البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٩

الذين لا يعلمون أي في أن تستعجلا قضائي ، فإن وعدي لا خلف له. وقرأ السلمي والضحاك : دعواتكما على الجمع. وقرأ ابن السميقع : قد أجبت دعوتكما خبرا عن الله تعالى ، ونصب دعوة والربيع دعوتيكما ، وهذا يؤكد قول من قال : إن هارون دعا مع موسى. وقراءة دعوتيكما تدل على أنه قرأ قد أجبت على أنه فعل وفاعل ، ثم أمرا بالاستقامة ، والمعنى : الديمومة عليها وعلى ما أمرتما به من الدعوة إلى الله تعالى ، وإلزام حجة الله. وقرأ الجمهور : تتبعان بتشديد التاء والنون ، وابن عباس وابن زكوان بتخفيف التاء وشد النون ، وابن ذكوان أيضا بتشديد التاء وتخفيف النون ، وفرقة بتخفيف التاء وسكون النون ، وروى ذلك الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر ، فأما شد النون فعلى أنها نون التوكيد الشديدة لحقت فعل النهي المتصل به ضمير الاثنين ، وأما تخفيفها مكسورة فقيل : هي نون التوكيد الخفيفة ، وكسرت كما كسرت الشديدة. وقد حكى النحويون كسر النون الخفيفة في مثل هذا عن العرب ، ومذهب سيبويه والكسائي أنها لا تدخل هنا الخفيفة ، ويونس والفراء يريان ذلك. وقيل : النون المكسورة الخفيفة هي علامة الرفع ، والفعل منفي ، والمراد منه النهي ، أو هو خبر في موضع الحال أي : غير متبعين قاله الفارسي. والذين لا يعلمون فرعون وقومه قاله : ابن عباس. أو الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه ، ذكره أبو سليمان.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) : قرأ الحسن وجوّزنا بتشديد الواو ، وتقدّم الكلام في الباء في ببني إسرائيل ، وكم كان الذين جازوا مع موسى عليه‌السلام في سورة الأعراف. وقرأ الحسن وقتادة فاتبعهم بتشديد التاء. وقرأ الجمهور : وجاوزنا فاتبعهم رباعيا ، قال الزمخشري : وليس من جوز الذي في بيت الأعشى :

وإذا تجوزها جبال قبيلة

لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال : وجوزنا ببني إسرائيل في البحر كما قال :

كما جوز السبكي في الباب فينق

انتهى.

١٠١

وقال الحوفي : تبع واتبع بمعنى واحد. وقال الزمخشري : فاتبعهم لحقهم ، يقال : تبعه حتى اتبعه. وفي اللوامح : تبعه إذا مشى خلفه ، واتبعه كذلك ، إلا أنه حاذاه في المشي واتبعه لحقه ، ومنه العامة يعني : ومنه قراءة العامة فاتبعهم وجنود فرعون قيل : ألف ألف وستمائة ألف. وقيل : غير ذلك. وقرأ الحسن : وعدوا على وزن علو ، وتقدمت في الأنعام. وعدوا وعدوّا من العدوان ، واتباع فرعون هو في مجاوزة البحر. روي أن فرعون لما انتهى إلى البحر فوجده قد انفرق ومضى فيه بنو إسرائيل قال لقومه : إنما انفلق بأمري ، وكان على فرس ذكر فبعث الله إليه جبريل عليه‌السلام على فرس أنثى ، ودنوا فدخل بها البحر ولج فرس فرعون ورآه وجنب الجيوش خلفه ، فلما رأى أنّ الانفراق ثبت له استمر ، وبعث الله ميكائيل عليه‌السلام يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر فانطبق عليهم. وقرأ الجمهور : أنه بفتح الهمزة على حذف الباء. وقرأ الكسائي وحمزة : بكسرها على الاستئناف ابتداء كلام ، أو بدلا من آمنت ، أو على إضمار القول أي : قائلا إنه. ولما لحقه من الدهش ما لحقه كرر المعنى بثلاث عبارات ، إما على سبيل التلعثم إذ ذلك مقام تحار فيه القلوب ، أو حرصا على القبول ولم يقبل الله منه إذ فاته وقت القبول وهو حالة الاختيار وبقاء التكليف ، والتوبة بعد المعاينة لا تنفع. ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) (١) وتقدم الخلاف في قراءة آلآن في قوله : (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ) (٢) والمعنى : أتؤمن الساعة في حال الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك؟ قيل : قال ذلك حين ألجمه الغرق. وقيل : بعد أن غرق في نفسه. قال الزمخشري : والذي يحكى أنه حين قال : آمنت ، أخذ جبريل من حال البحر فدسه في فيه ، فللغضب في الله تعالى على حال الكافر في وقت قد علم أن إيمانه لا ينفعه. وأما ما يضم إليه من قولهم خشيت أن تدركه رحمة الله تعالى فمن زيادات الباهتين لله تعالى وملائكته ، وفيه جهالتان : إحداهما : أنّ الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس ، فحال البحر لا يمنعه. والآخر : أن من كره الإيمان للكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر ، لأنّ الرضا بالكفر كفر. والظاهر أن قوله : آلآن إلى آخره من كلام الله له على لسان ملك. فقيل : هو جبريل. وقيل : ميكائيل. وقيل : غيرهما ، لخطابه فاليوم ننجيك. وقيل : من قول فرعون في نفسه وإفساده وإضلاله الناس ، ودعواه الربوبية. (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) (٣) فاليوم ننجيك الظاهر أنه خبر. وقيل : هو استفهام

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٨٥.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٥١.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ٨٨.

١٠٢

فيه تهديد أي : أفاليوم ننجيك؟ فهلا كان الإيمان قبل الإشراف على الهلاك ، وهذا بعيد لحذف همزة الاستفهام ولقوله : لتكون لمن خلفك آية ، لأنّ التعليل لا يناسب هنا الاستفهام. قال ابن عباس : ننجيك نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع ، وببدنك بدرعك ، وكان من لؤلؤ منظوم لا مثال له. وقيل : من ذهب. وقيل : من حديد وفيها سلاسل من ذهب. والبدن بدن الإنسان ، والبدن الدرع القصيرة. قال :

ترى الأبدان فيها مسبغات

على الأبطال والكلب الحصينا

يعني : الدروع. وقال عمرو بن معدي كرب :

أعاذل شكتي بدني وسيفي

وكل مقلص سلس القياد

وكانت له درع من ذهب يعرف بها. وقيل : نلقيك ببدنك عريانا ليس عليك ثياب ولا سلاح ، وذلك أبلغ في إهانته. وقيل : نخرجك صحيحا لم يأكلك شيء من الدواب. وقيل : بدنا بلا روح قاله مجاهد. وقيل : نخرجك من ملكك وحيدا فريدا. وقيل : نلقيك في البحر من النجاء ، وهو ما سلخته عن الشاة أو ألقيته عن نفسك من ثياب أو سلاح. وقيل : نتركك حتى تغرق ، والنجاء الترك. وقيل : نجعلك علامة ، والنجاء العلامة. وقيل : نغرقك من قولهم : نجى البحر أقواما إذا أغرقهم. وقال الكرماني : يحتمل أن يكون من النجاة وهو الإسراع أي : نسرع بهلاكك. وقيل : معنى ببدنك بصورتك التي تعرف بها ، وكان قصيرا أشقر أزرق قريب اللحية من القامة ، ولم يكن في بني إسرائيل شبيه له يعرفونه بصورته ، وببدنك إذا عنى به الجثة تأكيد كما تقول : قال فلان بلسانه وجاء بنفسه.

وقرأ يعقوب : ننجيك مخففا مضارع أنجى. وقرأ أبيّ ، وابن السميقع ، ويزيد البربري : ننحيك بالحاء المهملة من التنحية. ورويت عن ابن مسعود أي : نلقيك بناحية مما يلي البحر. قال كعب : رماه البحر إلى الساحل كأنه ثور. وقرأ أبو حنيفة : بأبدانك أي بدروعك ، أو جعل كل جزء من البدن بدنا كقولهم : شابت مفارقه. وقرأ ابن مسعود ، وابن السميقع : بندائك مكان ببدنك ، أي : بدعائك ، أي بقولك آمنت إلى آخره. لنجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع ، أو بما ناديت به في قومك. ونادى فرعون في قومه فحشر فنادى فقال : أنا ربكم الأعلى ، ويا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري. ولما كذبت بنو إسرائيل بغرق فرعون رمى به البحر على ساحله حتى رأوه قصيرا أحمر كأنه ثور. لمن خلفك لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل ، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأنا من أن

١٠٣

يغرق ، وكان مطرحه على ممر بني إسرائيل حتى قيل لمن خلفك آية. وقيل : لمن يأتي بعدك من القرون ، وقيل : لمن بقي من قبط مصر وغيرهم. وقرىء : لمن خلفك بفتح اللام أي : من الجبابرة والفراعنة ليتعظوا بذلك ، ويحذروا أن يصيبهم ما أصابك إذا فعلوا فعلك. ومعنى كونه آية : أن يظهر للناس عبوديته ومهانته ، أو ليكون عبرة يعتبر بها الأمم. وقرأت فرقة : لمن خلقك من الخلق وهو الله تعالى أي : ليجعلك الله آية له في عباده. وقيل : المعنى ليكون طرحك على الساحل وحدك ، وتمييزك من بين المغرقين لئلا يشتبه على الناس أمرك ، ولئلا يقولوا لادعائك العظمة : إنّ مثله لا يغرق ولا يموت ، آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره ، وإنّ كثيرا من الناس ظاهره الناس كافة ، قاله الحسن. وقال مقاتل ؛ من أهل مكة عن آياتنا أي : العلامات الدالة على الوحدانية وغيرها من صفات العلى ، لغافلون لا يتدبرون ، وهذا خبر في ضمنه توعد.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) : لما ذكر تعالى ما جرى لفرعون وأتباعه من الهلاك ، ذكر ما أحسن به لبني إسرائيل وما امتن به عليهم ، إذ كان بنو إسرائيل قد أخرجوا من مساكنهم خائفين من فرعون ، فذكر تعالى أنه اختار لهم من الأماكن أحسنها. والظاهر أنّ بني إسرائيل هم الذين كانوا آمنوا بموسى ونجوا من الغرق ، وسياق الآيات يشهد لهم. وقيل : هم الذين كانوا بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني إسرائيل قريظة والنضير وبني قينقاع ، وانتصب مبوأ صدق على أنه مفعول ثان لبوأنا كقوله : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) (١) وقيل : يجوز أن يكون مصدرا. ومعنى صدق أي : فضل وكرامة ومنة (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) (٢). وقيل : مكان صدق الوعد ، وكان وعدهم فصدقهم وعده. وقيل : صدق تصدّق به عليهم ، لأن الصدقة والبر من الصدق. وقيل : صدق فيه ظن قاصده وساكنه. وقيل : منزلا صالحا مرضيا ، وعن ابن عباس : هو الأردن وفلسطين. وقال الضحاك وابن زيد ، وقتادة : الشام وبيت المقدس. وقال مقاتل : بيت المقدس. وعن الضحاك أيضا : مصر ، وعنه أيضا : مصر والشام. قال ابن عطية : والأصح أنه الشام وبيت المقدس بحسب ما حفظ من أنهم لم يعودوا إلى مصر ، على أنه في القرآن كذلك. (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) (٣) يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك. وقد يحتمل أن يكون

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٥٨.

(٢) سورة القمر : ٥٤ / ٥٥.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ٥٩.

١٠٤

وأورثناها معناها الحالة من النعمة وإن لم تكن في قطر واحد انتهى. وقيل : ما بين المدينة والشام من أرض يثرب ذكره علي بن أحمد النيسابوري ، وهذا على قول من قال : إن بني إسرائيل هم الذين بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولما ذكر أنه بوّأهم مبوّأ صدق ذكر امتنانه عليهم بما رزقهم من الطيبات وهي : المآكل المستلذات ، أو الحلال ، فما اختلفوا أي : كانوا على ملة واحدة وطريقة واحدة مع موسى عليه‌السلام في أول حاله ، حتى جاءهم العلم أي : علم التوراة فاختلفوا ، وهذا ذم لهم. أي أن سبب الإيقاف هو العلم ، فصار عندهم سبب الاختلاف ، فتشعبوا شعبا بعد ما قرؤوا التوراة. وقيل : العلم بمعنى المعلوم ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن رسالته كانت معلومة عندهم مكتوبة في التوراة ، وكانوا يستفتحون به أي : يستنصرون ، وكانوا قبل مجيئه إلى المدينة مجمعين على نبوّته يستنصرون به في الحروب يقولون : اللهم بحرمة النبي المبعوث في آخر الزمان انصرنا فينصرون ، فلما جاء قالوا : النبي الموعود به من ولد يعقوب ، وهذا من ولد إسماعيل ، فليس هو ذاك ، فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل : العلم القرآن ، واختلافهم قول بعضهم هو من كلام محمد ، وقول بعضهم من كلام الله وليس لنا إنما هو للعرب. وصدق به قوم فآمنوا ، وهذا الاختلاف لا يمكن زواله في الدنيا ، وأنه تعالى يقضي فيه في الآخرة فيميز المحق من المبطل.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) : الظاهر أنّ إن شرطية. وروي عن الحسن والحسين بن الفضل أنّ إن نافية. قال الزمخشري : أي مما كنت في شك فسئل ، يعني : لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ، ولكن لتزداد يقينا كما ازداد إبراهيم عليه‌السلام بمعاينة إحياء الموتى انتهى. وإذا كانت إن شرطية فذكروا أنها تدخل على الممكن وجوده ، أو المحقق وجوده ، المبهم زمان وقوعه ، كقوله تعالى : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) (١) والذي أقوله : إنّ إن الشرطية تقتضي تعليق شيء على شيء ، ولا تستلزم تحتم وقوعه ولا إمكانه ، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلا كقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٢) ومستحيل أن يكون له ولد ، فكذلك هذا مستحيل أن يكون في شك ، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) (٣) أي فافعل. لكنّ

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٤.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٨١.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٣٥.

١٠٥

وقوع إن للتعليق على المستحيل قليل ، وهذه الآية من ذلك. ولما خفي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه الآية ، فقال ابن عطية : الصواب أنها مخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض انتهى. ولذلك جاء : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) (١) وقال قوم : الكلام بمنزلة قولك : إن كنت ابني فبرني ، وليس هذا المثال بجيد ، وإنما مثال هذه قوله تعالى لعيسى عليه‌السلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) (٢) انتهى. وهذا القول مروي عن الفراء. قال الكرماني : واختاره جماعة ، وضعف بأنه يصير تقدير الآية : أأنت في شك؟ إذ ليس في الآية ما يدل على نفي الشك. وقيل : كنى هنا بالشك عن الضيق أي : فإن كنت في ضيق من اختلافهم فيما أنزل إليك وتعنتهم عليك. وقيل : كنى بالشك عن العجب أي : فإن كنت في تعجب من عناد فرعون. ومناسبة المجاز أنّ التعجب فيه تردد ، كما أن الشك تردد بين أمرين. وقال الكسائي : معناه إن كنت في شك أنّ هذا عادتهم مع الأنبياء فسلهم كيف كان صبر موسى عليه‌السلام حين اختلفوا عليه؟ وقال الزمخشري : فإن كنت في شك بمعنى العرض والتمثيل ، كأنه قيل : فإن وقع لك شك مثلا وخيل لك الشيطان خيالا منه تقديرا فسئل الذين يقرؤون الكتاب ، والمعنى : أن الله تعالى قدم ذكر بني إسرائيل وهم قرأة الكتاب ، ووصفهم بأن العلم قد جاءهم ، لأنّ أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فأراد أن يؤكد عليهم بصحة القرآن وصحة نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويبالغ في ذلك فقال تعالى : فإن وقع لك شك فرضا وتقديرا وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حلها وإماطتها ، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته ، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحق انتهى. وقيل أقوال غير هذه ، وقرأ يحيى وابراهيم : يقرؤون الكتب على الجمع. والحق هنا : الإسلام ، أو القرآن ، أو النبوة ، أو الآيات ، والبراهين القاطعة ، أقوال. فاثبت ودم على ما أنت فيه من انتفاء المرية والتكذيب ، والخطاب للسامع غير الرسول. وكثيرا ما يأتي الخطاب في ظاهره لشخص ، والمراد غيره. وروي أنه عليه‌السلام قال : «لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق» وعن ابن عباس : والله ما شك طرفة عين ، ولا سأل أحدا منهم. والامتراء التوقف في الشيء والشك فيه ، وأمره أسهل من أمر المكذب فبدىء به أولا فنهى عنه ، واتبع بذكر المكذب ونهى أن يكون منهم.

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ١٠٤.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ١١٦.

١٠٦

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) : ذكر تعالى عبادا قضى عليهم بالشقاوة فلا تتغير ، والكلمة التي حقت عليهم قال قتادة : هي اللعنة والغضب. وقيل : وعيده أنهم يصيرون إلى العذاب. وقال الزمخشري : قول الله تعالى الذي كتب في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفارا فلا يكون غيره ، وتلك كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد لله تعالى الله عن ذلك انتهى. وكلامه أخيرا على طريقة الاعتزال. وقال أبو عبد الله الرازي : المراد من هذه الكلمة كلم الله بذلك ، وإخباره عنه ، وخلقه في العبد مجموع القدرة ، والداعية وهو موجب لحصول ذلك الأمر. وقال ابن عطية : المعنى أنّ الله أوجب لهم سخطه من الأزل وخلقهم لعذابه ، فلا يؤمنون ولو جاءهم كل بيان وكل وضوح إلا في الوقت الذي لا ينفعهم فيه الإيمان ، كما صنع فرعون وأشباهه ، وذلك وقت المعاينة. وفي ضمن الألفاظ التحذير من هذه الحال ، وبعث كل على المبادرة إلى الإيمان والفرار من سخط الله. ويجوز أن يكون العذاب الأليم عند تقطع أسبابهم يوم القيامة ، وتقدم الخلاف في قراءة كلمة بالإفراد وبالجمع.

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) : لو لا هنا هي التحضيضية التي صحبها التوبيخ ، وكثيرا ما جاءت في القرآن للتحضيض ، فهي بمعنى هلا. وقرأ أبي وعبد الله فهلا ، وكذا هو في مصحفيهما. والتحضيض أن يريد الإنسان فعل الشيء الذي يحض عليه ، وإذا كانت للتوبيخ فلا يريد المتكلم الحض على ذلك الشيء ، كقول الشاعر :

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم

بني ضوطري لو لا الكمي المقنعا

لم يقصد حضهم على عقر الكمي المقنع ، وهنا وبخهم على ترك الإيمان النافع. والمعنى : فهلا آمن أهل القرية وهم على مهل لم يلتبس العذاب بهم ، فيكون الإيمان نافعا لهم في هذه الحال. وقوم منصوب على الاستثناء المنقطع ، وهو قول سيبويه والكسائي والفراء والأخفش ، إذ ليسوا مندرجين تحت لفظ قرية. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون متصلا ، والجملة في معنى النفي كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس. وقال ابن عطية : هو بحسب اللفظ استثناء منقطع ، وكذلك رسمه النحويون وهو بحسب المعنى متصل ، لأنّ تقديره ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس ، والنصب هو الوجه ، ولذلك

١٠٧

أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصب ، وذلك مع انقطاع الاستثناء. وقالت فرقة : يجوز فيه الرفع ، وهذا مع اتصال الاستثناء. وقال المهدوي : والرفع على البدل من قرية ، وقال الزمخشري : وقرىء بالرفع على البدل عن الحرمي والكسائي ، وتقدم الخلاف في قراءة يونس بضم النون وكسرها ، وذكر جواز فتحها.

وقوم يونس : هم أهل نينوي من بلاد الموصل ، كانوا يعبدون الأصنام ، فبعث الله إليهم يونس فأقاموا على تكذيبه سبع سنين ، وتوعدهم العذاب بعد ثلاثة أيام. وقيل : بعد أربعين يوما. وذكر المفسرون قصة قوم يونس وتفاصيل فيها ، وفي كيفية عذابهم الله أعلم بصحة ذلك ، ويوقف على ذلك في كتبهم. وقال الطبري : وذكره عن جماعة أن قوم يونس خصوا من بين الأمم بأن ينب عليهم بعد معاينة العذاب. وقال الزجاج : هؤلاء دنا منهم العذاب ولم يباشرهم كما باشر فرعون ، فكانوا كالمريض الذي يخاف الموت ويرجو العافية ، فأما الذي يباشره العذاب فلا توبة له. وقال ابن الأنباري : علم منهم صدق النيات بخلاف من تقدمهم من الهالكين. قال السدي : إلى حين ، إلى وقت انقضاء آجالهم. وقيل : إلى يوم القيامة ، وروي عن ابن عباس. ولعله لا يصح ، فعلى هذا يكونون باقين أحياء ، وسترهم الله عن الناس.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) : قيل : نزلت في أبي طالب ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسف بموته على ملة عبد المطلب وكان حريصا على إيمانه. ولما كان أحرص الناس على هدايتهم وأسعى في وصول الخير إليهم والفوز بالإيمان منهم وأكثر اجتهادا في نجاة العالمين من العذاب ، أخبره تعالى أنه خلق أهلا للسعادة وأهلا للشقاوة ، وأنه لو أراد إيمانهم كلهم لفعل ، وأنه لا قدرة لأحد على التصرف في أحد. والمقصود بيان أنّ القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا له تعالى. وتقديم الاسم في الاستفهام على الفعل يدل على إمكان حصول الفعل ، لكن من غير ذلك الاسم فلله تعالى أن يكره الناس على الإيمان لو شاء ، وليس ذلك لغيره.

وقال الزمخشري ولو شاء ربك مشيئة القسر والإلجاء لآمن من في الأرض كلهم على وجه الإحاطة والشمول جميعا ، مجتمعين على الإيمان ، مطبقين عليه ، لا يختلفون فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) يعني إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم على الإيمان هؤلاء أنت. وإتلاء الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأنّ الإكراه

١٠٨

ممكن مقدور عليه ، وإنما الشان في المكره من هو ، وما هو إلا هو وحده ولا يشارك فيه ، لأنه تعالى هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان ، وذلك غير مستطاع للبشر انتهى. وقوله : مشيئة القسر والإلجاء هو مذهب المعتزلة. وقال ابن عطية : المعنى أنّ هذا الذي تقدم ذكره إنما كان جميعه بقضاء الله عليهم ومشيئته فيهم ، ولو شاء الله لكان الجميع مؤمنا ، فلا تتأسف أنت يا محمد على كفر من لم يؤمن بك ، وادع ولا عليك ، فالأمر محتوم. أتريد أنت أن تكره الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم ، وتضطرهم إلى ذلك والله عزوجل قد شاء غيره؟ فهذا التأويل الآية عليه محكمة أي : ادع وقاتل من خالفك ، وإيمان من آمن مصروف إلى المشيئة. وقالت فرقة : المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يدخلوا في الإيمان؟ وزعمت أن هذه الآية في صدر الإسلام ، وأنها منسوخة بآية السيف ، والآية على كلا التأويلين رادة على المعتزلة انتهى. ولذلك ذهب الزمخشري إلى تفسير المشيئة بمشيئة القسر والإلجاء ، وهو تفسير الجبائي والقاضي. ومعنى إلا بإذن الله : أي بإرادته وتقديره لذلك والتمكن منه. وقال الزمخشري : بتسهيله وهو منح الإلطاف. ويجعل الرجس : وهو الخذلان على الذين لا يعقلون ، وهم المصرون على الكفر. وسمى الخذلان رجسا وهو العذاب ، لأنه سببه انتهى. وهو على طريق الاعتزال. وقال ابن عباس : الرجس السخط ، وعنه الإثم والعدوان. وقال مجاهد : ما لا خير فيه. وقال الحسن ، وأبو عبيدة ، والزجاج : العذاب. وقال الفراء : العذاب والغضب. وقال الحسن أيضا : الكفر. وقال قتادة : الشيطان ، وقد تقدّم تفسيره ، ولكن نقلنا ما قاله العلماء هنا. وقرأ أبو بكر ، وزيد بن علي : ونجعل بالنون ، وقرأ الأعمش : ويجعل الله الرجز بالزاي.

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ. فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) : أمر تعالى بالفكر فيما أودعه تعالى في السموات والأرض ، إذ السبيل إلى معرفته تعالى هو بالتفكر في مصنوعاته ، ففي العالم العلوي في حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها والكواكب ، وما يختص بذلك من المنافع والفوائد ، وفي العالم السفلي في أحوال العناصر والمعادن والنبات والحيوان ، وخصوصا حال الإنسان. وكثيرا ما ذكر الله تعالى في كتابه الحض على الفكر في مخلوقاته تعالى وقال : ماذا في السموات والأرض تنبيها على القاعدة الكلية ، والعاقل يتنبه لتفاصيلها وأقسامها. ثم لما أمر بالنظر أخبر أنه من لا يؤمن لا تغنيه الآيات.

١٠٩

والنذر جمع نذير ، إما مصدر فمعناه الإنذارات ، وإما بمعنى منذر فمعناه المنذرون والرسل. وما الظاهر أنها للنفي ، ويجوز أن تكون استفهاما أي : وأي شيء تغني الآيات وهي الدلائل؟ وهو استفهام على جهة التقرير. وفي الآية توبيخ لحاضري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المشركين. وقرأ الحرميان ، والعربيان ، والكسائي : قل انظروا بضم اللام ، وقرىء : وما تغني بالتاء ، وهي قراءة الجمهور وبالياء. وماذا يحتمل أن يكون استفهاما في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في السموات. ويحتمل أن يكون الخبر ذا بمعنى الذي ، وصلته في السموات. وانظروا معلقة ، فالجملة الابتدائية في موضع نصب ، ويبعد أن تكون ماذا كله موصولا بمعنى الذي ، ويكون مفعولا لقوله : انظروا ، لأنه إن كانت بصرية تعدت بإلى ، وإن كانت قلبية تعدت بفي. وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون ما في قوله : وما تغني ، مفعولة لقوله : انظروا ، معطوفة على قوله : ماذا أي : تأملوا نذر غنى الآيات. والنذر عن الكفار إذا قبلوا ذلك ، كفعل قوم يونس ، فإنه يرفع العذاب في الدنيا والآخرة وينجي من الهلكات. والآية على هذا تحريض على الإيمان ، وتجوز اللفظ على هذا التأويل ، إنما هو في قوله : لا يؤمنون انتهى. وهذا احتمال فيه ضعف. وفي قوله : مفعولة معطوفة على قوله ماذا ، تجوز يعني أنّ الجملة الاستفهامية التي هي ماذا في السموات والأرض في موضع المفعول ، لأنّ ماذا منصوب وحده بانظروا ، فيكون ماذا موصولة. وانظروا بصرية لما تقدم ، والأيام هنا وقائع الله فيم ، كما يقال أيام العرب لوقائعها. وفي الاستفهام تقرير وتوعد ، وحض على الإيمان ، والمعنى : إذا لجوا في الكفر حل بهم العذاب ، وإذا آمنوا نجوا ، هذه سنة الله في الأمم الخالية. قل فانتظروا أمر تهديد أي : انتظروا ما يحل بكم كما حل بمن قبلكم من مكذبي الرسل.

(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) : لما تقدم قوله : فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ، وكان ذلك مشعرا بما حل بالأمم الماضية المكذبة ومضرحا بهلاكهم في غير ما آية ، أخبر تعالى عن حكاية حالهم الماضية فقال : ثم ننجي رسلنا ، والمعنى : إن الذين خلوا أهلكناهم لما كذبوا الرسل ، ثم نجينا الرسل والمؤمنين. ولذلك قال الزمخشري : ثم ننجي معطوف على كلام محذوف يدل عليه إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ، كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا على مثل الحكايات الماضية. والظاهر أن كذلك في موضع نصب تقديره : مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومؤمنيهم ، ننجي من آمن بك يا محمد ، ويكون حقا على تقدير : حق ذلك حقا. وقال أبو

١١٠

البقاء : يجوز أن يكون حقا بدلا من المحذوف النائب عنه الكاف تقديره : إنجاء مثل ذلك حقا. وأجاز أن يكون كذلك ، وحقا منصوبين بننجي التي بعدهما ، وأن يكون كذلك منصوبا بننجي الأولى ، وحقا بننجي الثانية ، وأجاز هو تابعا لابن عطية أن تكون الكاف في موضع رفع ، وقدره الأمر كذلك : وحقا منصوب بما بعدها. وقال الزمخشري مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين ، وحقا علينا اعتراض يعني حق ذلك علينا حقا. قال القاضي : حقا علينا المراد به الوجوب ، لأن تخليص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من العذاب إلى الثواب واجب ، ولو لاه ما حسن من الله أن يلزمهم : الأفعال الشاقة. وإذا ثبت لهذا السبب جرى مجرى قضاء الدين للسبب المتقدّم ، وأجيب بأنه حق. بحسب الوعد والحكم لا بحسب الاستحقاق ، لما ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئا. وقرأ الكسائي ، وحفص : ننجي المؤمنين بالتخفيف مضارع أنجى ، وخط المصحف ننج بغير ياء.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) خطاب لأهل مكة يقول : إن كنتم لا تعرفون ما أنا عليه فأنا أبينه لكم ، فبدأ أولا بالانتفاء من عبادة ما يعبدون من الأصنام تسفيها لآرائهم ، وأثبت ثانيا من الذي يعبده وهو الله الذي يتوفاكم. وفي ذكر هذا الوصف الوسط الدال على التوفي. دلالة على البدء وهو الخلق ، وعلى الإعادة ، فكأنه أشار إلى أنه يعبد الله الذي خلقكم ويتوفاكم ويعيدكم ، وكثيرا ما صرح في القرآن بهذه الأطوار الثلاثة ، وكان التصريح بهذا الوصف لما فيه من التذكير بالموت وإرهاب النفوس به ، وصيرورتهم إلى الله بعده ، فهو الجدير بأن يخاف ويتقي ويعبد لا الحجارة التي تعبدونها. وأمرت أن أكون من المؤمنين لما ذكر أنه يعبد الله ، وكانت العبادة أغلب ما عليها عمل الجوارح ، أخبر أنه أمر بأن يكون من المصدقين بالله الموحدين له ، المفرد له بالعبادة ، وانتقل من عمل الجوارح إلى نور المعرفة ، وطابق الباطن الظاهر. قال الزمخشري : يعني أن الله تعالى أمرني بما ركب فيّ من العقل ، وبما أوحى إليّ في كتابه. وقيل معناه إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه ، أأثبت أم أتركه وأوافقكم ، فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال ، ولا تشكوا في

١١١

أمري ، واقطعوا عني أطماعكم ، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) (١) وأمرت أن أكون أصله : بأن أكون ، فحذف الجار وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارة ، مع أنّ وأنّ يكون من الحذف غير المطرد وهو قوله : أمرتك الخير (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) (٢) انتهى يعني بالحذف غير المطرد وهو قوله : أمرتك الخير ، إنه لا يحذف حرف الجر من المفعول الثاني إلا في أفعال محصورة سماعا لا قياسا وهي : اختار ، واستغفر ، وأمر ، وسمى ، ولبى ، ودعا بمعنى سمى ، وزوّج ، وصدّق ، خلافا لمن قاس الحذف بحرف الجر من المفعول الثاني ، حيث يعني الحرف وموضع الحذف نحو : بريت القلم بالسكين ، فيجيز السكين بالنصب. وجواب إن كنتم في شك قوله : فلا أعبد ، والتقدير : فأنا لا أعبد ، لأنّ الفعل المنفي بلا إذا وقع جوابا انجزم ، فإذا دخلت عليه الفاء علم أنه على إضمار المبتدأ. وكذلك لو ارتفع دون لا لقوله.

ومن عاد فينتقم الله منه أي : فهو ينتقم الله منه. وتضمن قوله : فلا أعبد ، معنى فأنا مخالفكم. وأن أقم يحتمل أن تكون معمولة لقوله : وأمرت ، مراعى فيها المعنى. لأن معنى قوله أن أكون كن من المؤمنين ، فتكون أن مصدرية صلتها الأمر. وقد أجاز ذلك النحويون ، فلم يلتزموا في صلتها ما التزم في صلات الأسماء الموصولة من كونها لا تكون إلا خبرية بشروطها المذكورة في النحو. ويحتمل أن تكون على إضمار فعل أي : وأوحي إليّ أن أقم ، فاحتمل أن تكون مصدرية ، واحتمل أن تكون حرف تفسير ، لأن الجملة المقدرة فيها معنى القول وإضمار الفعل أولى ، ليزول قلق العطف لوجود الكاف ، إذ لو كان وأنّ أقم عطفا على أن أكون ، لكان التركيب وجهي بياء المتكلم ومراعاة المعنى فيه ضعف ، وإضمار الفعل أكثر من مراعاة العطف على المعنى. والوجه هنا المنحى ، والمقصد أي : استقم للدين ولا تحد عنه ، وكنى بذلك عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين. وحنيفا : حال من الضمير في أقم ، أو من المفعول. وأجاز الزمخشري أن تكون حالا من الدين ، ولا تدع يحتمل أن يكون استئناف نهي ، ويحتمل أن يكون معطوفا على أقم ، فيكون في حيز أن على قسميها من كونها مصدرية ، وكونها حرف تفسير. وإذا كان دعاء الأصنام منهيا عنه فأحرى أن ينهى عن عبادتها ، فإن فعلت كنى بالفعل عن الدعاء إيجازا أي : فإن دعوت ما لا ينفعك ولا يضرك. وجواب الشرط فإنك وخبرها ، وتوسطت إذا بين

__________________

(١) سورة الكافرون : ١٠٩ / ١ ـ ٢.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٩٤.

١١٢

اسم إنّ والخبر ، ورتبتها بعد الخبر ، لكن روعي في ذلك الفاصلة. قال الحوفي : الفاء جواب الشرط ، وإذا متوسطة لا عمل لها يراد بها في هذا إذا كان ذلك هذا تفسير ، المعنى لا يجيء على معنى الجواب انتهى. وقال الزمخشري : إذا جواب الشرط ، وجواب لجواب مقدر كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان ، وجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك ، (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١) انتهى. وكلامه في إذا يحتاج إلى تأمل ، وقد تقدم لنا الكلام فيها مشبعا في سورة البقرة. ولما وقع النهي عن دعاء الأصنام وهي لا تضر ولا تنفع ، ذكر أن الحول والقوة والنفع والضر ليس ذلك إلا لله ، وأنه تعالى هو المنفرد بذلك ، وأتى في الضر بلفظ المس ، وفي الخير بلفظ الإرادة ، وطابق بين الضر والخير مطابقة معنوية لا لفظية ، لأنّ مقابل الضر النفع ومقابل الخير الشر ، فجاءت لفظة الضر ألطف وأخص من لفظة الشر ، وجاءت لفظة الخير أتم من لفظة النفع ، ولفظة المس أوجز من لفظ الإرادة وأنص على الإصابة وأنسب لقوله : فلا كاشف إلا هو ، ولفظه الإرادة أدل على الحصول في وقت الخطاب وفي غيره وأنسب للفظ الخير ، وإن كان المس والإرادة معناهما الإصابة. وجاء جواب : وإن يمسسك بنفي عام وإيجاب ، وجاء جواب : وإن يردك بنفي عام ، لأنّ ما أراده لا يرده رادّ لا هو ولا غيره ، لأن إرادته قديمة لا تتغير ، فلذلك لم يجيء التركيب فلا رادّ له إلا هو. والمس من حيث هو فعل صفة فعل يوقعه ويرفعه بخلاف الإرادة ، فإنها صفة ذات ، وجاء فلا رادّ لفضله سمى الخير فضلا إشعارا بأنّ الخيور من الله تعالى ، هي صادرة على سبيل الفضل والإحسان والتفضل. ثم اتسع في الإخبار عن الفضل والخير فقال : يصيب به من يشاء من عباده ، ثم أخبر بالصفتين الدالتين على عدم المؤاخذة وهما : الغفور الذي يستر ويصفح عن الذنوب ، والرحيم الذي رحمته سبقت غضبه. ولما تقدم قوله : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ، فأخر الضر ، ناسب أن تكون البداءة بجملة الشرط المتعلقة بالضر. وأيضا فإنه لما كان الكفار يتوقع منهم الضر للمؤمنين والنفع لا يرجى منهم ، كان تقديم جملة الضر آكد في الإخبار فبدىء بها. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : لم ذكر المس في أحدهما ، والإرادة في الثاني؟ (قلت) : كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعا : الإرادة ، والإصابة ، في كل واحد من الضر والخير ، وأنه لا رادّ لما يريد منهما ، ولا مزيل لما يصيب به منهما ، فأوجز الكلام بأنّ ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما ، والإرادة في

__________________

(١) سورة لقمان : ٣١ / ١٣.

١١٣

الإنجاز ، ليدل بما ذكر على ما ترك على أنه قد كرر الإصابة في الخير في قوله : يصيب به من يشاء من عباده ، والمراد بالمشيئة المصلحة.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) الحق : القرآن ، أو الرسول ، أو دين الإسلام ، ثلاثة أقوال والمعنى : فإنما ثواب هدايته حاصل له ، ووبال ضلاله عليه ، والهداية والضلال واقعان بإرادة الله تعالى من العبد ، هذا مذهب أهل السنة. وأن من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع ذلك ، وأنّ من حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في ذلك. وقال القاضي : إنه تعالى بيّن أنه أكمل الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة ، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل ، فلا يجب عليّ من السعي في إيصالكم إلى الثواب العظيم ، وفي تخليصكم من العذاب الأليم ، أزيد مما فعلت. وقال الزمخشري : لم يبق لكم عذر ولا على الله تعالى حجة ، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلا نفسه ، ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه. واللام وعلى على معنى النفع والضر ، وكل إليهم الأمر بعد إزاحة العلل وإبانة الحق. وفيه حث على إتيان الهدى واطراح الضلال مع ذلك ، وما أنا عليكم بوكيل بحفيظ موكول إليّ أمركم وحملكم على ما أريد ، إنما أنا بشير ونذير انتهى. وكلامه تذييل كلام القاضي ، وهو جار على مذهب المعتزلة. وأمره تعالى نبيه باتباع ما يوحى إليه أمر بالديمومة وبالصبر على ما ينالك في الله من أذى الكفار وإعراضهم ، وغيا الأمر بالصبر بقوله : حتى يحكم الله وهو وعد منه تعالى بإعلاء كلمته ونصره على أعدائه كما وقع. وذهب ابن عباس وجماعة إلى أنّ قوله : وما أنا عليكم بوكيل واصبر ، منسوخ بآية السيف. وذهب جماعة إلى أنه محكم ، وحملوا وما أنا عليكم بوكيل على أنه ليس بحفيظ على أعمالهم ليجازيهم عليها ، بل ذلك لله. وقوله : واصبر على ، الصبر على طاعة الله وحمل أثقال النبوة وأداء الرسالة ، وعلى هذا لا تعارض بين هاتين الآيتين وبين آية السيف ، وإلى هذا مال المحققون. وروي أنه لما نزلت : واصبر ، جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصار فقال : «إنكم ستجدون بعدي اثرة فاصبروا حتى تلقوني» قال الزمخشري : يعني أنّي أمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامني الكفرة ، فصبرت واصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة. قال أنس : فلم نصبر ، ثم ذكر حكاية جرت بين أبي قتادة ومعاوية رضي‌الله‌عنهما يوقف عليها من كتابه.

١١٤

سورة هود

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ

١١٥

وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ

١١٦

عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)

ثنى الشيء ثنيا طواه ، يقال : ثنى عطفه ، وثنى صدره ، وطوى كشحه. الحزب :

١١٧

جماعة من الناس يجتمعون على أمر يتعصبون فيه. رذل الرجل رذالة فهو رذل إذا كان سفلة لا خلاق له ، ولا يبالي بما يقول وما يفعل. الإخبات : التواضع والتذلل ، مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض. وقيل : البراح القفر المستوي ، ويقال : أخبت دخل في الخبت ، كأنجد دخل نجدا وأتهم دخل تهامة ، ثم توسع فيه فقيل : خبت ذكره خمد. ويتعدى أخبت بإلى وباللام ، ويقال للشيء الدنيء : الخبيت. قال الشاعر :

ينفع الطيب الخبيت من الرز

ق ولا ينفع الكثير الخبيث

لزم الشيء واظب عليه لا يفارقه ، ومنه اللزام. زرى يزري حقر ، وأزرى عليه عابه ، وازدرى افتعل من زرى أي : احتقر. التنور مستوقد النار ، ووزنه فعول عند أبي علي ، وهو أعجمي وليس بمشتق. وقال ثعلب : وزنه تفعول من النور ، وأصله تنوور فهمزت الواو ثم خففت ، وشدّد الحرف الذي قبله كما قال :

رأيت عرابة اللوسي يسمو

إلى الغايات منقطع القرين

يريد عرابة الأوسى. وللمفسرين أقوال في التنور ستأتي إن شاء الله تعالى.

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : قال ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وجابر بن زيد : هذه السورة مكية كلها ، وعن ابن عباس : مكية كلها إلا قوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) (١) الآية. وقال مقاتل : مكية إلا قوله : فلعلك تارك الآية. وقوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) (٢) نزلت في ابن سلام وأصحابه. وقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٣) نزلت في نبهان التمار.

وكتاب خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطعة كقوله : الم ذلك الكتاب ، وأحكمت صفة له. ومعنى الإحكام : نظمه نظما رضيا لا نقص فيه ولا خلل ، كالبناء المحكم. وهو الموثق في الترصيف ، وعلى هذا فالهمزة في أحكمت ليست للنقل ، ويجوز أن تكون للنقل من حكم بضم الكاف إذا صار حكيما ، فالمعنى : جعلت

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١٢.

(٢) سورة هود : ١١ / ١٧.

(٣) سورة هود : ١١ / ١١٤.

١١٨

حكيمة كقولك : تلك آيات الكتاب الحكيم على أحد التأويلين في قوله : (الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (١) وقيل : من أحكمت الدابة إذا منعها من الجماح بوضع الحكمة عليها ، فالمعنى : منعت من النساء كما قال جرير :

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم

إني أخاف عليكم أن أغضبا

وعن قتادة : أحكمت من الباطل. قال ابن قتيبة : أحكمت أتقنت شبه ما يحكم من الأمور المتقنة الكاملة ، وبهذه الصفة كان القرآن في الأول ، ثم فصل بتقطيعه وتبيين أحكامه وأوامره على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فثم على بابها ، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل. إذ الإحكام صفة ذاتية ، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له ، والكتاب أجمعه محكم مفصل ، والإحكام الذي هو ضد النسخ ، والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال ، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك. وحكى الطبري عن بعض المتأولين : أحكمت بالأمر والنهي ، وفصلت بالثواب والعقاب. وعن بعضهم : أحكمت من الباطل ، وفصلت بالحلال والحرام ، ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى ، ولكن لا يقتضيه اللفظ. وقيل : فصلت معناه فسرت. وقال الزمخشري : ثم فصلت كما تفصل القلائد بالدلائل من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص ، أو جعلت فصولا سورة سورة وآية آية ، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة ، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد أي بيّن ولخص. وقرأ عكرمة ، والضحاك ، والجحدري ، وزيد بن علي ، وابن كثير في رواية : ثم فصلت بفتحتين ، خفيفة على لزوم الفعل للآيات. قال صاحب اللوامح : يعني انفصلت وصدرت. وقال ابن عطية : فصلت بين المحق والمبطل من الناس ، أو نزلت إلى الناس كما تقول : فصل فلان بسفره.

قال الزمخشري : وقرىء أحكمت آياته ثم فصلت أي : أحكمتها أنا ، ثم فصلتها. (فإن قلت) : ما معنى ثم؟ (قلت) : ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال ، كما تقول : هي محكمة أحسن الإحكام ، ثم مفصلة أحسن التفصيل ، وفلان كريم الأصل ، ثم كريم الفعل انتهى. يعني أنّ ثم جاءت لترتيب الاخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان ، واحتمل من لدن أن يكون في موضع الصفة. ومن أجاز تعداد الأخبار إذا لم تكن في معنى خبر واحد أجاز أن يكون خبرا بعد خبر. قال الزمخشري : أن يكون صلة أحكمت وفصلت أي : من عنده إحكامها وتفصيلها. وفيه طباق حسن ، لأنّ المعنى أحكمها حكيم وفصلها

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ١.

١١٩

أي : بينها وشرحها خبير بكيفيات الأمور انتهى. ولا يريد أن من لدن متعلق بالفعلين معا من حيث صناعة الإعراب ، بل يريد أن ذلك من باب الأعمال ، فهي متعلقة بهما من حيث المعنى. وأن لا تعبدوا يحتمل أن يكون أن حرف تفسير ، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول وهذا أظهر ، لأنه لا يحتاج إلى إضمار. وقيل : التقدير لأن لا تعبدوا أو بأن لا تعبدوا ، فيكون مفعولا من أجله ، ووصلت أن بالنهي. وقيل : أن نصبت لا تعبدوا ، فالفعل خبر منفي. وقيل : إن هي المخففة من الثقيلة ، وجملة النهي في موضع الخبر ، وفي هذه الأقوال العامل فصلت. وأما من أعربه أنه بدل من لفظ آيات أو من موضعها ، أو التقدير : من النظر أن لا تعبدوا إلا الله ، أو في الكتاب ألا تعبدوا ، أو هي أن لا تعبدوا ، أو ضمن أن لا تعبدوا ، أو تفصله أن لا تعبدوا ، فهو بمعزل عن علم الإعراب. والظاهر عود الضمير في منه إلى الله أي : إني لكم نذير من جهته وبشير ، فيكون في موضع الصفة ، فتعلق بمحذوف أي : كائن من جهته. أو تعلق بنذير أي : أنذركم من عذابه إن كفرتم ، وأبشركم بثوابه إن آمنتم. وقيل : يعود على الكتابة أي : نذير لكم من مخالفته ، وبشير منه لمن آمن وعمل به. وقدم النذير لأن التخويف هو الأهم. وأن استغفروا معطوف على أن لا تعبدوا ، نهي أو نفي أي : لا يعبد إلا الله. وأمر بالاستغفار من الذنوب ، ثم بالتوبة ، وهما معنيان متباينان ، لأنّ الاستغفار طلب المغفرة وهي الستر ، والمعنى : أنه لا يبقى لها تبعة. والتوبة الانسلاخ من المعاصي ، والندم على ما سلف منها ، والعزم على عدم العود إليها. ومن قال : الاستغفار توبة ، جعل قوله : ثم توبوا ، بمعنى أخلصوا التوبة واستقيموا عليها. قال ابن عطية : وثم مرتبة ، لأن الكافر أول ما ينيب ، فإنه في طلب مغفرة ربه ، فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : ما معنى ثمّ في قوله : ثم توبوا إليه؟ (قلت) : معناه استغفروا من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. وقرأ الحسن ، وابن هرمز ، وزيد بن علي ، وابن محيصن : يمتعكم بالتخفيف من أمتع ، وانتصب متاعا على أنه مصدر جاز على غير الفعل ، أو على أنه مفعول به. لأنك تقول : متعت زيدا ثوبا ، والمتاع الحسن الرضا بالميسور والصبر على المقدور ، أو حسن العمل وقطع الأمل ، أو النعمة الكافية مع الصحة والعافية ، أو الحلال الذي لا طلب فيه ولا تعب ، أو لزوم القناعة وتوفيق الطاعة أقوال. وقال الزمخشري : يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية ، وعيشة واسعة ، ونعمة متتابعة. قال ابن عطية : وقيل هو فوائد الدنيا وزينتها ، وهذا ضعيف. لأنّ الكفار يشاركون في ذلك

١٢٠