البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

أعظم مشاركة ، وربما زادوا على المسلمين في ذلك. قال : ووصف المتاع بالحسن إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عزوجل ، وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفروضاته ، والسرور بمواعيده ، والكافر ليس في شيء من هذا ، والأجل المسمى هو أجل الموت قاله : ابن عباس والحسن. وقال ابن جبير : يوم القيامة ، والضمير في فضله يحتمل أن يعود على الله تعالى أي : يعطي في الآخرة كل من كان له فضل في عمل الخير ، وزيادة ما تفضل به تعالى وزاده. ويحتمل أن يعود على كل أي : جزاء ذلك الفضل الذي عمله في الدنيا لا يبخس منه شيء ، كما قال : (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) (١) أي جزاءها. والدرجات تتفاضل في الجنة بتفاضل الطاعات ، وتقدم أمران بينهما تراخ ، ورتب عليهما جوابان بينهما تراخ ، ترتب على الاستغفار التمتيع المتاع الحسن في الدنيا ، كما قال : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (٢) الآية وترتب على التوبة إيتاء الفضل في الآخرة ، وناسب كل جواب لما وقع جوابا له ، لأنّ الاستغفار من الذنب أول حال الراجع إلى الله ، فناسب أن يرتب عليه حال الدنيا. والتوبة هي المنجية من النار ، والتي تدخل الجنة ، فناسب أن يرتب عليها حال الآخرة. والظاهر أنّ تولوا مضارع حذف منه التاء أي : وإن تتولوا. وقيل : هو ماض للغائبين ، والتقدير قيل لهم : إني أخاف عليكم. وقرأ اليماني ، وعيسى بن عمر : وإن تولوا بضم التاء واللام ، وفتح الواو ، مضارع ولىّ ، والأولى مضارع أولى. وفي كتاب اللوامح اليماني وعيسى البصرة : وإن تولوا بثلاث ضمات مرتبا للمفعول به ، وهو ضد التبري. وقرأ الأعرج : تولوا بضم التاء واللام ، وسكون الواو ، مضارع أولى ، ووصف يوم بكبير وهو يوم القيامة لما يقع فيه من الأهوال. وقيل : هو يوم بدر وغيره من الأيام التي رموا فيها بالخذلان والقتل والسبي والنهب وأبعد من ذهب إلى أنّ كبير صفة لعذاب ، وخفض على الجواز. وباقي الآية تضمنت تهديدا عظيما وصرحت بالبعث ، وذكر أنّ قدرته عامة لجميع ما يشاء ، ومن ذلك البعث ، فهو لا يعجزه ما شاء من عذابهم.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) : نزلت في الأخنس بن شريق ، كان يجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحلف أنه ليحبه ويضمر خلاف ما يظهر قاله ابن عباس. وعنه أيضا : في ناس كانوا يستحيون أن يفضوا إلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء. وقيل : في بعض المنافقين ، كان إذا مر بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يرى

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١٥.

(٢) سورة نوح : ٧١ / ١٠ ـ ١١.

١٢١

الرسول قاله : عبد الله بن شدّاد. وقيل : في طائفة قالوا إذا أغلقنا أبوابنا ، وأرخينا ستورنا ، واستغشينا ثيابنا ، وثنينا صدورنا ، على عداوته كيف يعلم بنا؟ ذكره الزجاج. وقيل : فعلوا ذلك ليبعد عليهم صوت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يدخل أسماعهم القرآن ذكره ابن الأنباري. ويثنون مضارع ثنى قراءة الجمهور. وقرأ سعيد بن جبير : يثنون بضم الياء مضارع أثنى صدورهم بالنصب. قال صاحب اللوامح : ولا يعرف الأثناء في هذا الباب إلا أن يراد به وجدتها مثنية مثل أحمدته وأمجدته ، ولعله فتح النون وهذا مما فعل بهم ، فيكون نصب صدورهم بنزع الجار ، ويجوز على ذلك أن يكون صدورهم رفعا على البدل بدل البعض من الكل. وقال أبو البقاء : ماضيه أثنى ، ولا يعرف في اللغة إلا أن يقال معناه : عرضوها للاثناء ، كما يقال : أبعت الفرس إذا عرضته للبيع. وقرأ ابن عباس ، وعلي بن الحسين ، وابناه زيد ومحمد ، وابنه جعفر ، ومجاهد ، وابن يعمر ، ونصر بن عاصم ، وعبد الرحمن بن أبزى ، والجحدري ، وابن أبي إسحاق ، وأبو الأسود الدؤلي ، وأبو رزين ، والضحاك : تثنوني بالتاء مضارع اثنونى على وزن افعوعل نحو اعشوشب المكان صدورهم بالرفع ، بمعنى تنطوي صدورهم. وقرأ أيضا ابن عباس ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وابن أبي إسحاق : يثنوني بالياء صدورهم بالرفع ، ذكر على معنى الجمع دون الجماعة. وقرأ ابن عباس أيضا : ليثنون بلام التأكيد في خبر إن ، وحذف الياء تخفيفا وصدورهم رفع. وقرأ ابن عباس أيضا ، وعروة ، وابن أبي أبزى ، والأعشى : يثنون ووزنه يفعوعل من الثن ، بنى منه افعوعل وهو ما هش وضعف من الكلأ ، وأصله يثنونن يريد مطاوعة نفوسهم للشيء ، كما ينثني الهش من النبات. أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم وصدورهم بالرفع. وقرأ عروة ومجاهد أيضا : كذلك إلا أنه همز فقرأ يثنئن مثل يطمئن ، وصدورهم رفع ، وهذه مما استثقل فيه الكسر على الواو كما قيل : أشاح. وقد قيل أن يثنئن يفعئل من الثن. المتقدّم ، مثل تحمارّ وتصفارّ ، فحركت الألف لالتقائهما بالكسر ، فانقلبت همزة. وقرأ الأعشى : يثنؤون مثل يفعلون مهموز اللام ، صدورهم بالنصب. قال صاحب اللوامح : ولا أعرف وجهه لأنه يقال : ثنيت ، ولم أسمع ثنأت. ويجوز أنه قلب الياء ألفا على لغة من يقول : أعطأت في أعطيت ، ثم همز على لغة من يقول : (وَلَا الضَّالِّينَ) (١) وقرأ ابن عباس : يثنوي بتقديم الثاء على النون ، وبغير نون بعد الواو على وزن ترعوي. قال أبو حاتم : وهذه القراءة غلط لا تتجه انتهى. وإنما قال ذلك لأنه لا حظ الواو في هذا الفعل لا يقال : ثنوته فانثوى كما

__________________

(١) سورة فاتحة الكتاب : ١ / ٧.

١٢٢

يقال : رعوته أي كففته فارعوى فانكف ، ووزنه أفعل. وقرأ نضير بن عاصم ، وابن يعمر ، وابن أبي إسحاق : ينثون بتقديم النون على الثاء ، فهذه عشر قراءات في هذه الكلمة. والضمير في إنهم عائد على بعض من بحضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكفار أي : يطوون صدورهم على عداوته. قال الزمخشري : يثنون صدورهم يزوّرون عن الحق وينحرفون عنه ، لأنّ من أقبل على الشيء استقبله بصدره ، ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه ليستخفوا منه ، يعني : ويريدون ليستخفوا من الله ، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم. ونظير إضمار يريدون ، لعود المعنى إلى إضماره الإضمار في قوله تعالى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) (١) معناه : فضرب فانفلق. ومعنى ألا حين : يستغشون ثيابهم ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضا كراهة لاستماع كلام الله كقول نوح عليه‌السلام : (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) (٢) انتهى. فالضمير في منه على قوله عائد على الله ، قال ابن عطية : وهذا هو الأفصح الأجزل في المعنى انتهى. ويظهر من بعض أسباب النزول أنه عائد على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال ابن عطية. قال : قيل : إنّ هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمتستر ، وردّوا إليه ظهورهم ، وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منهم وكراهية للقائه ، وهم يظنون أنّ ذلك يخفى عليه أو عن الله تعالى فنزلت الآية انتهى. فعلى هذا يكون ليستخفوا متعلقا بقوله : يثنون ، وكذا قال الحوفي. وقيل : هي استعارة للغل ، والحقد الذي كانوا ينطوون عليه كما تقول : فلان يطوي كشحه على عداوته ، ويثني صدره عليها ، فمعنى الآية : ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون لها ، ليخفى في ظنهم عن الله عزوجل ، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون انتهى. فعلى هذا يكون حين معمولا لقوله : يعلم ، وكذا قاله الحوفي لا للمضمر الذي قدره الزمخشري وهو قوله : ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم. وقال أبو البقاء : ألا حين العامل في الظرف محذوف أي : ألا حين يستغشون ثيابهم يستخفون ، ويجوز أن يكون ظرفا ليعلم. وقيل : كان بعضهم ينحني على بعض ليساره في الطعن على المسلمين ، وبلغ من جهلهم أنّ ذلك يخفى على الله تعالى. قال قتادة : أخفى ما يكون إذا حتى ظهره واستغشى ثوبه ، وأضمر في نفسه همته. وقال مجاهد : يطوونها على الكفر. وقال ابن عباس : يخفون ما في صدورهم من الشحناء. وقال قتادة : يخفون ليسمعوا كلام الله. وقال ابن زيد : يكتمونها إذا

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٦٣.

(٢) سورة نوح : ٧١ / ٧.

١٢٣

ناجى بعضهم بعضا في أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : يثنونها حياء من الله تعالى ، ومعنى يستغشون : يجعلونها أغشية. ومنه قول الخنساء :

أرعى النجوم وما كلفت رعيتها

وتارة أتغشى فضل أطماري

وقيل : المراد بالثياب الليل ، واستعيرت له لما بينهما من العلاقة بالستر ، لأن الليل يستر كما تستر الثياب ومنه قولهم : الليل أخفى للويل. وقرأ ابن عباس : على حين يستغشون. قال ابن عطية : ومن هذا الاستعمال قول النابغة :

على حين عاتبت المشيب على الصبا

وقلت ألما أصح والشيب وازع

انتهى.

وقال ابن عباس : ما يسرون بقلوبهم ، وما يعلنون بأفواههم. وقيل : ما يسرون بالليل وما يعلنون بالنهار. وقال ابن الأنباري : معناه أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهرانهم. وقال الزمخشري : يعني أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم ، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء والله مطلع على ثنيهم صدورهم ، واستغشائهم بثيابهم ، ونفاقهم غير نافق عنده. وقال صاحب التحرير : الذي يقتضيه سياق الآية أنه أراد بما يسرون ما انطوت عليه صدورهم من الشرك والنفاق والغل والحسد والبغض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، لأنّ ذلك كله من أعمال القلوب ، وأعمال القلوب خفيه جدّا ، وأراد بما يعلنون ما يظهرونه من استدبارهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتغشية ثيابهم ، وسدّ آذانهم وهذه كلها أعمال ظاهرة لا تخفى.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) : الدابة هنا عام في كل حيوان يحتاج إلى رزق ، وعلى الله ظاهر في الوجوب ، وإنما هو تفضل ، ولكنه لما ضمن تعالى أن يتفضل به عليهم أبرزه في حيز الوجوب. قال ابن عباس : مستقرها حيث تأوى إليه من الأرض ، ومستودعها الموضع الذي تموت فيه فتدفن. وعنه أيضا : مستقرها في الرحم ، ومستودعها في الصلب. وقال الربيع بن أنس : مستقرها في أيام حياتها ، ومستودعها حين تموت وحين تبعث. وقيل : مستقرها في الجنة أو في النار ، ومستودعها في القبر ، ويدل عليه : (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا) (١) و (ساءَتْ مُسْتَقَرًّا) (٢) وقيل : ما يستقر عليه عملها ، ومستودعها ما تصير إليه. وقيل : المستقر ما حصل موجودا من الحيوان ، والمستودع ما سيوجد بعد المستقر. وقال الزمخشري : المستقر مكانه من الأرض

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٧٦.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦٦.

١٢٤

ومسكنه ، والمستودع حيث كان موجودا قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة انتهى. ومستقر ومستودع يحتمل أن يكونا مصدرين ، ويحتمل أن يكونا اسمي مكان ، ويحتمل مستودع أن يكون اسم مفعول لتعدّي الفعل منه ، ولا يحتمله مستقر للزوم فعله كل أي : كل من الرزق والمستقر والمستودع في اللوح يعني : وذكرها مكتوب فيه مبين. وقيل : الكتاب هنا مجاز ، وهو إشارة إلى علم الله ، وحمله على الظاهر أولى.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) : لما ذكر تعالى ما يدل على كونه تعالى عالما ، ذكر ما يدل على كونه قادرا ، وتقدّم تفسير الجملة الأولى في سورة يونس. والظاهر أنّ قوله : وكان عرشه على الماء ، تقديره قبل خلق السموات والأرض ، وفي هذا دليل على أنّ الماء والعرش كانا مخلوقين قبل. قال كعب : خلق الله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء ، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ، ثم وضع العرش على الماء. وروي عن ابن عباس أنه وقد قيل له : على أي شيء كان الماء؟ قال : كان على متن الريح ، والظاهر تعلق ليبلوكم بخلق. قال الزمخشري : أي خلقهن لحكمة بالغة ، وهي أن يجعلها مساكن لعباده ، وينعم عليهم فيها بفنون النعم ، ويكلفهم فعل الطاعات واجتناب المعاصي ، فمن شكر وأطاع أثابه ، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال : ليبلوكم ، يريد ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون. (فإن قلت) : كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ (قلت) : لما في الاختبار من معنى العلم ، لأنه طريق الله ، فهو ملابس له كما تقول : انظر أيهم أحسن وجها ، واستمع أيهم أحسن صوتا ، لأنّ النظر والاستماع من طرق العلم انتهى. وفي قوله : ومن كفر وعصى عاقبه ، دسيسة الاعتزال. وأما قوله : واستمع أيهم أحسن صوتا ، فلا أعلم أحدا ذكر أن استمع تعلق ، وإنما ذكروا من غير أفعال القلوب سل وانظر ، وفي جواز تعليق رأى البصرية خلاف. وقيل : ليبلوكم متعلق بفعل محذوف تقديره أعلم بذلك ليبلوكم ، ومقصد هذا التأويل أن هذه المخلوقات لم تكن بسبب البشر. وقيل : تقدير الفعل ، وخلقكم ليبلوكم. وقيل : في الكلام جمل محذوفة ، التقدير : وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الأخرى ، وفعل ذلك ليبلوكم. ومعنى أيكم أحسن عملا : أهذا أحسن أم هذا. قال ابن بحر : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيكم

١٢٥

أحسن عقلا ، وأورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله» ولو صح هذا التفسير عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعدل عنه. وقال الحسن : أزهد في الله. وقال مقاتل : أتقى لله. وقال الضحاك : أكثركم شكرا.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : فكيف قيل : أيكم أحسن عملا وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن ، فأما أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتهما إلى حسن وقبيح؟ (قلت) : الذين هم أحسن عملا هم المتقون ، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله منن عباده ، فخصهم بالذكر ، واطرح ذكر من وراءهم تشريفا لهم وتنبيها على مكانهم منه ، وليكون ذلك تيقظا للسامعين وترغيبا في حيازة فضلهم انتهى. ولئن قلت ، خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ عيسى الثقفي : ولئن قلت بضم التاء إخبارا عنه تعالى ، والمعنى : ولئن قلت مستدلا على البعث من بعد الموت ، إذ في قوله تعالى : وهو الذي خلق ، دلالة على القدرة العظيمة ، فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة ، وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه. وقرىء : أيكم بفتح الهمزة. قال الزمخشري : ووجهه أن يكون من قولهم : ائت السوق إنك تشتري لحما ، بمعنى علك أي : ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون بمعنى توقعوا بعثكم وظنوه ، لأثبتوا القول بإنكاره لقالوا : ويجوز أن يضمن. قلت معنى ذكرت انتهى يعني : فبفتح الهمزة لأنها في موضع مفعول ذكرت ، والظاهر الإشارة بهذا إلى القول أي : إن قولك إنكم مبعوثون إلا سحر أي بطلان هذا القول كبطلان السحر ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما دلت عليه الجملة من البعث. أي : إن البعث. وقيل : أشاروا بهذا إلى القرآن ، وهو الناطق بالبعث ، فإذا جعلوه سحرا فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره. قال ابن عطية : كذبوا وقالوا : هذا سحر ، فهذا تناقض منهم إن كان مفطورا بقربات الله فاطر السموات والأرض فهو من جملة المقرب بهذا ، وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور ، إذا البداءة أعسر من الإعادة ، وإذ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس انتهى. وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وفرقة من السبعة : سحر. وقرأت فرقة : ساحر ، يريدون والساحر كاذب مبطل ، ولئن أخرنا حكى تعالى نوعا آخر من أباطيلهم واستهزائهم ، والعذاب هنا عذاب القيامة. وقيل : عذاب يوم بدر. وعن ابن عباس : قتل جبريل المستهزئين ، والظاهر العذاب الموعود به ، والأمّة هنا المدة من الزمان قاله : ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، والجمهور ، ومعناه : إلى حين. ووقت معلوم ما يحبسه استفهام ، قالوه وهو على سبيل التكذيب والاستهزاء. قال الطبري : سميت

١٢٦

المدة أمة ، لأنها يقضي فيها أمة من الناس وتحدث أخرى ، فهي على هذا المدة الطويلة ، ثم استفتح الأخبار بأنه يوم لا يردّه شيء ولا يصرفه. والظاهر أنّ يوم منصوب بقوله : مصروفا ، فهو معمول لخبر ليس. وقد استدل به على جواز تقديم خبر ليس عليها قالوا : لأن تقدم المعمول يؤذن بتقدم العامل ، ونسب هذا المذهب لسيبويه ، وعليه أكثر البصريين. وذهب الكوفيون والمبرد : إلى أنه لا يجوز ذلك ، وقالوا : لا يدل جواز تقدم المعمول على جواز تقدم العامل. وأيضا فإنّ الظرف المجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما ، ويقعان حيث لا يقع العامل فيهما نحو : إن اليوم زيدا مسافر ، وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقدم خبر ليس عليها ، ولا بمعموله ، إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية ، وقول الشاعر :

فيأبى فما يزداد إلا لجاجه

وكنت أبيا في الخفا لست أقدم

وتقدم تفسير جملة وحاق بهم.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) : لما ذكر تعالى عذاب الكفار وإن تأخر لا بد أن يحيق بهم ، ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء الله ، وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من فخرهم على عباد الله. والظاهر أنّ الإنسان هنا هو جنس ، والمعنى : إنّ هذا الخلق في سجايا الناس ، ثم استثنى منهم الذين ردّتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح ، ولذلك جاء الاستثناء منه في قوله : إلا الذين صبروا متصلا. وقيل : المراد هنا بالإنسان الكافر. وقيل : المراد به إنسان معين ، فقال ابن عباس : هو الوليد بن المغيرة ، وفيه نزلت. وقيل : عبد الله بن أمية المخزومي ، وذكره الواحدي ، وعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعا ومعنى رحمة : نعمة من صحة ، وأمن وجدة ، ثم نزعناها أي سلبناها منه. ويؤوس كفور ، صفتا مبالغة والمعنى : إنه شديد اليأس كثيره ، ييأس أن يعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة ، ويقطع رجاءه من فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه. كفور كثير الكفران ، لما سلف لله عليه من نعمة ذكر حالة الإنسان إذ بدىء بالنعمة ولم يسبقه الضر ، ثم ذكر حاله إذا جاءته النعمة بعد الضر. ومعنى ذهب السيئات أي : المصائب التي تسوءني. وقوله هذا يقتضي نظرا وجهلا ، لأن ذلك

١٢٧

بإنعام من الله ، وهو يعتقد أنّ ذلك اتفاق أو بعد ، وهو اعتقاد فاسد. إنه لفرح أشر بطر ، وهذا الفرح مطلق ، فلذلك ذم المتصف به ، ولم يأت في القرآن للمدح إلا مقيدا بما فيه خير كقوله : (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (١) وقرأ الجمهور : لفرح بكسر الراء ، وهي قياس اسم الفاعل من فعل اللازم. وقرأت فرقة : لفرح بضم الراء ، وهي كما تقول : ندس ، ونطس. وفخره هو تعاظمه على الناس بما أصابه من النعماء ، واستثنى تعالى الصابرين يعني على الضراء وعاملي الصالحات. ومنها الشكر على النعماء. أولئك لهم مغفرة لذنوبهم يقتضي زوال العقاب والخلاص منه ، وأجر كبير هو الجنة ، فيقتضي الفوز بالثواب. ووصف الأجر بقوله : كبير ، لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف ، والأمن العذاب ، ورضا الله عنهم ، والنظر إلى وجهه الكريم.

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ). قال الزمخشري : كانوا يقترحون عليه آيات تعنتا لا استرشادا ، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم. ومن اقتراحاتهم : لو لا أنزل عليه كنز ، أو جاء معه ملك ، وكانوا لا يعتدون بالقرآن ، ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات ، فكان يضيق صدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه ، فحرك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله : فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك أي : لعلك تترك أن تلقيه إليهم ، وتبلغه إياهم مخافة ردهم وتهاونهم به ، وضائق به صدرك بأن تتلوه عليهم أن يقولوا مخافة أن يقولوا : لو لا أنزل عليه كنز ، هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ، ولم ينزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه. ثم قال : إنما أنت نذير أي : ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك ، وتبلغهم ما أمرت بتبليغه ، ولا عليك ردّوا أو تهاونوا أو اقترحوا ، والله على كل شيء وكيل يحفظ ما يقولون ، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل ، فتوكل عليه ، وكل أمرك إليه.

وقال ابن عطية : سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا : يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك ، وقالوا : إئت بقرآن غير هذا أو بدله ، ونحو هذا من الأقوال ، فخاطب الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذه الصورة من المخاطبة ، وقفه بها توقيفا رادّا

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٧٠.

١٢٨

على أقوالهم ، ومبطلا لها. وليس المعنى أنه عليه‌السلام هم بشيء من ذلك ثم خرج عنه ، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه ، ولا ضاق صدره به ، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان. ولعلك هاهنا بمعنى التوقيف والتقرير ، وما يوحي إليه هو القرآن والشريعة والدعاء إلى الله كان في ذلك سب آلهتهم ، وتسفيه آبائهم أو غيره. ويحتمل أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عظم عليه ما يلقى من الشدة ، فمال إلى أن يكون من الله إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة ، ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما جاءت آيات الموادعة. وعبر بضائق دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع تارك ، وإن كان ضيق أكثر استعمالا ، لأنه وصف لازم ، وضائق وصف عارض. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : لم عدل عن ضيق إلى ضائق؟ (قلت) : ليدل على أن ضيق عارض غير ثابت ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أفسح الناس صدرا. ومثله قولك : سيد وجواد ، تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين ، فإذا أردت الحدوث قلت : سائد وجائد انتهى. وليس هذا الحكم مختصا بهذه الألفاظ ، بل كل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل رد إليه إذا أريد معنى الحدوث ، فنقول : حاسن من حسن ، وثاقل من ثقل ، وفارح من فرح ، وسامن من سمن ، وقال بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه :

بمنزلة أما اللئيم فسامن بها

وكرام الناس باد شحوبها

والظاهر عود الضمير في به على بعض. وقيل : على ما ، وقيل : على التبليغ ، وقيل : على التكذيب ، قيل ولعل هنا للاستفهام بمعنى هل ، والمعنى : هل أنت تارك ما فيه تسفيه أحلامهم وسب آلهتهم كما سألوك؟ وقدروا كراهته أن يقولوا ، ولئلا يقولوا ، وبأن يقولوا ، ثلاثة أقوال. والكنز المال الكثير. وقالوا : أنزل ، ولم يقولوا أعطى ، لأن مرادهم التعجيز ، وأنهم التمسوا أن ينزل عليه من السماء كنز على خلاف العادة ، فإنّ الكنوز إنما تكون في الأرض. وطلبهم آية تضطر إلى الإيمان ، والله عزوجل لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار ، إنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال ، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمة التي أراد تعذيبها لكفرها بعد آية الاستدلال ، كالناقة لثمود. وآنسه تعالى بقوله : إنما أنت نذير ، أي : الذي فوض إليك هو النذارة لا تحصيل هدايتهم ، فإن ذلك إنما هو لله تعالى. وقال مقاتل : وقيل : كافل بالمصالح قادر عليها. وقال ابن عطية : المحصي لإيمان من شاء ، وكفر من شاء. قيل : وهذه الآية منسوخة ، وقيل : محكمة.

١٢٩

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) : الظاهر أنّ أم منقطعة تتقدر ببل ، والهمزة أي : أيقولون افتراه. وقال ابن القشيري : أم استفهام توسط الكلام على معنى : أيكتفون بما أوحيت إليك من القرآن ، أم يقولون إنه ليس من عند الله ، فإن قالوا : إنه ليس من عند الله فليأتوا بمثله انتهى. فجعل أم متصلة ، والظاهر الانقطاع كما قلنا ، والضمير في افتراه عائد على قوله : ما يوحى إليك ، وهو القرآن.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنها لا تتعلق أطماعهم بأن يترك بعض ما يوحى إليه إلا لدعواهم أنه ليس من عند الله ، وأنه هو الذي افتراه ، وإنما تحداهم أولا بعشر سور مفتريات قبل تحديهم بسورة ، إذ كانت هذه السورة مكية ، والبقرة مدنية ، وسورة يونس أيضا مكية ، ومقتضى التحدي بعشر أن يكون قبل طلب المعارضة بسورة ، فلما نسبوه إلى الافتراء طلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات إرخاء لعنانهم ، وكأنه يقول : هبوا إني اختلقته ولم يوح إليّ فأتوا أنتم بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم ، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام ، وإنما عين بقوله : مثله ، في حسن النظم والبيان وإن كان مفترى. وشأن من يريد تعجيز شخص أن يطالبه أولا بأن يفعل أمثالا مما فعل هو ، ثم إذا تبين عجزه قال له : افعل مثلا واحدا ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع كما قال تعالى : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) (١) وتجوز المطابقة في التثنية والجمع كقوله : (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٢) (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) (٣) وإذا أفرد وهو تابع لمثنى أو مجموع فهو بتقدير المثنى ، والمجموع أي : مثلين وأمثال. والمعنى هنا بعشر سور أمثاله ذهابا إلى مماثلة كل سورة منها له. وقال ابن عطية : وقع التحدي في هذه الآية بعشر لأنه قيدها بالافتراء ، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام ، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية بسورة مثله دون تقييد ، فهي مماثلة تامة في غيوب القرآن ونظمه ووعده ووعيده ، وعجزوا في هذه الآية بأن قيل لهم : عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير ، والغرض واحد ، واجعلوه مفترى لا يبقى لكم إلا نظمه ، فهذه غاية التوسعة. وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر ، لأنّ هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة ، ولا يبالي عن تقديم نزول هذه على هذه ، ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٤٧.

(٢) سورة محمد : ٤٧ / ١٨.

(٣) سورة الواقعة : ٥٦ / ٢٣.

١٣٠

الريب ، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة. وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم : افتراه وكلفوا نحو ما قالوا : ولا يطرد هذا في آية يونس. وقال بعض الناس : هذه مقدمة في النزول على تلك ، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة ، وآية سورة يونس في تكليف سورة مرتبة على قولهم افتراه ، وكذلك آية البقرة إنما رمتهم بأن القرآن مفترى. وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين في كمال المماثلة مرة ، ووقوفها على النظم مرة انتهى. والظاهر أن قوله : مثله ، لا يراد به المثلية في كون المعارض عشر سور ، بل مثله يدل على مماثلة في مقدار ما من القرآن. وروي عن ابن عباس : أنّ السور التي وقع بها طلب المعارضة لها هي معينة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود. فقوله : مثله ، أي مثل هذه عشر السور ، وهذه السور أكثرها مدني ، فكيف تصح الحوالة بمكة على ما لم ينزل بعد؟ ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس. والضمير في فإن لم يستجيبوا لكم ، عائد على من طلب منهم المعارضة ، ولكم الضمير جمع يشمل الرسول والمؤمنين. وجوز أن يكون خطابا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التعظيم ، كما جاء (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) (١) قاله : مجاهد. وقيل : ضمير يستجيبوا عائد على المدعوين ، ولكم خطاب للمأمورين بدعاء من استطاعوا قاله الضحاك أي فإن لم يستجب من تدعونه إلى المعارضة فأذعنوا حينئذ ، واعلموا أنه من عند الله وأنه أنزل ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز للخلق ، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه. واعلموا عند ذلك أنه لا إله إلا هو ، وأن توحيده واجب ، فهل أنتم مسلمون؟ أي تابعون للإسلام بعد ظهور هذه الحجة القاطعة؟ وعلى أن الخطاب للمؤمنين معنى فاعلموا أي : دوموا على العلم وازدادوا يقينا وثبات قدم أنه من عند الله. ومعنى فهل أنتم مسلمون : أي مخلصو الإسلام ، وقال مقاتل : بعلم الله ، بإذن الله. وقال الكلبي : بأمره. وقال القتبي : من عند الله ، والذي يظهر أن الضمير في فإن لم يستجيبوا عائد على من استطعتم ، وفي لكم عائد على الكفار ، لعود الضمير على أقرب مذكور ، ولكون الخطاب يكون لواحد. ولترتب الجواب على الشرط ترتبا حقيقيا من الأمر بالعلم ، ولا يتحرر بأنه أراد به فدوموا على العلم ، ودوموا على العلم بأنه لا إله إلا هو ، ولأن يكون قوله : فهل أنتم مسلمون تحريضا على تحصيل الإسلام ، لا أنه يراد به الإخلاص ، ولما طولبوا بالمعارضة وأمروا بأن يدعوا من يساعدهم على تمكن المعارضة ، ولا استجاب أصنامهم ولا آلهتهم لهم ، أمروا

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٥٠.

١٣١

بأن يعلموا أنه من عند الله وليس مفترى فتمكن معارضته ، وأنه تعالى هو المختص بالألوهية لا يشركه في شيء منها آلهتهم وأصنامهم ، فلا يمكن أن يجيبوا لظهور عجزهم ، وأنها لا تنفع ولا تضر في شيء من المطالب. وقرأ زيد بن علي : إنما نزل بفتح النون والزاي وتشديدها ، واحتمل أن تكون ما مصدرية أي : أنّ التنزيل. واحتمل أن تكون بمعنى الذي أي : إن الذي نزله ، وحذف الضمير المنصوب لوجود جواز الحذف.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) : مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تعالى لما ذكر شيئا من أحوال الكفار المناقضين في القرآن ، ذكر شيئا من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة. وظاهر من العموم في كل من يريد زينة الحياة الدنيا ، والجزاء مقرون بمشيئته تعالى كما بين ذلك في قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ) (١) الآية. وقال مجاهد : هي في الكفرة ، وفي أهل الرياء من المؤمنين. وإلى هذا ذهب معونة حين حدث بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المرائين ، فتلا هذه الآية. وقال أنس : هي في اليهود والنصارى. قال ابن عطية : ومعنى هذا أنهم يدخلون في هذه الآية لا أنها ليست لغيرهم. وقيل : في المنافقين الذين جاهدوا مع الرسول فاسهم لهم ، ومعنى يريد الحياة الدنيا أي يقصد بأعماله التي يظهر أنها صالحة الدنيا فقط ، ولا يعتقد آخره. فإنّ الله يجازيه على حسن أعماله كما جاء ، وأما الكافر فيطعمه في الدنيا بحسناته. وإن اندرج في العموم المراءون من أهل القبلة كما ترى أحدهم إذا صلى إماما يتنغم بألفاظ القرآن ، ويرتله أحسن ترتيل ، ويطيل ركوعه وسجوده ، ويتباكى في قراءته ، وإذا صلى وحده اختلسها اختلاسا ، وإذا تصدق أظهر صدقته أمام من يثني عليه ، ودفعها لمن لا يستحقها حتى يثني عليه الناس ، وأهل الرباط المتصدق عليهم. وأين هذا من رجل يتصدق خفية وعلى من لا يعرفه ، كما جاء في : «السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه» وهذه مبالغة في إخفاء الصدقة جدا ، وإذا تعلم علما راءى به وتبجح ، وطلب بمعظمه يسير حطام من عرض الدنيا. وقد فشا الرياء في هذه الأمة فشوا كثيرا حتى لا تكاد ترى مخلصا لله لا في قول ، ولا في فعل ، فهؤلاء من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ١٨.

١٣٢

وقرأ الجمهور : نوفّ بنون العظمة ، وطلحة بن ميمون : يوف بالياء على الغيبة. وقرأ زيد بن علي : يوف بالياء مخففا مضارع أوفى. وقرىء توف بالتاء مبنيا للمفعول ، وأعمالهم بالرفع ، وهو على هذه القراآت مجزوم جواب الشرط ، كما انجزم في قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) (١) وحكي عن الفراء أنّ كان زائدة ، ولهذا جزم الجواب. ولعله لا يصح ، إذ لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يريد ، وكان يكون مجزوما ، وهذا التركيب من مجيء فعل الشرط ماضيا والجواب مضارعا ليس مخصوصا بكان ، بل هو جائز في غيرها. كما روي في بيت زهير :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

ولو رام أن يرقى السماء بسلم

وقرأ الحسن : نوفي بالتخفيف وإثبات الياء ، فاحتمل أن يكون مجزوما بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال : ألم يأتيك وهي لغة لبعض العرب ، واحتمل أن يكون مرفوعا كما ارتفع في قول الشاعر :

وإن شل ريعان الجميع مخافة

يقول جهارا ويلكم لا تنفروا

والحصر في كينونة النار لهم ظاهر في أنّ الآية في الكفار ، فإن اندرج أهل الرياء فيها فيكون المعنى في حقهم : ليس يجب لهم ولا يحق لهم إلا النار كقوله : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) (٢) وجائز أن يتغمدهم الله برحمته وهو ظاهر قول ابن عباس وابن جبير. والضمير في قوله : ما صنعوا فيها ، الظاهر أنه عائد على الآخرة ، والمجرور متعلق بحبط ، والمعنى : وظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة. ويجوز أن تتعلق بقوله : صنعوا ، فيكون عائدا على الحياة الدنيا ، كما عاد عليها في فيها قبل. وما في فيما اصنعوا بمعنى الذي ، أو مصدرية ، وباطل وما بعده توكيد لقوله : وحبط ما صنعوا ، وباطل خبر مقدم إن كان من عطف الجمل ، وما كانوا هو المبتدأ ، وإن كان خبرا بعد خبر ارتفع ما بباطل على الفاعلية. وقرأ زيد بن علي : وبطل جعله فعلا ماضيا. وقرأ أبي ، وابن مسعود : وباطلا بالنصب ، وخرجه صاحب اللوامح على أنه مفعول ليعملون ، فهو معمول خبر كان متقدما. وما زائدة أي : وكانوا يعملون باطلا ، وفي جواز هذا التركيب خلاف بين النحويين. وهو أن يتقدم معمول الخبر على الجملة بأسرها من كان اسمها وخبرها ، ويشهد للجواب قوله تعالى : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (٣) ومن منع

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٢٠.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٩٣.

(٣) سورة سبأ : ٣٤ / ٤٠.

١٣٣

تأول. وأجاز الزمخشري أن ينتصب باطلا على معنى المصدر على بطل بطلانا ما كانوا يعملون ، فتكون ما فاعلة ، وتكون من إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر ، وحق أن يبطل أعمالهم لأنها لم تعمل لوجه صحيح ، والعمل الباطل لا ثواب له.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) : لمّا ذكر حال من يريد الحياة الدنيا ذكر حال من يريد وجه الله تعالى بأعماله الصالحة ، وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة والتقدير : كمن يريد الحياة الدنيا. وكثيرا ما حذف في القرآن كقوله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) (١) وقوله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) (٢) وهذا استفهام معناه التقرير. قال الزمخشري : أي ، لا تعقبونهم في المنزلة ولا تفارقونهم ، يريد أنّ بين الفريقين تفاوتا بعيدا وتباينا بينا ، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره ، كان على بينة من ربه أي : على برهان من الله تعالى وبيان أن دين الإسلام حق وهو دليل العقل ، ويتلوه ويتبع ذلك البرهان شاهد منه أي : شاهد يشهد بصحته وهو القرآن منه من الله ، أو شاهد من القرآن ومن قبله. ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة أي : ويتلو ذلك أيضا من قبل القرآن كتاب موسى. وقرىء كتاب موسى بالنصب ، ومعناه كان على بينة من ربه وهو الدليل على أنّ القرآن حق ، ويتلوه ويقرأ القرآن شاهد منه ، شاهد ممن كان على بينة كقوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) (٣) (قُلْ : كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤) (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) ويتلوه ومن قبل التوراة إماما كتابا مؤتما في الدين قدوة فيه انتهى. وقيل في أفمن كان : المؤمنون بالرسول ، وقيل : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة. وقال علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك : محمد والمؤمنون جميعا ، والبينة القرآن أو الرسول ، والهاء للمبالغة والشاهد. قال ابن عباس ، والنخعي ، ومجاهد ، والضحاك ، وأبو صالح ، وعكرمة : هو جبريل. وقال الحسن بن علي : هو الرسول. وقال أيضا مجاهد : هو ملك وكله الله بحفظ القرآن. قال ابن عطية :

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٨.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٩.

(٣) سورة الأحقاف : ٤٦ / ١٠.

(٤) سورة الرعد : ١٣ / ٤٣.

١٣٤

ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل ، وقيل : هو علي بن أبي طالب. وروى المنهال عن عبادة بن عبد الله ، قال علي كرم الله وجهه : ما في قريش أحد إلا وقد نزلت فيه آية قيل : فما نزل فيك؟ قال : ويتلوه شاهد منه ، وبه قال محمد بن علي وزيد بن علي. وقيل : هو الإنجيل قاله : الفراء. وقيل : هو القرآن ، وقيل : هو إعجاز القرآن قاله الحسين بن الفضل ، وقيل : صورة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجهه ومخايله ، لأنّ كل عاقل نظر إليه علم أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، والضمير في منه يعود إلى الدين أو إلى الرسول ، أو إلى القرآن. ويتلوه بمعنى يتبعه ، أو يقرؤه ، والضمير المرفوع في يتلوه والمنصوب والمجرور في منه يترتب على ما يناسبه كل قوم من هذه.

وقرأ محمد بن السائب الكلبي وغيره : كتاب موسى بالنصب عطفا على مفعول يتلوه ، أو بإضمار فعل. وإذا لم يعن بالشاهد الإنجيل فإنما خص التوراة بالذكر ، لأنّ الملتين مجتمعتان على أنها من عند الله ، والإنجيل يخالف فيه اليهود ، فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الفريقين أولى. وهذا يجري مع قول الجن : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) (١) ومع قول النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. وانتصب إماما على الحال ، والذي يظهر في تفسير هذه الآية أنه تعالى لما ذكر الكفار وأنهم ليس لهم إلا النار ، أعقب بضدهم وهم المؤمنون ، وهم الذين على بينة من ربهم ، والشاهد القرآن ، ومنه عائد على ربه. ويدل على أنّ الشاهد القرآن ذكر قوله : ومن قبله ، أي : ومن قبل القرآن كتاب موسى ، فمعناه : أنه تضافر على هدايته شيئان : كونه على أمر واضح من برهان العقل ، وكونه يوافق ذلك البرهان هذين الكتابين الإلهيين القرآن والتوراة ، فاجتمع له العقل والنقل. والإشارة بأولئك إلى من كان على بينة راعى معنى مع ، فجمع والضمير في به يعود إلى التوراة ، أو إلى القرآن ، أو إلى الرسول ، ثلاثة أقوال. والأحزاب جميع الملل قاله : ابن جبير ، أو اليهود ، والنصارى ، قاله قتادة. أو قريش قاله : السدي ، أو بنو أمية وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي ، وآل أبي طلحة بن عبيد الله ، قاله مقاتل. وقال الزمخشري : يعني أهل مكة ومن ضامّهم من المتحزبين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى. فالنار موعده أي : مكان وعده الذي يصيرون إليه. وقال حسان :

أوردتمونا حياض الموت ضاحية

فالنار موعدها والموت لاقيها

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٣٠.

١٣٥

والضمير في منه عائد على القرآن ، وقيل : على الخبر ، بأن الكفار موعدهم النار. وقرأ الجمهور : في مرية بكسر الميم ، وهي لغة الحجاز. وقرأ السلمي ، وأبو رجاء ، وأبو الخطاب السدوسي ، والحسن : بضمها وهي لغة أسد وتميم والناس أهل مكة قاله : ابن عباس ، أو جميع الكفار من شاك وجاهل ومعاند قاله : صاحب العتيان.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) : لما سبق قولهم : أم يقولون افتراه ، ذكر أنه لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ، وهم المفترون الذين نسبوا إلى الله الولد ، واتخذوا معه آلهة ، وحرموا وحللوا من غير شرع الله ، وعرضهم على الله بمعنى التشهير لخزيهم والإشارة بكذبهم ، وإلا فالطائع والعاصي يعرضون على الله (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) (١) والاشهاد : جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب ، أو جمع شهيد كشريف وأشراف ، والأشهاد الملائكة الذين يحفظون عليهم أعمالهم في الدنيا ، أو الأنبياء ، أو هما والمؤمنون ، أو ما يشهد عليهم من أعضائهم أقوال. وفي قوله : هؤلاء إشارة إلى تحقيرهم وإصغارهم بسوء مرتكبهم. وفي قوله : على ربهم أي : على من يحسن إليهم ويملك نواصيهم ، وكانوا جديرين أن لا يكذبوا عليه ، وهذا كما تقول إذا رأيت مجرما : هذا الذي فعل كذا وكذا. وتقدم تفسير الجملة بعد هذا. وهم تأكيد لقوله : وهم ، وقوله : معجزين ، أي كانوا لا يعجزون الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم ، وما كان لهم من ينصرهم ويمنعهم من العقاب ، ولكنه أراد انظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم. قال الزمخشري : وهو كلام الاشهاد يعني : أن كلامهم من قولهم هؤلاء إلى آخر هذه الجملة التي هي وما كان لهم من دون الله من أولياء. وقد يظهر أن قوله تعالى : ألا لعنة الله على الظالمين من كلام الله تعالى لا على سبيل الحكاية ، ويدل لقول الزمخشري قوله : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٢) الآية فكما أنه من كلام المخلوقين في تلك الآية ، فكذلك هنا يضاعف لهم العذاب يشدد ويكثر ، وهذا استئناف

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٤٨.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٤٤.

١٣٦

إخبار عن حالهم في الآخرة ، لأنهم جمعوا إلى الكفر بالبعث الكذب على الله ، وصدّ عباده عن سبيل الله ، وبغى العوج لها ، وهي الطريقة المستقيمة. ما كانوا يستطيعون السمع إخبار عن حالهم في الدنيا على سبيل المبالغة يعني : السمع للقرآن ، ولما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وما كانوا يبصرون أي : ينظرون إليه لبغضهم فيه. ألا ترى إلى حشو الطفيل بن عمرو أذنيه من الكرسف ، وإباية قريش أن يسمعوا ما نقل إليهم من كلام الرسول حتى تردّهم عن ذلك مشيختهم؟ أو إخبار عن حالهم إذا ضعف لهم العذاب أي : أنه تعالى حتم عليهم بذلك ، فهم لا يسمعون لذلك سماعا ينتفعون به ، ولا يبصرون لذلك. وقيل : الضمير في كانوا عائد على أولياؤهم آلهتهم أي : فما كان لهم في الحقيقة من أولياء وإن كانوا يعتقدون أنهم أولياء. ويعني أنه من لا يستطيع أن يسمع ولا يبصر فكيف يصلح للولاية؟ ويكون يضاعف لهم العذاب اعتراضا ، وما على هذه الأقوال نفي. وقيل : ما مصدرية أي : يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وأبصارهم ، والمعنى : أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد. وأجاز الفراء أن تكون ما مصدرية ، وحذف حرف الجر منها كما يحذف مع أن وأن أختيها ، وهذا فيه بعد في اللفظ وفي المعنى. وقال الزمخشري : أراد أنهم لفرط تصامّهم عن اتباع الحق وكراهتهم له كأنهم لا يستطيعون السمع ، ولعل بعض المجبرة يتوثب إذا عثر عليه فيوعوع به على أهل العدل ، كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان هذا الكلام لا أستطيع أسمعه ، وهذا مما يمجه سمعي انتهى. يعني : أنه يمكن أن يستدل به على أنّ العبد لا قدرة له ، لأن الله تعالى قد نفى عنه استطاعة السمع ، وإذا انتفت الاستطاعة منه انتفت قدرته. والزمخشري على عادته في السفه على أهل السنة وخسرانهم أنفسهم ، كونهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى ، فخسروا في تجارتهم خسرانا لا خسران أعظم منه. وهو على حذف مضاف أي : راحة أو سعادة أنفسهم ، وإلا فأنفسهم باقية معذبة. وبطل عنهم ما افتروه من عبادة الآلهة ، وكونهم يعتقدون شفاعتها إذا رأوا أنها لا تشفع ولا تنفع. لا جرم مذهب الخليل وسيبويه أنهما ركبا من لا وجرم ، وبنيا ، والمعنى : حق ، وما بعده رفع به على الفاعلية. وقال الحوفي : جرم منفي بلا بمعنى حق ، وهو مبني مع لا في موضع رفع بالابتداء ، وأنهم في موضع رفع على خبر جرم. وقال قوم : إنّ جرم مبنية مع لا على الفتح نحو قولك : لا رجل ، ومعناها لا بد ولا محالة. وقال الكسائي : معناها لا ضد ولا منع ، فتكون اسم لا وهي مبنية على الفتح كالقول الذي قبله ، وتكون جرم هنا من معنى القطع ، نقول : جرمت أي قطعت. وقال الزجاج : لا تركيب بينهما ولا ردّ عليهم. ولما

١٣٧

تقدّم من كل ما قبلها مما قالوا : إن الأصنام تنفعهم. وجرم فعل ماض معناه كسب ، والفاعل مضمر أي كسب هو ، أي : فعلهم ، وإنّ وما بعدها في موضع نصب على المفعول به ، وجرم القوم كاسبهم. وقال الشاعر :

نصبنا رأسه في جذع نخل

بما جرمت يداه وما اعتدينا

وقال آخر :

جريمة ناهض في رأس نيق

ترى لعظام ما جمعت صليبا

ويقال : لا جرم بالكسر ، ولا جر بحذف الميم. قال النحاس : وزعم الكسائي أنّ فيها أربع لغات : لا جرم ، ولا عن ذا جرم ، ولا أن ذا جرم ، قال : وناس من فزارة يقولون : لا جرم. وحكى الفراء فيه لغتين أخريين ، قال : بنو عامر يقولون : لا ذا جرم ، وناس من العرب يقولون : لا جرم بضم الجيم. وقال الجبائي في نوادره : حكى عن فزارة لا جرّ والله لا أفعل ذاك ، قال : ويقال لا ذا جرم ، ولا ذو جرم ، ولا عن ذا جرم ، ولا أن ذا جرم ، ولا أن جرم ، ولا عن جرم ، ولا ذا جر ، والله بغير ميم لا أفعل ذاك. وحكى بعضهم بغير لا جرم : أنك أنت فعلت ذاك ، وعن أبي عمرو : لأجرم أنّ لهم النار على وزن لا كرم ، ولا جر حذفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا : سو ترى يريدون سوف ترى. ولما كان خسران النفس أعظم الخسران ، حكم عليهم بأنهم هم الزائدون في الخسران على كل خاسر من سواهم من العصاة مآله إلى الراحة ، وإلى انقطاع خسرانه بخلاف هؤلاء ، فإنّ خسرانهم لا انقطاع له.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) : لما ذكر ما يؤول إليه الكفار من النار ، ذكر ما يؤول إليه المؤمنون من الجنة ، والفريقان هنا الكافر والمؤمن. ولما كان تقدم ذكر الكفار وأعقب بذكر المؤمنين ، جاء التمثيل هنا مبتدأ بالكافر فقال : كالأعمى والأصم. ويمكن أن يكون من باب تشبيه اثنين باثنين ، فقوبل الأعمى بالبصير وهو طباق ، وقوبل الأصم بالسميع وهو طباق أيضا ، والعمى والصمم آفتان تمنعان من البصر والسمع ، وليستا بضدّين ، لأنه لا تعاقب بينهما. ويحتمل أن يكون من تشبيه واحد بوصفيه بواحد بوصفيه ، فيكون من عطف الصفات كما قال الشاعر :

١٣٨

إلى الملك القرن وابن الهمام

وليث الكريهة في المزدحم

ولم يجيء التركيب كالأعمى والبصير والأصم والسميع فيكون مقابلة في لفظ الأعمى وضده ، وفي لفظة الأصم وضده ، لأنه تعالى لما ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد السمع ، ولما ذكر انفتاح البصر أتبعه بانفتاح السمع ، وذلك هو الأسلوب في المقابلة ، والأتم في الإعجاز. ويأتي إن شاء الله تعالى نظير هذه المقابلة في قوله في طه : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (١) واحتمل أن تكون الكاف نفسها هي خبر المبتدأ ، فيكون معناها معنى المثل ، فكأنه قيل : مثل الفريقين مثل الأعمى. واحتمل أن يراد بالمثل الصفة ، وبالكاف مثل ، فيكون على حذف مضاف أي : كمثل الأعمى ، وهذا التشبيه تشبيه معقول بمحسوس ، فأعمى البصيرة أصمها ، شبه بأعمى البصر أصم السمع ، ذلك في ظلمات الضلالات متردد تائه ، وهذا في الطرقات محير لا يهتدي إليها. وجاء أفلا تذكرون لينبه على أنه يمكن زوال هذا العمى وهذا الصمم المعقول ، فيجب على العاقل أن يتذكر ما هو فيه ، ويسعى في هداية نفسه. وانتصب مثلا على التمييز ، قال ابن عطية : ويجوز أن يكون حالا انتهى. وفيه بعد ، والظاهر التمييز وأنه منقول من الفاعل أصله : هل يستوي مثلاهما.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ. فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) : هذه السورة في قصصها شبيهة بسورة الأعراف بدىء فيها بنوح ، ثم بهود ، ثم بصالح ، ثم بلوط ، مقدّما عليه ابراهيم بسبب قوم لوط ، ثم بشعيب ، ثم بموسى وهارون ، صلى الله على نبينا وعليهم أجمعين. وذكروا وجوه حكم وفوائد لتكرار هذه القصص في القرآن.

وقرأ النحويان وابن كثير : أني بفتح الهمزة أي : بأبي ، وباقي السبعة بكسرها على إضمار القول. وقال أبو علي في قراءة الفتح : خروج من الغيبة إلى المخاطبة ، قال ابن عطية : وفي هذا نظر ، وإنما هي حكاية مخاطبة لقومه وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة ، ولو كان الكلام أن أنذرهم أو نحوه لصح ذلك انتهى. وأن لا تعبدوا إلا الله ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان كما جاء مصرّحا في غير هذه السورة ، وأن بدل من أي

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ١١٨ ـ ١١٩.

١٣٩

لكم في قراءة من فتح ، ويحتمل أن تكون أن المفسرة. وأما في قراءة من كسر فيحتمل أن تكون المفسرة ، والمراعى قبلها : إما أرسلنا وإما نذير مبين ، ويحتمل أن تكون معمولة لأرسلنا أي : بأن لا تعبدوا إلا الله ، وإسناد الألم إلى اليوم مجاز لوقوع الألم فينه لا به.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : فإذا وصف به العذاب؟ (قلت) : مجازى مثله ، لأن الأليم في الحقيقة هو المعذب ، ونظيرهما قولك : نهاره صائم انتهى. وهذا على أن يكون أليم صفة مبالغة من آلم ، وهو من كثر ألمه. فإن كان أليم بمعنى مؤلم ، فنسبته لليوم مجاز ، وللعذاب حقيقة. لما أنذرهم من عذاب الله وأمرهم بإفراده بالعبادة ، وأخبر أنه رسول من عند الله ، ذكروا أنه مماثلهم في البشرية ، واستبعدوا أن يبعث الله رسولا من البشر ، وكأنهم ذهبوا إلى مذهب البراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق ، ثم عيروه بأنه لم يتبعه إلا الأراذل أي : فنحن لا نساويهم ، ثم نفوا أن يكون له عليهم فضل. أي : أنت مساوينا في البشرية ولا فضل لك علينا ، فكيف امتزت بأنك رسول الله؟ وفي قوله : إلا الذين هم أراذلنا ، مبالغة في الإخبار ، وكأنه مؤذن بتأكيد حصر من اتبعه ، وأنهم هم الأراذل لم يشركهم شريف في ذلك. وفي الحديث «إنهم كانوا حاكة وحجامين» وقال النحاس : هم الفقراء والذين لا حسب لهم ، والخسيسو الصناعات. وفي حديث هرقل : «أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال : بل ضعفاؤهم ، فقال : هم أتباع الرسل قبل» وإنما كان كذلك لاستيلاء الرئاسة على الأشراف وصعوبة الانفكاك عنها ، والأنفة من الانقياد لغيرهم ، والفقير خلى عن تلك الموانع فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. ونراك يحتمل أن تكون بصرية ، وأن تكون علمية. قالوا : وأراذل جمع الجمع ، فقيل : جمع أرذل ككلب وأكلب وأكالب. وقيل : جمع أرذال ، وقياسه أراذيل. والظاهر أنه جمع أرذل التي هي أفعل التفضيل وجاء جمعا ، كما جاء أكابر مجرميها وأحاسنكم أخلاقا. وقال الزمخشري : ما نراك إلا بشرا مثلنا ، تعريض بأنهم أحق منه بالنبوّة ، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم ، فقالوا : هب أنك واحد من الملأ وموازيهم في المنزلة ، فما جعلك أحق منهم؟ ألا ترى إلى قولهم : وما نرى لكم علينا من فضل ، أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكا لا بشرا ، ولا يظهر ما قاله الزمخشري من الآية.

وقرأ أبو عمرو ، وعيسى الثقفي : بادىء الرأي من بدأ يبدأ ومعناه : أول الرأي. وقرأ باقي السبعة : بادي بالياء من بدا يبدو ، ومعناه ظاهر الرأي. وقيل : بادي بالياء معناه بادىء بالهمز ، فسهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسر ما قبلها. وذكروا أنه منصوب على الظرف ،

١٤٠