. وقيل : الإشارة بتلك إلى آيات القرآن ، ومن أنباء الغيب وهو الذي تقادم عهده ولم يبق علمه إلا عند الله ، ونوحيها إليك ليكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء ، ولم يكن علمها عندك ولا عند قومك ، وأعلمناهم بها ليكون مثالا لهم وتحذيرا أن يصيبهم إذا كذبوك ما أصاب أولئك ، وللحظ هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله : فاصبر على أذاهم مجتهدا في التبليغ عن الله ، فالعاقبة لك كما كانت لنوح في هذه القصة. ومعنى ما كنت تعلمها : أي مفصلة كما سردناها عليك ، وعلم الطوفان كان معلوما عند العالم على سبيل الإجمال ، والمجوس الآن ينكرونه. والجملة من قوله : ما كنت في موضع الحال من مفعول نوحيها ، أو من مجرور إليك ، وقدرها الزمخشري تقدير معنى فقال : أي مجهولة عندك وعند قومك ، ويحتمل أن يكون خبرا بعد خبر ، والإشارة بقوله : من قبل هذا إلى الوقت أو إلى الإيحاء أو إلى العلم الذي اكتسبه بالوحي احتمالات ، وفي مصحف ابن

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٤٤.

١٦٥

مسعود من قبل هذا القرآن. وقال الزمخشري : ولا قومك معناه : أن قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم ، ولا سمعوه ولا عرفوه ، فكيف برجل منهم كما تقول : لم يعرف هذا عبد الله ولا أهل بلده؟.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) : وإلى عاد أخاهم معطوف على قوله : أرسلنا نوحا إلى قومه ، عطف الواو المجرور على المجرور ، والمنصوب على المنصوب ، كما يعطف المرفوع والمنصوب على المرفوع والمنصوب نحو : ضرب زيد عمرا ، وبكر خالدا ، وليس من باب الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف والمعطوف نحو : ضربت زيدا ، وفي البيت عمرا ، فيجيء منه الخلاف الذي بين النحويين : هل يجوز في الكلام ، أو يختص بالشعر؟ وتقدير الكلام في هود وعاد وأخوته منهم في الأعراف ، وقراءة الكسائي غيره بالخفض ، وقيل : ثم فعل محذوف أي : وأرسلنا إلى عاد أخاهم ، فيكون إذ ذاك من عطف الجمل ، والأول من عطف المفردات ، وهذا أقرب لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المتعاطفين. وهودا بدل أو عطف بيان. وقرأ محيصن : يا قوم بضم الميم كقراءة حفص : قل رب احكم بالحق بالضم ، وهي لغة في المنادى المضاف حكاها سيبويه وغيره ، وافتراؤهم قال الحسن : في جعلهم الألوهية لغير الله تعالى. وقال الزمخشري : باتخاذكم الأوثان له شركاء. والضمير في عليه عائد على الدعاء إلى الله ، ونبه بقوله : الذي فطرني ، على الرد عليهم في عبادتهم الأصنام ، واعتقادهم أنها تفعل ، وكونه تعالى هو الفاطر للموجودات يستحق إفراده بالعبادة. وأفلا تعقلون توقيف على استحالة الألوهية لغير الفاطر ، ويحتمل أن يكون أفلا تعقلون راجعا إلى أنه إذا لم أطلب عرضا منكم ، وإنما أريد نفعكم فيجب انقيادكم لما فيه نجاتكم ، كأنه قيل : أفلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجرا إلا من الله تعالى ، وهو ثواب الآخرة ، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك. وتقدّم الكلام في (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) (١) أول هذه السورة قصد هود استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوة ، لأنهم كانوا أصحاب زورع وبساتين وعمارات حراصا عليها أشد الحرص ، فكانوا أحوج شيء إلى الماء ، وكانوا مدلين بما أوتوا من هذه القوة والبطش والبأس مهيئين في كل ناحية.

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٣ ، ٥٢.

١٦٦

وقيل : أراد القوة في المال ، وقيل : في النكاح. قيل : وحبس عنهم المطر ثلاث سنين ، وعقمت أرحام نسائهم. وقد انتزع الحسن بن علي رضي‌الله‌عنه من هذا ومن قوله : ويمددكم بأموال وبنين ، أن كثرة الاستغفار قد يجعله الله سببا لكثرة الولد. وأجاب من سأله وأخبره أنه ذو مال ولا يولد له بالاستغفار ، فأكثر من ذلك فولد له عشر بنين. وروى أبو صالح عن ابن عباس في قوله : ويزدكم قوة إلى قوتكم ، أنه الولد وولد الولد. وقال مجاهد وابن زيد : في الجسم والبأس ، وقال الضحاك : خصبا إلى خصبكم ، وقيل : نعمة إلى نعمته الأولى عليكم ، وقيل : قوة في إيمانكم إلى قوة في أبدانكم.

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) : ببينة أو بحجة واضحة تدل على صدقك ، وقد كذبوا في ذلك وبهتوه كما كذبت قريش في قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) (١) وقد جاءهم بآيات كثيرة ، أو لعمائهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات اعتقدوا ما هو آية ليس بآية فقالوا : ما جئتنا ببينة تلجئنا إلى الإيمان ، وإلا فهود وغيره من الأنبياء لهم معجزات وإن لم يعين لنا بعضها. ألا ترى إلى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» وعن في عن قولك حال من الضمير في تاركي آلهتنا ، كأنه قيل : صادرين عن قولك ، قاله الزمخشري. وقيل : عن للتعليل كقوله تعالى : (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) (٢) فتتعلق بتاركي ، كأنه قيل لقولك ، وقد أشار إلى التعليل والسبب فيها ابن عطية ، فقال : أي لا يكون قولك سببا لتركنا ، إذ هو مجرد عن آية ، والجملة بعدها تأكيد وتقنيط له من دخولهم في دينه ، ثم نسبوا ما صدر منه من دعائهم إلى الله وإفراده بالألوهية إلى الخبل والجنون ، وأن ذلك مما اعتراه به بعض آلهتهم لكونه سبها وحرض على تركها ودعا إلى ترك عبادتها ، فجعلته يتكلم مكافأة بما يتكلم به المجانين ، كما قالت قريش : معلم مجنون (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) (٣) واعتراك جملة محكية

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٢٠.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ١١٤.

(٣) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٧٠.

١٦٧

بنقول ، فهي في موضع المفعول ، ودلت على بله شديد وجهل مفرط ، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم. وقول هود لهم في جواب ذلك : إني أشهد الله إلى آخره ، حيث تبرأ من آلهتهم ، وحرضهم كلهم مع انفراده وحده على كيده بما يشاؤون ، وعدم تأخره من أعظم الآيات على صدقه وثقته بموعود ربه من النصر له ، والتأييد والعصمة من أن ينالوه بمكروه ، هذا وهم حريصون على قتله يرمونه عن قوس واحدة. ومثله قول نوح لقومه : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) (١) وأكد براءته من آلهتهم وشركهم ، ووقفها بما جرت عليه عادة الناس من توثيقهم الأمر بشهادة الله وشهادة العباد.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : هلا قيل : إني أشهد الله وأشهدكم (قلت) : لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد ، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب ، فعدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما ، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة انتهى. وإني بريء تنازع فيه أشهد واشهدوا ، وقد يتنازع المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحا لأن يعملا فيه تقول : أعطيت زيدا ووهبت لعمر ودينارا ، كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو : قام وضربت زيدا. وما في ما تشركون موصولة ، إما مصدرية ، وإما بمعنى الذي أي : بريء من إشراككم آلهة من دونه ، أو من الذين تشركون ، وجميعا حال من ضمير كيدوني الفاعل ، والخطاب إنما هو لقومه. وقال الزمخشري : أنتم وآلهتكم انتهى. قيل : ومجاهرة هود عليه‌السلام لهم بالبراءة من أديانهم ، وحضه إياهم على كيده هم وأصنامهم معجزة لهود ، أو حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكثرتهم ، فلم يقدروا على نيله بسوء ، ثم ذكر توكله على الله معلما أنه ربه وربهم ، ومنبها على أنه من حيث هو ربكم يجب عليكم أن لا تعبدوا إلا إياه ، ومفوضا أمره إليه تعالى ثقة بحفظه وانجاز موعوده ، ثم وصف قدرة الله تعالى وعظيم ملكه من كون كل دابة في قبضته وملكه وتحت قهره وسلطانه ، فأنتم من جملة أولئك المقهورين. وقوله : آخذ بناصيتها تمثيل ، إذ كان القادر المالك يقود المقدور عليه بناصيته ، كما يقاد الأسير والفرس بناصيته ، حتى صار الأخذ بالناصية عرفا في القدرة على الحيوان ، وكانت العرب تجز ناصية الأسير الممنون عليه علامة أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته. قال ابن جريج : وخص الناصية لأن العرب إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع قالت : ما ناصية فلان إلا بيد

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٧١.

١٦٨

فلان ، أي أنه مطيع له يصرفه كيف يشاء. ثم أخبر أنّ أفعاله تعالى في غاية الإحكام ، وعلى طريق الحق والعدل في ملكه ، لا يفوته ظالم ولا يضيع عنده من توكل عليه ، قوله الصدق ، ووعده الحق.

وقرأ الجمهور : فإن تولوا أي تتولوا مضارع تولى. وقرأ الأعرج وعيسى الثقفي : تولوا بضم التاء واللام مضارع ولّى ، وقيل : تولوا ماض ويحتاج في الجواب إلى إضمار قول ، أي : فقل لهم قد أبلغتكم ، ولا حاجة تدعو إلى جعله ماضيا وإضمار القول. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون تولوا فعلا ماضيا ، ويكون في الكلام رجوع من غيبة إلى خطاب أي : فقد أبلغتكم انتهى. فلا يحتاج إلى إضمار ، والظاهر أنّ الضمير في تولوا عائد على قوم هود ، وخطاب لهم من تمام الجمل المقولة قبل. وقال التبريزي : هو عائد على كفار قريش ، وهو من تلوين الخطاب ، انتقل من خطاب قوم هود إلى الإخبار عمن بحضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكأنه قيل : أخبرهم عن قصة قوم هود ، وادعهم إلى الإيمان بالله لئلا يصيبهم كما أصاب قوم هود ، فإن تولوا فقل لهم : قد أبلغتكم. وجواب الشرط هو قوله : فقد أبلغتكم ، وصح أن يكون جوابا ، لأن في إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل ، فكأنه قيل : فإن تتولوا استؤصلتم بالعذاب. ويدل على ذلك الجملة الخبرية وهي قوله : ويستخلف ربي قوما غيركم.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : الإبلاغ كان قبل التولي ، فكيف وقع جزاء للشرط؟ (قلت) : معناه فإن تولوا لم أعاقب على تفريط في الإبلاغ ، فإنّ ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول. وقال ابن عطية : المعنى أنه ما عليّ كبيرهم منكم إن توليتم فقد برئت ساحتي بالتبليغ ، وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان. وقرأ الجمهور : ويستخلف بضم الفاء على معنى الخبر المستأنف أي : يهلككم ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم. وقرأ حفص في رواية هبيرة : بجزمها عطفا على موضع الجزاء ، وقرأ عبد الله كذلك ، وبجزم ولا تضروه ، وقرأ الجمهور : ولا تضرونه أي شيئا من الضرر بتوليتكم ، لأنه تعالى لا تجوز عليه المضار والمنافع. قال ابن عطية : يحتمل من المعنى وجهين : أحدهما : ولا تضرونه بذهابكم وهلاككم شيئا أي : لا ينقص ملكه ، ولا يختل أمره ، وعلى هذا المعنى قرأ عبد الله بن مسعود ولا تنقصونه شيئا. والمعنى الآخر : ولا تضرونه أي : ولا تقدرون إذا أهلككم على إضراره بشيء ، ولا

١٦٩

على انتصار منه ، ولا تقابلون فعله بشيء يضره انتهى. وهذا فعل منفي ومدلوله نكرة ، فينتفي جميع وجوه الضرر ، ولا يتعين واحد منها. ومعنى حفيظ رقيب محيط بالأشياء علما لا يخفى عليه أعمالكم ، ولا يغفل عن مؤاخذتكم ، وهو يحفظني مما تكيدونني به.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) : الأمر واحد الأمور ، فيكون كناية عن العذاب ، أو عن القضاء بهلاكهم. أو مصدر أمر أي أمرنا للريح أو لخزنتها. والذين آمنوا معه قيل : كانوا أربعة آلاف ، وقيل : ثلاثة آلاف. والظاهر تعلق برحمة منا بقوله : نجينا أي ، نجيناهم بمجرد رحمة من الله لحقتهم ، لا بأعمالهم الصالحة. أو كنى بالرحمة عن أعمالهم الصالحة ، إذ توفيقهم لها إنما هو بسبب رحمته تعالى إياهم. ويحتمل أن يكون متعلقا بآمنوا أي : أنّ إيمانهم بالله وبتصديق رسوله إنما هو برحمة الله تعالى إياهم ، إذ وفقهم لذلك. وتكررت التنجية على سبيل التوكيد ، ولقلق من لو لا صقت منا فأعيدت التنجية وهي الأولى ، أو تكون هذه التنجية هي من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه ، فأعيدت لأجل اختلاف متعلقيها.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : فما معنى تكرير التنجية؟ (قلت) : ذكر أولا أنه حين أهلك عدوهم نجاهم ثم قال : ونجيناهم من عذاب غليظ على معنى ، وكانت التنجية من عذاب غليظ قال : وذلك أن الله عز وعلا بعث عليهم السموم ، فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم وتقطعهم عضوا عضوا انتهى ، وهذا قاله الزجاج. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد ، وكانت النجاة المتقدمة من عذاب غليظ يريد الريح ، فيكون المقصود على هذا تعديد النعمة ، والمشهور في عذابهم بالريح أنها كانت تحملهم وتهدم مساكنهم وتنسفها ، وتحمل الظعينة (١) كما هي ، ونحو هذا. وتلك عاد إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) فانظروا إليها واعتبروا ، ثم استأنف الإخبار عنهم فقال : جحدوا بآيات ربهم أي : أنكروها. وأضاف الآيات إلى ربهم تنبيها على أنه مالكهم ومربيهم ، فأنكروا آياته ، والواجب إقرارهم بها. وأصل جحد أن يتعدى بنفسه ، لكنه أجرى مجرى كفر فعدى بالباء ، كما عدى كفر بنفسه في قوله : ألا إن عادا كفروا ربهم ، إجراء له مجرى

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٢.

١٧٠

جحد. وقيل : كفر كشكر يتعدى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جر. وعصوا رسله ، قيل : عصوا هودا والرسل الذين كانوا من قبله ، وقيل : ينزل تكذيب الرسول الواحد منزلة تكذيب الرسل ، لأنهم كلهم مجمعون على الإيمان بالله والإقرار بربوبيته كقوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (١) وأتبعوا أي : اتبع سقاطهم أمر رؤسائهم وكبرائهم ، والمعنى : أنهم أطاعوهم فيما أمروهم به. قال الكلبي : الجبار هو الذي يقتل على الغضب ، ويعاقب على المعصية ، وقال الزجاج : هو الذي يجبر الناس على ما يريد. وذكر ابن الأنباري : أنه العظيم في نفسه ، المتكبر على العباد. والظاهر أن قوله : واتبعوا عام في جميع عاد. وقال الزمخشري : لما كانوا تابعين له دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب الله انتهى. فظاهر كلامه يدل على أن اللعنة مختصة بالتابعين للرؤساء ، ونبه على علة اتباع اللعنة لهم في الدارين بأنهم كفروا ربهم ، فالكفر هو الموجب للعنة. ثم كرر التنبيه بقوله : ألا في الدعاء عليهم تهويلا لأمرهم ، وتفظيعا له ، وبعثا على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم. وفائدة قوله : قوم هود مزيد التأكيد للمبالغة في التنصيص ، أو تعيين عاد هذه من عاد ارم ، لأن عادا اثنان ولذلك قال تعالى : وأنه أهلك عادا الأولى ، فتحقق أن الدعاء على عاد هذه ، ولم تلتبس بغيرها.

وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا

١٧١

وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨) وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)

الصيحة : فعلة للمرة الواحدة من الصياح ، يقال : صاح يصيح إذا صوت بقوة.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٥.

١٧٢

حنذت الشاة أحنذها حنذا شويتها ، وجعلت فوقها حجارة لتنضجها فهي حنيذ ، وحنذت الفرس أحضرته شوطا أو شوطين ثم ظاهرت عليه الجلال في الشمس ليعرق. أو جس الرجل قال الأخفش : خامر قلبه ، وقال الفراء : استشعر ، وقيل : أحس. والوجيس ما يعتري النفس عند أوائل الفزع ، ووجس في نفسه كذا خطر بها يجس وجسا ووجوسا وتوجس تسمع وتحسس. قال :

وصادقتا سمع التوجس للسرى

لهجس خفي أو لصوت مندد

الضحك معروف ، وكان ينبغي أن يذكر في سورة التوبة في قوله : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) (١) ويقال : ضحك بفتح الحاء ، والضحكة الكثير الضحك ، والضحكة المضحوك منه ، ويقال : ضحكت الأرنب أي حاضت ، وأنكر أبو عبيدة والفراء وأبو عبيد : ضحك بمعنى حاض ، وعرف ذلك غيرهم ، وقال الشاعر أنشده اللغويون :

وضحك الأرانب فوق الصفا

كمثل دم الجوف يوم اللقا

وقال آخر :

وعهدي بسلمى ضاحكا في لبانة

ولم يعد حقا ثديها أن يحلما

أي حائضا في لبانة ، واللبانة والعلاقة والشوذر واحد. ومنه ضحكت الكافورة إذا انشقت ، وضحكت الشجرة سال منها صمغها وهو شبه الدم ، وضحك الحوض امتلأ وفاض.

الشيخ : معروف ، والفعل شاخ يشيخ ، وقد يقال للأنثى : شيخة. قال :

وتضحك مني شيخة عبشمية

ويجمع على أشياخ وشيوخ وشيخان ، ومن أسماء الجموع مشيخه ومشيوخاء. المجيد قال ابن الأعرابي : الرفيع. يقال : مجد يمجد مجدا ومجادة ومجد ، لغتان أي كرم وشرف ، وأصله من قولهم : مجدت الإبل تمجد مجدا شبعت. وقال : أمجدت الدابة أكثرت علفها ، وقال أبو حية النميري :

تزبد على صواحبها وليست

بماجدة الطعام ولا الشراب

أي : ليست بكثيرة الطعام ولا الشراب. وقال الليث : أمجد فلان عطاءه ومجده إذا كثره ،

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٨٢.

١٧٣

ومن أمثالهم «في كل شجر نار» واستمجد المرخ والعفار أي استكثر من النار. وقال ابن عطية : مجد الشيء إذا حسنت أوصافه. الروع : الفزع قال الشاعر :

إذا أخذتها هزة الروع أمسكت

بمنكب مقدام على الهول أروعا

والفعل راع يروع قال :

ما راعني إلا حمولة أهلها

وسط الديار نسف حب الخمخم

وقال النابغة :

فارتاع من صوت كلاب فبات له

طوع الشوامت من خوف ومن صرد

والروع بضم الراء النفس ، لأنها موضع الروع. الذرع مصدر ذرع البعير بيديه في سيره إذا سار على قدر خطوه ، مأخوذ من الذراع ، ثم وضع موضع الطاقة فقيل : ضاق به ذرعا. وقد يجعلون الذراع موضع الذرع قال :

إليك إليك ضاق بها ذرعا

وقيل : كنى بذلك عن ضيق الصدر. العصيب والعصبصب والعصوصب الشديد اللازم ، الشر الملتف بعضه ببعض قال :

وكنت لزاز خصمك لم أعدد

وقد سلكوك في يوم عصيب

قال أبو عبيدة : سمى عصيبا لأنه يعصب الناس بالشر ، والعصبة والعصابة الجماعة المجتمعة كلمتهم ، أو المجتمعون في النسب. وتعصبت لفلان وفلان معصوب أي : مجتمع الخلق. الإهراع : قال شمر مشي بين الهرولة والجمز. وقال الهروي : هرع الرجل وأهرع استحث. الضيف : مصدر ، وإذا أخبر به أو وصف لم يطابق في تثنية ولا جمع ، هذا المشهور. وسمع فيه ضيوف وأضياف وضيفان. الركن : معروف وهو الناحية من البيت ، أو الجبل. ويقال : ركن بضم الكاف ، ويجمع على أركان وأركن. وركنت إلى فلان انضويت إليه. سرى وأسرى بمعنى واحد قاله أبو عبيدة والأزهري ، وعن الليث سرى سار أول الليل ، وسرى سار آخره ، ولا يقال في النهار إلا سار. السجيل والسجين الشديد من الحجر قاله أبو عبيدة. وقال الفراء : طين طبخ حتى صار بمنزلة الآجر. وقيل : هو فارسي ، وسنك الحجر ، وكل الطين يعرب فقيل : سجين. المنضود : المجعول بعضه فوق بعض.

١٧٤

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ. قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) : قرأ ابن وثاب والأعمش : وإلى ثمود بالصرف على إرادة الحي ، والجمهور على منع الصرف ذهابا إلى القبيلة. أنشأكم : اخترعكم وأوجدكم ، وذلك باختراع آدم أصلهم ، فكان إنشاء الأصل إنشاء للفرع. وقيل : من الأرض باعتبار الأصل المتولد منه النبات ، المتولد منه الغذاء ، المتولد منه المني ودم الطمث ، المتولد منهما الإنسان. وقيل : من بمعنى في واستعمركم جعلكم عمارا ، وقيل : استعمركم من العمر أي : استبقاكم فيها قاله الضحاك أي ، أطال أعماركم. وقيل : من العمرى ، قاله مجاهد. فيكون استعمر في معنى أعمر ، كاستهلكه في معنى أهلكه. والمعنى : أعمركم فيها دياركم ، ثم هو وارثها منكم. أو بمعنى : جعلكم معمرين دياركم فيها ، لأنّ من ورث داره من بعده فإنه أعمره إياها ، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره. وقال زيد بن أسلم : استعمركم أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وغرس أشجار. وقيل : ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها. إن ربي قريب أي : داني الرحمة ، مجيب لمن دعاه. قد كنت فينا مرجوا. قال كعب : كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم ، لأنه كان ذا حسب وثروة. وعن ابن عباس : فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا. وقال مقاتل : كانوا يرجون رجوعه إلى دينهم ، إذ كان يبغض أصنامهم ، ويعدل عن دينهم ، فلما أظهر إنذارهم انقطع رجاؤهم منه. وذكر الماوردي يرجون خيره ، فلما أنذرهم انقطع رجاؤه خيره. وبسط الزمخشري هذا القول فقال : فينا فيما بيننا مرجوا كانت تلوح فيك مخايل الخير وجمارات الرشد ، فكنا نرجوك لننتفع بك ، وتكون مشاورا في الأمور مسترشدا في التدابير ، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك ، وعلمنا أن لا خير فيك انتهى. وقيل : لما كان قوى الخاطر ، وكان من قبيلتهم ، قوي رجاؤهم في أن ينصر دينهم ويقوي مذهبهم. وقال ابن عطية : والظاهر الذي حكاه الجمهور أن قوله : مرجوا مشورا ، نؤمل فيك أن تكون سيدا سادّا مسدّ الأكابر ، ثم قرروه على التوبيخ في زعمهم بقولهم : أتنهانا. وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال : معناه حقيرا ، فأما أن يكون لفظ مرجو بمعنى حقير ، فليس ذلك في كلام العرب ، وإنما يتجه ذلك على جهة التفسير للمعنى ، وذلك أنّ القصد بقولهم : مرجوا بقول : لقد كنت فينا سهلا مرامك ، قريبا رد أمرك ممن لا يظن أن يستعجل من أمره مثل هذا. فمعنى مرجوا

١٧٥

أي : مؤخرا اطراحه وغلبته. ونحو هذا فيكون ذلك على جهة الاحتقار ، ولذلك فسر بحقير ، ثم يجيء قولهم : أتنهانا ، على جهة التوعد والاستبشاع لهذه المقالة منه انتهى. وما يعبد آباؤنا حكاية حال ماضية ، وإنا وإننا لغتان لقريش. قال الفراء : من قال إننا أخرج الحرف على أصله ، لأن كناية المتكلمين نا ، فاجتمعت ثلاث نونات. ومن قال : أنا استثقل اجتماعها ، فأسقط الثالثة وأبقى الأولتين انتهى. والذي أختاره أن نا ضمير المتكلمين لا تكون المحذوفة ، لأن في حذفها حذف بعض اسم وبقي منه حرف ساكن ، وإنما المحذوفة النون الثانية من أنّ فحذفت لاجتماع الأمثال ، وبقي من الحرف الهمزة والنون الساكنة ، وهذا أولى من حذف ما بقي منه حرف. وأيضا فقد عهد حذف هذه النون مع غير ضمير المتكلمين ، ولم يعهد حذف نون نا ، فكان حذفها من أن أولى. ومريب اسم فاعل من متعد ، أرابه أوقعه في الريبة ، وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة. أو من لازم أراب الرجل إذا كان ذا ريبة ، وأسند ذلك إلى الشك إسنادا مجازيا ، ووجود مثل هذا الشك كوجود التصميم على الكفر.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) : تقدم الكلام في أرأيتم في قصة نوح ، والمفعول الثاني هنا لأرأيتم محذوف يدل عليه قوله : فمن ينصرني من الله إن عصيته ، والتقدير : أعصيه في ترك ما أنا عليه من البينة. وقال ابن عطية : أرأيتم هو من رؤية القلب ، والشرط الذي بعده وجوابه يسد مسد مفعولي علمت وأخواتها ، وإدخال أداة الشرط التي هي إن على جملة محققة ، وهي كان على بينة من ربه ، لكنه خاطب الجاحدين للبينة فكأنه قال : قدروا أني على بينة من ربي وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره ، فمن يمنعني من عذابه؟ قال ابن عطية : وفي الكلام محذوف تقديره : أيضرني شككم ، أو أيمكنني طاعتكم ، ونحو هذا مما يليق بمعنى الآية انتهى. وهذا التقدير الذي قدره استشعار منه بالمفعول الثاني الذي يقتضيه أرأيتم ، وأن الشرط وجوابه لا يقعان ولا يسدان مسد مفعولي أرأيتم ، والذي قدرناه نحن هو الظاهر لدلالة قوله : فمن ينصرني من الله إن عصيته ، فما تزيدونني غير تخسير. قال الزمخشري : غير أن أخسركم أي أنسبكم إلى الخسران ، وأقول أنكم خاسرون انتهى. يفعل هذا للنسبة كفسقته وفجرته أي : نسبته إلى الفسق والفجور. قال ابن عباس : معناه ما

١٧٦

تزيدونني بعبادتكم إلا بصارة في خسرانكم انتهى. فهو على حذف مضاف أي : غير بصارة تخسيركم. وقال مجاهد : ما تزدادون أنتم باحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خسارا ، وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان سألهم الإيمان. وقال ابن عطية : فما تعطوني فيما اقتضيته منكم من الإيمان غير تخسير لأنفسكم ، وهو من الخسارة وليس التخسير إلا لهم ، وفي حيزهم ، وأضاف الزيادة إليه من حيث هو مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم كما تقول لمن توصيه : أنا أريدك خيرا وأنت تريدني سوءا ، وكان الوجه البين أن يقول : وأنت تريد شرا ، لكن من حيث كنت مريد خير ، ومقتضى ذلك حسن أن يضيف الزيادة إلى نفسك انتهى. وقيل : التقدير فما تحملونني عليه ، غير أني أخسركم أي : أرى منكم الخسران. وقيل : التقدير تخسروني أعمالكم وتبطلونها. قيل وهذا أقرب ، لأن قوله : فمن ينصرني من الله إن عصيته كالدلالة على أنه أراد إن اتبعتكم فيما أنتم عليه ودعوتموني إليه لم أزدد إلا خسرانا في الدين ، فأصير من الهالكين الخاسرين. وانتصب آية على الحال ، والخلاف في الناصب في نحو هذا زيد منطلقا ، أهو حرف التنبيه؟ أو اسم الإشارة؟ أو فعل محذوف؟ جاز في نصب آية ولكم في موضع الحال ، لأنه لو تأخر لكان نعتا لآية ، فلما تقدم على النكرة كان حالا ، والعامل فيها محذوف.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : فبم يتعلق لكم؟ (قلت) : بآية حالا منها متقدمة ، لأنها لو تأخرت لكان صفة لها ، فلما تقدمت انتصب على الحال انتهى. وهذا متناقض ، لأنه من حيث تعلق لكم بآية كان لكم معمولا لآية ، وإذا كان معمولا لها امتنع أن يكون حالا منها ، لأنّ الحال تتعلق بمحذوف ، فتناقض هذا الكلام ، لأنه من حيث كونه معمولا لها كانت هي العاملة ، ومن حيث كونه حالا منها كان العامل غيرها ، وتقدم الكلام على الجمل التي بعد آية. وقرأت فرقة : تأكل بالرفع على الاستئناف ، أو على الحال. وقريب عاجل لا يستأخر عن مسكموها بسوء إلا يسيرا ، وذلك ثلاثة أيام ، ثم يقع عليكم ، وهذا الإخبار بوحي من الله تعالى ، فعقروها نسب إلى جميعهم وإن كان العاقر واحدا لأنه كان برضا منهم ، وتمالؤ. ومعنى تمتعوا استمتعوا بالعيش في داركم في بلدكم ، وتسمى البلاد الديار لأنها يدار فيها أي : يتصرف ، يقال : ديار بكر لبلادهم قاله الزمخشري. وقال ابن عطية : في داركم جمع دارة ، كساحة وساح وسوح ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :

له داع بمكة مشمعل

وآخر فوق دارته ينادي

١٧٧

ويمكن أن يسمى جميع مسكن الحي دارا انتهى. ذلك أي : الوعد بالعذاب غير مكذوب ، أي صدق حق. والأصل غير مكذوب فيه ، فاتسع فحذف الحرف وأجرى الضمير مجرى المفعول به ، أو جعل غير مكذوب لأنه وفى به فقد صدق ، أو على أنّ المكذوب هنا مصدر عند من يثبت أنّ المصدر يجيء على زنة مفعول.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) : والكلام في جاء أمرنا كالكلام السابق في قصة قوم هود. قيل : الواو زائدة في ومن أي من خزي يومئذ فيتعلق من بنجينا ، وهذا لا يجوز عند البصريين ، لأن الواو لا تزاد عندهم بل تتعلق من بمحذوف أي : ونجيناهم من خزي ، أي وكانت التنجية من خزي يومئذ. وقرأ طلحة وأبان بن تغلب : ومن خزي بالتنوين ، ونصب يومئذ على الظرف معمولا لخزي. وقرأ الجمهور بالإضافة ، وفتح الميم نافع والكسائي ، وهي فتحة بناء لإضافته إلى إذ ، وهو غير متمكن. وقرأ باقي السبعة بكسر الميم وهي حركة إعراب ، والتنوين في إذ تنوين عوض من الجملة المحذوفة المتقدمة الذكر أي : ومن فضيحة يوم إذ جاء الأمر وحل بهم. وقال الزمخشري : ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة ، كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة انتهى. وهذا ليس بجيد ، لأن التنوين في إذ تنوين العوض ولم يتقدم إلا قوله ، فلما جاء أمرنا ولم تتقدم جملة فيها ذكر يوم القيامة ولا ما يكون فيها ، فيكون هذا التنوين عوضا من الجملة التي تكون في يوم القيامة. وناسب مجيء الأمر وصفه تعالى بالقوي العزيز ، فإنهما من صفات الغلبة والقهر والانتقام ، والجملة التي بعد هذا تقدم الكلام عليها في الأعراف ألا إن ثمود ، منع حمزة وحفص صرفه ، وصرفه الباقون ، لثمود صرفه الكسائي ، ومنعه باقي السبعة.

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) : تقدم أن ترتيب قصص هذه السورة كترتيب قصص الأعراف ، وإنما أدرج شيئا من أخبار إبراهيم عليه‌السلام بين قصة صالح ولوط ، لأنّ له مدخلا في قصة لوط ، وكان ابراهيم ابن خالة لوط. والرسل هنا الملائكة ، بشرت

١٧٨

إبراهيم بثلاث بشائر : بالولد ، وبالخلة ، وبإنجاء لوط ومن آمن معه. قيل : كانوا اثنى عشر ملكا ، روى ذلك عن ابن عباس. وقال السدي : أحد عشر ، وحكى صاحب الغنيان عشرة منهم جبريل. وقال الضحاك : تسعة ، وقال محمد بن كعب : ثمانية ، وحكى الماوردي : أربعة ، وقال ابن عباس وابن جبير : ثلاثة جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل. وقال مقاتل : جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت. وروي : أن جبريل عليه‌السلام كان مختصا بإهلاك قوم لوط ، وميكائيل ببشرى إبراهيم بإسحاق عليهما‌السلام ، وإسرافيل بإنجاء لوط ومن آمن معه. قيل : وكانت الملائكة جردا مردا على غاية من الحسن والجمال والبهجة ، ولهذا يضرب بهم المثل في الحسن كما قال تعالى حكاية عما قيل في يوسف : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (١) وقال الغزي :

قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة

حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا

وانتصب سلاما على إضمار الفعل أي : سلمنا عليك سلاما ، فسلاما قطعه معمولا للفعل المضمر المحكي بقالوا ، قال ابن عطية : ويصح أن يكون سلاما حكاية لمعنى ما قالوا ، لا حكاية للفظهم ، قاله : مجاهد ، والسدي. ولذلك عمل فيه القول ، كما تقول لرجل قال : لا إله إلا الله قلت : حقا وإخلاصا ، ولو حكيت لفظهم لم يصح أن يعمل فيه القول انتهى. ويعني لم يصح أن يعمل في لفظهم القول ، يعني في اللفظ ، وإن كان ما لفظوا به في موضع المفعول للقول. وسلام خبر مبتدأ محذوف أي : أمري أو أمركم سلام ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي : عليكم سلام ، والجملة محكية وإن كان حذف منها أحد جزءيها كما قال :

إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة

أي طعمه طعم مدامة.

وقرأ الإخوان قال : سلم ، والسلم السلام كحرم وحرام ، ومنه قول الشاعر :

مررنا فقلنا ايه سلم فسلمت

كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح

اكتل اتخذ إكليلا. قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالسلم ضد الحرب تقول : نحن سلم لكم انتهى. ونصب سلاما يدل على التجدد ، ورفع سلام يدل على الثبوت

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٣١.

١٧٩

والاستقرار ، والأقرب في إعراب فما لبث أن تكون ما نافية ، ولبث معناه تأخر وأبطأ ، وأن جاء فاعل بلبث التقدير فما تأخر مجيئه قاله : الفراء. وجوزوا أن يكون في لبث ضمير إبراهيم فهو فاعل ، وأن جاء على إسقاط الحرف فقدر بأن وبعن ، وبفي ، وجعل بعضهم أن بمعنى حتى حكاه ابن العربي. وأن تكون ما مصدرية ، وذلك المصدر في موضع رفع بالابتداء ، وأن تكون بمعنى الذي أي : فلبثه ، أو الذي لبثه ، والخبر أن جاء على حذف أي : قدر مجيئه ، وهذا من أدب الضيافة ، وهو تعجيل القرى. وكان مال إبراهيم البقر ، فقدم أحسن ما فيه وهو العجل. قال مجاهد : حنيذ مطبوخ ، وقال الحسن : نضيج مشوي سمين يقطر ودكا. وقال السدي : سمين ، وقيل : سميط لا يصل إليه ، أي إلى العجل. والمعنى : لا يمدون أيديهم إلى أكله ، فلم ينف الوصول الناشئ عن المد بل جعل عدم الوصول استعارة عن امتناعهم من الأكل. نكرهم أي أنكرهم قال الشاعر :

وأنكرتني وما كان الذي نكرت

من الحوادث إلا الشيب والصلعا

وقيل : نكر فيما يرى ، وأنكر فيما لا يرى من المعاني ، فكأنّ الشاعر قال : وأنكرت مودتي ثم جاءت بنكر الشيب والصلع مما يرى بالبصر. ومنه قول أبي ذؤيب :

فنكرنه فنفرن وامترست به

هوجاء هادية وهاد جرشع

وروي أنهم كانوا ينكثون بقداح كانت بأيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إليه ، وينبغي أن ينظر من الضيف هل يأكل أو لا ويكون بتلفت ومسارعة ، لا بتحديد النظر ، لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصرا في الأكل. قيل : كان إبراهيم عليه‌السلام ينزل في طرف من الأرض مخافة أن يريدوا به مكروها. وقيل : كانت عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوا وإلا خافوه. قال الزمخشري : ويظهر أنه أحس بأنهم ملائكة ونكرهم ، لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه ، أو لتعذيب قومه. ألا ترى إلى قولهم : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيما أرسلوا. قال مقاتل : فأوجس وقع في قلبه. وقال الحسن : حدث به نفسه ، قيل : وأصل الوجوس الدخول ، فكأن الخوف دخل عليه. والظاهر أنه لم يعرف أنهم ملائكة لمجيئهم في صورة البشر ، وكان مشغوفا بإكرام الأضياف ، فلذلك جاؤوا في صورهم ، ولمسارعته إلى إحضار الطعام إليهم ، ولأنّ امتناع الملائكة من الأكل لا يدل على حصول الشر ، وإنما عرف أنهم ملائكة بقولهم : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، فنهوه عن شيء وقع في نفسه ، وعرفوا خيفته بكون الله

١٨٠